بسم الله الرحمن الرحيم
من كلام الدكتور/علاء القبانجي ... مجلة النبأ العدد 43
"لم يكتب لعلم النفس أن يأخذ حظه وينمو ويترعرع أو ينصهر في بوتقة العلوم الإسلامية لزمن طويل
وقرون عديدة كما أخذت بعض العلوم كالفلسفة والفقه والرياضيات وعلم الفلك... حظها من التوجه
والإمعان خلال النهضة العلمية الإسلامية في القرن التاسع والعاشر والحادي عشر الميلادي، على
الرغم من أن العلماء المسلمين في تلك القرون كانوا متعددي المواهب والقدرات وجامعي علوم متعددة
لا يقتصرون فيه على علم واحد فلهم باع في الفلسفة مثلاً إضافة إلى الرياضيات كالخوارزمي أو
الهندسة أو الفلسفة علاوة على البصريات كابن الهيثم وليس مجالنا تعداد تلك المواهب والقدرات
الجامعة فهم كثر، هذا على الرغم من أن علم النفس هو أحد العلوم القرآنية الواضحة المعالم بأكثر من
70%من مجمل التوجهات العلمية في القرآن.
ولا أريد لظني أن يكون صادقاً بان علمائنا السابقين نحو بعيداً عن هذا المجال لظنهم بأن الروح والنفس
من الأمور الإلهية انسجاماً أو اعتقاداً وأيمانا بتفسير الآيــــة الكريمة ( يسألونك عن الروح قــــل الروح
من أمر ربي وما أوتيتم من العلم الا قليلا) (1) والتي لا يتوجب الغور فيها أو لربما يكره أو يحرم البعض
الحديث عنها لما قد يلتبسها نوع من الغيبة والنميمة والمساس بالحالة الشخصية الذاتية للإنسان. على
الرغم مما يؤكد عليه بعض الباحثين(2) من أن استخدام كلمة النفس في القرآن الكريم لا تعني الروح بل
تعني الشخصية الإنسانية وهذا التوجه أو التحليل الأخير هو بمثابة المدخل الأول إلى علم الشخصية
الإنسانية أو علم النفس الحديث حالياً كما جرت العادة على ترجمته واستخدامه.
(خلق الإنسان هلوعا)
وصف الإنسان بالهلوع، والهلع يعتبر ويصنف من جملة الخصال النفسية أو الشخصية غير المحمودة ولا
نرى له غير ذلك. والهلع يأتي من ضعف البنية العصبية للإنسان عموماً من الناحية الفسيولوجية ومن
ضعف الثقافة الفكرية وعدم المعرفة بحقائق الشدائد التي تحيق بالشخصية أو ظروف وملابسات
المشاكل. ومن البديهي أن يقل الهلع والخوف نسبياً عند الإنسان إذا ما قُدّر له أن يطلع على حقائق تلك
الشدائد والمشاكل والمحن وتحليلاتها الأصولية، ولكنه أي الهلع يبقى سمةً من سمات شخصية الإنسان
الضعيف. والهلع هو الإرباك الظاهر على الشخصية أو داخل النفس نتيجة تغير في عدد من إفرازاته
وأنزيماته بوازع من خلايا دماغية تعاني من وطأه تحليل لظاهرة معينة هي علة ذلك الهلع وهذه العلة قد
تكون موقفاً سلبياً أو تهديداً مباشراً... الخ.
والآية الكريمة التي تصف الإنسان بالهلع ( إن الإنسان خلق هلوعا) (3) ( وإذا مسه الشر جزوعا) (4) (
وإذا مسه الخير منوعا) (5
تؤكد على أن هذا الهلع ليس صفة عرضية على شخصية الإنسان بل هي خصلة أو خصوصية من
خصوصيات خلقه وتقويمه الذاتية التي تندرج في بنيته منذ نشأته الأولى والتي ترجع أساسا إلى النطفة
والماء الدافق حيث قال (جل) ( من نطفة خلقه فقدره) (6) وقال أيضاً ( خلق من ماء دافقْ يخرج من بين
الصُلب
أما بقية الآيات الكريمة 20-21 السابقة من سورة المعارج والتي تصف الإنسان بالجزوع عندما يمسه
الشر والمنوع عندما يسمه الخير في ظروف معينة فهي تكمل خصوصية الهلع الشخصي والنفسي إذ
تميز النفس البشرية في مواقف الشر والشدة عنها في مواقف الانفراج والرخاء.
