كاتب الموضوع :
النهى
المنتدى :
القصص المكتمله
أطار المال صواب مها. أغمضت عينيها عن تحرشات زوجها بالفلاحات. وانغماسه حتى أذنيه في الرذيلة. وأغلقت سمعها عن همسات تدور في غرفة الخادمة الكردية. خرجت أختي من إهاب الخفر والحياء بعد أن كانت ترف عيناها من صوت عالٍ أو صفقة بابٍ حادة مفاجئة في بيت أهلها، تمسك أمي رأسها من أخبارها.
- العمى جنت مها، جنت البنت.
بعد لأي وافقت والدتي على سفرنا. كان يوماً قائظاً من شهر تموز.
أطلت علينا سيارة فخمة بلونيها الرائعين الأخضر الزيتي والأخضر الفاتح ملأ انسيابها البديع عيون الجيران. دار حولها الأولاد في الحارة، وتلمسوا أضواءها وأطلقوا زمورها.
حمل السائق سهيل الحقائب وعلب الحلوى، رتبها في صندوق السيارة الواسع بعناية.. ثم أخرج برادي القهوة والشاي من جيب الباب المخفي وسأل بأدب:
- هل تتكرم المدام. بملئه بالقهوة؟ الطريق طويلة والقهوة تساعدني على الانتباه.
كان السائق شاباً لا يتجاوز العشرين لطيفاً أزرق العينين، أشقر الشعر طويل الجذع. ارتاحت أنفسنا إلى تصرفاته. شد أبي من همته مرحباً ونحن نركب السيارة.
- الله يبارك بالشباب.
أبدى سهيل لهفة لإرضائنا، دخلت دماثته قلوبنا كأحد أفراد العائلة. توقف عند أول محطة للبنزين على مشارف حمص. نفخ الدواليب، ثم خرج بنا إلى ضفاف العاصي في حماة.
كان المنظر ساحراً، والنواعير تدور وتدور، وتئن، تجرف الماء ثم تصبه في قناة طويلة تروي أراضي حماة الخصبة. أسرع سهيل، مد بساطاً قماشياً مقلماً. وفرد كراسٍ من المعدن الخفيف.
- فنجان قهوة على العاصي ينعش القلب، مارأيك ياعم؟
ضحك والدي برضى: المليح لا يحتاج إلى مشورة.
- والآنسة، استدار نحوي متسائلاً بعينين ضاحكتين.
- مافي كلام، أجبته.. لكن بعد أن نأكل من الزوادة، أخشى عليها من الحر. وضبّت أمي أقراص الكبة والكفتة، والباذنجان المقلي في السلة الصغيرة.
تناول الشاب السلة.
أكلنا، استروحنا هواءً عليلاً هب من العاصي يحمل نسائم رطبة جففت العرق. تخلصنا من أحذيتنا، نراقب الغروب الفاتن الذي زحف سريعاً على المياه الخضراء الداكنة.
علق أبي:
- الماء حياة الدنيا. أنظروا، وأشار بيده نحو غيضة طويلة عامرة بالأشجار الكثة. بدت مثل كتلة سوداء متزاحمة على ضفتي النهر بشريط طويل ملتوٍ انساب مع جريان الماء. سرحنا مع المنظر وارتخت أعصابنا وهاجرت خواطرنا إلى دمشق.
همّ سهيل:
- لنلحق بحلب لنبيت ليلنا هناك. الفندق محجوز والغرف مهيأة، لا مشكلة من هذه الناحية.
- ماعرفناه عن المنطقة الشرقية نتف لا تفصح عن الحقيقة.
رد سهيل:
- أرض بكر خصبة، آبار ارتوازية حفرها الرأسماليون الحلبيون. جاؤوا بالتراكسات الحديثة. قلبت الأرض نحو الشمس، الأرض صالحة لزراعة الأرز وأجود أنواع القطن.
- وشوارعها، وحدائقها؟ أعني مدينة أختي.
- جميلة خططها الفرنسيون على نحو حديث حضاري، شوارع مستقيمة، وحارات منظمة مثل أوروبا، وأضاف:
- قد تصبح أكبر منافسة لبيروت، موقع استراتيجي مفتوح على تركيا شمالاً والعراق شرقاً وحتى إيران. تدفق الكلام من فمه حاراً وكأنه يستظهر درساً. بلاد مفتوحة على التهريب. كل شيء موجود فيها. من الدخان إلى الكهربائيات.
عندما أشرفنا على خان شيخون ومعرة النعمان صاح أبي مردداً بيتاً لأبي العلاء:
صاح، خفف الوطء، فما أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.
تلمست كتفه متعبة، وغمرني نعاس عجيب، توقفنا على الطريق العام، شربنا الماء، وغسلنا وجوهنا، ثم تابعنا إلى مدينة حلب. نزلنا في فندق (الكونتيننتال) الذي بدا مهيباً تزين واجهاته الثريات النحاسية الأثرية.
لاحظت عراقة الأثاث والخشب المصقول القديم، والسرير العريض، زينت الجدران لوحات زيتية أصيلة، وامتدت على الأرض سجادة عجمية منقوشة بأجمل الطيور. نمنا بلا هز كما يقال. استيقظنا ظهراً. حركنا عضلاتنا الميتة من المشوار الطويل وخرجنا نتفرج على المدينة الرائعة بأبنيتها الحجرية البيضاء. شاب يترنّح في زاوية الشارع.. يخبئ قنينة العرق في جيب ستره الداخلية يمتصها قطرة قطرة.
- مسكين، بعد قليل سيقع ويدوسه الناس بأرجلهم.
ضحك الرجلان من كلماتي.
في عتمة الليل وقد خفّ استعارّ القيظ، سرنا شرقاً نحو دير الزور على هدي الأضواء الأمامية، في طريق وعرة صحراوية، ترابية، غير معبدة، شقتها دواليب الشاحنات المحملة بالبضائع من حلب إلى العراق. كانت الدروب تتطاول أمامنا كلما لحقت بنا سيارة. كنا كمن ألقي في اليم بلا طوق نجاة، بين سماء زرقاء وبحر هائل هدّار.. شعرنا أننا بين فكي لونين ترابيين غامقين رمليين تواصلا ثم ابتعدا ثم تواصلا. تلال وهضاب. قطعنا مساحات واسعة في قلب الصحراء. توقف السائق عدة مرات ليمسح زجاج الضوئين الأماميين. بعد نصف ساعة نثر العجاج ذراته على اللوح الزجاجي العريض، تسلل الرمل الناعم إلى الحلق والصدر. توقفنا مرة أخرى أمام عمود رملي انتصب فجأة غاشياً مهاجماً صافراً مرعباً، ثم تلاشى شيئاً فشيئاً. وترك أمامنا تلة.
بدت وجوهنا مضحكة في ضوء السيارة الباهت. مرشومة ببودرة بيضاء محت من ملامحنا الحواجب والأهداب. اجتزنا أرض جرداء مسلوخة عن المدينة ويد الإنسان، مرمية، منبوذة مقهورة عطشى. كانت محطات البنزين المتناثرة والمتباعدة معلماً مضيئاً مشرقاً ضمن واحات من السراب.
