كاتب الموضوع :
زارا
المنتدى :
الارشيف
الخطـــــــــــــــوة السابعــــــــــــــــــة ◄
║.. خطوات أضناها المسير ..! ║
ضوء ضئيل يتسرب من بين الستائر ليكشف عن جسدها الذي تكور فوق أريكتها الوثيرة .. و هو يهتز ..
توقفت عن الانتحاب ،، و أصبحت دموعها تسيل بصمتٍ الآن ..
وقع خطوات يقترب من غرفتها قبل أن تتعالى صوت الطرقات على الباب .. يتبعها صوت أمها مناديا ..
- شيخة .. شيخة .. ما تبين غدى يا أميه ..
ازدادت دموعها بالانهمار .. لا تريد الغداء .. تريد أن تموت ..
صوت أمها يعود للنداء مجددا و هي تهوي بقبضتها على الباب بلا رحمة ظنا منها أنها نائمة ..
- شيخة .. شيخة ..
مدت ظاهر كفٍ مرتجفة تمسح شيئا من الدموع التي شقّت طريقا على وجنتيها .. و هي ترفع صوتها المبحوح ..
- ماااباااا الغداا .. أبا أرقد ..
صمت تبع كلماتها .. إذا ذهبت ..!
استوت جالسة في مكانها و هي تضم ركبتيها .. تشعر بأنها محطمة .. لقد أحبتها من كل قلبها .. عشقت وجودها في حياتها .. أمضت ثلاث سنوات معها .. تعيش كل لحظاتها .. كي تأتي تلك الحقيرة الصغيرة .. تلك الخائنة القذرة .. لتقول ببساطة أنها لم تعد تحبها و تنوي الزواج .. اشتدت قبضتها مع انهيار دموعها ..
لماذا ..؟! ما الخطأ الذي ارتكبته لتستحق مثل هذا الألم ..؟ لم تقم بخيانتها قط .. لماذا إذا جازتها بهذا الفعل ..
انهارت أنفاسها و هي تنشج بقوة .. لا تستطيع أن توقف التفكير بالأمر .. تريد إيجاد سبب واحد لما حدث ..
هبت واقفة من مكانها و هي تمشي ببطء شديد كالميتة ،، تصل لطاولة الزينة العملاقة ..
لتفتح درجها بعينين لا ترى .. و الغرفة الكبيرة لا تزال غارقة بالسواد .. تجد غايتها المنشودة لتلتقطها بيد و هي تفلت شعرها باليد الأخرى قبل أن تجره بقسوة .. و عبراتها تتدفق بعذاب .. صوت اصطكاك الحديد الخافت يصل لمسامعها و هي تشعر بالخصلات تنزلق من بين يديها ..
تتهاوى من علو ،، بلا إحساس ..
.
.
كما تفعل هي الآن ..!
* * * * *
- ضاقت يا فاطمة ..!
قالتها تعلن اليأس و قد أسقطت يدها .. مر أسبوع مذ التقته و أفجعها بالحكم الذي أصدر على عائلتها .. و من يومها تخنق هذا الخبر في طيات نفسها .. لم تجد الشجاعة بعد لإعلامهم بالأمر ..
لا تعلم سبب جبنها .. هل هو خوف من أن يوجعهم الخبر كما أوجعها .. أم أنها تخشى خيبة في حماس قد يبدوه نحو أولئك الغرباء ..؟!
لم يبد على أحدهم الرفض حين أتت ابنتهم إلى هنا باستثنائها .. زفرت باختناق و هي تشعر بحدود الكون تتقلص في عينها لم تبدو أبعد من جدار بيتهم هذا و هي تجلس في - الحوش - .. قبل أن تمد فاطمة لتشد على يدها و هي تقول بصلابة ..
- ما ضاقت إلا و فرجت يا حور ..
همست حور ببؤس و هي ترفع نظرها للسماء الصافية ،،
- وينه الفرج ؟؟ كل ما قلت هانت تعاندنيه همومي .. المشكلة انيه ما رمت الين الحين أخبرهم عن شي .. مادري شوه بتكون ردة فعلهم ؟؟ ما يسدهم لي صار ببويه ..! و الله ماروم أقولهم انه عقب ما تربي امايا حسبوا حسابكم بنظهر من البيت لبيت يدكم لي ما قد شفناه ..!ها كله كوم و العله لي يقال له ريلي كوم .. تخيلي الحين غصب كل ما طرشوا شي أخلي هنديهم و الا خوهم ها لي قد رغته يدخلونها ..
عقدت فاطمة جبينها بعدم فهم ..
- أنا مادري ليش انتي خايفة منه ..!!
هزت حور رأسها بقلة حيلة ..
- لنج ما شفتيه و ما قد جربتي تتعاملين وياه .. هذا بس نظراته يوم يطالع روعتنيه .. غير اسلوبه في الكلام .. ما تقولين غير بشكارة أبوه .. يتحكم و يتأمر ع كيفه .. لو غيره كان وقفته عند حدّه .. بس هذا غير و الله انه خوفنيه .. خص يوم قال انه بيشلنيه و محد بيقول له شي .. حسيت انيه انشليت يا فاطمة ..!
ابتسمت فاطمة تطمئنها ..
- و ليش تتروعين ..؟؟ مالت عليج صدق انج مقصة ..! يشلج أونه .. شوه ما وراج ولي و لا والي ..؟؟
صمتت حور لثوانٍ قبل أن تسأل بصوتٍ ضعيف ..
- وينه الولي يا فاطمة ..؟؟
عقدت فاطمة جبينها تتحدها ضعفها ..
- و قوم خالكم أم مايد وين سارو ..؟؟
ابتسم حور بمرارة ،،
- خليها ع ربج .. و الا وين يرومون عميه بو مايد و عياله يحطون راسهم براس هاييلا .. ؟؟ نسيتي هم أعمامنا و ع قولتهم الأولى بنا .. و بعدين أنا ماخذة واحد منهم .. يختي هاييلا مستحيل شي يردهم .. و الا سنين فارين خوهم و هب ناشدين عنه .. لا تنسين انه مايد يشتغل عندهم ..!
عم السكون بعد كلماتها هذه للحظات طالت .. قبل أن تقول فاطمة بحذر ..
- حور ما تلاحظين انج ماخذة موقف منهم ..؟ يعني يمكن نيتهم سليمة و نادمين ع لي استوا و يبون يعوضونكم عن القطاعة عقب عين أبوج ..؟!
التفتت لها حور بجمود .. و صوتها يستنكر ..
- نادمين ...؟؟!!! يختي أولا شوفي حركة العزا .. في ذمتج هاييلا نادمين ..! عنبوه ما حشمو أمايا و لا ظروفهاا .. شوفي ولدهم لي ياي يتعنطز عليناا .. انزين وينهم الأعمام ..؟؟ ما شفنا حد منهم من يوم ما توفى أبويه .. وينه هاليد لي ما نعرفه ..
هزت رأسها ببطء رافضة .. و يقينٌ عميق حفر على وجهها و هي تقول بقوة ،،
- كل شي .. كل شي يا فاطمة بتوقعه الا انهم يكونون نادمين ..!
* * * * *
يجد نفسه عاجزا الآن ،، لا حيلة بيده .. لا يمكنه الاقتراب منها بسهولة ليواسيها .. ليحوي حزنها هذا الذي حفر في محجري العين ..
ليمكنه إيقاف تلك الدموع الجامدة في مقلتها .. لا يمكنه أن يعيد الأيام إلى الوراء ليصحح خطأ سلبها الحياة ..
لم يعد للروح انعكاس في عينها ..! بدت كالميتة .. جسد تحركه الحاجة للاستمرار بالعيش ..
مخطئ .. بل هي الرغبة في الانحدار إلى النهاية .. ليحتضن التراب جسدها كما فعل مسبقا مع ابنها .. عندها ستكون في عالمه على الأقل .. لهما المصير نفسه ..