ولابد هنا من الإشارة إلى الفارق بين الهلع الموروث كسمة نفسية وبين الجزع أو الامتناع كصفتين
ناتجتين عن تلك السمة. والحقيقة التي يتوجب النظر إليها هي أن هذا التشخيص النفسي والمواصفات
المكملة له ـ الجزع ومنع الخير ـ لم تأت على المستوى النظري أو الثقافي فقط بل على المستوى
التجريبي الذي دام قرونا بدأت منذ النزول وليست وليدة عصر النهضة الإسلامية ولا عصر النهضة
الأوروبية.
ولو تعمقنا قليلاً واستدرجنا النظر في الآيات التالية من سورة المعارج لوجدنا واكتشفنا ضرورة وحتمية
العلاج النفسي بعد ذلك التشخيص الإلهي لتلك الخصال النفسية غير الحميدة سواء كانت متأصلة
موروثة أو ناتجة حتمية عنها .
(هيت لك)
في قصة سيدنا يوسف جانب آخر من جوانب علم النفس أو علم الشخصية لم يكن متبلوراً في القرون
السابقة وهو يمثل المعلمة الثانية من معالم هذا البحث ولا اريد هنا الخوض في مظلمة سيدنا يوسف
والظلم الذي وقع عليه من اخوته ولا أريد الخوض في العلاقة الشخصية والوجدانية الإلهية بينه وبين
والديه على الرغم من أنها تمهيد واستدراج مهم للوحي النفسي التربوي الذي أودعه الله في موقف
سيدنا يوسف من زليخا امرأة العزيز ألا وهو رفضه المراودة الجنسية بعد أن غلقت الأبواب وقالت (هيت
لك).
هذا الموقف الرافض لسيدنا يوسف واحترام أمانة العزيز في امرأة أمام سفاحها يمثل نبل البطل الكبير
أمام الدناءة والشهامة الرجولية أمام ضعف امرأة العزيز وردع الذات عن الخيانة يفرض على قارئ تلك
الآيات ـ وحقاً هي آيات بالمعنى الواقعي والمصداق ـ إحساسا وشعوراً غريباً ينتاب النفس لا ينتهي إلا
والدموع تترقرق في المآقي ليس لمأساة يشاهدها القارئ بل لموقف شهم نبيل ولا ينتهي ذلك
الإحساس والشعور من النفس الا والتصميم الكامل والإرادة الواعية النفسية بعدم الأقدام على الزنا
وردع الذات عن الفواحش ولربما الإصرار على اتخاذ المواقف النبيلة طبعاً وتطبعاً فيما لو قدر للشخص أن
يبتلى بنفس الظروف.
ذلك التمهيد والاستدراج وهذا الموقف النبيل والشهم لسيدنا يوسف أمام أخوته والعزيز وامرأته تمثل
ليس معلمة من معالم علم النفس والشخصية بل طوراً جديداً من الإيحاء التربوي النفسي الذي أودعه
الله في آياته السابقة تلك.
ولم يكتف القرآن بهذا الإيحاء النفسي الرادع للذات بل ثنّى عليه بالعاقبة الحميدة والثواب الكبير الذي
حصل عليه سيدنا يوسف لدى الملك رغم المعاناة الطويلة في سجون مظلمة وكان يوسف الصديق
عندئذ نبيلاً أيضاً مع الجميع.
هذه المعالجة النفسية وهذا الإيحاء التربوي القرآني هو أحد المبادئ الإعلامية المستخدمة في يومنا
هذا سواء على صعيد البطل المنقذ في الأفلام السينمائية أو على صعيد الأخبار الإذاعية والقصص
العالمية ألا وهو استعراض المواقف النبيلة والشهمة الرجولية عند الظروف الصعبة والقاسية للمرء.
وفي لغة علم النفس نجد أن موقف (الهو) النبيل تدفع ( الأنا) طوعاً للنبل والشهامة واتخاذ نفس السلوك
تقليداً كان أم قناعة ولم نجد في سرد قصة يوسف في القرآن الكريم وبالأسلوب المعروف الا دفع (الأنا)
في الإنسان لاتخاذ ذات الموقف الذي اتخذه سيدنا يوسف الصديق.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن الأسلوب القرآني يعرض حقيقة أخرى لربما تكون غامضة لدى البعض ألا
وهي استمرارية الإيحاء التربوي فما من قارئ للقرآن أو مرتل له إلا وينتابه نفس الشعور الواعي
والإرادة الرادعة عن الانزلاق بالفاحشة والزنا كلما راودته نفسه مهما تكررت قراءة السورة. والحقيقة
التي يجب أن تقال هنا هي أنه ليس الموقف النبيل فقط ولا القصة فقط بل الأسلوب أيضاً ـ وهو ما
المحنا إليه سابقاً ـ هو ما جعل من هذه المعلمة النفسية نظرية قائمة بذاتها أو حقيقة تربوية يتوجب
اعتمادها.