مررنا بخيام كالحة غبراء مصنعة من شعر الماعز فاحت منها رائحة الماعز والغنم والسمن البلدي... مضينا نسير ليلاً ونهاراً نتفيأ الشمس الحارقة. من خيام البدو ملأنا أوعيتنا وسلالنا باللبن والخبز واللحم المشوي والبيض والجبن الأبيض. فاجأتنا بيوت طينية. وأحياناً قرى هاربة من عمق التاريخ صامدة رغم أنف الطبيعة القاهرة بجدران قائمة وطاقات صغيرة وأبواب قصيرة خوف الطوز.
يرحب البدو بنا، تقول نظراتهم أنهم تعودوا على رجل غريبة... وحتى على رؤية أجانب من كل لون يحملون أدواتهم للتنقيب عن الآثار حول الفرات العظيم.
قال سهيل:
- رغم احتكاك هؤلاء البدو بالأجانب، مازالوا يحافظون على بدائية مفرطة ساهمت في تأصيلها قسوة الطبيعة، وشح المياه وهجمات العشائر الغازية.
خلال ساعات متواصلة من الحديث مع النفس أو الصمت، أو الأسف على الأراضي البور، وصلنا دير الزور عند المغيب، ومررنا فوق الجسر المشرف على النهر العظيم. بضع مقاهٍ على ضفة النهر تشوي السمك المسكوف. تبعثر رجال هنا وهناك يشربون القهوة أو الشاي. ويدخنون النارجيلة. عضنا الجوع. فلنجرب حظنا مع المسقوف. اختار أبي وسهيل جلسة مريحة قربنا الكرسي القش من حافة النهر كانت السماء صافية لا غيم فيها. ولا رفة نسمة. على الضفة الثانية تحركت كتلة سوداء مبهمة المعالم في الظلمة. حركات عشوائية ثم فجأة اشتعلت بها النيران سرعان ما أضحت كتلة لاهبة كالشمس أضاءت سطح الماء المتجمد. عوى صوت امرأة، وطقطقت عظام، وقف الرجال لحظة ثم عادوا إلى كراسيهم.
علق أحدهم:
- مجنونة أخرى حرقت نفسها. هذه الرابعة في أسبوع واحد.
حضر الأكل... لم أستطع فتح فمي بلقمة واحدة.. ظللت أبكي وبقي أنين المرأة المقهورة يضغط على أعصابي بجلال الموت. التهبت الآدمية دفعة واحدة. صبت على بدنها الكاز.. وانتهت هكذا. وبغفلة من الزمن والأحباب التهمها شيء ماسكن أعماقها.
حاول أبي وسهيل تهدئتي، فلم يفلحا. فالحظ الأسود ينتظرني في مفاجآت لم تكن في الحسبان وعلى موعد دائم معه.
ردد الجرسون وهو يلملم بقايا الحسك عن الطاولة ويرميها في النهر: حادثة مألوفة تتكرر باستمرار.. وأضاف: الدم هام في هذه الديار.
أعاد سهيل وضع الكوفية على رأسه، وأبي أيضاً... درجت السيارة على الجسر الشامخ ذاته في الشمال الشرقي.
قطعنا مسافة.. وفجأة هبت علينا رائحة بيض فاسد، سددت أنفي.
- ماهذه الرائحة؟
- أرض كبريتية، وصلنا الآن إلى رأس العين، قال السائق: هذه المياه تكفي لغسل أمراض جميع السوريين.
- عميقة؟ سألت.
- ما أحد يعرف، لو سقط فيها حجر لما سمعنا صوت ارتطامه. ياحرام، نبع يغلي بالنار. فمه مفتوح وخطر، وليس حوله حمامات للاستطباب.
- قد يقع أحد فيه.
- هو هو كل يوم حادث... رد بصوت عادي.
عادت الطبيعة إلى مهاجمتنا. يتثاءب السائق بملل، فالمناظر الرتيبة تدفعنا إلى اليأس. أسأل بين لحظة وأخرى:
- الطريق طويل.
يرد:
- هو هو.. دون أن يلتفت إليّ.
ثلاثة أيام ننام نهاراً ونمشي ليلاً. من بعيد سمعنا ناقوس كنيسة، لاحت بشائر بني آدم، هاهو الفردوس الموعود.
- هوذا.. البيت ذو الواجهة الحجرية والباب الحديدي، المصقول، خفق قلبي، رأيت امرأة قرب الباب تدلي بطنها، وتجمع على رأسها شعراً جعد كثيف، من أذنيها تدلى قرطان ذهبيان كبيران يحملان سمة تلك المنطقة، عانقتنا أختي وناحت على كتف والدها.
- هذه مها..؟!
اقترب صهري، انحنى مرحباً بشوشاً بملء فمه. صاح:
- مريم.. أبوشيرو!
هرول رجل مجدوع الأنف وهرولت امرأة شابة طويلة نحيلة القد، جميلة المحيا، حملت على رأسها لفّة كردية كبيرة، وبرز من أطراف ثوبها الأحمر سروال طويل امتد حتى الكعبين.
- عمي، شاي، أم قهوة؟ وأنت ياسلمى... ماشاء الله صرت صبية.
- دايماً حلوة، أما قلت لك، زغردت ضحكة مها الصافية.
- ليمون، نحتاج إلى شوال ليمون، ثم قهوة ثقيلة، بابا دائخ الله يعينكم، الداخل مفقود على طريق بلدكم، والواصل مولود.
عادت مها بإبريق ليمون معصور محمرة الجفنين. رسمت ابتسامة حلوة على ثغرها، وجلست قربنا تتلمسنا بيديها غير مصدقة.
- الغداء يا مها.. أنسيتِ حالك؟!
- مالي قلب ياصبري، اتركني معهم، خمس سنوات محرومة منهم.
قامت على مضض تحضر الطاولة، فاحت رائحة زكية، توهج خروف محشو بحمرة قانية، تلألأ بالدهن.
طال الليل علينا، أذن الصبح ومازلنا على جلستنا نحكي ونحكي. تنبهت حواسنا حتى مات النوم في أعيننا.
استقبلنا اليوم التالي بالمهنئين، انتقلت الحارة الدمشقية بتقاليدها وحرارة عاطفتها إلى هنا، عمر البيت بايفون، ومارلين، ومادلين، وعبد الله وسعد وجورج وفيرا، كل حمل صحناً ترحيباً بنا.
هدأت العاصفة وتوضحت ملامح أختي مها التي تضخم جسدها، وانتفخ بطنها كالطبل، ملأت الأساور الذهبية ذراعيها حتى الكوعين، ضحكتْ من دهشتي فبانت أضراسها المذهبة البشعة.
- آه لو تراها عين أمي وهي على حالها الجديدة مثل هدية المجنونة، أهذه مها ذات التقاطيع النبيلة، والقامة الرشيقة، والحركة الخفيفة؟ لم أر سوى كتل لحم مباركة تهتز وترتج بعيداً عن الأناقة الشامية. هذه شيخة بدوية ممرعة، زوجة شيخ، وليست مها التي أعرفها.
التقت أفكاري بأفكار أبي، ضبطته يراقب تحولها ويتعوذ:
- لاحول ولا قوة إلا باللّه.
تضخمت الولائم، فهمت الآن لم تعّرض جسد الصبية إلى التورم والترهل. ستلحق العدوى بي لو بقيت، فالفن المطبخي الحلبي والجزراوي، والشامي يملأ المائدة بروائح البهارات التي تسيل لها اللعاب. هكذا تطامن صبري أفندي إلى غرق زوجته في الشحم واللحم، كي يتفرغ هو لأعماله، مضاربة بالمراهنات، وتخليص أرض من فلاح أو حجز أرض على آخر أو رفع حجز من هناك، أو رفع حجز من هناك. يأكل كالمنشار، يسلخ ولا يرحم.