و لكن الآن ..
و هي تجلس هنا .. عيناها الشاردتين تنظران للأمام دون اهتمام لما ترى .. و لم يعد للحياة بريق ضئيل فيهما ..
وجهها الشاحب لا يعلوه أي تعبير و كأنما لا تراه هنا .. أو لا تريد أن تراه ..؟؟!
لم يكن هذا كله مهما .. المهم هو ذاك الوجع القاتل في روحه قبل روحها .. هو ذاك النصل الذي راح ينحر الروح ببطء مقيت ..
الألم الذي يسكنه أكبر من ألمها .. مات راضٍ عنها و راضية عليه .. و رحل و هو غاضب عليه بعد أن نفاه ..
بعد أن انتزعه من هنا .. من بين أهله .. أمه .. إخوته .. بعد أن حرمه العيش بينهم .. حتى بعد أن فعل ما أراد ..!
كان موته الآن .. دون أن يجد الوقت ليصفي حسابهما .. ليسامحه .. ليغفر كل منهما للآخر ..
دون أن يجد الوقت ليعيده إليه ..
دون أن يمهله الزمن حتى يلتقيه مرة أخيرة .. ليفرغ ما في قلبه .. كم يتمنى لو يعود الزمان للوراء .. ليخمد هذا اللهيب الذي راح يلتهم كل إحساس بالحياة داخله .. ليروي هذا الظمأ الخبيث الذي راح يزداد بعد فقدانه له ..
.
.
لكن الزمن لن يعود ،، و تلك الأفكار السخيفة لن تفعل شيئا ..
ها هي زوجته هنا جسدا و الروح حملها ابنها الميت معه .. و ها هو الحزن يذبحهما ببطء .. هو حسرة .. ندم ..
و هي شوق و حنين للقاء ببارئها و بابنها البعيد ..
فلم تعد تريد من الدنيا سوى فراقها .. لتجد خلف حدود عالم الأحياء مبتغاها ..
أما الآن .. فبينهما برزخ لا يلتقيان .. كان حيّا على الأقل .. و تؤمن بان الأقدار قد تحمل في جعبتها لقاء سيعيدها حيّة ..
سيبثها الروح بعد أن قضت سنوات تتجرع كؤوس الانتظار المرّة بصبر لا ينتهي ..
الآن لم يعد هنا ..
رحل ابنها .. و رحل الصبر .. و رحلت هي أيضا رغم جسدها هذا ..
.
.
كل هذه الخواطر بلا معنى ..
كل هذا الندم لن يفيد ..
هذا الوجع سيستمر أبدا حتى يرحل هو بدوره ..
سيظل متوقدا بلهيب لا يخب ..
ستستمر آلامه أبدا .. جمرة غضا ..!
* * * * *
وقفن بالباب دون حراك يراقبن الموقف أمامهن .. كن قد وصلن للتو من المدرسة حين وجدن حور ممسكة بنايف في الصالة و مشادة حادة بينهما .. دانة و تعبير غريب يعلو وجهها تتجاهل الأمر و هي تتوجه لغرفتهن فيما ظلت عفرا و نورة واقفات بالباب يتابعن ما يجري ،، حور تهز نايف بعصبية و هي تصيح ..
- شوه سويت ارمس ..
نايف و صوته يعلو على حور تحت نظرات الدهشة من أخواته ..
- أقولج ماااسويت شي ما تسمعين ..
لكن حور لم تهدأ ..
- شوووه ما سويت شي .. و هالاستدعاء ان شا الله ..؟؟ ليش طالبين ولي أمرك ..؟
أشاح بوجهه و هو يرفع رأسه .. قامت حور بضربه بالورقة على كتفه ..
- ارمس يا الله ..
صاح بوجهها بقوة ..
- ما برمس .. تسمعين .. طالبين ولي أمري .. و انتي هب ولي أمري ..
تهدج صوته و هو يسحب الورقة بعنف من يدها و يشقها لنصفين .. و دموعه ترتجف على حدود الهدب ..
- و لي أمري مااااات ..
ثم ركض للخارج تحت صدمتهن .. وضعت حور يدها على رأسها بذهول ... يا الهي .. ما الذي دهاه ..؟؟ أو بالأحرى ما الذي دهاها .. ؟؟ كيف أصبحت بهذه العصبية .. التفكير يوترها و أصبحت تجد في إخوتها و المشاكل متنفسا لضيقها .. أغمضت عينيها و هي تسحب نفسا مرتجفا .. تشعر بدموعها قريبة .. أين ذهب الآن أخوها .. الوقت ظهرا و الحرارة في أوجها .. لم يتناول الغداء حتى ..!شعرت بيد توضع على كتفها .. فتحت عينها لتجد عفرا و نورة قد اقتربن منها .. لتقول الأخيرة ..
- لا تضيقين صدرج يا حور .. نايف ياهل ..
قالت حور بألم ..
- أنا هب زعلانه منه .. زعلانه عليه و على حاله لي انقلب من يوم ما اتوفى ابويه .. غادي متمرد .. ما يبى يسمع شور لحد ..! مادري شوه مشكلته ..مادري ،،
شدت عفرا على كتفها بهدوء ..
- ما عليج أكيد متأزم شوي لنه كان متعود روحاته كلها و يياته ويا أبويه .. و كان الله يرحمه دوم ما يخليه ييلس ويا البنات وايد .. أكيد الحين متضايق لنه يشوف البيت كله بنات ..
ثم همست ..
- بس انتي بعد .. خفي الدوس عليه .. وايد غادية عصبية وياه .. كله صريخ و ظرابه .. ترى الصوت بالصوت ما بيحل شي .. قدري انه الولد يمر بمرحلة حرجة الحين ..
هزت حور رأسها بيأس ..
- أقدر و الله أقدر .. بس هو هب ياي ويايه لا بالشدة و لا باللين .. مادري شوه الحل وياه .. الحين يايبليه ورقة استدعاء ولي أمر من المدرسة عسب مشكلة مسونها هناك .. و ما طاع يقوليه شوه مستوي .. !!
أمسكت بجانب رأسها و هي تشعر بصراع شديد .. أكان صراع .. أم صداع .. لم تعد تدري .. كل ما ترغب به في هذه اللحظات الكريهة هو أن تأوي لفراشها و تتدثر لتنام حتى تتغير الأمور أو تعود لنصابها ...!
- سيرن بدلن .. أنا بحط الغدا و أزقر أمايا و البنات ..
.
.
دلفن للغرفة لتقع عين عفرا على دانة التي كانت تجلس على فراشها و شرود حزين يعلو وجهها .. رمت حقيبتها و راحت تخلع عبائتها و هي تسأل بهدوء ،،
- بلاج ..؟؟
رفعت دانة نظرها و هي تقول بصوت غريب ..
- وايد أشياء تغيرت ..!
تجنبت عفرا النظر اليها فيما توقفت نورة عن إخراج ثوبٍ لها و هي تنصت لدانة .. سألت عفرا مجددا و هي تدير لها ظهرها ..
- مثل ..؟؟
هزت دانة ..
- عصبية حور .. نايف ما كان يطول لسانه و لا يرفع صوته كذيه .. المها كله الحين تيلس عند أمايا .. !!
لم ترد أي منهما على ما تقول .. و ساد صمت صاخب في الغرفة .. لا يقطعه سوى حركتهن فيها ،،
و دانة تحني رأسها ببؤس .. ما لم تشر إليه حقيقة هو تلك الغصة التي تخنقها الآن ..
ذاك الحقير أصبح يتبعهن أيضا لباب البيت .. لم يعد خوفه من أبيهن يمنعه الآن ..!
* * * * *
ابتسمت أمه بحنان شديد و هي تمد يدها بفنجان قهوة .. كان لا يزال يرتدي الملابس الرسمية للشرطة .. و فضل الجلوس معها قبل أن يذهب ليرتاح قليلا .. التقط الفنجان بهدوء و قد بدا عليه التفكير العميق ..
