كاتب الموضوع :
زارا
المنتدى :
الارشيف
جدّه عن يمينه .. و عن الشمال أبيه ..
اصطف أعمامه في صفٍ طويل لاستقبال المهنئين ..
أفواجٌ من الحضور راحوا يتوافدون لتهنئته .. ليشاركوه فرحته ..
التوت شفتيه بابتسامة بطيئة .. ساخرة ..
و هو يجيل برود نظراته في من حوله ..
فرحته ..؟!
انه أبعد ما يكون عن الفرح ..!
متشفي ربما ..!
و غاضب .. غاضب جدّا ..
شعر بأصابعه تشتد في قبضةٍ قد يهوي بها على أي شيء أمامه ليحطمه ..
كلما يستعيد نفاق ذاك الوجه ذو البراءة الكاذبة .. تتقد نيرانا في صدره ..
و تستعر لهفته الأولية الساذجة .. لرغبةٍ قاهرة في قتلها ..
كل شيء كان ليغفره لها .. إلا تلاعبها به ..
للمرة الأولى تحيّره امرأة كما تفعل به هي ..
لكن تلك الحيرة تبخّرت .. لتكشف سواد الخداع من خلفها ..!
كان الحضور منخرطين في الاحتفال .. و الأهازيج الشعبية .. و الرقصات الاستعراضيّة الرجالية المختلفة ..
أنواع من الأسلحة تتطاير ..
صفّين متقابلين .. يتبادلون التغني بقصائد تكتب على الفور ..
خصصت كلماتها للاحتفاء بزواجه ..
انقضى العشاء ثقيلا للغاية .. و اللحظات حتى آخر الأمسية تمر بطيئة للغاية ..
تفصله عن لقاءها ..
فيما يفرك يده بين الفينة و الأخرى ليطالع ساعته مرتقبا اللحظة الحاسمة ..
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل حين أشار جدّه له بيده و هو يقول بحزم ..
- سرينا يا بو سيف .. الحرمة قدها في البيت .. هبابك تشلّها و توصل دبي قبل الفير ..
انفلتت عقدة في صدره ..
و هو يسحب نفسا عميقا يصبّر به نفسه ..
هي ساعة لاستيفاء الحق آنت ..
آنـــــت
آنت ..!
* * * * *
- مستحيل .. لو مهما صار هالشي لا يمكن أسويه ..!
قالتها بقهر مكبوت ترددها مرة أخرى ..
ضاقت ذرعا بمكالمته هذه ..
ألا يكفيها الوجع الصارخ الذي تغالبه الليلة .. تتظاهر باللامبالاة في حين تتضخم عبرة في حلقها .. تسد سبيل الأنفاس فتخنقها ..
هذه الليلة ستزف له العذراء التي اختار لتشاركه حياته دونها ..!
الشابة التي لم تجد فيها ميزة واحدة حين التقتها ..
لم يتوانى عن تبديل جمالها بتلك البساطة ..!!
لما ..؟!
ما الذي رآه فيها ..؟ كيف استطاع أن ينقاد لها .. ؟
هذه الليلة راحت تشمخ بأنفها في كبرياءٍ زائف .. تخفي عمق الجرح الذي خلّفته كلماته الأخيرة لها ..
و بساطة الأمر الذي يتجلى لها يوما بعد يوم ..
هي لم تكن يوما سوى وسيلةٍ لتلبيه أحد احتياجاته .. سرعان ما رماها جانبا ما ان شعر بانه قد يتورط ..
لم يلتفت بعدها للخلف ..
و لو لمرة ..
و حين اصطدم بها في طرقه للمضي .. أوغل خنجرا من الكلمات مزّقت نياط فؤادها ..
لتعلمها أن لا شيء قد يلين تلك القساوة التي خلقت في قلبه ..
لا حبّها الأرعن .. و لا ارتمائها المذل عليه ..
الليلة شاركت ميعاد الكسيرة عشاءً بائسا .. اذ لم تكن أختها أفضل حالا و أبني أخوانها يتزوجون دون أن تحصل على دعوة للحضور ..
و أوغل الألم فيها ..
ربما ابتلعت ألمها .. و أثارت الصمت على أن تثير شفقة الغير ..
لكن ماذا عن ألم من تحب ..؟ لا أحد مطلقا يضاهي ميعاد في مكانتها ..
ميعاد .. الابنة التي تصغرها ببضع شتاءات ..
تلك التي قاست مرضها .. و الوجع ..
و شاركتها الأمل .. و الضحكة ..
الإحساس الأصدق في أيامها ..
ما الذي قد يكون بيدها لتفعله لتجنّبها الحزن المتواصل ..
هي تملك عائلة على الأقل .. العديد من الإخوة .. و أبناء إخوتها ..
فقدت الأم نعم .. بلا أب .. عاشت طوال حياتها و نهيّان و بو عمر يسدّون هذا الجانب فلا تشعر بنقص ..
لكن أن تعيش حبيسة جدرانٍ صامتة كجدران هذا البيت .. عاجزة عن الخروج ..
لها أقارب على قيد الحياة .. أب لا تكاد تراه .. و عائلة كاملة متكاملة تجهل وجودها ..
انه الموت البطيء بحد ذاته ..
لكن هذا لا يعني البتة أن توافق عمر رأيه المجنون هذا ..
مذ كان يمزح معها في مكالمته الأخيرة .. أصاب قلبها الوجل ..
ألا يزال ابن أخيها يلوم أختها على عنوستها ..؟؟ يحقد عليها لذلك ..؟؟
ماذا لو أراد إيذاء ميعاد ..؟؟ ينشد بها كسر جبروت ابن أخيها ..؟
لا .. كيف سيطالها .. لم يكن الأمر سوى مزحةٍ ثقيلة .. لكنها قذفت في قلبها الوجل من أن يقدم عمر على جنون كهذا ..
متهور .. و متعلق بها .. و لم يحب تلك التضحية التي قامت بها ..
لكن الأمر لن يصل لهذا الحد ..!
هذا سخيف ..! سخيف للغاية .. عليها أن تقتلع هذه الأفكار من داخلها ..
لكن ماذا تفعل بما يقوله الآن .. سترفض بالطبع ..!
لن تخضع لهذه الجنون ..!! حتى و صوته يلح عليه ..
- أعصابج انزين .. بسم الله ..! شوه قلت أنا غير الحق .. الحين خبرينيه .. انتي عايبنج حال اختج ..؟ اروحج قلتي ما تبات الليل .. دوم ضايقة .. و متعبتنها السالفة نفسيا .. كان اقتراح ..