*********************** العلاج النفسي في القرآن الكريم **************************
يرتبط العلاج الفيزياوي لجسم الإنسان بالعلاج النفسي له في الكثير من المجالات حيث نجد أن النفس
البشرية بحاجة إلى الطمأنينة والثقة خصوصاً عند إجراء العمليات الجراحية مهما كانت نوعيتها أو درجة
خطورتها. وهنا يأتي دور الأطباء الجراحين مثلاً في خلق جوٍ من الثقة والإرادة والاطمئنان لدى المريض
وهو ما لا يتوفر لدى العديد من هؤلاء الأطباء في يومنا الحاضر وعلى أية حال نظره متأنية أخرى بين
سطور القرآن الكريم وتفحص آياته نلمس كم هو تأثير الآيات التالية على النفس والشخصية:
1ـ ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) (8).
2ـ ( … فإن مع العسر يسيراً إن العسر يسراً…) (9).
3ـ ( إذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع اذا دعاني…) (10).
4ـ ( وقال ربكم ادعوني استجيب لكم…) (11).
5ـ ( قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور.. ) (12).
والآيات كثيرة ومتعددة ولربما سنفرز لها موضوعاً جديداً في مقالات أخرى.
ويؤكد كل من الدكتور انور طاهر رضا والدكتورة أمل المخزومي أستاذا علم النفس في جامعة قاريونس
وازمير على أن درجة تأثير الآية الأولى على النفس الإنسانية ورفعها للروح المعنوية تساوي (90%)
تسعون بالمائة من مجمل الناس اللذين اشتركوا في استبيان دراسي في إحدى تجارب العلاج النفسي
الذي أخذ صورة التشريح الطبي وكانت لديهم معضلات عويصة وخطورة عالية. بينما أخذت سورة الشرح
خصوصاً الآية ( .. إن بعد العسر يسرا) تأثيراً نفسياً بلغ حدود (96%) ست وتسعون بالمائة من مجمل
الأشخاص الذين اشتركوا في استبيان دراسي في إحدى تجارب العلاج النفسي حول المعضلات
المزمنة التي تحيق بالفرد المسلم.
ولربما نجد في بحوث إحصائية قادمة أن درجة الاستجابة النفسية للفرد مع ربه إذا ما أصابته مصيبة قد
تصل إلى درجة مائة بالمائة وقد تقل عن ذلك في الظروف العادية.
هذا الإيحاء العلاجي النفسي والشخصي يمثل معلمه ثالثة مع معالم موضوعنا الحالي لا بل يمثل
مدرسة نفسية مستقلة خاصة يتوجب دراستها وتوثيقها في كافة المعاهد الدراسية النفسية وكمنهج
ضروري للعلاج السريري أيضا، إذ أن هذا النوع من العلاج لا يزرع الثقة بالنفس فقط بل ويدفعها إلى
الاطمئنان والاستقرار وما أحوج المريض إلى كل تلك الثقة وكل ذلك الاطمئنان والاستقرار.
ولابد من الإشارة هنا إلى ضرورة التمييز بين هذا العلاج النفسي والعلاج الذي قد يفهمه البعض من
تفسير الآية الكريمة ( وننزل من القرآن ما هو شفاء للناس ورحمة للمؤمنين) (13).
فالشفاء هنا ذو معنيين أولهما شفاء فيزيائي عضلي وثانيهما شفاء نفسي وشخصي وكل من هذين
النوعين له مقوّماته واسسه وأساليبه وهو ما سنفرد له موضوعاً خاصاً في الحلقات القادمة إنشاء الله.
أما الآية بحد ذاتها فهي ليست من النوع العلاجي ولكنها تشير إلى مواضع العلاج النفسي والشفاء
الموجودة في آيات الله الأخرى والتي يتوجب البحث عنها وعمل التحليلات والاستبيانات الإحصائية
لتأثيرها" .
اتمنى ان يعجبكم الموضوع
صراحة نقلته لكم لأن وجدت ان كثيرا من الناس مع الأسف يشككون بعلم النفس
لكم مني اجمل تحية وارقى سلام
دمتم بكل خير