اصبح كثير الشرود و التفكير هذه الأيام ..!
لا يلومنه أحد .. فقد تأخر غيث كثيرا بالرد عليه .. ها هو شهر قد مر مذ أخبره عن رغبته في التقدم لخطبة أخته .. و لكنه لم يرد له جوابا حتى الآن .. !
تنهد بصبر ،، لن يتصله به الآن .. لن يعجزه صبرا .. ما زال الوقت مبكرا على كل حال .. فلم يمر على موت عمه بعد سوى شهر ..!
.
.
- حوووه ،، الحبيب .. وين وصلت ؟؟!
رفع رأسه متفاجئا ليجد أن أخويه يجلسان امامه ،، لم يشعر بهما حتى صاح به هزاع .. الذي تابع هازئا ..
- سلمنا.. و يلسنا و تقهوينا و قلنا قصة حياتنا و انت سرحان .. - ثم غمز بعينه يقول بخبث - لي ماخذه عقلك ..
اهتز الفنجان في يده بارتباك ،، شعر بالذنب الشديد و لا يدري سبب هذا الإحساس .. رفع هزّاع حاجبه بعجب .. و أيقن أنه أصاب سهما في الظلام ..!
لم يشأ أن يحرج أخاه الأكبر لذلك استدار لأمه ..
- يوم الخميس أنا بسير ويا الربع كشته .. و بنتم هناك الين الأحد ،،
رد سيف فورا ..
- كشته وين ..؟ و منوه هالربع ..؟
ابتسم هزاع بمكر .. يبدو أن سيف قد سيطر على الأمر لذلك أجاب ببساطة ،،
- ربعيه لي تعرفهم .. قوم مطر ،، و أحمد طبعا ويانا .. بنسير الشمالية ..
نظر له سيف متمعنا بصمت و بدا أنه يريد قول شيئا و لكنه تراجع أخيرا يلتفت لحارب متسائلا ،،
- كم باقي لكم ع امتحانات آخر السنة ..؟؟
وضع حارب كوب الماء يرفع رأسه لأعلى ..
- باااااقي .. آآممم .. تقريبا شهر و اسبوعين .. الحين يدربوناا ع السيبا ..
تذمر هزاع ..
- يدربونكم ..!! حليلكم و الله .. نحن كانوا يفروناا في قاعات و ما ندري وين الله حاطنا .. كل مدارس العين يلخبطون أسامي طلابها .. و تلقى عمرك اروحك في هالقاعة محد من أخوياك قريب يغشش !! و يحطون دفتر ما تعرف كوعك من بوعك فيه .. حد من الشباب يكتب في الدفتر .. و آخر شي يقولون هذا للأسئلة بس و الحل في الثانية أم دواير ..
ضحك حارب و هو يغمز بعينه لأمه التي كانت تستمع لهم بحب ..
- احلف انك هب الثور لي حليت في ورقة الأسئلة ؟
نظر له هزاع شزرا ..
- تخسي .. انا كنت يالس و ما عنديه وقت في القاعة .. كل ما ييت أبا أحل .. حد دزنيه و الا فر عليه ورقه .. قلم .. جوتي مرات عادي تصير تراها - ثم أخفض صوته مقلدا- هزاع .. هزاع .. غششنيه ..غششنيه ..
- رب ما غششت المساكين ..؟؟ أنا أقول نسبة الرسوب في السيبا مرتفعة في دفعتك ..
رفع هزاع حاجبه ..
- احلف و الله - ثم التفت لسيف الذي عاد للشرود مجددا - لا لا .. يا خويه .. حالتك صعبة و الله .. مالها إلا حل واحد ..
و التفت لحارب بخبث و قد رفع سيف رأسه بهدوء .. ليتابع هزّاع بضحكة ..
- العرس ،،
احمر وجه سيف فورا و هو يقول بحنق ،،
- جب ..
* * * * *
لا يزال أمامه نصف ساعة أخرى قبل انتهاء دوامه .. لذلك تراجع إلى الخلف قليلا عن مكتب الاستقبال الرخامي الأملس و هو يلصق الهاتف في أذنه ،، و يجيبها مطمئنا ،،
- خلاص و لا يهمج ,, أنا برتب أموريه مع حد من لي هنيه عسب أتـأخر باكر و أسير وياه المدرسة .. ما قال لج شوه مسوي ..؟؟
صوتها يصله عبر الهاتف مهتزا ،،
- لا ما قال يا مايد .. نايف هب لولي .. هاي أول مرة ييب استدعاء و الا يكون عنده مشاكل تعرفه هو من الأوائل ..! و دومه شاطر .. بس الحين غير ..
تهدُّج صوتها كان واضحا ..
- من عقب عين ابويه .. و هو ما يمسك الكتاب و غادي أذيه .. و ما يحشم حد .. مادري شوه لي قلب حاله ..!
شعر بقلبه ينغزه من النبرة الكسيرة التي لمسها في صوتها .. بدت عرضة للانهيار أمام ما يواجهها من ضغوط .. أين لفتاة مثلها يلقى على عاتقها بحملٍ مثل هذا مقاومة ..
- ما عليج منه .. أنا أول ما شوفه برمسه .. الحين انتي دوم مبطله تيلفونج ..؟؟
- هيه ،،
اعتذر منها ،،
- أدري انيه مبطي ما ييتكم .. بس الدوام كراف هالايام و أمايا طايحة من هالحمى لي ما ترحم العرب .. أول ما أحصل فرصة بسير عليكم .. اما عن باكر فخليه في البيت يرقبنيه و أنا بخطف عليه أوديه المدرسة و أشوف سالفة الاستدعاء .. انتي بس لا تستهمين ..
.
.
لحظات صمت مطبق قبل أن يأتيه صوتها الهامس بامتنان ،،
- مشكور يا خوي ..
و أيقن أنها تقاوم دموعها ..!
* * * * *
تأكدت من أن الغطاء يلتف جيدا حول رأسها و هي تنزل الدرج العملاق الذي توسط ردهة البيت الرئيسية ترفل في ثوبها الناعم الذي لم يكن يعكس شيئا من حقيقتها أو ما تشعر .. اقتربت ببطء حيث تعالت الأصوات لتجدهم يجلسون جميعا جنبا إلى جنب .. صمتوا حال وصول و هي تسلم بهدوء ..
- السلام عليكم ،،
رد الجميع سلامها و هي تواري وجهها .. تمنت من قلبها أن لا يلاحظ أحدهم احمرار عينيها و انتفاخها .. توجهت رأسا نحو أخاها الأكبر الذي توسط الجلسة بجانب أبيهم .. مر ما يقارب الأسبوعين مذ رأته آخر مرة ..!!
رغم تغيبه عن البيت و حضوره النادر .. إلا أن رهبة تسكنها حالما تقع عينها عليه أو تجلس بوجوده .. تشعر بأنه قد يفضح بعينيه الحادتين شيئا تخفيه ..!
سلّمت عليه بارتباك و جلست بجانب روضة التي تجلس جواره .. رفعت عينها لهم لتصطدم بوجه أباها الذي اعتلاه العتب و هي يقول بابتسامة ..
-أفاا .. السلام لغيث بس ..؟؟!
قفزت من مكانها بتوتر ,, و هي تقترب لتسلم على والدها .. شعرت بالغباء .. لا تدري لما يخالجها الذنب الآن و يدفعها للارتباك ..! تأكدت و هي تعود لمكانها بأن الغطاء ثابت حول رأسها .. آخر ما تريده أن تفجعهم جميعا دفعة واحدة ..!
نظرت لأباها الذي وجه لها الحديث مباشرة و روضة تناولها فنجانا من القهوة ..
- شحالها شيختنا ..