ارتجفت من هول الفكرة و هي تقول ..
- اقتراح بايخ يا عمر .. و مستحيل أسويه .. تعرف شوه يعني أسوي هالشي .. ؟؟ هالشي يعني انيه أخسر ميعاد للأبد .. مستحيل تسامحنيه لو سويتهاا .. و بعدين فكر أنا لو سويت هالشي .. و الله ليذبحونيه عميه سيف و غيث ..
ردّ اعمر على الفور بكراهية ..
- يخسي الحيوان .. يذبحونج أونه ..! أصلا سيف بن علي ما بيسوي شي .. بيحشمج لنج بنت حرمته .. و هو بحسبة أبوج .. و مربية بنته .. و هالخايس ما بيطول شعره من راسج .. شوه اتحرين الدنيا رغيد .. بعدين وين سرنا نحن ..؟؟ هلج كلهم .. و خوانج.. الواحد عن قبيلة ..
تهدج صوتها لمجرد التفكير بأنها قد تقدم على ذلك ..
- المشكلة خوانيه .. أنا لو أسويها نهيّان ما بيرحمنيه ..
- انتي اتحرين نهيان راضي بالوضع ..؟؟ داسين اخته كنها فضيحة .. و محد يدريبها .. ليش .. شوه عيبها .. انها معاقة يعني ..
و راح يثير أحاسيس خولة التي تتأثر فورا بما قد يقال عن أختها ..
- و اذا معاقة .. الاعاقة هب عيب .. و هب ذنبها هالشي .. كل شي من رب العالمين .. خايفين يبتلون بها و يفرونـ ...........
قاطعته بحرارة ..
- لا .. لا .. انته ما تفهم .. فيه مشاكل استوت يوم عميه خذ أميه .. مشاكل واااايد عودة .. المشكلة في الوقت لي خذ فيه أمي .. و يابت ميعاد .. و توفت .. ما كان أبدا مناسب انه اييبها .. و الحين يوم كبرت .. هم خايفين على عيوزهم ..
- عيوزهم ما بها الا العافية .. و لا عليها شر .. بس هم ما يبون يتحملون المسؤولية .. تعرفين ليش ..؟؟ مرتاحين لن فيه خدامة موقفة حياتهاا عشان بنتهم ..
صرخت بمرارة ..
- أنا هب خدامة .. لا تقول هالرمسة يا عمر .. لا تخسس بنفعتيه لختيه ..
انفجر عمر في أذنها ..
- عيل شوه تسمين عمرج ..؟؟ اتعرفين هم ليش ما خلوها اتسير مصر ..؟؟ لنهم يعرفون انج ما بتسيرين بلاها .. ما يبون خدامة بنتهم اتروح .. و ترتغد اهناك .. ما يبونها عندهم .. بس ما يبونها تعيش حياتها .. ما يبون بنتهم .. فارينها عليج ..
سدت أذنها بيدها .. و هي تقول بثورة ..
- باااااااااااااس .. بسسسسسس .. خلااااص ماااريد أسمع شي ..
و أسقطت السماعة من يدها و هي تسد أذنيها بقوة .. عن وخزات عمر الخبيثة ..
كان صوته شيطانيا في تلك اللحظة ينخر روحها ..
* * * * *
- هوووووووووود ياااااااا حرييييييييييييم .. لي تتغشى .. تتغشى .. المعرس بيحدر ..
و هوى قلبها بثقلٍ بين قدميها ليتهشّم ..
الفزع .. هو ما تضج به عروقها ..
و يديها المرتجفتين على وشك اسقاط الورد الذي تحمله بينها ..
روحها الضئيلة ترتعش في حدود جسدها .. و هي تراقب جدّها الذي تجاوز باب المجلس الداخلي .. ليدلف للمكان ..
توقف أمام الباب ينظر البياض الذي انتصب على قدمين في أقصى المجلس أمامه .. يناقض السواد المنتثر حوله ..
التفت للخلف لحظة قبل أن يتقدّم و يده القويّة تمسك بيدٍ أخرى ..
هوى الدوار على رأس حور كالضربة و عينها تقع على ذاك الطول الفارع الذي ميّزته رغم الرؤية الضبابية ..
ترى الملامح السمراء الخشنة تتقدم منها ببطء ..
جدّها يرافقه .. و يتبعه نايف ..
و أعمامها الأربعة يدخلون دفعة واحدة ..
الوهن الذي تملّك أرجلها جعل الوقوف كفاحا حقيقيا .. و المسافة بينهما تتقلص ..
فيما صورة وجهه القاسي منذ لقائهما الأخير تغشى بصرها ..
أحكمت قبضتها الضعيفة على باقة الورد في يديها و كأنما تستمد تماسكها منها ..
و ببطءٍ وجدت أنه يقف أمامها مباشرة ..
عينيه القاسيتين تتعلقان بوجهها .. فيما ابتسامة ساخرة محتقرة تعلو شفتيه .. و بريق حاد بيرق في مآقيه .. ذكّرها بحسابٍ لم يصفى بعد ..!
شعور تملّكها فجأة .. بأنها قد ألقيت في هوّة سوداء ..
و ها هي تهوي ..
سقوط حر ..
لا شيء لتتشبث به .. و لا شيء قد يبطء سرعتها ..
مسافة الوصول للأرض تتضاءل ..
و حتمية الارتطام قادمة دون شك ..
لم يعد يملأ ذهنها سوى وجهه ذو الملامح السمراء الخشنة .. جسده الطويل يشرف عليها ..
و لا تستطيع هي تمالك رجفتها ..
هي شعرة تفصلها بين الوعي .. و اللاوعي ..
تكاد تنقطع ..
و هي تراه يرفع راحته الكبيرة ليريحها على رأسها ..
ما ان لامست قمّة رأسها حتى سرت النيران في جسدها تحرقها ..
تفحمها ..
و تذريها رمادا باهتا بين يديه ..
لترخي أهدابها ببطء .. مختبئة خلف ظلمات نفسها عن شفته التي راحت تتلو الدعاء ببطء ..
و برود دمعة مذلّة يقرص زاوية الجفن منها ..
المنافق ..
الحقير .. كم يجيد تأدية دوره ..!
.
.
.
.
(( اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه ))
يتمتم بالدعاء في همسٍ خافت ..
متجاهلا خافقه الذي راح يضج بعنف .. و راحته ترتاح على قمة رأسها المطرق ..
أهدابها تحتضن الخد الناعم بهدوء ..
وجهها المستدير الصافي ينبض ببساطة ساحرة ..