تقزز أبي من الموائد، وعافت نفسه الفراغ القاتل والجلسات اليومية وحديث أسعار القمح والقطن والدودة، همهم وأقسم معلناً عن ضجره وعزمه على العودة قبل أن تسخن الأرض تحتنا، وننسى هلعنا من هجوم الطبيعة الضاري.
حلف المضيف بالطلاق ثلاث مرات، وهكذا بقينا مرغمين نعاند الزمن ويعاندنا.
اقترحت الجارة فيرا، التي تدس يدها في جيب صهري، وترتاح لعطاياه أن نقوم برحلة إلى الضيعة حيث هواء صحراوي يبلل ليلنا، ويهدهد نومنا، ثم نشهد سباق الخيل بين فرسان البدو.
كان الطريق إلى البولادية وعر المسالك شديد المتعرجات، والانحدارات كادت أن تنزلق السيارة إلى الهاوية عدة مرات.
انطويت أشد على بطني بكلتا يدي أمنع الإقياء، لم أقو على الصمود تقيأت مافي جوفي داخل السيارة وعلى ثيابي، كما تقيّأ غيري، استمرت السيارة بحملها الثقيل، واهتزازها المضني تنقلنا من أكمة إلى أكمة، تهبط في وهدة وترتقي إلى درب ضيق لا تسلكه إلا الدواب، شعرنا باقتراب الموت، تساءلنا بخوف:
- هل سترمي جثثنا إلى الكلاب والوحوش الضارية في الفلاة وتكون هذه الرحلة إلى جهنم رأساً؟ تشبثت العيون القلقة بالسماء، وأطبقت الشفاه على تسليم بالقدر، أخيراً انبسطت الأرض كالكف.
سارت المركبة على خير، انزلقت الهوينا تجتاز نهراً عريضاً يفصلنا عن الضيعة، كانت سيارة الجيب قوية عالية وحدها تستطيع أن تخترق المياه الدفاقة دون خشية من انطفاء الموتور. كبس السائق على البنزين، فانطلقت كالعروس، عادت إلينا سكينتنا، تنفسنا الهواء والصعداء، شقت النهر رويداً رويداً، ثم خفت صوت المحرك.
- يالله، ونحن في عرض النهر، صرخت.
صرخ السائق مهدئاً:
- لا تخافوا، لا تخافوا ياجماعة، بسيطة، دوماً نقع في المطب ذاته.
قاطعته أختي المنفوخة كالضرف.
- يازلمة،خطوة وندرك حتفنا، علقت الأعشاب بالدواليب.
ملأت خيالي أفلام الرعب أغمضتُ عيني، واستسلمت للمجهول.
هدأنا أبي:
- لا ذعر، ولا غضب، حال الرجل مثل حالنا، ماباليد حيلة إلا أن ندعو الله ليبتسم لنا الحظ. باءت محاولات الشاب الجادة بالفشل، أدار المفتاح، أغلق الباب، انحنى يمنى ويسرة... لا فائدة، انقطع الأمل. دفع الحظ فلاحاً نحونا هرول مسرعاً، هلل بيديه من الضفة الأخرى، ضاع صوته وصوتنا في هدير النهر، حرك الفلاح يديه، ثم غاب، غابت معه قلوبنا، والماء يرتفع إلى خاصرة الجيب.
- ياجماعة لا تتحركوا رجاء، كرر السائق بعينين حمراوين.
فجأة لاح الفلاح ومعه مجموعة من الناس.
- جاء الفرج مع المجموعة، صرخنا.
أنزلوا حصانين مع فارسين وحبال إلى الماء، وبدأت عملية الجر لسفينة نوح التي بدأت تغرق، ذقنا طعم الموت.. ثم نجحت عملية الإنقاذ. وعدنا إلى الحياة.
قطعنا النهر خلف الأحصنة نحو النجاة. في الضيعة ارتمينا على فرش ممددة على الأرض مغطاة ببسط صوفية ملونة بنقوش رائعة، جلست أختي مثل خاتون في الزاوية وحولها ألقيت مخدات عالية، مسحت وجهها من العرق، شربت لبناً، ثم رأيناها فجأة وقد أغفت في مكانها، رمت زوجة المرابع حراماً صيفياً جديداً عليها.
توسطت المربع طاولة منقوشة عليها صدر نحاسي كبير وفي داخله صفت فناجين القهوة المرة والركوة.
اقتحمت رائحة الشواء أنوفنا، هب الفلاح إلى الخلاء يثير همم النسوة. تداخل الغداء والعشاء. انتصف المغرب ولما يفّك أسر الخرفان الثلاثة التي ذبحت على شرفنا.
اقترب صبري أفندني من أبي وقال:
- مارأيك بكأس من اللبن الطازج؟ أم تفضل الحليب من ثدي الماعز؟
- اللبن.
- ذقنا لبناً أطيب من القشدة، وبلمح البصر فرش أولاد الفلاح المرابع شرشفاً حموياً مقلماً على الأرض فوق السجاد. فاحت رائحة خبز الصاج الذهبي. قرب رجل طستاً من يد أبي ثم يدي صب الماء من إبريق نحاسي غسلنا أيدينا، ثم دار على الآخرين.
صاح صاحب الدعوة:
- يالله ياجماعة، وأنت ياشيخ سلومي، الأكل على قدر المحبة. تحرك من زاوية الخيمة المزخرفة المشغولة بأناة من عيدان قصبٍ بديع شاب في الثلاثين من عمره كان قد سبقنا. هجمت قامة مديدة زادها اللباس العربي هيبة، رد كوفية بيضاء عن كتفيه.
تململت مها في مكانها غمزتني، ركضت نحوها.
- ألست جائعة يامها؟! يجب أن تأكلي شيئاً من أجل الطفل، أما أنا فأكاد أموت من الجوع.
- أرخي ثوبك ياسلمى، هذا شيخ عشيرة شمر السلومي، شباب، ومال لا تأكله النيران.. يوم في دمشق، وآخر في حلب، والآن في فيينا، تدرج نحو أوروبا.
- ياسلام!
لم أخف ضحكة صغيرة اغتالها أبي مع ازورار، تنبهت إلى نفسي، سددت فمي بيدي.
همست:
- وكيف يتفاهم معهم،بأية لغة؟
- في خدمته سكرتير.
- يحكي عنه؟
- اخرسي وعودي إلى الطعام، لا فائدة منك، خائبة.
جلبتُ صحنين باللحم واقتربت منها.
أحسست بنظرات شيخ العشيرة الدبقة على وجهي، نظرات بدوي جريء، كور خبز الصاج واللحم بأصابعه الثلاث. ورماها في فمه، صدمني احتقان قبيح في عينيه.
- مها، عيناه بشعتان مثل الجمر.
- تراخوما، تراخوما، كل أهالي المنطقة الشرقية مصابون بها بسبب الطوز والعجاج.
- يالطيف، ما أبشعه.
- مجنونة، نصف بنات حلب يرتمين على قدميه.
- بل على ماله. متزوج؟
- متزوج.
- طبعاً. هؤلاء يتزوجون صغار السن، عادة العشيرة . الزوجة الأولى ابنة العم.