ابتلعت ريقها و هي تتمالك نفسها بابتسامة و تتجاهل حامد الذي شخر ساخرا و همس بشيء ما ..
- بخير فديتك .. شحالك ابويه ..؟
- بخير يعلج الخير ..
نظر لها أخوها الأكبر و صوته الرجولي يرسل الرعشة في أطرافها .. تعلم جيدا أنه سيقتلها إن رأى مظهرها ذاك ..
- شحالج شيخة .. و شوه الدراسة وياج ؟؟
سددت نظرها لصدره متجنبة عينه الثاقبة .. و هي ترد ..
- الحمد الله .. و الدراسة زينة ..
رفع أحمد رأسه من وعاء الطعام الذي كان مستغرقا في الأكل منه و هو يلقي عليها نظرة ساخرة ..
- ما شا الله .. شوه أخت شيخة .. أسلمتي ..!!
ألقى عليه غيث نظرة صارمة ألجمته .. ليعود و يأكل بصمت .. الحقيقة أن تجمعهم كان مربكا نوعا ما و مملا للغاية فقد استغرق غيث و أباها في الحديث مطولا في أمور الأعمال التي يغرقان أنفسهما دوما بها .. لم يعتادوا كثيرا على التجمع معا كعائلة واحدة ..!!
يبدو أن المصادفة وحدها قد قادتهم إلى هنا .. تنهدت بضجر شديد و وقت طويل يمر قبل أن يرفع غيث رأسه لأختها الكبرى و هو يقول بصوت حازم ..
- روضة تعاليه ويايه ،،
انعكس القلق الشديد و الارتباك على وجه روضة الجميل و هي تجيل بصرها في الفضول الذي علا محيا من حولها ..
تأملتها شيخة بهدوء ..
على الأقل تبدو روضة على قدر كبير من الثقة و الشجاعة .. فلو وجه إليها غيث هذه النبرة و الكلمات ..
لإنهارت فورا معترفة بما لم تفعله ..!!
* * * * *
- انتي تخبلتي ...!!!!!!!!!
صاحت بتلك الكلمات مستنكرة و هي تنظر لوجه أختها الذي بدا مصمما بقوة و تدور في الغرفة الضيقة .. و هي تصر مجددا ..
- لا ما تخبلت .. هالقرار أنا مقتنعة فيه .. حور خلاص أنا صرفت نظر عن الجامعة ..
كانت حور تلهث من الصدمة ..
- هب ع كيفج .. انتي ما تعرفين مصلحتج وين .. تودرين الجامعة و نسبتج ما تقل عن 95 ..!! مينونه انتي .. أنا ما عليه حسافة و الدراسة عايفتنها .. بس انتي .. !!
هزت رأسها برفض قاطع ..
- عفاري .. انتي تدرسين من 12 سنة .. لا تيين عند الأهم و تخلينه .. الجامعة شهادة و مستقبل .. بتنفعج و بتنفعنا ..
و لكن عفرا بدت أكثر من مؤمنة بتلك الفكرة اذ قالت بهدوء تواجه عاصفة رفض حور ..
- أنا ما ريد هالنفعة .. ابا ايلس في البيت ..
نظرت لها حور بقوة ..
- تيلسين في البيت شوه تسوين هاا ..؟؟ تغسلين و الا تنظفين ..؟؟؟
نظرت لها عفرا بغرابة دون أن ترد .. و لكن حور أشارت باصبعها آمرة ..
- دراسة بتكملينها يا عفرا .. و يلسة في البيت ماشي ..
و رفعت رأسها تنتظر اعتراضا .. و لكن صوت عفرا الهادئ صدمها ..
- حور .. بلاج ..؟؟
توقفت عن المشي العصبي .. و هي تلتفت لأختها دون أن تفهم .. و لكن عفرا لم تضف كلمة واحدة .. شعرت حور بالدوار في تلك اللحظة .. شيء ثقيل جثم على أنفاسها و إدراك واحد يترسخ في ذهنها .. أصبحت تتجرد عن نفسها ببطء .. تعالج الأمور بعصبية و قلق .. التوتر يلازمها كل حين .. حتى النوم لم يعد يجد السبيل لعينيها ..!
جلست بتعب على فراشها .. تكبح رغبة عارمة في التدثر بالغطاء و البكاء تحته للأبد ،، لا تعلم حقا ما الذي دهاها .. ما هو هذا الإحساس الذي ينتابها طوال الوقت .. الخوف .. الترقب ..
أم أنها مقاومة .. ؟!
تقاوم ماذا يا ترى ..؟!
هي نفسها لا تعرف .. لا تعرف شيئا .. كل ما تعرفه أن هذا الحمل ثقيل ..
ثقيل للغاية .. و أنها لم تعد تقوى المواصلة .. متأكدة بأنها قريبا ستصل للانهيار ..
ليست صلبة بما يكفي و إلا لتصدت لذاك الدخيل الذي قرر ببساطة سلبهم حقهم في تقرير الحياة .. و أصبح يتسلط بقراراته ،، و يصدر الأحكام كيفما يشاء ..
.
.
فتح باب الحجرة لتطل نورة من خلفه .. تدير عينيها في وجهيهن و هي تقول ..
- زين و الله عفاري بعدج على قيد الحياه ..- ثم التفتت لحور - تحريتج ذبحتي عفرا يوم صخيتن فجأة ..!!
أدخلت دانة رأسها من خلف كتف نورة ..
- حتى أنا ..!! حور .. أم عتيج لي آخر الحارة تسلم عليج و تقول قصري حسج ..
لم تجد حور في نفسها الرغبة في الابتسام ما زال رأسها منخفضا .. حين دلفت نورة و دانة الغرفة تتبعهن و لدهشة حور المها .. قبل أن تسألهن ..
- انتن سمعتن صوتي .. المها شدراها ؟؟
أجابت نورة بسرعة ..
- تراه صريخج وصل لطبلة المها بعد .. المهم .. شوه السالفة الحين ..
تجاهلتهن حور لتلتفت للمها و هي تشير بيدها و تتحدث بصوتٍ عالٍ ..
- عفراااا .. ما تباااه ترووووح .. الجاااامعة .. بتم .. في البييييييت ...
اتسعت عينا المها و هي تضع أناملها على شفتيها بصدمة و شهقت نورة و دانة معا قبل أن تقول الأخيرة بذهول ..
- عفاري صدق ما بتخلصين الجامعة ...!!!!!
هزت عفرا رأسها رفضا و هي تقول بصوت قاطع ..
- هيه .. ما بدرس في الجامعة بخلص الثانوية و بيلس في البيت ..
نظرت لها المها غير مصدقة و هي تدير سبابتها بحركة دائرية قرب صدغها .. لكن عفرا لم تجب .. كانت تحني رأسها بهدوء .. قالت حور بقوة ..
- أكيد مينونه .. و الا علمي و بهالنسبة و تيلس في البيت .. شوه بتسوين .. تضيعين مستقبلج ..
نظرت لها نورة و هي تعقد جبينها و قالت بحذر ..
- انزين حور انتي ليش معصبة ؟؟
نظرت لها حور فورا ..
- يعني شوه تبينيه أسوي حبيبتي .. أدق معلاية و ايلس أرقص .. ختج تبا تهدم مستقبلها ..
ضحكت دانة ..
- حلوة .. بس لا تعيدينها .. عفاري ليش تبين تهدمين مستقبلج .. هب عايبنج الديكور ..
نظرت لها عفرا شزرا ..
- هب وقت سخافتج دندن ..
احمر وجه دانة و هي تصر بأسنانها ..
- دندن فعينج .. حور صادقة .. انتي من يوم يومج تكرفين في المدرسة كراف الويل .. الحين يوم يات على آخر سنة قلتي مابا أدرس ..!!