و ترتعش الباقة بين يديها بارتباك مطلق ..
صفاء تختلقه حولها بإتقانٍ أجادته ..
المخادعة .. كيف تجيد ارتعاشة الهدب هذه ..؟! و شفتها السفلى المضمومة بتوتر كاد يصدّقه ..
ماذا يفترض بأن يكون وجهها المتورد عليه ..؟ خجل ..؟ خوف ..؟
هه ..
أخفض يده الكبيرة ليقبض على ذقنها الصغير المرتجف بقوّة يتعمّدها ..
فتحت عينيها الواسعتين ببطء .. لتلتقي نظرته المحتقرة .. و ابتسامته المستهزئة ..
بريق الخوف الذي لمع في عينيها و هو يميل نحوها ببطء .. جعله يعتقد بأنه حقيقي ..
أ خائفة منه ..؟
عليها أن تخاف ان لم تكن كذلك ..
لأنه .. و ليساعده الرب .. يمسك زمام نفسه بجنون أمام براءة وجهها الكاذبة ..
لامس بشفتيه جبين الضياء الصافي ذاك ليختلس مرغما نفسين من عطرها تغلغلا في صدره الفسيح .. و هي تنتفض تحت يديه ..
ليرتفع خفقان قلبه كذلك دون سبب .. و هو يستشعر قربها لثانية .. قبل أن يفلتها فجأة و كأنما اشمئز من لمسها..
يستقيم في وقفته .. حين انحنى جدّها ليسلم عليها ..
و راح يراقب خلجات نفسها التي راحت تطفح على وجهها بوضوح ..
ألا يمكنهم اختصار كل هذا و السماح له بجرّها الآن و تلقينها درسا لتنسى كيفيّة تقمّص دفء الأحاسيس بهذه الطريقة ..؟
.
.
.
.
قسوة قبضته التي أمسكت بذقنها أنذرتها بالتهديد الدفين ..
حتى نعومة لمسته لم تخدعها ..
سرت ارتعاشة في جسدها .. و دوار يطيح بمشاعرها ..
الناس الموجودون حولها أصبحوا اوجه هلاميّة ..
و روحها تفرّ بعيدا عن الجسد الفارع المنتصب جوارها ..
حاولت أن لا تنظر اليه .. فلو فعلت لانهارت ..
و لو انهارت لعلم بمبلغ ضعفها ..
و ان علم .. فسيلتهمها دون رحمه ..
لن يتردد ثانية في تهشيمها حال أن يراها ضعيفة ..
ليس عليها أن تضعف أمامه الآن ..
ان كان لها أن تنكسر .. فلن يكون ذلك تحت ناظريه ..
ستندس خفية عن الأعين .. لتلعق جروحها بصبر ..
هول المواقف التي مرّت بها كانت أتعس من هذه ..
تحديها له .. مواجهته للمرة الأولى ..
زواجها منه ..
حتى ظروفها الأزليّة التي علّمتها قوّة الصبر .. و نحتت في داخلها تعاليم القوة الهادئة ..
موت أبيها .. و مواجهتها للحياة دون سند ..
ذاك كاد يقتلها يوما ..
لكنّها حيّة الآن .. لتتألم من شيءٍ آخر ..
ليس زواجها بهذا الانتهازي أشد وطأة من فقدها لأبيها ..
أبيها ..!!
وثبت نظراتها المتلهّفة تنبش الأوجه ..
تبحث عن انعكاسٍ لطيفه بينها ..
السواد الذي لفّ أخواتها و أمها ،، بحضور زوجها .. و أعمامها ..
الأجساد القويّة التي انتشرت أمامها ..
ترى عينيه في أحدها .. و لحيته في آخر .. و ابتسامته تواجهها هناك .. فيما يتسلل صوته القوي الحازم من هنا ..
لكن لا أثر لشقاءه ..!
رفعت عينيها لجدّها الذي أراح يده على كتفها ..
التقت عينيه العميقتين .. كان ينغمس في نظراتها علمت ذلك و هو يمعن في وسع مقلتيها المفزوعتين ..
و خلف سواد عينيه القويّتين .. و تقاسيم خشونة وجهه استطاعت أخيرا أن ترى جزءا آخر من أبيها ..
جزءا كان قد أذهلها منذ أول لقاءٍ لها به ..
قوّة حضوره ..
الجسد القوي الذي يقاوم تقدّم السنوات بكبر ..
عينيه الجافتان اللتان تضيقان عليها من الأعلى ..
و شموخ ذاك الأنف المتكبر ..
حتى التجاعيد ..و حكاية السر الذي يسكن صدره لدهور ..
ليسقط فريسة مكابرة فارغة .. ضيّعت سنواته ..
في تلك اللحظة لم يعد يهمّها أن هذا الرجل ساوم عليها .. و قد سمعته ..
لم تكترث للمشاعر الخبيثة التي انتشرت في صدرها .. تذكّرها بأنه أدار ظهره لأبيها ثم استغّلها ليجره نحوه من جديد ..
ابتلعت كل احساسٍ أسود كانت قد ادخرته لهذا العجوز .. و هي ترفع عينيها اليه بتوسّلٍ صامت ..
قبل أن تدفن بوجهها في صدره بحركة مفاجئة .. اهتز لها جسده .. بقوة ..
بدا مندهشا لبرهة .. عاجزا عن فعل أي شيء أمام تشبّثها المجنون به .. و أنفاسها تتهدج في حضنه ..
قبل أن يرفع ذراعيه ببساطة ليلفّها حولها بقوة .. و هو يحتضنها بشدّة ..
.
.
.
.
انفجر قلبه دفعة واحدة و هو يلتمس دفئها بين ذراعيه ..
هذا الإندفاع نحوه طرحه صريعا أمام زخم المشاعر الذي تفجّر فيه ..
ابنَة ابنِهِ .. الذي قضى سنواتٍ يبعده عنه .. حتى رحل إلى الأبد ..
روحها التي انشقت من صلبه ..
تعيدها الخطوات إليه ..
حاملة بين أضلعها شيئا من ذاك الحبيب الراحل ..
في تلك اللحظة فقط ..
شعر بأن حمد لا يزال هنا ..
حمد لم يمت ..
لا زال يبزغ كل فجرٍ في مآقي أبناءه ..
يشرق في ابتساماتهم الشقيّة ..
تعكس جدران البيت ضجيجه مع ارتداد أصواتهم ..
كل نفس يرتد في صدورهم يتنفسه حمد ..
قلوبهم الغضّة هي قطع حيّة منه ..