- ماشاء الله، ومادخله معكم ومعنا وكأنه من أصحاب البيت، شغلنا مرتبط به. أراضيه بين يدي صهرك.
-فهمتُ الآن سبب الدعوة الحارة . تجارة وزيارة بل زيادة نعجة جديدة تضم إلى قطيعه. رقيق أبيض يباع شرعاً بالزواج، ويقّبن بالمال والأراضي.
- مجنونة ، موتي مع أحلامك.
أجبت بعصبية:
- أفضل من الموت مع لص ابن لص يتحكم في جلساتنا وحياتنا.
تنبه صبري أفندي. صفق بيديه محدثاً ضجة:
- القهوة تقتل الدسم.. أعلن صهري..
لم يكذب السلومي حدسي. فقد حضر إلى العشاء في اليوم التالي بسيارته الخمرية الشيفروليه المكشوفة كي يدعونا إلى العشاء في مطعم (كربيس).
تلمظ وتضوع الطعام الحلبي، قال بلهجة بدوية غريبة:
- يا الله ياجماعة.
يحتل مطعم (كربيس) موقعاً استراتيجياً في البلدة الصغيرة الملمومة على بعضها، والواقعة على الحدود الشرقية الشمالية. يسميها أهلها (الفردوس) ويطلق الغرباء عليها بلدة التهريب لجميع أنواع السجائر والبلوريات، والسجاد والغنم من تركيا. تلتف حول المطعم دور مدير المنطقة، ورئيس المخفر والبلدية، ومحكمة الصلح، وسوق الصاغة. وخارج الدائرة الأولى توزعت المدارس الابتدائية.
تقدمنا صهري. ركض الجرسون يدله على الطاولة المحجوزة، رافقه بناظريه. التفت إلينا:
- نصف الأهالي بوليس، والنصف الآخر مهربون، على كلِ هذا أفضل مطعم لا تجد مثيله إلا في العاصمة. صاحبه خبيث شاطر يعرف من أين تؤكل الكتف، وكتف المواطنين بخاصة.
كان المطعم أنيقاً تفوح منه رائحة بورجوازية أنيقة باذخة جميلة مزيناً بديكورات خشبية تصالبت فوق الجدران وطليت باللون الأخضر، وفصل بعضها بين الطاولات، تدلت من الأحواض المرمرية أوراق اللبلاب والختمية وأنواع من الورود والأزهار الصيفية. انتقلت ديارات دمشق، وبحراتها إلى هنا، سالت من نوافيرها مياه رقراقة شفافة.
قطعة معمارية دمشقية وسط بيوت نصفها طيني، ونصفها الآخر خيام.
كنا أربعة كباراً ماعدا أولاد أختي، اتخذ السائق طاولة بعيدة كالعادة، وطلب بطحة عرق مع مازة حلبية، بعد قليل شرف الداعي يحف به رهط من زلمة باللباس العربي، تفرقوا عنه إلى طاولات أخرى.
فرك كفيه معتذراً وانحنى ويده على صدره، وجه كلامه إلى أبي وأشار بيده نحو صبري أفندي:
- لا تؤاخذني ياعم. البركة في الأستاذ. وقعد قبالتي، نقلني أبي إلى كرسي قربه. انخرط الرجلان صهري والسلومي في حديث مسموم حول تهريب الغنم ومقتل الراعي حمد على يد الحرس التركي، ترك ظلاله القائمة على وجهيهما:
قالت مها:
- مشاكل مع الحدود لا تنتهي.
اقترح السلومي أن يشرب قدحاً على شرف والدي. صفق بيديه، هرع النادل.
- بطرس قازان. مافي توما، مافي أكسترا وطاولة زهر.
- مارأيك ياعم دق بدق.
- محبوسة. فتح الطاولة وتجلس، لا أعرف غيرها. قهقه بصوتٍ مبحوحٍ. لعب السلومي، اندلق الزهر عليه، وأتاه الحظ، غلب ضيفه مرات خمساً. فرك يديه مبتهجاً، نتر من جيبه سبحة ذهبية بأحجار كريمة.
وقدمها لأبي.
- هدية للذكرى.. لا تتردد ياعم. هذه عادتنا. النبي قبل الهدية.
مد أبو هشام الرجل المهيب يده. تحسس الحبات اللامعة، وتركها ملتوية على الطاولة. نادى السلومي على أحد رجاله. حرك أصابعه آمراً دون أن يلتفت.
- أين العلبة؟
أخرج الرجل العلبة متزلفاً باسماً تحت شاربين عنتريين. أدخل المسبحة الثمينة بين طيات المخمل وتهيأ متأدباً.
لم يسع أبي الرفض. أعطاها إلى أختي دستها في حقيبة يدها الجلدية دون أن تلمس الشرابة المشكوكة بحبات من الزمرد والياقوت قد تصلح عقداً أو حلقاً.
لكلزتني مها بكوعها:
- هذه مقدمة. مال لا تأكله النيران.
كثرت الدعوات، وتناثرت أثناءها كلمات مرمزّة تفسر رغبة السلومي في التقرب منا.
- بسببي أنا، من يظن نفسه هذا البدوي؟ قلت لمها.
- تنازعتني خواطر عدة، وتناهبني مد وجزر، وإقبال وصد.
ألم يعذبني أحمد ليلة عقد قرانه على أخرى، وتركني مجنونة محبوسة في قمقم، لا أقوى على الخروج منه تحت وطأة عواطفي المكسورة، ألم يدعني نهباً للذل وقت أن فكر بثانية، ألم يجرح كبريائي أمام رفقائنا، وتركني نهب الأقاويل؟ لم لا أرد له الصاع صاعين وأصبح أميرة على بطاح لا نهاية لها يتسمر الخدم بين يدي. آمر، أنهي. ربما تتحقق أحلامي الكبيرة انطلاقاً من هذه القرية المعلقة بآخر الدنيا. ابني مدرسة، ومسرحاً وحدائق، أنقل دمشق إلى هنا، إلامَ الناس ومعظم من قابلتهم هنا كالدواب، يأكلون وينامون ويضاجعون نساءهم مع روائح المزابل.
هل أرفض الشيفرولية؟ أكون مجنونة إذن.
استيقظت على صليل خشخشة الأساور في يد مها، ما الفرق بينها وبين هدية المجنونة.
- ربما سأصبح أنا هدية مجنونة أخرى ذات يوم.
- قومي.. قومي.. هل رأيتِ حلاماً لمِ كنت تصرخين؟
- وماذا قلتِ؟ خفت أن أكون قد تلفظت باسم أحمد.
- قلت مستحيل، لا!
نفضت من رأسي كابوس مها، أنا لستُ مها، لست نعجة تغرق بالطعام والذهب، الجامعة، هل نسيتها؟ وماذا لو رضي الوالد؟ وأغراه البدوي بالمال والشباب؟
- ولكنه زعيم عشيرة تتجاوز الآلاف. ليس بدوياً إطلاقاً.
- وأميّ لا يعرف القراءة والكتابة. ثلاثون سنة وخلفه عر أولاد يخرب بيته وبيت ماله.
في الصباح جاء مبكراً. حمل حليباً طازجاً ساخناً من ثدي النعجة، ترفرف حول كتفيه كوفية بيضاء تنسدل فوق ثياب نظيفة مكوية. داهمت وأنا أقترب من غرفة الطعام حديثاً بين الصابحين، فتلكأت.