ضربتها المها على كتفها بخفة .. فالتفتت لها عفرا .. لا تدري لما شعرت في تلك اللحظة أن المها تعاني كثيرا .. فتاة ذكية في مقتبل العمر .. لم تتلقى من التعليم شيئا سوى ما لقنته اياه اختها الكبرى في البيت و ما استشفته من أكوام الكتب تلك التي تغرق نفسها بها ..! أشارت بيدها مستفسرة .. تطالب بإجابة على سؤال إلى الآن تجاهلنه جميعا .. الكل اعترض دون أن يسألها عن سبب القرار ..!
مسحت عفرا وجهها بكفيها .. قبل أن تسند فكها بهما .. و هي تقول ببطء ..
- انزين نفرض سمعت رمستكن .. و سجلت في الجامعة .. و بدت الدوامات .. الجامعة هاي ما يبالها مصاريف ..؟؟ لبس .. و لوازم دراسة .. و مصروف .. و عقب ما أتخصص يباليه جهاز و خط نت .. مادري شوه .. انتن تعرفن خرابيط البنات .. يعني حتى لو حاولت ما أصرف الفلوس .. لازم بيظهرليه شي يباله دفع ..
ثم نظرت لحور التي تدلى فكها من الصدمة .. و هي تقول ..
- الحين من وين لنا فلوس .. ؟؟ شؤون أمايا و تعويض أبويه يا الله يا الله يسدن مصروف البيت .. تبنيه بعد أسحب منه .. شوه بناكل نحن ..؟؟ رودس ..؟؟
وضعت دانة أناملها على خدّها بذهول ..
- صح و الله .. ما فكرنا فيها ..!! يعني أنا و نورة بعد بنيلس عقبج في البيت ..؟!!!
.
.
- لا ،،
التفتن لحور التي وقفت و هي تنفي ذلك بصرامة .. كان في عينها بريق تصميم جعل وجهها يبدو قاسيا و هي تقول بصلابة ..
- كلكن بتدخلن الجامعة و بتخلصن دراستكن و أولكن عفرا .. و الفلوس موجودة .. عدنا خير الحمد الله ..
قالت نورة بهدوء ..
- وين الفلوس يا حور .. انتي تعرفين ان ابويه الله يرحمه ما كان عنده غير معاشه من شغله ..!
نظرت لها حور بثقة ..
- ما عليج الا انج تخلصين الثنوية و تدخلين الجامعة .. الفلوس لي تبينها موجودة ..
نظرت لها دانة بابتسامة ..
- ليكون تعرفين مكان الكنز .. ما ظنتيه بس لو ناوية تصرقين دبي الاسلامي .. ترانا خوات .. ريليه على ريلج في اللين و الشدة .. بس القسمة ففتي ففتي ..
- لا ما بصرق شي - ثم التفتت لعفرا تقول بعتاب - و ماريد أسمع هالرمسة مرة ثانية .. لا تتحرن شي بيتغير علينا عقب ما توفى أبويه .. الحال هو الحال .. بس شدن على عماركن شوي ..
ثم نهضت من مكانها .. و هي تنظر لنورة ..
- امايا وينها ..؟؟
- يالسة في الحوش .. عندها مزنة و هند ..
تنهدت و هي تسأل ..
- و نايف ..؟
أجابتها دانة بدلا عن نورة ..
- بعده راقد في الميلس ..
قالت حور بهدوء ..
- خلاص عيل .. اظهرن يلسن ويا امايا .. و أنا بسير أوعيه قبل المغرب .. الله يعين كانه ما بيرقد الليلة ..!
خرجت من الغرفة متوجهة للمجلس مباشرة فيما خرجن المها و عفرا و نورة و دانة نحو أمهن و الأخيرة تنظر لعفرا و هي تضحك ..
- أونها عفاري مضحية .. وايد مأثرة فيج الأفلام ..
و لكن عفرا لم ترد عليها .. كان ذهنها مشغولا بالطريقة التي قد تعمد إليها حور لإحضار النقود .. بدت واثقة و هي تصر بان إحضارها سهل ..
أمهن تجلس بهدوء على ذاك البساط ممزق الأطراف و يدها كالعادة ترتق أحد ثياب أبناءها أو تخيط شيئا لهم ..و أمامها قد وضعت صينية الشاي التي أعدتها المها مسبقا .. مزنة غارقة في حديث طويل تسهب في سرده على هند الذي بدا جليا أنها لا تستمع لها بل مشغولة بالمجلة الملونة التي بين يديها ..
جلسن جميعا و راحت نورة تسكب الشاي و توزعه و دانة تنظر لمزنة ..
- حوووه يا الحشرة .. صخي شوي ..
نظرت لها مزنة و وجهها الصغير ينعقد .. فتابعت دانة آمرة ..
- سيري المطبخ بطلي الثلاجة بتلقين البسكوت و الكيك لي يابوه هيئة الهلال الأحمر ..
قالت مزنة و هي تضع اصبعا في فمها ..
- من هيئة هلال أحمر ..؟
دفعتها دانة بيدها و هي تقول ..
- عمامج حد غيرهم .. بسرعة .. سيري هاتيه .. و أول وحدة بنعطيها قسمها انتي ..!
اتسعت عينا مزنة و هي تقفز مسرعة للمطبخ .. استلقت نورة على البساط و هي تضع رأسها في حجر أمها التي ابتسمت بحنان و هي تمسح رأسها .. لترد تلك بابتسامة كبيرة ..
- فديتج و الله يا الغالية ..
ثم نظرت للبنات اللواتي بدا على وجوههن الشرود ..
- حوووه .. شعندكن كل وحدة في بلاد .. اسمعن .. ما تلاحظن شي ..؟؟
قالت عفرا بهدوء ..
- لا ما لاحظنا .. لاحظيناا ..
ضحكت نورة ..
- حلوة لاحظيناا .. من زمان ما لعبنا سحب بالخشبة ..
عقدت دانة جبينها ..
- صدق ما عندج سالفة .. منوه لي له نفس يلعب الحين ..؟؟ ما تشوفين ظروفنا هاي ..؟؟ - ثم نظرت لمزنة التي خرجت من الصالة تحمل في يدها كيسا - وين الصحن و السكين ..؟؟
قالت مزنة بدهشة ..
- انتي ما قلتيليه أييب صحن وسكين ..
قالت دانة بثقة ..
- قلت بس انتي ما تسمعين ..
وضعت مزنة الكيس جانبا و هي تجلس جوار هند ..
- لا ما قلتي ..
نظرت لها دانة بتحدي ..
- تكذبينيه ..؟!!!!
قالت هند دون أن ترفع عينها عن المجلة ..
- لا ما تكذبج .. تقول الصدق .. انتي ما قلتي لها هاتي صحن و سكين ..
نظرت لها دانة بضيق ..
- انطبي يا فيلسوفة زمانج .. و يا الله نشي انتي هاتي الصحن و السكين ..
قالت عفرا آمرة ..
- بس دندن .. تراج حشرة .. هندوه سيري هاتي الصحن و السكين حبيبتي ..
نهضت هند بعد أن ألقت نظرة جليدية على دانة التي لوحت بيدها ساخرة .. و التفتت لنورة بلهفة تسألها ..
- صح نوري نسيت أسألج .. شعندهن بنات صفكن .. شوه مسويات بمعلمة العربي ..؟؟ لقيتاا في الادارة تشتكي ..
رفعت عفرا حاجبا بانتقاد ..
- و حضرتج شوه تسوين في الادارة ..؟؟
- أتفقد أحوال الرعية .. هاا نورة شوه مسويات مسودات الويه بهالمسكينة ..
هزت نورة كتفيها ..
- ماشي يا غير حصتين ورا بعض تشرح و محد سوالها سالفة .. لي منهن تلعب .. و لي تسولف .. و لي ترسم .. و لي راقدة ..!
ابتسمت دانة و هي تنظر لعفرا بنظرة خبيثة ..
- و انتي شوه كنتي تسوين ..؟؟!