حمد في عيونهم ..
في أفواههم ..
في أكفهم المضجّرة بالأمل .. المترعة بالحب .. المخضّبة بالأحلام ..
أبناء حمد ..
أبناءه ..!
و اشتدت ذراعيه حول جسدها الضئيل يحتضن هالة من نور .. و هو يهمس بصوتٍ مثقل قرب رأسها ..
- الله يبارك لج يا بويه .. و يوفقج في حياتج .. الله الله بعمرج .. ما وصيج كانج محتايه شي و الا شياته .. لا يردج الا لسانج .. و لو ريلج غاثنج .. تعالي ليه ..
ارتعد قلبه أمام ردها الخافت .. الذي تسلل لأضلعه ..
- الله يطولي بعمرك يا بويه .. الله يخليك لنا ..
و سدّت العبرات المرّة حلقه و هو يرفع عينه يلتقط نظرة حفيدة الأكبر الجامدة ..
و يقول بحزم مرير ..
- ما وصيك ع الحور يا غيث .. حطها في عيونك .. و يا ويلك لو يتنيه اتشكى منك ..
أحنى غيث رأسه ببطء .. يخفي ابتسامته الساخرة و هو يكرر بصوتٍ غريب و لهجة ممطوطة ..
- في عيونيه ..
.
.
.
.
عمٌ تلو الآخر .. يبادلها السلام .. و عبارات التهنئة و التوصيات .. الغريب أن الجميع يوصيها على نفسها ..
لم يقل لها أحدهم .. اعتني بزوجكِ .. راقبيه .. احتويه .. أو شيئا من هذا ..
الجميع يطلب منها الحرص على نفسها .. و يحذر غيث من مضايقتها ..
و كأنهم يعلمون حقيقة هذا الحفل التعيس ..!
في غمرة أحاديثهم .. و دوامة الأوجه .. شعرت بغربة مخيفة ..
هؤلاء هم أهله ..
أعمامه الذي لم تعرفهم إلا من خمسة أشهر .. لكنه عاصرهم طوال حياته ..
هو ابنهم .. الذين يتفاخرون به .. هم من أنشئه ..
أما هي ..
فكانت غريبة بشكلٍ مر ..
ابنة حمد الذي مات و هو منفي عن العائلة ..
كان الأمر ممزقا بشكلٍ رهيب ..
برود يلف جسدها و هي تحاول تجميع شتات نفسها ..
و ...
- يا حريم .. أخوان العروس بيحدرون .. لي هب متغشية تتغشى ..
توقف خافقها عن النبض للحظة .. ترفع عينيها بعدم تصديق إلى الباب ..
أعمامها يبتعدون عن مجال الرؤية ببطء ..
نظراتها تثب ساعية لتلقي أول الأوجه التي ستقتحم الرؤية بعد قليل ..
ارتفع نبضها فجأة .. و سكينة غريبة تهبط عليها ..
أمام عينيها يبتعدن نساء العائلة من الباب ..
مع دخول الرجلين الطويلين ..
دفقٌ من الحب مازج الحنان الذي تفجّر به فؤادها .. وجدت أنها تبتسم رغما عنها لعبيد الذي يعدّل من وضع - الغترة - و العقال ..
و مايد الذي رفع رأسه يستقبل نظرتها المتلهّفة و يدها تمسك بالعصا الدقيقة بين أصابعه ..
يسلّمان بصوتٍ عالٍ و هما يقتربان منها ..
فيما ترصدهما نظراتها المحبّة الولهى ..
الفخر هو الذي اخترق روحها بصلابة .. ليتسّيد أحاسيسها في تلك اللحظة مع اقترابهم ..
إخوتها ..
انظروا اليهم ..
هؤلاء الرجال هم إخوتها .. سندٌ للظهر كانت قد غفلت عنه ..
رغما عنها تتقدم خطوتين لتتلقاهم ..
مع اتساع ابتسامة الاثنين ..
لم تتوقع أن يحضروا الى هنا أبدا ..
ظنت أنهم سينتظرون عودتها .. و سيكتفون بتهنئتهم التي تلقّتها أثناء زيارة الأمس ..
لكن أن يشاركوها ليلتها هذه ..
هذا ما لم تنتظره .. و قد فاجأها ..
مايد هو من التقاها أولا ليتلقفها بين ذراعيه في ضمّه خفيفة فيما تتشبث هي به .. قبل أن يطبع قبلة عميقة على رأسها ..
يقول بحب ..
- مبروك غناتيه .. ألف مبروك فديتج ..
لمعت عينيها بالدموع و هي ترفع رأسها له ..
- الله يبارك فيك يا الغالي .. الله يبارك في حياتك .. عقبالك ..
جرّها عبيد برقة من ذراعها يقول مازحا ..
- دوري عاد .. أوف .. منوه انتي .. وين حور أختي الخسفة ..؟؟
ضحكت وسط دموعها و هي تلكمه على صدره بعتاب .. قبل أن يضمها ضاحكا .. و يهمس قرب اذنها ..
- يخرب بيت المكياج كيف لعب بج .. بيتخبل رجل ناضج .. ههههههههههههههههههههههههه ..
احمر وجهه و هي تكتم ضحكتها ..
شعرت فجأة بأنها تحلّق ..
لم تعد تهتم لشيء .. لا لزوجها الجامد الواقف إلى جوارها .. و لا أحدا من الحضور ..
هذا ما كانت تحتاجه حقا ..
لمسة حقيقية حانية .. مختلفة ..
تعلمها بأن هناك من لا يزال خلف ظهرها .. يشد من أزرها في أحلك المواقف ..
ابتلت أهدابها ..
و هي تحتضن وجوههم بعمق الدموع الباسمة التي خضّبت مآقيها ..
يا الله ..!
كم تحبهم ..
لن يقدر غيث على تحطيم قلبها ما زال هناك خافق ينبض بوجودهم في حياتها ..
هذا اليقين الذي تملّكها .. و هي ترفع رأسها بشمم أمامه ..
تلتقط نظرته المحرقة .. دون أن تبالي بما ينتظرها ..
* * * * *
كان الإحتفال كريها .. و طويلا .. و مملا ..
هذا ما فكّرت به و هي ترمي نظرة ساخرة لانعكاس وجهها المصبوغ في المرآة ..
الفستان الذي اختارته روضة كان يحتضن جسدها برقّة كاذبة ..
فكّرت ساخرة بأن - حمدان - لو رأتها فلن تعرفها دون شك ..
بعد شهرين ستفقد ذوق روضة التي تتولى اختيار الملابس الملائمة لتنجح في عكس صورة مشرّفة لواجهة العائلة ..