- يالله بسم الله الرحمن الرحمين نقرأ الفاتحة، علا صوت صهري صبري أفندي.
رد أبي اللقمة عن فمه وأجاب:
- كله نصيب، لم العجلة؟ على مهل، الأيام أمامنا، لن تطير البنت ماتزال صغيرة.
صدق حدسي هاقد شربوا القهوة وتحدثوا، وتناقشوا، وقصوا وفصلوا حول مستقبلي، حياتي، وأنا في غفلة، هسهست مها فرحة من المطبخ، لحقتها.
- لك يامجنونة، حظك من السماء، طلب السلومي يدك، تصوري ست وثلاثون قرية له وحده، وتحت إمرته، أي إمرتك، ملكك، إن شاء الله يصير نصيب، أعادت: إن شاء الله يصير نصيب، ورفعت يديها كعجوز إلى المولى.
صفنت:
- ست وثلاثون قرية لرجل واحد، ياه ياللنعيم، الذي سأرفل فيه ويالفرحة أمي التي ستزف البشرى إلى الجيران بعد أن تكون قد أوصلت الأمانة سالمة إلى أصحابها، إلى الزوج المقبل، أجبت مداعبة:
- ماذ أفعل بها. الحياة واحدة، وأواجه مشكلاتها وحدي. طار فكري إلى أحمد هل أجرحه كما جرحني يوم تركني إلى أخرى؟ سألت:
- وبماذا أجاب بابا؟
- كزت على شفتيها:
- غريب أمر أبي من يرفض عرض السلومي، لم يعطِ جواباً، ولم نعرف رأيه.. وأصر على السفر.. ربما أجلّ الموضوع إلى حين عودته إلى دمشق يوم الخميس القادم.
أصبح وجود السلومي بيننا، وهداياه، ونكاته، وخرفانه المذبوحة أمراً مألوفاً، صار مصدر قلق لي. لم يك سيئاً لبنت تتشهى الزواج ولكنه لم يخلق لي بتاتاً، فأنا أريد أن يتركني للتجارب المريرة التي تعيشها الزوجات المهملات، وتؤدي بأكثرهن إلى الجريمة، إما إلى قتله، أو إلى قتلها. هل أضع القيد في عنقي بملء إرادتي وحريتي لأعيش مع أميّ يضمني إلى حريمه مستقبلاً؟ من يرده، يصدّه، من يردعه، ولديه أكبر قوة محركة في العالم: المال!
أقلقتني الأسئلة الصعبة لاختيار أصعب.
جهزتُ مها زوادة لسفرنا، واشترت الهدايا رداً على هدايانا، وخلعت من معصميها سوارين ذهبيين دقة الماس.
- هذه هدية مني لك.
قلبت السوارين بين يدي.. وغضبت من تصرفاتها.. شعرت بإهانة.
لِمَ لم تشتر جديدين..؟
قرأت أفكاري: هات، هات يدك، عنيدة، وألبستني إياهما غصباً.
أمرت الخادمة الكردية بتحضير المرتديلا، واللحم المقدد، أوجعني مجرد التفكير بعناء السفر والعودة عبر الفيافي ذاتها.
ثلاثة أيام أخرى من لوعة الوداع قضيناها لم تنسنا ماسنعانيه من الحر والغبار والخوف من الطبيعة المتحولة حتى مدينة حلب.
لاح أحمد على البعد، عبر الرؤى، عبر رعشات القلب وتقلصات الحلق حتى الاختناق. أحمد بكل روائه، وتحوله، وعقده، وتأرجحه بين عادات موروثة، وانطلاقة العقل الحكيمة العلمية. مغموس بالسياسة حتى قراقيط أذنيه، مهدد بالتسريح كلما تبدل مسؤول وجاء مسؤول.. فكرت كذلك: من الحماقة والغباء الفاحش أن أترك مصيري عائماً في قارب مهدد أبداً بالغرق، والتشرد بعيداً عن السكينة البيتية والأولاد، أجّل أبي موضوع الساعة إلى حين، لعله خاف من اتخاذ موقف دون موافقة أمي وعشيرة آل الشريف.. بالأغلب احترقت الطبخة بين يدي صبري أفندي ومها.
في صباح مبكر.. غادرنا القرية المفتوحة على الخيرات دون أسف، مللنا الراحة المصطنعة:
بدا أبو هشام متحمساً راضياً عن قراره. أزاح هما عن صدره، ماكنتُ لأرضى أن أعود خاسرة.
قررتُ مواجهة أحمد بالأمر. في أول لقاء، شرحت ماحدث ببساطة متناهية كما لو أن الأمر يعني فتاة أخرى. تأملني فترة طويلة بدون كلام.
تقول عيناه:
- يالك من ممثلة فاشلة، عجزت وسلمت أمام أول هزة، نترت قصيدة جديدة كتبتها أثناء وجودي في قرية (الفردوس) وطلبت منه أن يعطيني رأيه صراحة بها.
قرأها مرتين ثم تبسم رضى. ربت على كتفي ولفني بحنان قائلاً:
- هذه سلمى التي أريد...
رغم العاطفة المشبوبة المتحيرة بين أسطرها؟ تساءلت:
- عاطفة صادقة، وهذا سر جمالها.
- أعجبتك.. قلها.. قلها.. لم تخبئ الفرح؟
- لا أدري.. دائماً أخاف من الفرح. أرجح جسده يمنة ويسرة ثم أبقاه واقفاً صلداً كالحجر وأضاف:
- هذه كلمات تعلق بالذهن.
طرت فرحاً، تعمشقت على الحيطان الملساء.. أخيراً نطق كلمة حلوة. هو ذا رجلي، رجلي الذي أريد.
فرط مشروع الزواج بضغط من أخي عادل.. يظل عادل مثقفاً متوازناً ومنفتحاً ولا تهمه المغريات الآنية التي لا يدري أحد إلامَ ستؤدي في آخر المطاف. عاشت الرحلة شهراً معنا، لونت أحاديثنا، وغيرت طعمها وسمرها في السهرات العائلية.
وردتنا من ليبريا رسالة مطبوعة باللغة الإنكليزية من أخي المغترب في إفريقيا، استعنت بالقاموس عدة مرات ثم ترجمتها لامي: كانت الرسالة عبارة عن حديث شاب متعجرف انتسب إلى نادي سباق السيارات الأمريكي الدولي الذي تموله شركة (فايرستون) العالمية. وكيف أصبح عضواً بارزاً بعد محاولات ناجحة في ركوب السيارات، ومقرباً من رئيس الجمهورية، كما أصبح أكبر رامٍ بالمسدس في مدينة هاربل قرب العاصمة منروفيا، ضربت أمي على صدرها خائبة:
- ياللأخبار المخزية عن نجاحات وهمية حادت به عن الدرب والهدف.
تساءلت بأسى قبض على قلبي:
- أهي الغربة القاسية جرته إلى تفريغ الحنين من فؤاده عن طريق العنف. أم التوحد الوحشي في بيئة غير بيئته، أم المال الذي هبط عليه دون تعب؟ خاب ظن العائلة به. حسبوا حساب كل شيء إلا هذه النتيجة، حلموا بأنه سيعود بعد خمس سنوات، يحمل الذهب على كفيه، رجلاً صلباً لا ككل الرجال.. رجلاً خلقته المعاناة.