هزت نورة كتفيها ببساطة ،،
- كنت آكل ..!
نظرت لها عفرا باشمئزاز ..
- امحق طالبات علم و الله ..!!!!
- شوه تبينيه أسوي حبيبتي اذا ما كلت برقد .. أعرف عمريه .. يعني رسم كتابيه كله شخابيط .. لعب و الطاولة ما فيها الا اكس أووو .. و سوالف خلصن .. بس المشكلة هب منا ..
كتفت عفرا ذراعيها ساخرة ..
- لا حشى هب منكم .. من الوزارة .. ليش ما يابت أفلام و ديجي و مجلات و فتحت بوفيه آخر الصف لعيونكن.. تعرفين بعد نحن هنيه نحب نكون على أرقى مستوى ،،
اعتدلت نورة جالسة و المها تراقب النقاش الغير مسموع بصمت ..
- تطنزين ؟؟ لا ما قلنا نبا أفلام و الا بوفيه .. نبا مناهج شرات الخلق .. نبا شي نستفيد منه ندرسه و نتعلمه .. هب حشو ملزومين نصمّه صم و آخر السنة نفر المعلومات و يا الكتب .. لا فهم .. و لا استفادة .. يعني بالله عليج شوه بستفيد من ص1 و س2 في حياتيه ..!! انزين رياضيات بقول ما عليه .. كله خبص و تقديرات ،، تعالي للعربي .. يختي لا تلوميناا ... انتي ما تشوفين المنهج .. كتاب كبر راسج .. هب فاهمة منه شي .. و بعدين من وين يابوا شكسبير هذا يدخلونه في القصة العربية .. يعله العلة ..
- الريال ميت من سنين .. كله الدود ..
ردت بغل ..
- أدريبه ميت .. و الا كان مات من دعاوينا .. انتي هاوية علمي .. فهم و تطبيق .. عسب كذيه ما تحسين بمعاناتيه .. انا أحسنيه قبل بداية كل سنة لازم أسوي رفرش لمخي .. عسب أتأكد ان فيه فراغ للحشو الياي .. أبا أتعلم ..أسعى للعلم .. أستفيد منه يا ناس ..!
هزت دانة رأسها موافقة ..
- صادقة نوري .. المفروض شهادة الثانوية العامة تعادل الشهادة الجامعية ..!
هزت عفرا رأسها بعدم رضا ..
- انتن ميؤوس من حالتكن .. الحمدالله انكن قربتن تخلصن .. شوه لو كنتن دارسات المناهج اليديدة .. !!!
.
.
.
.
.
.
مدت يدها بحنان تمسح على شعره الأسود و قد بدا غارقا في النوم ..جفنيه المتورمين خير دليل على نومه و هو يبكي ..!
ألم شديد يكتسح روحها .. و إحساس غريب بالتشتت يسكنها .. و هي تنظر لوجهه الصغير ..
غدا سيكبر هذا الطفل .. دون أب .. و سيصبح من العسير توجيهه .. !
شعرت بأن كل ما حولها استحال لفوضى عارمة .. هناك صخب صامت فيما حولها يدفعها للجنون ..
تتخبط في ما لا تدري كنهه ..! تدعي القوة دون أن تجد الوقت كي تفرغ شيئا من أوجاعها ..
ان استمرت هكذا ستتهاوى الروح تحت وطأة هذا الحزن العميق الذي يكتنفها .. اعتادت صد الدموع حتى يئست تلك فلم تعد تجد طريقا لمقلتيها ..
الآن و هي تجلس هنا .. تنظر لوجهة أخيها الأصغر .. و الهموم تتراكم على بعضها .. حتى غدت لا تميز أحداها عن الآخر ..
الآن و هي تستنشق هواء العصر الساخن .. تتلذذ بلحظة الخفاء هذه .. ترخي جفنيها .. لتنزوي خلف السواد مختبئة من كل شيء ..
حتى هي ..!
محاولة بيأس أن تنتزع شوكة خفية توجع قلبها ..
غزا روحها شعور بارد بالوحدة .. بدت الأيام القادمة أمام عينيها الحائرتين بلا ملامح ..!
شعرت بازدحام خواطرها يخنقها .. لم تعد تريد شيئا في الكون سوى لحظة هدوء ..
لحظة واحدة .. يتيمة .. كحالها ..!
تريد أن يتوقف فيها الزمن .. لتجد حلا لجميع ما يؤرق إحساسها .. رحيلهم القريب الذي لم يعرف به أحد ..
عزم إخوتها على ترك الدراسة لقلة المال .. و تمرد هذه البراءة التي رقدت بسكون أمامها ..
لم تعد تريد شيئا لنفسها .. لن تجد الوقت لكي ترغب أو لا تفعل .. ستكون دوما لاهثة خلف ما يبغون أحبتها ..
لن تسمح مطلقا أن تُدهس أمنية صغيرة لهم ..
عليها أن تصمد .. فما زال الطريق طويلا أمامها .. هناك من الأوجاع ما سيضطرون جميعا لمجابهته ..
.
.
أحنت رأسها ببطء لتطبع قبلة حنون على جبينه و هي تهز كتفه برقة ..
- نايف ،،، نايف ..!
تحرك لبرهة .. يفتح عينيه ببطء .. نظرة غائمة علت وجهه .. قبل أن ترتجف شفتيه لتلمع عينيه مجددا بالدموع .. أوجعتها هذه العبرات المرتعشة .. لتريح يدها على جانب وجهه .. و غصة كبيرة تسد حلقها .. صوتها المخنوق يهمس مطمئنا ..
- لا تزعل فديتك .. أنا آسفة ..
ازداد انهمار دموعه تلك و هو يشهق بقوة .. بدا أصغر من سنوات عمره الثلاثة عشر و حور تضمه بقوة ليجهش باكيا في حضنها ..
شعرت بشهقاتها تلك تمزق فؤادها .. و هي تهمس قرب أذنه مطمئنة ..
- بس .. خلاص .. يا الله حبيبي .. خلك ريال .. ليش تصيح ..؟؟ باكر مايد بيسير وياك المدرسة و بيخلص الموضوع ..
و لكن نايف كان يبكي بقوة .. راحت تهزه بصبر .. مر وقت طويل قبل أن يهدأ و يمسح وجهه المحمر المنخفض .. هناك نبض في صدغها يكاد ينفجر .. و لكنها تجاهلته و هي تمسك بقبضته في يدها و تسأله بحنان ..
- بلاك ..؟؟!
لم يرفع رأسه .. و عادت الدموع ترتجف على شفير مقلتيه و ارتعشت شفتيه .. بدا أنه سيبدأ البكاء مجددا .. انتظرته قليلا دون أن يجيبها .. ظنت أنه لن يرد .. و لن صوته تسلل لأذنها ..
كان صوته منخفضا .. ضعيفا .. و بالكاد سمعته ..
- أنـــــا خايــــف ..!
أرسل همسه قشعريرة على طول ظهرها .. رفعت عينيها المتسعتين له و هي تهمس بخفوت و يدها تعتصر يده بقوة ..
- من شوه ..؟
.
.
انحدرت دمعة يتيمة على وجنته المبتلة من جديد و صوته يتهدج ،،
- ما دري ..!!
تأملت تلك الدمعة الصافية التي احتضنت وجنته بيأس ،، تكابد داخلها واحدة تشبهها ،،
.
.
هي أيضا مذعورة ..
و لكنها تدري مما ..!
* * * * *
رغم استسلامها للسواد المحيط بها و انفصالها عمّا حولها .. إلا أن أذنيها التقطتا صوت الباب الذي فتح بهدوء .. ثم تلك الخطوات الواثقة الرشيقة التي تقطع المسافة من الباب إليها ..
لقد ظلّت لسنوات تنصت لهذه الخطوات .. لقومها .. لرحيلها .. لتواترها ..
و لحنينها ..