عليها أن تجد شخصا لينوب عنها في هذه المهمة ..
هه .. ماذا عن زوجة حامد التي ستخلف غياب روضة بقدومها ..؟!
التوت شفتيها باستهزاءٍ مرير ..
و هي تنتزع سخافة الأساور التي التفت على معصمها و الجيد ..
كم تكره إحساس الليل هذا ..
صوت الضمير الذي يعلو إذا صمتت الأصوات الأخرى ..
ها هو أرق الليل قد بدأ ..
ينوح في داخلها معلنا ليلة طويلة ..
لن تجد لنوم سبيلا أثناءها..!
* * * * *
كانت الساعة تقارب الثالثة فجرا حين وصلت و اياه للفندق المنشود ..
منذ استقلّت سيارته الفارهة لم تنبس ببنت شفة ..
و لم يرتد في سيارته سوى صوت أنفاسه الساخنة ..
كان التماسك أمام أمها و أخوتها صراعا حقيقية .. رأت الوجع مرتسما على الأوجه رغم اصرارهم على أن لا يفسدوا ليلتها .. بوداع الدموع ..
الا أن ملامحهن كانت حطاما حقيقيا و هن يراقبن مضيّها ..
حتى مزنة التي تشبّثت بها باكية .. كسرت فؤادها ..
رغم ذلك لم تستطع ذرف الدموع التي كانت تقبضها بشدّة ..
لم تشأ أن تعلن انكسارها الليلة ..
لذلك ابتلعت حزنها الباذخ .. و خبّأته في أقاصي روحها ..
ستستعيده لاحقا لتفجّره .. لكن ليس تحت ناظري القسوة التي كانت ترصد خلجاتها بعناية ..!
لذلك التفت بعباءتها في صعوبة .. و هي تحشر انتفاخ فستانها في المقعد الأمامي ..
و رغم اتساع مقعد السيارة الفارهة ..
الا أنها تمنت لو وجدت الوقت لتبديل فستانها .. و الشعور بالراحة في الطريق الذي استغرق كل هذا الوقت ..
فالانقباض الذي لف قلبها طوال طريق .. و الثقل الذي راحت روحها ترزح تحتها ..
كان يخنقها دون أكوام الفستان الضخم ..
تمنت لو أنه ينطق بكلمة واحدة فقط .. كي تستعد قبل وصولهم للمنهج الذي ستتخذه في معاملته ..
لكن صمته المخيف كان هو سيّد الموقف منذ انطلاقهم حتى توقف السيارة أمام باب الفندق و ترجله منها دون أن يلقي نظرة واحدة لها .. و هي تحارب للخروج من المقعد ..
و جر فستانها معها ..
و المعاناة في محاولة فاشلة في اخفاء أطرافه ..!
تقدمت خلفه ببطء شديد .. تحاول مجاراة خطواته الواسعة .. و هو يتسلق السلّم نحو البوابة الزجاجية الضخمة للفندق .. و يقذف بمفتاحه نحو عامل البوابة الذي سارع لابعادها عن الطريق ..
جرّت قدميها .. لتقف على بعد خطواتٍ منه و هو يقف لثوانٍ أمام ركن الاستقبال .. يتحدث للموظف خلفه قبل أن يلتقط بطاقة حجزه بسرعة ..
و يتوجه نحو المصاعد في أقصى الردهة ..
فيما تلهث هي خلفه دون أن يلقي نظرة واحدة نحوها ..
صرت على أسنانها بغيظ شديد ..
و هي ترى تجاهله البارد لها و سعيها الحثيث للحاق به ..
و ظنت أنه قد يستقل المصعد دونها .. الا أنه مد قدمه على عتبة بابه يوقفه في انتظارها ..
كانت أنفاسها تتلاحق بجنون .. و هو تقف في المصعد الذي راح يرفعهم للأعلى طوابق عدّة ..
قبل أن يفتح أخيرا ..
تقدمها بسهولة كما فعل في الأسفل للتو ..
شعرت بكاحل ينبض ألما بفعل ارتفاع حذائها الشاهق ..
طالت المسافة قبل أن يتوقف أمام بابٍ مزدوج عريض .. أولج في ثقبه المستقيم بطاقة حرّكها للأسفل قبل أن تصدر تكة معلنة انفتاح الباب العريض .. ليدفعه بسهولة قبل أن يدلف متجاهلا وقوفها في الخارج ..
أيقنت أنه لن يبالي .. حتى و لو كانت لا تزال تتقافز وراءه محاولة اللحاق به ..
رفعت فستانها بثقل..
كان الإرهاق قد أوهن عزائمها بشكلٍ فضيع ..
لم تستطع أن تتبين ردة فعلٍ واحدة له .. تستطيع اتخاذ موقفٍ ثابت من خلالها ..
تحركت لتدخل الجناح الذي ستسكنه للاسبوعين القادمين ..
سطوع الإنارة المبهرة اخترق غطائها بقوة .. عاكسا التماع الجدران المذهّّبة بلون الشمس ..
و السقف العالي بثريّاته الضخمة المتدلّية ،،
الأثاث الفخم الثقيل .. بدا باذخا للغاية .. و ثقيلا على عينيها ..
الخشب المصقول البني ,, و المرتبات الوثيرة .. و الإكسسوارات المتوزعة ..
كانت الرؤية مزدحمة للغاية ..
تكاد عينيها لا تحتويان كل ما في صالون الجناح الفسيح .. و هي تحاول استيعاب زوايا المكان .. هناك باب واحد بخلاف الممر الذي انزوى بطريقٍ ملتوية لم تعلم إلى أين قد يقود ..
فيما تفرّعت جلسة دائرية حميمية عن الصالون الفاخر ..
و اتخذ أحد جدرانه الزجاج طابعا له .. و قد انسدلت عليه ثقل الستائر .. لتحجب الشرفة الضخمة الدائرية التي استطاعت تمييزها من مكانها ..
صفٌّ من الحقائق قد سبقهم ظهر اليوم .. كان يذكّرها بالراحة المنتظرة حال خلعها هذا الفستان ..
و ارتخت قدميها بوهنٍ كبير .. و هي تنشد الجلوس لترتاح قبل أن تنزع ثقل الفستان عنها ..
يقف هو أمامها مباشرة موليا اياها ظهره العريض .. و عيناه تجولان فيما حوله .. متفحصا المكان ..
الحقيقة أن لا شيء أثقل قلبها بالرعب كهدوءه القاتل هذا ..