زاد بكاء أمي تركناها تفرج عن كربها.
علق أبي محزوناً:
- المال السهل يذهب بالطريق السهل.
قال سامي:
- بداية الانتحار.
أجل كان محقاً في قوله. فقد حمل البريد أخباراً تعيسة عن غرقه في أحضان النساء الإفريقيات في مجتمع أموي لا يملك، هو الإنسان الشرقي، حق أبنائه الذكور السبعة.
أطلقت أمي تنهيدة: ست محلات تجارية تمتد من أرض المطار حتى العاصمة ولا تسد الديون وفوائد البنوك؟ أية خيبة لأخي محمد الفاتح.
رد هشام ممازحاً وساخراً:
- لا تخشي على ابنكِ فهو الأمين الوفي لتلك المخازن. يعرف كيف يصرّفها.
أتلفن إلى أحمد لمجرد سماع صوته ثم أغلق السماعة، كشفني، كشف لعبتي.
ترى هل أحس بلهاثي حتى فضح أمري؟
ناولته القصة مترجمة على صفحات ثلاث. قرأ الصفحة الأولى نبر بثقة:
-لا، لا ليست هذه ترجمة، هذه كلمات مرصوفة لا تشكل قلب ونبض كاتب مثل (جيمس).
مزق أحمد سهر أسبوع كامل، تناولت المزق المرمية على الطاولة، واندفعت هائجة خارجة من بيته، همت في الشوارع التي أحبها محبطة، المهاجرين، عرنوس، الجسر الأبيض، بوابة الصالحية، المرجة، بقيت بالترام، عدت معه حتى آخر الخط في المهاجرين، بكيت بلا دموع. صممتُ على القطيعة. لابد من اتخاذ خطوة، موقفٍ حاسمٍ، أعلمته في الليلة ذاتها عن قراري.
- يجب أن نبتعد عن بعضنا، لنجرب أنفسنا، على كلٍ سأسجل في دورة صيفية قد تلتهم وقتي، وأنت أدرى الناس بقيمة الوقت. أعلنت مدرسة (الثانوية الأدبية) عن دورة مكثفة للمواد الرئيسية مدتها شهران، وهذه فرصة لي، أصبحت في سباق مع الزمن. قال متردداً:
- لنجرب، كما.. تشائين.. أنا واثق من أنها تجربة سخيفة.
انغمست في كتب المنطق، وعلم النفس، والفلسفة على نحوٍ مرهق. جافاني النوم في تلك الركضة. سرح مدير التربية بعد خلاف جوهري مع وزير المعارف حول مناهج التدريس وجاءنا مدرساً لمادة العربي. جاءنا من كان يهز أركان التربية.
في الصف، تعرفت زميلة خفيفة الظل، لمّاحة، تحب النكتة إذ تخلق جواً مرحاً حولها. بطفولة صبيانية، معاندة للمألوف قلمت شفتها السفلي بالحبر الأزرق، جعلته وشماً كنساء بلدة السلومي.
ضحك الأستاذ حين رآها. حين دمعت عيناه. لم يتمالك نفسه من التعليق:
- من أين الآنسة؟
ضحكنا كلنا.
- من الرقة أستاذ.
وفي درس تالٍ، رسمنا جميعاً الوشم على شفاهنا.
قال الأستاذ مدير المعارف السابق:
- يابنات ، مهلاً، ستجيء إلى دمشق بدوية من الميادين تجيد الوشم، أرى أن هذا الحبر الأزرق الذي وضع على شفاهكن غير جميل، فمن أرادت أن تكتحل أو توشم فلتسجل اسمها على هذه الورقة، ونادى على رجاء صاحبة الفتنة، وسلمها الورقة.
- دوري على زميلاتك من فضلك.
أحسسنا بخطر اللعبة، أوقعتنا اللعينة في شر أعمالها. قد يطردنا المدير وقد يحرمنا من تقديم الفحص، وهات يا أمل كاذب بالبكالوريا. غير أنه كرجل ذكي محنك غفر مداعباتنا بأبوة سمحة.
سقى الله تلك الأيام، كمّ مرحنا، وكم لعبنا، وكم سقطنا في جب البراءة لاهيات عما يخبئ القدر حالمات بالتقاط النجوم.
ها أنذا أشتري صحيفة أحمد، علقني هوس قراءة الصحف اليومية. أسجل بعض الملاحظات الساخرة على هامش مقالته. (من القلب) كرد انفعالي لهيمنته علي، أمضّنا الشوق. يعترض أحمد طريقي بعد جفاء.
- مرحباً ، آنسة سلمى...
أسمع تحيته وأكابر.
- البعد جفاء. كفى تمثيلاً فاشلاً، أين أنتِ، على الأقل اسألي عن إنسان يقلق عليك.
حدثتُ نفسي:
- يقلق علي، كيف ياترى؟ تجاهلتُ مايرمي إليه. رميت كلمة:
- البكالوريا وصعوبة البكالوريا..
- خطوة، وتتحقق أمانيك حين تطلين على الجامعة، ساعتئذٍ من يقدر عليك؟
- أملي ضعيف ، مواد صعبة، ووقت قصير.
- هنا تبرز شخصية سلمى الشريف، أم نسيت؟
حدقت في عينيه وددتُ لو أمزق وجهه قبلات، ربما غرقت في رغبتي تلك. لم أكذب على نفسي. اعترف بأني أشتاق إليه شوقي إلى النور. هل أقول له إنني كذبتُ يوم طلبتُ القطيعة، وإنني أنتحر يومياً وإنني وياللمهزلة، أتلاشى أمام لحظة سقوط العين في العين.
- أراكِ غداً. قال باتاً. استسلمت.
- أراك..
هجم الفحص بكلكله. مئات مثلي، أولا مثلي يركضن خلف هدف. وهدفي أنا.. الجامعة. أحقق ذاتي، كياني، وجودي، حريتي من خلالها.
يسلّ شهر الامتحان العافية مني.. ولكنه يحمل الموعود، القرار استثنائي والدورة استثنائية، والنجاح استثنائي.
-وكيف عملتِ؟ سألني أحمد وهو يخاصرني بغتة.
- وضعتها في جيبي.
- من؟
- البكالوريا، ألا تسأل عنها؟
أطار نبأ النجاح صوابي. وحملني إلى سموات سبع اخترقت حجاباً خلف حجاب، سبحت فوق غيمات رقاق قطنية دافئة، يؤهلني النجاح لأي فرع أريده في الجامعة..عدا الطب الذي أخشاه. صحيح أنني لم أحقق درجة عالية في العلامات، ولكنها قمينة بأن تحملني فوق عتبة صعبة نحو الانطلاق.
من تحت الأقفال، وفوق الأسيجة الحديدية، رحت ألقاه، وأمشي عذراء حافية على الجمر، أمشي على صوت تصفيق المتفرجين الذين يزكي اللهيب، يتلبسني رعب قاتل من ألسنة الناس. وها أنذا أمشي إلى مالا نهاية..اخترت الطريق. أدرك الخطر. وأمضي إليه بقدمي مندفعة متألقة عاجزة أمام ندائه.
عدت إلى التفكير الممض. ماذا حققتُ؟ فجأة وجدتني لا أقبض على برغي صغير في دورة الحياة الهائلة، تساءلت بوعي أشد.
