المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
ما كنت ستفعل لو كنت مكاني !؟
ما كنت ستفعل لو كنت مكاني!؟
أدخل البطاقة في الصراف الآلي، أدخل الرمز، أدخل المبلغ أرقاما. مبلغا كبيرا ولكن، كان قد قدر أنه بالكاد سيغطي المصاريف...وما أكثرها في هذه الأيام الغبراء! في انتظار أن يفتح "سمسم" أخذ يفرك يديه ...وعيناه وانتباهه لا شاغل لهما إلا متابعة الرموز والتعليمات المترادفة على ظهر الشاشة...تََمَّ الأمر، انزلقت البطاقة خارجا وانفتح البويب عن قبضة من الأوراق جديدة ذات سمك يُسيل اللعاب. سحب القبضة لواها وأدخلها في جيبه..وهم بالانصراف غير... أن جسما بحجم جدار ينتصب أمامه، يسد في وجهه النور والمرور. استطلع الجسم من منشإه فبدا له حذاء لميعا من النوع الرفيع وسروالا من قماش انجليزي بتصميم رائع ، تفكيك الرموز وجمعها وقراءتها حسسه بالأمان ، استطلع المحيا...فكانت تقاسيم حادة : عينان ببريق مبهم، غائمتان تعومان في حمرة مريبة.جمع التفاصيل يٍُعطي صورة بليدة لشاب تعدى العشرينات. راجع قراءته الأولى فحلّ محلّ الأمان قلق وخوف . دفقٌ من الادرينالين يتماهى مع دمه يزيد في إيقاع نبضات قلبه ويسرع تنفسه، ويجعله يحس حرارة تستوطن هامته ليعرف أن ضغطه دخل المباراة. هم بالهروب... بالخروج من المأزق لكن شهامته ...ومدية بطول ذراع أثنته...وجسارة يد العملاق تحلّيها سلسلة ذهبية، قد تصلح طوقا لكلب...! أخرسته ، في ظرف وجيز كانت تسحب من الجيب شقاء وتعب شهر من العمل المضني...حاول أن يفعل شيئا لكن،المارد أطلق رجليه للريح...وابتلعه الزحام.
عاد أدراجه، تعصره الحسرة، تقتله قلة الحيلة.<<ليتني كنت رمبو أو جاكي شان . آه يا الله.... حتى الأمان!! ...ضاع>>، ردد في قراره.
دلف داخلا مُركّب المستعجلات يجر رجليه المرتعشتين، وفمه يقاوم اجتفاف محتضر بضغط على اللسان عل تلافيفه تجود برضاب ...الصدمة كانت قوية لا قبل لقلبه الكريم بتحملها...
وجد أمام مكتبه فاطمة ،تنتظر رجوعه لمحت شحوبه وحاله المضطرب فسألته :
ـ ما بك يا دكتور ؟ حالك يبدو ليس على ما يرام...! هلْ... من خدمة؟
رد بفتور جلي:
ـ أبدا... ربما الإجهاد لا غير، سكت لحظة ...ثم مد لها قطعة نقود وقال لها: هل لا تفضلت يا عزيزتي وأحضرت لي قهوة سوداء من الموزع الآلي وكأس ماء بارد...
قبل أن يتمم كلامه كانت كالحمامة تذرع الممر، وهو... يفتح الصيدلة فيأخذ حبتين من أقراص( urbanil ) ليحد من نشاط عصبه البراسمتاوي.
وُضِع الكأسان أمامه ، فعب من الماء قدرا سيّغ به ابتلاع القرصين ثم ، رشف بعد حين من القهوة رشفتين.. لا غير، لم يستطبْها فوضعها جانبا واستلقى على المكتب بمعظم صدره وطرف خده. استحلى برودة الحديد على الوجنة، فاسترخى أكثر.