ها هي تتوقف أمام سريرها مباشرة .. تكاد تجزم بما قد يرتسم على وجه هذا الحبيب ..
كم اشتاقت أن تمد يدها إليه لتحتضن رأسه على صدرها .. لتقبل جبينه بشوق .. لتلاحقه بدعواتها و ابتهالها للرب كي يوفقه ..
و لكن ..
هناك الكثير من الأحلام و الأمنيات التافهة كانت قد رمت بها طي النسيان ..
لم تعد ترغب بشيء الآن .. أضحت تنفر من كل شيء حولها .. من كل شيء ..
ثقل هذه الجدران حولها تجثم على أنفاسها .. تخنقها .. و تخنق تلك الذكريات الصغيرة الباقية داخلها ..
لم تعد تريد شيئا من حاضرها و المستقبل .. تتمنى لو يتركوها و شانها ..
أن تظل لوحدها كي تغرق نفسها فيى زاوية من الروح تزخر بالصور القديمة ..
نقيّة ..
لها رائحة ذاك الزمان الغابر .. الذي حمل في جعبته كل ماهو جميل و أصبح طي الذكرى و الأيام ..
فلم يعد له بقية سوى في أذهان و أرواح من عاشوه .. تكاد تراهم أمامها الآن .. اطفالها صغارا .. جميعهم هنا الآن .. تداعب هذا .. و تصيح بهذا .. و تؤدب هذا ..
و تغسل ذاك .. ثيابهم البسيطة .. أرزاقهم القليلة .. و ألوان باهتة لم يعد لها انعكاس في تلك الصور .. و صدى ضحكات ذاوية .. بعيدة .. تخفت مع ابتعادها ..
و احساس له رائحة التراب المبتل .. بالماء أو الدموع ..
و صرخات أطفال يلعبون ..
و حماس براءةٍ لم يعد لها أثر هنا ..
و وجود ..!
.
.
لامست شفتيه الدافئة جبينها بحب و هو يطبع عليه قبلة عميقة . حملها كل ما يخالجه من شوق .. لتلك الأم التي آمن منذ أيام أن لا أمل قد يعيدها .. و لكن ..
هناك فتيل أشعتله تلك الطفلة الخرقاء بتحدٍ أجوف .. علم أنه بمثل هذا الخبر قد يوقد قابس نور في روحها .. سيحملها للحياة مجددا ..
يوجعه أن يرى أبناء الراحل قد تجاوزا ألمهم بينما لا تزال هي تتذوق الأمرين من حر فراقه ..!
يركع على ركبيتيه و هو يلتقط كفها و تهدج الأنفاس تأثرا دليل على أنها ليس غافية .. هي هنا .. و تشتاق له أيضا ..
و لكن تخنق الاحساس في جوفها .. فلم يعد هناك ما يستحق أن يُشعر به بعد رحيل ذاك الابن و الحرمان ،،
غريب كيف لاقتلاع الأمل من قلوبنا أن يتركنا موتى احساس .. بلا أنفاس .. ممزقين ..!
يدنو من أذنها بحنان و هو يهمس بهدوء ..
- السلام عليج يا أميه ..
و انزلقت تلك العبرة تسيل على جانب وجهها و شفتيها ترتعش .. شعر بشيء كالنار يتقد داخله و هو يلتقط تلك الدمعة بين أنامله ..
- ليش الدموع يا الغالية ..؟!
ازداد تدفق عبارتها تباعا و ارتفعت شهقاتها تهز جسدها الضئيل .. كانت عاجزة عن كل شيء الا البكاء .. عاجزة عن الابتسام .. عن النسيان .. عن مواصلة العيش .. و الحب مجددا ..!!
راح يمسح على شعرها الأبيض التي استباحه الشيب بوقاره .. و هو يقول ..
- الواحد لو مات منا ... ما يبا الا صبر أحبابه و دعواتهم .. و الا الدمع يعذبه و يعذبهم .. و لا به فايدة .. سبحان الله .. هو لي يعطينا .. و هو لي ياخذ منا .. كل شي حق لويهه ..
راح يملس خصلة .. يشعر بان الصورة انقلبت بشكل ما .. أصبح هو الكبير و هذه صغيرته .. أراد باخلاص أن يمسك بكفها هذه التي رسمتها السنون اخاديد عميقة .. ليعيدها لطرقات الأمل مجددا ..
- انتي تعترضين على حكم الله ..أمااه .. الله يهديج .. الله عطاج الولد و خذه .. و عوضج بعياله ..
ثم ابتسم بوجع .. كان ألمها بمزقه .. هو .. الذي اعتاد أن يكون صلبا .. قويا .. لا يقوى رفع رأسه ليجابه دمعة قد تسكن مآقيها الحبيبة ..
- انتي ما تبين تشوفين عياله ..؟! بنييبهم عندج هنيه .. بيتمون تحت عينج .. عيال حمد و بناته .. و عيال عياله بعد ان شا الله ..
أجهشت باكية حال تلفظه بتلك الكلمات و هي تشدبيدها على طر الفراش .. كان صوتها يخرج من بين شهقاتها متقطعا ،،
- عياله مايبوناا .. ما تشوف محد منهم يانا البيت ..؟!
أرخى جفنيه بثقل .. هنا المربط اذا ..! ابتسم بتفاؤل و هو يقول ..
- الله يهديج .. وين ايونج هنيه .. انتي ناسية انهن بنات .. و ما وراهن ريال .. أمهن في العدة و ما يروم يودرنها .. و خوهن ياهل .. أول ما توفي أمهن العدة كلهم بنييبهم هنيه .. حرمة عميه و عياله .. في البيت العود .. ما ينحطهم الا عندج .. شوه تيبن أكثر ..
كان صوتها ممزقا و هي تهمس بيأس ..
- معاد فيها .. لي انكسر انكسر .. عيال ولديه غرب .. لا أعرفهم و لا يعرفونيه .. كبروا بعيد .. و ولديه مات .. مااات ..
و انتفضت بنشيج عالٍ و صوتها يرسل وخزات ألم موجعة في قلبه و هي تقول متلوعة ..
- آآآه ليتني مكانه تحت التراب ..
مسح غيث وجهه بصبر حقيقي و هو ينهرها عن هذا القول ..
- استغفري ربج يا أميه .. انتي انسانة مؤمنه ..
و راح يكشف تلك الورقة الأخيرة .. اليتيمة ..!
- الله يخليج لنا و لعيال حمد .. و لولده لي ياي في الدرب ..
تستمر لوهلة في ذرف الألم من محجريها .. ثم تتوقفها تلك الهمسة ..
لمسة من أنملة أمل .. بارقة من حلم قديم أخذت تنبثق من بين أوجاعها و هي تتأمل وجهه الأسمر القوي و هو ينظر اليها بثقة ..
للحظات لم تعد في الأبجديات أية كلمة قد تتلفظ بها .. لتفجر حيرتها .. دهشتها .. فرحها .. و بكاءها .. املها و يأس استبد بها ..
لم تعد تنطق سوى بأصابع أرهقها الزمن تعتصر قبضته الكبيرة و تشد عليها .. و دموع أخرى ترتجف على عينيها ..
و تتساقط لتروي قلبها غير مصدقة و هو يبتسم لها بشجاعة ..
- حرمة عميه حمد حامل ..
.
.
لم يعد لكل ما مضى قيمة .. و لم تكترث مطلقا لما قد تحمله أيامها القادمة .. تمنت الموت الآن و على خدها دمعة الفرحة هذه .. و هي ترتجف بشدة و تبكي بصوتٍ عالٍ .. هذا أمل ..
هذه حياة ستشهد مولدها و ترعرعها .. ستعيش ما حرمت من ابنها معه ..
ستكون حية لمرّة أخرى .. لترى جزءا من روح ابنها الراحلة .. كان هذا الاحساس اكبر من حدود أوجاعها ..