- هل حقاً تحررت بالنجاح من سلطة الذكورة النتنة؟
استعرضت وجوهاً محبوبة في الوسط الاجتماعي. لمياء دفعت باسمها إلى التقول ثم انتحرت. عفاف هربت إلى أحضان عجوز يسد جوعها إلى الملابس الأنيقة والسيارة الفارهة بعد أن تحطمت وحطمت ناديا التي خرقت تقاليد بلدة ساخرة من أم عجوز وعانس تاهت خلف الغبار. هيام التي وضعت النظارات السوداء على عينيها ولم تخلعها حتى ماتت. نورس التي أفنت صباها وموهبتها في العمل من أجل مثل لإخوة صغار. أمي التي أطرت حياتها بالعادات والأعراف، وتأمين رغبات زوج ازدادت سنة بعد سنة مع التغيرات الفيزيولوجية المنهارة؟ مها التي أضحت نقطة ضمن غبار يعج بقذارة المال والحياة التافهة الدنيئة المخبوءة في حنايا زوجها الوجيه. مَنْ، مَنْ، التي استطاعت أن تنتشل نفسها حقيقة وحدها دون كفٍ رفيقة يملؤها الحنان. دون رجلٍ حرٍ انتزع من أعماقه جذور الأنانية التي تقبر الحب وأدرك تماماً أن المرأة ليست ضلعاً هشاً خرج من خاصرة الرجل ولا هي وعاء لرغباته. إنها سر الدنيا.
ابتسم بمرارة فائقة لحديث امرأة معي تجاوزت الخمسين. كانت صامتة جميلة كما الجمال، ذكية داهية، قادرة على تنظيم الحياة، وأعرف من كثيرات رأيتهن أو مررن بحياتي.
سألتني مرة وهي تربت على رأس آخر مواليدها:
- كيف يكون الحب بين زوجين ياترى؟
- رفعت حاجبي دهشة من حقيقة صدمتني.
- والأولاد الخمسة من أين أتيت بهن.
- سمعت عن الحب، سماعاً ، والحب في عرفنا عيب.
هل تعلن المرأة رغبتها بالرجل أيضاً؟ همست خجلة.
حاورت نفسي:
- أكانت حياتها اغتصاباً وجسدها لحماً مستباحاً طوال ثلاثين عاماً من الزواج؟
تؤرقني ذكرى هذه المرأة، وربما كثيرات من نسائنا اللواتي قتلهن الخفر. فسقطن أسيرات أحلام اليقظة. فكرت، يجب أن أتحرك على صعيد العمل إن أردتُ وزناً متكاملاً. تحريت من صديقاتي العاملات.
- البنك، لا، الهاتف، أعوذ بالله، بائعة، مستحيل. أسلم طريق للمرأة في بلدي هو التعليم. ولكن التعليم يحتاج إلى دار معلمات وأصول التدريس، وقواعد الانضباط، هذا هو الطريق الأمين والمنفرج عن كلمة نعم من الأهل.
عشية الخميس وهو يوم مقدس في بلدي تتم فيه كل الشعائر الدنيوية والدينية، من زواج وختان، وصلة الرحم زارنا قريب ذو نفوذ في وزارة الاقتصاد يتأبط دكتواره في العلوم السياسية من أمريكا. كان الرجل بعينيه الزرقاوين الهاربتين من دم هجين عن طريق أمه الفرنسية، ودوداً وذكياً، يفهم لغة العيون كما يفهم الموسيقى الكلاسيكية. يحمل صوته لطائف النبرات الدافئة.
- ايه يابن العم. كيف وجدت بناتنا.
- في تقدم مروع. يضحك.
يتدخل أبي مسالماً:
- عسى أن لا تكون قد وقعت في حبائل الأجنبيات.
يضحك ابن العم ويرمقني متوجساً من الانزلاق في حديث متشعب لا يرغبه.
- أفكار مغلوطة عن نساء الغرب ياعمي.
- يكفي أنهن يستولين على خيرة شبابنا، فهمت علي. زيوان البلد ولا قمح الجلب. كما يقال.
يحتدم النقاش بينهما وأتفرج. أقول في سرّي:
- ليتني أسافر أيضاً لأعب من المعرفة، لماذا نغالط. قلت متوددة:
- هل تساعدني ؟ خدمة بعشرة أمثالها. أريد أن أجد وظيفة ترضى العائلة عنها.
ضرب كفيه على فخذيه، ووقف متأدباً يرجو السماح له.
- سأحاول، رد.
- مضى أسبوع. رن الهاتف.
- سلمى غداً لديك لقاء مع مدير البنك العربي في الحريقة. تعرفين المكان؟
- أسأل عنه لا تقلق علي، شكراً.
أرجحتني الأحلام بين ردٍ وأخذ. غرقت في دوامة الانفعال. ورغبات صغيرة جانبية.
في الساعة العاشرة صباحاً. اندفعت من الباب الحديدي العريض للبنك إلى سلم حجري رخامي أوصلني إلى باب خشبي سميك الضلفتين. وجدتني في صالون كبير، بل ورشة تعج بالناس وبضجيج آلات طابعة.
سددت أذني.
- يا إلهي كيف لا تدفعهم هذه الضوضاء والجلبة إلى الجنون؟
كانت القاعة مقسمة إلى كابينات صغيرة يفصل مابينها زجاج قصير يطل منه رأس الموظف أو الموظفة.
جلست في ركن أراقب عجقة الحياة الغريبة، أهذا ماتذكرتني به يابن العم؟ انتابتني الخواطر المتباينة على نحوٍ عصي غلاب، متى يفرغ السيد المدير من مراجعيه ذوي الحقائب المقفلة على الأموال؟ أذن لي بالدخول.
وقف رجل مهيب أشيب الشعر على عينيه نظارتان مربوع القامة ذو هندام أنيق جداً، زرر سترته باحترام ومدّ يداً طرية. ثم انتقل من خلف مكتبة إلى أريكة مخملية خضراء وأشار لي.
جلستُ ، وجلس قبالتي..
- نعم آنسة سلمى الشريف، تريدين عملاً. تحملين بكالوريا موحدة.
- نعم.. خفضت من بصري. عددتُ خيوط السجادة وخطوط الطيور المغردة، عشرات المرات.
- طبعاً.. تجيدين الضرب على الآلة الكاتبة. عربي وإفرنسي.
- طبعاً لا...
-هِمْ.. تجيدين إحدى اللغتين؟ مرر إصبعه على شفته السفلى.
- مستوى البكالوريا عندنا..
- تجيدين المحاسبة.. أعمالنا تعتمد على الأرقام.
- لا أعرف المحاسبة، ولا الحساب.
-لم تريدين الوظيفة.؟
تلكأتُ، كيف أشرح جوانيتي المخبأة، كيف أوضح له رغبة العصفور بالطيران، من قضبان القفص، كيف أشرح لهيب النيران المتراكمة بين ضلوعي، وأفشي سري الخاص.
- مجرد رغبة تزجية فراغ، أجبت.
- هل أنت بحاجة مادية.
انتفضت في مكاني كما لو أن صفعة حادة حطت على وجهي، تملكني الغضب حتى رغبة الصدام، ثم انهمرتُ دموعي، ولم أقوَ على كفكفتها ظلت أقوى من إرادتي. تفجرت ينبوعاً حاراً صافياً، شلالاً، يغسل إهانة ملأت كياني ورأسي حتى العظم. عميتُ تماماً، ولم أعد أرى بعيوني شيئاً إطلاقاً. كل شيء أضحى غائماً أسود.