في زحمة الهرج والمرج كان بدن المكتب المعدني ينقل إليه دقات قلبه المتسارعة المضطربة لتخترق أذنه بصفاء. غير أن صفاءها لم يلهه عن الشرود مرة، في شبكات الاحتمالات التي تمكنه من الخروج من أزمته وأخرى في إعادة شريط الواقعة التي ما عاش مثلها قط. على حين غرة، عنت له سكينة في باب النفق المظلم فاستسلم لها وشعر بهدوء جميل يعتريه ودقات قلبه تستعيد عافيتها ورتابتها، لا شك أن القرصين أخذ يقومان بعملهما النبيل! فغمغم << حمدا لك اللهم يا رب...حمدا لك اللهم يارب، كل بفضلك ...قد يهون..>> .غفا غفوة حسسته وهي تداعب جفونه كأنه يسوخ في كومة من ركام من غيوم لدن كصوف، كريم كظلال بين الهجير. لكن... سرعان ما عاد منها على صوت الميغافون المنتصب في الممر ـ أمامه ـ وهويردد :<< المرجو من الدكتور أحمد السوسي أن يلتحق بغرفة العمليات...>> لم يستجب، تجاهل النداء وانساق وراء نداء الغفوة ....
من جديد، صرير عجلات وخليط أصوات يعود به كرها إلى الصحو، يفتح عينه فيرى سريرا متحركا تئز نوابضه تحت ثقل صاحبه، أشاح عنه ولم يُعره اهتماما رغم صفرته الفاقعة والدماء المدرج في حمرتها ..ولم يُبال بنظرات الممرضين المستغربة لتجاهله غير المعهود ، وببرودة عاد لوضعه، لا رغبة له في العمل، حنقه وجام غضبه انسياه أبي قراط وقسمه. فجأة ،وكأن ماردا ركبه هب واقفا. وبحركة آلية أخرج مصباحه الصغير من جيبه وعيناه واسعتان عن آخرهما مركزتان على الجريح ، فحص حدقته وتتمتم :< وضعه حرج للغاية ، سيموت إن لم...> ثم وقف وسبابة بين شفتيه ونظره يجول من الجريح إلى مساعديه ... ومن مساعديه إلى الأرض، كأن الفكر، فكره يتدبر أمرا أو يقدر الوضع العام للمريض.ثم سأل :
ـ هل من تقرير اولي؟
ردت المساعدة وهي تقرا من ملف بين يديها:
ـ السن سبعة وعشرون سنة تمزق في عضلة اللسان ونزيف شريناني في بطن الفخد ورضوض في الرأس ولا نزيف داخلي ..السبب: اصطدام وسيارة ....
ـ و... الضغط ؟
أه ! نعم نسيت، 8 على 6 والفصيلة الدموية (AB) زائد
ـ بسرعة أعطوه حقنة "ميدرول" وكيسا من دم فصليته أو ما يطابق، إن نزفه حاد ، رد الدكتور .
ـ ولكن.... ـ يا دكتورـ ذي الفصيلة غير متوفرة الآن ولا حتى (0). لنا نقص منذ يومين.
ـ لا أريده أن يموت ... خذوه إلى غرفة العمليات وهيئوا نقلا مبا شرا للدم سوف ... امنحه قدرا مني لعله ينجيه !
ـ ليس هذا بسلوك غريب منك يا دكتور ...ألم تقم به أكثر من مرة حتى مع الهالكة أمي وهي تقاوم ابيضاض الدم؟ ردت مساعدته .
في غرفة العمليات كان بالكاد يتحرك ، أنبوب مغروس في شريان فخده ينقل سيلا من دمه إلى الجريح بيد أن يديه كانتا ترتق الجرح الغائر وتلحم الخلايا المتهتكة ببراعة ودقة والجريح في غيبوبة البنج والصدمة ممددا عاريا إلا من ثبانه.
نجح الرتق توقف النزف، قد ساعدت صفائح الجريح الدموية المركزة أيضا في المسار. طلب من مساعدته حقنة بإبرة رفيعة وطويلة ومن حجم كبير محملة بمحلول ملحي مركز، لحظات كانت جاهزة بين يديه.انشغلت الممرضة بتطهير الجرح وتضميده أما هو فغرس الإبرة الرفيعة أولا في الجانب الأيمن من الفقرة الثامنة من الرقبة وأخذ يضغط بقوة وعيناه مغمضتان وفكاه على النجدين عاصرتان. تصوره للعملية أعاده لليالي قصف بغداد بطائرات الشبح وال F (...) حين كان يتابعها على الجزيرة والعين دامعة...أحس أن الهدف قد نجح فانتقل إلى الجهة المقابلة .شعربألم في قراره انشغل عنه بنشوة نجاح تطبيقه لمبادئ الهيدروليكا والتناضح التي استصغر فوائدهما وهو على مشارف الشباب..