لم يصب على مسامعها كلمة واحدة .. و هذا ما أخافها ..
كان هادئا .. متماسكا بشكلٍ مرعب ..
و لا تفصح قسوة ملامحه عن أي ردة فعل ..
سحبت نفسا عميقا و هي تتقدم للأمام متجاوزة طوله .. لتبلغ الباب المرتد امامها ..
ان استمرت في انتظاره فقد تبزغ الشمس و هو يقف بارتياح .. فيما قدميها تئنان من الألم الذي يلم بها اثر الوقفة الطويلة بهذا الكعب ..
حفيف فستانها الذي تجره على الأرض هو الصوت الوحيد الذي مزّق ستار الصمت القاتل ..
قبل أن تدفع الباب و تدخل الغرفة المضاءة ..
شعرت بأن الهواء الذي اندفع لرئتها دفعة واحدة يخنقها .. و صوت انغلاق الباب خلفها يعلمها بأنه ترك المكان ..
لم تعلم أعليها أن تشعر بالراحة أو ماذا ..
لكنّ ما كان يهمها الآن هو السعي للحريّة ..
عليها أن تجد قليلا من الراحة .. كي تستطيع مواجهة الأمور و التفكير قبل عودته .. علّقت عباءتها بعناية على الشماعة الحجريّة المركونة في أقصى الغرفة ..
و خلعت غطاء شعرها .. و غطاء الوجه الذي ارتخى على كتفيها ..
مدّت يدها لتحرر قدمها من رباط الحذاء الكريه ..
و رفعت فستان بقوة .. لتمشي حافية القدمين .. و تجر الحقيبة الصغيرة التي تضم أهم أشيائها التي ستحتاج هذه الليلة ..
استطاعت تحت أكوام الحرير و الدانتيل أن تجد البيجاما الحريرية الطويلة التي كانت قد خبّئتها .. و رفعتها بابتسامة نصرٍ .. و هي تفكر بأنها قد نجحت في تهريبها للحقيبة بعيدا عن عيني وديمة المنتقدتين ..
تحررت بسرعة من فستانها و استطاعت حشره في إحدى الخزائن ،، و تقدّمت من باب الحمام الذي كان ملحقا بالغرفة ..
وجدت صعوبة بالغة في ازالة المكياج الثقيل عن وجهها .. و شعرت بأن بشرتها المتيبسة قد لانت بعد أن مسحته تماما ..
بصبرٍ مميز .. راحت تنزع الدبابيس عن شعرها .. و هي تتنهد براحة .. كان رفض مثبت الشعر هو الحل الصائب .. فلو كان شعرها متيبسا الآن ..
لقضت وقتا طويلا في غسله مما يضيّع عليها الوقت بالتفكير ..
شعرها الداكن .. ينفلت بكثافة شيئا فشيئا .. ينشد الحريّة المطلقة ..
فيما يعمل ذهنها بجنون كالماكينة ..
أين هو ..؟ ما الذي يجب أن يعنيه تجاهله ..؟؟ أصمته ليس سوى تمهيدا لانفجارٍ قادم ..؟!
و ارتعدت أمام هذه الفكرة ..
تحركت تترك الحمام الواسع المترف .. متجاهله نداء حوض الاستحمام الضخم الذي راح يعدها بحمامٍ ساخن معطر يزيل أعباء هذا اليوم الطويل ..
ما ان فتحت باب الحمام حتى ارتفعت شهقتها المذعورة بعنف .. و هي تتراجع خطوة للخلف .. و يدها تثب لصدرها بجزع ..
كان يضع يديه على إطاري باب الحمام الجانبيين مستندا و رأسه يميل للأمام .. و كأنه قد قضى وقتا يرتقب خروجها ..
راح خافقها يتسارع بجنون .. فيما تنفلت الأنفاس بعيدا عن متناولها و هو يرفع عينيه ببطء عليها ..
نظراته تتسلقها .. من أخمص قدميها .. حتى قمّة الرأس ..
تتمهل عليها بنظرة متمعنة كسولة .. احمرّ وجهها لها ..
قبل أن تتمالك نفسها .. و هي تلف يدها لتجمع أطراف شعرها الثقيل إلى الخلف .. و تقول بقوة زائفة ..
- خوز شوي .. أبا أخطف ..
شدّت أناملها في قبضة واحدة .. و هي تشعر بأنه يراقب رجفتها .. قبل أن يتنحى قليلا بسخرية .. و هو يلوح بيده دون كلمة واحدة ..
رغم ضيق الفرجة إلا أنها لم تكن تنشد سوى الابتعاد عنه .. لذلك اخترقت المسافة كالصاروخ .. قبل أن تتنهد و هي تقف في وسط الغرفة بشيءٍ من الراحة .. استدارت للخلف لتجد أنه يتكئ على الجدار بظهره و يقف مائلا ..
يراقب تعابير وجهها .. و شفتيه تلتوي بقسوة ..
لم تستطع استيحاء شيءٍ من بروده و تصلّبه هذا ..
كان عليها أن تتصرف بسرعة .. و تتخذ تجاهله دافعا لما تريد ..
لذلك تقدّمت من السرير الفسيح الذي يترأس جدار الغرفة .. و قد امتلأ نصفه بوسائدٍ وثيرة مغرية ..
التقطت أحدها على عجل .. و قد تخلّت عن فكرة جر اللحاف الثقيل ..
تقدّمت و هي ترفع رأسها بتبجح و تقطع المسافة نحو الباب دون أن تنظر إليه ..
لكنّها توقفت على بعد خطواتٍ من الباب حين فرقع صوته الرجولي الغليظ في الصمت محدثا ضجيجا مفاجأ أرعبها ..
- وين ..؟
لم تلتفت له .. و هي تشد على الوسادة في حضنها لتستمد القوة منها ..
- بسير أرقد .. حدي تعبانة ..
أتاها صوته من حيث يقف .. بطيئا .. لاذعا ..
- ترقدين وين و الشبرية وراج ..؟
شعرت بأنها تحتاج أن تضع حدا واضحا .. ليفصل كل الأمور .. هذه التمثيلية السخيفة بلا معنى ..
و الحرب الصامتة بينهما لن تستمر للأبد ..
لذلك التفتت إليه ببطء .. و قد تصلّبت تعابير وجهها .. مع اصطدامها بشراسة عينيه ..
داهمها خاطر مرعب و هي تلتقي بنظراته ..
انها الآن معه هنا ..!
وحدها ..
سرت إرتعاشة على طول ظهرها .. و هي تستعيد تفاصيل ليلة لقائهما الأخير بضبابية ..