صدم السيد المدير، ناولني علبة المحارم، حرك يديه مضطرباً حائراً عدة مرات وهو يقول:
- يا آنسة سلمى افهميني.. لم أقصد..
حدثت نفسي:
- هل أسأل أنا سلمى الشريف هذا السؤال، وأبي يقدم حبة عينيه من أجلنا.
تابع معتذراً : أسأت التصرف؟
هل أخطأت.. لكل إنسان ظروفه المالية، كلنا نعمل من أجل عيشنا، اندفعت نحو الباب أمانع شهيقي، بكيت بحرقة محروم جائع. همت في الطرقات دخلتُ في حارات وأزقة لم أعرفها أرغب في أن أجفف دموعي قبل أن أصل إلى البيت، ويراها أهلي بماذا سيتهمونني عند ذاك؟
لازمني شعور الانكسار والعنف أمام مدير البنك مدة طويلة، وقتئذٍ لم أفهم ولن أفهم لم بكيت؟ أكنت أخشى استغلالاً؟ بعد فترة أحسستُ بأنني كنتُ بحاجة إلى من يكشط عني بريق اسم العائلة كي أصبح أصلب عوداً في مواجهة الحياة. فالحياة ليست أماً وأباً وإخوة وحبيباً ونظرات هائمة تظللها الأحلام. الحياة أن أكون أولا أكون. وهذا مايجب أن أقرره وحدي.
غضضتُ النظر عن البنك،وبحثت عن معلمتي إلهام حداد أيام الابتدائية. توسطت المدرسة فم سوق ساروجة. بيت عربي قديم ينفتح بباب صغير على باحة مربعة، على جانبيها غرفتان ثم غرفة الإدارة تدلف منها إلى باحة كبيرة تقع في صدرها غرف ثلاث على صف واحد ليخرج من خاصرة الباحة سلم حجري ملتوٍ بأناقة إلى الطابق الأعلى.
كانت إلهام حداد سمراء حمراء الخدين ذات شعر قصير منسدل فوق الأذنين بقصة موضة العشرينيات، وعينين كبيرتين جاحظتين قليلاً ترنوان بود يثلج الصدر. كنت أثيره في صفها. لم تطوني الأيام من ذاكرتها. تجددتُ معرفتنا يوم كبرت. صرت أذهب إلى بيتها مع ثلة من البنات نحمل الورد اعترافاً بفضلها. كما حفظنا ودها، عندما التقيتها لاحظتُ تكدس الشحم حول بطنها وركبتيها. بادرتني باسمة. وتجاهلت دهشتي:
- سلمى الشريف، ابنتي..
- هأنذي جئتك أطلب عملاً. وظيفة.
رفعت حاجبيها ثم ضحكت.
- ياللأيام ياسلمى، سلمى الصغيرة تصبح كبيرة ومعلمة.
بادرتها:
- حظ طيب أنا في طريقي إلى الجامعة. نجحت في البكالوريا.
- ألف مبروك . ماريك بالصف السابع. أم تفضلين عملاً إدارياً؟
- أي شيء لا يعيقني عن الدراسة.
- يوجد في الصف السابع خمس عشرة بنتاً كأزرار الورد. تبقى مهمتك صعبة قليلاً مع بنات البكالوريا. المدرسة مؤلفة من سابع، وثامن، وتاسع، وبكالوريا صف وحيد للراسبات.
- ياويلي: همهمت.
توجست قليلاً في البداية فالبنات أكبر مني سناً. لكنني سرعان ما تأقلمت. لم تمضِ أيام عشرة حتى عقدتُ صداقة معهن. وجدتُ أن الهدنة أسلم طريق إلى قلوبهن، وبخاصة أنهن في سن الفوران والرغبات المكبوتة.
عندما دخلتُ صفي السابع هبّت في وجهي رائحة الطفولة البريئة، كن بنات في أعمارٍ مختلفة بين الحادية عشرة والخامسة عشرة جئن من حي شعبي ثرٍ بعواطفه، بسيطات الملبس، سليمات، مسالمات في اللعب، حكيتُ لهن قصة أحلامي، فتعلقن بي بمودة وتعلقت بهن.
مضى الشهر سريعاً، قبضت أول راتب في عمري مئة وخمسون ليرة، كانت كافية لشراء أشياء وأشياء، وكتب وهدايا للأهل. حققت استقلالاً مادياً، وقريباً معنوياً، جرى تبدل طفيف في نظرة الأهل لي صارت أكثر ثقة.
أضحى صف السابع بهجة حقيقية لي. غيرت في لباس بعضهن. لفتت انتباهي من بينهن فتاة صغيرة القد نحيلة ذات عينين ذكيتين براقتين. شعلة ذكاء وتفتح.
هذه أول سنة أترك فيها الدراسة، وأتربع فوق كرسي، وأحمل في يدي مسطرة أدق بها على الطاولة لأزجر عبث الأطفال. وعبث الأطفال كثيراً مايعن على باله أن يمد رأسه بين المقاعد ليظهر في وشوشة هامسة. كتبت على اللوح الكبير بخط واضح عريض (وصف ورقة صفراء تروي قصتها)، لبثت لحظة أنظر، ثم عاودت الكلام: الموضوع جميل يا آنسات نحن في فصل الخريف.
- آنسة خلصت. ارتفعت الرؤوس عن المقاعد. هل أسمعك إياها. هل أقرأ ماكتبت.
أدرت رأسي حيث ارتفع الصوت، ورأيت أصبع فادية ترتفع مستفهمة مترددة.
((بينما كنت أتنزه في الخريف بإحدى الحدائق الملأى بالورق الأصفر سمعت صوت همسات تقول لي:
-كنت في إحدى الشجرات الجميلة- وهي أمي- أعيش في لذة الحياة لأنني في فصل الربيع الذي كساني رونقاً. ثم جاء فصل الصيف، وتنهدت بعدها. كنت أنعم بلذة حياتي لأني لم أفارق أمي الحنون. أمي التي ربتني وغذتني وتعبت علي...))
وعاد صوتها:
((ولم أكد أنعم بشبابي حتى جاء فصل الخريف فصل الفراق، فدفع نحو أمي البرد القارس، فاصفررت أنا وإخوتي، ثم جاء بعواصفه الهائلة التي هزت أمي هزاً عنيفاً. ولكن أمي أمسكتنا بحنان خوف أن يقتلعنا. غير أنه- آه.. فلم أكد أرد لها جواباً حتى جاءت ريح قوية... طارت بالورقة تتلاعب بها.))
دق جرس الفرصة.
كنت أريد أن أقول لها:
بأنها ستصبح كاتبة، أو شاعرة. إذا تابعت دراستها، ولتحيا في طمأنينة وأمان بعيداً عن شرور القنبلة الذرية.
بادرتُ مديرة المدرسة متفائلة: - أجدني أتعلق بالتدريس.
دخلت ((إلهام)) في سهوم وتوحد، انسللت إلى صفي، وبالي مشغول. ترى بماذا تفكر، وبمن، هل فشلت في إنجاز حب أو حلم؟ تقول عيناها الكثير من الحكايا الحلوة والمرّة. يا لبناتنا، تموت الواحدة منهن ألف ميتة، ولا تبوح بسرّها لأحد.
يتبــــــع ,,
|