أنهى عملة بتزامن مع الممرضة ،فطلب أن تحرره من أنبوب تحاقن الدم لكونه أحس بدوخة تعلن أن ضغطه قد نزل وأن مريضه أخذ ما يكفيه ليبقيه على الحياة.
وُضع الجريح على ظهره وغابت المساعدة لإحضار لوازم العملية الثانية ...رتق اللسان، إنها عملية معقدة ولها أدوات خاصة .
عم الصمت القاعة و ضاعت في الغرفة رائحة بول طغت على رائحة ( الإيثير ) تقزز منها وجعلته ينظر إلى جسم الممدد أمامه ، فلفت انتباهه شيء غريب تحت التبان أدخل يديه فأخرج لفة، لفة من أوراق مالية تسيل اللعاب لواها وأدخلها في جيبه وهو يبتسم ويقول في نفسه << بنك سوريالي هذا لا يخطر بالبال...!!!>>.
فُتح الفم، فبدا اللسان المقطوع منفصل كليا إلا طرفا منه أخاطه بدقته المعهودة تم ضغط بقوة تحت الدقن حتى ظهر المزمار جليا بثناياه وبمبضعه الليزيري رقق حافته . لقد نقص منه بضع ملمترات قدرـ يقينا ـ انها كافية لإحداث تغيير جوهري...!
من غير أن تنتبه مساعدته، أخرج الأوراق المالية ومددها تحت دقن الجريح وغطاها بضماد لاصق رشه بماء الليوزين لتبدوَ كجرح مُعالج. تأمل صنيعه عن بعد ولما أيقن أنه نجح في التمويه نزع قفازيه ورمى بهما مع المهملات ثم أخذ يغسل يديه ، نزع وزرته وخرج ثم عاد وقال للممرضة :
ـ غدا مساء أريد صورة تخصه بالرنين المنغناطيسي للظهر والرأس فوق مكتبي
* * * * * * * *
زوال الغد ، وجد الصور أمامه قرأها، فأبانت تلك التي تخص الرقبة كأن فتقا أتلف الجذور العصبية على الجهتين، بينما لم تظهر الأخريات أي خلل، أحس .شعورا غريبا ينتابه لم يعرف تصنيفا له، كان خليطا من حزن يعصر روحه ومثله وبقدره انتشاء،وسؤالا يفلق إصرارُهُ فكرَه: <<هل أصبت ...أم أخطأت ....يا رب!؟>> لم يجب بل، دلف حيث يقبع مريضه.
وجده هادئا ممدا،اقترب منه ومد له يدا لمصافحته وقال << السلام عليك ..يا شاب >> .لكنه لم يرد التحية ..وقد هم برفع يده غير أنه ظهر أنه لا يستطيع تحريكها عندها خلع الدكتور وزرته ـ وعيناه لا تراوح عين مريضه ـ وطواها على ساعده فبدا بقميصه القصبي اللون وربطته الأرجوانية اللتان آثر أن يبقى لابسهما ليوم ثان على غير عادته، فلاحظ أن الشاب تغيرت ملامحه واعتراه اضطراب جلي وهمهم :
ـ غغغغغ، خخخخ
نعم أنا هو....أنا الدكتور الذي عالجك، أنا الذي سطوت البارحة على نقوده.
ـ غغغغغ ،همهم الشاب من جديد
ـ ارتحْ ، يا رجل لن تستطيع لذلك سبيلا.
رد الدكتور وهو يفك الضماد الوهم ويخرج قبضة من الأوراق المالية ذات سمك يسيل اللعاب ويشرعها أمام سارقه،العاجز عن الحركة والكلام ويلويها ويدخلها في جيبه ، ثم يردف:
ـ ما كنت ستفعل لو كنت مكاني ؟ قد غفرت لك ولكن النور لم تغفر لك! هو حكم الله، وحتى لا تقول أني إرهابي قد غفرت لك ! لكن ، سروالك ذو القماش الانجليزي الرفيع وسلسلتك الذهبية لم يغفرا لك..يا عزيزي!!!.
الكاتب حدريوي مصطفى(العبدي)
التعديل الأخير تم بواسطة العبدي ; 01-05-08 الساعة 12:41 PM
|