قبل أن تقول ببطءٍ يحجب توترها .. و يظهرها مظهر الواثقة ..
- لا تسويليه فيها معرس .. و مادري شوه .. انته تعرف شوه القصد من هالعرس كلّه .. أنا لي أباه خذته .. و الحين ابا اسير اريح عمريه ..
سؤاله التالي هبط ثقيلا كالحجر على روحها .. و عينيه تسترسلان على نعومة الحرير الذي احتضن جسدها ..
- و لــي أنـــا ابـــاه ..؟؟!
ارتجفت تحت وطأة نظرته ..
فيما راح الصراخ يدوي في جوفها ..
ما كنت تريده نلته أيها الانتهازي الوضيع ..
حطمت قلبي دون أن تكترث لتحصل على المال ..
لكن شيئا من تلك الفوضى لم يعلو ملامحها التي ارتدت الهدوء الكاذب .. و هي تدير ظهرها له .. لأنها ان نطقت الآن فسوف تنشر غبائها المحكم أمام نظراته المتشمّتة ..
و ستبكي ..
تقدّمت باصرار نحو الباب بغيّة ترك حجرة النوم التي بدأت تضيق الخناق عليها .. و توشك على كتم أنفاسها ..
لكن ما ان بلغت عتبة بابها .. حتى شعرت بقبضته القويّة التي التفت على ذراعها تجذبها للخلف بقوة .. و تديرها نحوه ..
وجهه الذي اسود بغضب راح ينذر بالشر .. ليرتعد قلبها خوفا .. فلم تقدر على منع ارتعاشة الفزع التي اعتلت جسدها ..
قبل أن تطوّق خصرها قوة ذراعه و هو يجرّها نحوه .. و يدفن أصابعه الطويلة في شعرها ليشدّه للأسفل بقوة .. يجبرها على رفع رأسها ..
انفلتت من شفتيها المطبقتين بقوة .. صرخة متألمة .. و شعرت بالدموع تندفع لمآقيها مع قوة شدّه لشعرها .. حتى شعرت بأنه على وشك اقتلاع فروة رأسها ..
أغمضت عينيها برعبٍ حقيقي .. تختبئ من نظرته المخيفة ..
و حاولت باستماتة الانفلات من قبضته المحكمة ..
لكن مقاومتها كانت بلا معنى أمام قوة رجولته ..
لم يستطع كبريائها منع دموعها الساخنة من الانزلاق .. و حرارة أنفاسه تلفح وجهها القريب ..
و صوته القوي يهمس في أذنها بوحشيّة مروّعة ..
- ليكون نسيتي انيه دافع فيج مليونين ..؟!
* * * * *
أحذية تبعثرت في المكان .. إحداهن قذفت عبائتها على ذراع الأريكة ..
و أخرى توسط غطاء رأسها السجادة العجمية الفاخرة .. تستلقي دانة على طول الأريكة الوثيرة في الردهة .. فيما تسند المها الجالسة على الأرض ظهرها إليها ..
نورة تجلس على الأريكة المقابلة بجلسة أشبه بالاستلقاء .. و قد رفعت قدميها على الطاولة التي وضع عليها ابريق عصيرٍ مثلّج .. بأكوابٍ زجاجية .. انتصف بعضها .. و البعض الآخر فارغ ..
عفرا تتربع على أريكة منفردة .. و هي تقدّم أطرف شعرها الطويل إلى حجرها و تتلاعب بها ..
كان الهدوء الذي أعقب صخب هذه الليلة الطويلة قاتلا .. ترك فارغا غريبا في أنفسهن ..
يتملكهن الارهاق .. و التعب .. رغم ذلك لازلن يجلسن في الردهة الخالية نصف المظلمة بفساتين العرس ..
صوت دانة المثقل يتردد ببطء .. يوهن أسماعهن .. و كل واحدةٍ منهن تسرح ببصرها نحو الفراغ ..
- كاااان ليااا فيوم حبييييييييب يا خسارة باعني .. بالغااالي اشتريتوو و بالرخيص باااعني .. و لااا انااا ندماااان علييييه .. و لاااا حبكي فيوووم عليييييه .. و انااااااااا .. و انااااااااااااااااااااااااااااااا ..
- مررررررض .. صميتي اذنيه انتي و هالصوت النشاز ..
قالتها نورة بتعب و هي لا تكاد ترفع ذقنها المطرق عن صدرها .. فيما تتجاهلها دانة .. و تصرخ بصوتٍ أشبه بمثقاب جدار ..
- أناااااا لااااا مسطوووول و لااااا بطوووح .. انااا جااااي أجاااامل و مروووح .. و أشووووف اللي باعني و سبني .. و خانني .. خلي ألبي .. بيتمطوح .. آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآي .. سبااااااااااااالة عفرا ..
رفعت عفرا يدها و استوت في جلستها ببرود بعد أن قرصت قدم دانة لتسكتها ..
- تستحقين .. صدعتينا انتي و هالصوت ..
- بتقومين اتقرصين .. قسم بالله ما عندكم سالفة .. انا أستاهل لي أبا أطربكن في آخر الليل ..
رفعت نورة عينها باستماتة ..
- ارحمينا يرحم أبوج .. محد يبا طربج .. طيرتي السكن قبل الملائكة .. أعوذ بالله ..
نظرت لها دانة شزرا .. قبل أن تقول ..
- أقول نقطينا بسكوتج بس .. و صبيليه عصير .. ابا أبلل حنجرتيه الذهبيه .. نشفتها مواهبيه ..
نظرت نورة بعينٍ متعبة لإبريق العصير الزجاجي الذي بدا فجأة على بعد كيلومتراتٍ عدة .. حاولت تطويع اشاراتها العصبية كي تتحرك .. لكن النتيجة كانت نظرة كسلٍ فادحة .. ألقتها على العصير ببؤس .. و هي تقول ..
- تبين عصير صبي لعمرج .. أنا متعاااايزة ... ما روم أحرك صبوعيه ..
- حشى .. هذا و انتي فشبابج .. لو بيعيزين شوه بتقولين ..
- ما فيه أفكر حتى .. يوم بعيز بخبرج ..
صمتت دانة و هي تتنهد منصتة للهدوء حولها .. نظرت للمها .. و وجدتها تسند ذقنها لركبتيها و الشرود يجرّها بعيدا ..
عفرا بذات الفراغ في عينيها .. كانت تحدّق في الطاولة أمامها .. أما نورة فقد أرخت جفنيها ببطء .. قبل أن تهمس ..
- البيت هاااااااادي .. كانه صوت الموت ..
التفتت عفرا بعينين ضيقتين نحوها ..
- أعوذ بالله .. شوه هالتعبير لي شرا ويهج ..؟
زفرت دانة و هي ترفع عينيها للسقف ..
- صدقها البيت كانه خاااالي .. و مابه بشر ..
أسندت عفرا جبينها لقبضتيها .. و أغمضت عينيها بهدوءٍ قائلة ..
- لن حور محد ..
هزّت نورة رأسها موافقة .. و نبرة حزنٍ تنحفر في طيّات ملامحها ..
- لن حور راحت ..!
ابتلعت دانة غصّة تضخّمت في حلقها و هي تستوي جالسة .. ثم هبت واقفة و هي تشيح بوجهها ..
- الله يحفظها .. و يردها لنا سالمة .. و يوفقها في حياتها ..
رددن معا .. بخلاف المها الصامتة ..
- آمين ..
و أردفت نورة لظهر دانة ..
- وين بتسيرين ..؟؟ لو بتصيحين خلج هنيه .. بنسوي صياح جماعي ..
التفتت لها دانة بغرور ..
- لا صياحج انتي ينرفز .. و طبقتج غير عن طبقتيه .. أخاف اتخربين السمفونية لي بسويها .. أنا وحدة مييييييتة و هلكااااااااانه .. بسير أدور مخدتيه ..
انحنت بتعب لتلتقط غطاء شعرها .. و حذائها ذو الكعبين المرتفعتين في يدها .. ثم ترفع العباءة التي القيت على مسند الأريكة ..
- الحينه هاي عباة منوه ..؟؟ لحول .. غير ان عبينا كلها سادة .. مفصلينها نفس الخامة .. كيف بنفرق ..
ضحكت نورة ..
- بنخلي أمايا توسمها .. شرا ما كانت تسوي بكنادير المدرسة و الدلاااغاات ..
ضحكت دانة و هي تجر خطاها نحو السلم البعيد بقدمين حافيتين .. و تعود للأغنية المريعة التي كانت تغنيها للتو ..
- آآآآآه يمااااا آآآآآآآآه .. و آآآآآآآآآآه ياااابااااااا .. دي عييييييييييلة واااطية و نصاااابة ..
* * * * *
على الأرضيّة المتجمّدة للحمام .. جلست تضم ركبتيها لصدرها .. و تدفن رأسها بينهما ..
قبضتها تمسك صدر قميص البيجاما الحريرية بقوة ..
و هي تسند ظهرها للباب الذي أوصدته بإحكام ..
الإنكسار الذي كابرته طوال الإحتفال بعثرها الآن قطعا على الأرض ..
كل دمعة ادّخرتها تفجّرت من عينيها المحتقنتين .. و هي لا تسيطر على شهقاتها المرتفعة التي راحت تهز جسدها الضئيل بقوّة ..
كانت ترتجف .. و كل ذرّة في جسدها تنوح ممزقة ..
روحها أصبحت أشلاءً الآن .. فيما انشطر قلبها بقسوة ..
ذاك الألم الذي أحرقها . .راح يتصاعد في جوفها ..
يخنقها ..
و هي تنشج بقوة .. غير مكترثة ان كان سيسمع بكاءها أو لا ..
لن يكون الأمر أكثر إذلالا مما حدث ..
تصاعد الوجع فجأة مع ذكرى ما حدث لتطلق آه معذّبة مع انسكاب المزيد من الدموع ..
تخنقها شهقاتها المتعاقبة ..
داهمها شعور بأنها رخيصة .. رخيصة ..
اختنقت بهذه الكلمة ..
و هي تضم قبضتها لصدرها بقوة .. و تطلق ونينا متقطّعا من أعماقها ..
استطاع أن يحطّمها بسهولة .. أن يذلّها بشكلٍ لا يوصف ..
استطاع أن يهشّم ما تبقى من حبّها البريء له ..
و كرهته في تلك اللحظة ..
شعرت بقلبها يحتقن بكل حقد العالم .. و كراهيته ..
لمَ كان عليه أن يمزّقها هكذا ..
لمَ راح ينتزع مشاعرها الطيّبة شيئا فشيئا ..
ليتركها خاوية ..؟!
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
صدره الأسمر القوي راح يرتفع و يهبط في تنفّس حاد يفضح ضيقه الشديد ..
تغلغل شعره الكث بأصابعه الطويلة و هو يعيده للوراء .. قبل أن يبعد عنه لحاف السرير المشعّث و يهب من مكانه باختناق ..
وضع يديه على خاصرته و هو يرفع رأسه للسقف لثانية يسحب نفسا عميقا و هو يغمض عينيه بقوّة ..
تقدّم ناحية باب الحمام المغلق ..
و اقترب منه بهدوء ..
يتوقّف أمامه منصتا .. لتبلغ مسامعه بعد هينهه صوت الشهقات الخافتة المعذّبة ..
شعرها بها تخترق صدره كالنصل لتمزّقه بقوّة ..
و صر على أسنانه بشدّة .. و هو يرخي ناظريه للأرض مع تهدّج بكاءها المسموع ..
رفع يده ليقرع الباب طالبا منها أن تفتحه ..
لكنّها تجمّدت في الهواء قبل أن تلامس الخشب .. و هو يشيح بوجهه عنها ..
هذا ما كانت تستحقّه .. و سترى أكثر ..
ان كانت تظن أن هذا مُحطَّما .. فهي لم ترى شيئا بعد ..
سيذيقها مر الذل الحقيقي .. و يعلّمها أن لا أحد قد يتلاعب به ..
وخزه الوجع مرة أخرى مع ارتفاع شهقة من داخل الحمام ..
واحدة اخترقت مسامعه و قلبه كالسّهم ..
شعر بالإختناق .. و هو يتحرّك مبتعدا عن الباب الذي اشتهى تحطيمه ليحتويها بين ذراعيه و يعتذر ..
ترك الغرفة متوجّها نحو الشرفة .. ليفتحها .. و يخرج نحو ليل الصيف الدافئ ..
كان الهواء يلفح ظهره العريض العاري .. الذي أولاه للشارع في الأسفل .. و رفع رأسه يجر أنفاسه باستماتة .. و يزفر ..
مقاوما ذاك اللهيب الذي راح يتّقد في جوفه ..
الغريب أنه لم يشعر بلذّة الإنتقام ..
شعر بأنه قد آذى روحه قبل أن يؤذيها ..
كان هذا الشعور اللعين كريها ..
كريها بحق ..!
* * * * *
|