تحرك بسرعة يضمها لصدره بقوة .. يحوي فرحتها المتفجرة ..
.
.
لم تعد تجد وسيلة للتعبير هذه الأيام سوى ملوحة الدمع ..
أو حلاوته ..!
* * * * *
كان الغد الجديد قد أزف ،،
و هذا هو أول يوم من بقية حياتهم ...!
.
.
أصوات الحافلات المدرسية و ازدحام السيارات القادم من البعيد .. رائحة دخان المركبات تعبق بالجو ..
رغم هذا لا زال تلك النسائم المعتدلة في أول النهار تبرد وجوههم المحمرة حماسا و هم يحملون حقائبهم على ظهورهم متوجهين في مجموعات لانتظار الحافلة عند المواقف ..
ضحكاتهم .. أحاديثهم .. و حتى ألعابهم .. تملأ الطرقات ..
ستقع عينيك على تلك الصور الجميلة .. نشاط يدب في هذه الكائنات الصغيرة و هي تقصد أن تستشف علما ..
أشعة الشمس اللطيفة تداعب الشوراع السوداء .. و بيوت الطين المنتشرة في هذا المكان ..
تجاور المنازل .. و تلاصق جدرانها .. نوافذها القريبة .. أبوابها المنخفضة ..
و هناك تقبع نخلة وحيدة .. او يحتضن السور الضيق أشجارا وضحت قممها ..
ذلك زوج حمام يداعبان بعضهما على سقف منخفض .. أو سربٌ فضل الرحيل فجأة في منظر مهيب أشعل فتيل صيحات طفولية و أنامل صغيرة أشارت له ..
تلك البراءة تختفي في البقالة العتيقة لتخرج منها محملة بقطع الحلوى الصغيرة .. يتقاسمونها ..!
هذه أم تقف ببابها تنتظر وصول الحافلة لتنطلق بابنتها .. و ذاك رب عمل ترك بيته متوجها لطلب الرزق ..
عامل البلدية بلباسه البرتقالي المميز يعلق على كتفه كرتونا كبيرا فارغا يلتقط القمامة من الطريق ليضعها فيه ..
.
.
سحبت نفسا عميقا و ابتسامة غريبة تناوش شفتيها .. رغم أن عينيها الساخنتين تكادان أن تخرجان من محجريها و رأسها أخذ يضج بأصوات لا وجود لها .. ثقل في أطرافها يمنعها من التحرك ..!
رغم سخونة جسدها البالغة .. و شعورها بالبرد .. إلا أن تلك البسمة أبت إلا الظهور ..
هذه الصورة من الجمال بحيث حفرت بالدفء الذي احتوى قلبها الصغير في الذاكرة ..!
لتشد اللحاف حول جسدها و هي تجلس أمام البيت .. و تلوح بيدها لهند التي قادت مزنة نحو موقف الحافلة .. فيردن التلويح بحماس .. قبل أن ترفع رأسها لدانة التي تقف فوقها و تسألها بصوتها المتحشرج بفعل المرض .. و هي تريح جبينها الحر على يدها ..
- متى يي باصكن ..؟؟
أجابتها بتعاطف ..
- عقب ثلث ساعة .. حور حدري .. و الله شكلج تعبانة من الخاطر ..- و مدت يدها تلامس وجنة حور - أووووف .. شابة ضووو .. يوم ما فيج الا العافية ما تظهرين .. الحين يوم انتي رايحة فيها بتطلعين ..؟؟
تأوهت حور و صوتها المخنوق يخرج من حنجرتها المتعبة خافتا ..
- انتي غبية .. أصلا انا ما مرضت الا تضامنا ويا أمايا عذيجة .. الحين مايد بيي و يشجع ..
و ابتسمت برثاء .. جلست دانة جوارها و هي تتنهد ..
- أونها تنكت الأخت .. عاد هاي نكتة محمومة ما تضحك !! ..متى بيظهرن هالعيايز .. ما بقى شي ع الباص .. - أطلت برأسها داخل البيت تصيح - نووووووراااه .. عفراااااااا .. غريبة عفرووه تتأخر أحيدها أول وحدة تظهر فيناا ..
- بلاها عفرا .. سمعتج تسبين ..
قالتها عفرا و هي تنظر لدانة شزرا .. لترد تلك مدافعة ..
- اعوذ بالله .. أحسني الظن يختي .. شعندكن أبطيتن عليه ..!
خرجت نورة خلفها .. و هي تنظر لحور و دانة ..
- عفرا انطر جوتيها .. و لصقناه .. - ثم أضافت ساخرة - تعرفين من كثر الجواتي احتارت أي واحد تلبس آخر شي عز عليها لولي .. - ثم استدركت بعينين متسعتين و هي ترفع الغطاء على وجهها - حوووه نحن في الشارع .. شعندكن كاشفات الشيفة ..
تلفتت عفرا حولها بسرعة ..
- لا تسوين لنا فيها محد هنيه ..
حور ترفع طرف الشيلة لتغطي نصف وجهها بسرعة ..
- صادقة نورة العرب سارحة دوامااتها .. و نحن مبسطات ..
صاحت دانة بحماس و هي تشير لحاوية النفايات القريبة التي كانت ترمي فتاة فيها كيس كبير ..
- ها هب فطوم ..- و صرخت بقوة منادية - فطاامطاام ..
التفتت المقصودة في اللحظة التي قرصت حور أختها بغيض ..
- و الله انج هب صاحية .. يا الخبلة فضحتيناا ..
أدارت دانة عينها ببراءة ..
- الشارع فاضي ..
قالت عفرا بسرعة ..
- حتى لو كان فاضي .. عيب ..! هاي فطوم ياية قدانا ..
وصلت فاطمة و البنات يقفن جميعا ..
- السلام عليكن بنات حمد ..
رحن يسلمن عليها واحدة تلو الأخرى ..
- و عليكم السلام ..
قالت حور بصوت متحشرج بفعل المرض ..
- حيا الله القاطعة ..
توقفت فاطمة تنظر لها متفاجئة ..
- مرحب خويه .. مناك الميلس ..
ضحكت نورة بقوة .. فيما صرّت حور أسنانها بغيظ ..
- سبالووه لا تطنزين ..
خرجت من البيت المها تحمل كوبا تصاعد منه البخار لتدسه في يد حور و هي تبتسم لفاطمة بحب .. سلّمت فاطمة عليها بحبور و هي تقول ..
- هاي شيختكن كلكن و الله .. مادري ليش أحبها ..!
عفرا بسرعة تلتقط حقيبتها عن الأرض ..
- خلاص يوم تكبرين بنيوزج اياها ..
لوحت فاطمة بيدها ..
- و انتي الصادقة بيوزها خوية ..
طفا الاشمئزاز و الكراهية على وجوه الثلاث تباعا و هن يتبادلن نظرة حقد قبل أن تقول نورة بسرعة ..
- ما نيوز مطلقين نبا واحد أعزب .. فرش .. هب مستعمل ..
رفعت فاطمة حاجبها ساخرة ..
- لي يسمعج يقول يالسة أحلف عليج انتي تتيوزينه ..
قاطعتهن دانة بسرعة قبل أن يقال أكثر مما قيل ..
- بس خلاص .. الحين بيي الباص .. يا الله باي ..
قبّلت نورة حور و إحساس غريب يخالجها و عينها على فاطمة ..
- ادعيلناا ..
و وصتها عفرا بإصرار ..
- اشربي مضاد و بندول .. و ارقدي .. ما بيي العصر الا و انتي ترقصين ..
هزت حور رأسها بأسى و هي تشعر بالدوار ..
- خير ان شا الله ..!
بقيت فاطمة تحدّثها لبعض الوقت هي و المها قبل أن تذهب مضطرة لترى أمها .. لحظات قبل أن تدلف المها هي الأخرى .. تاركة حور في انتظار مايد الذي مرّت ثلث ساعة أخرى قبل قدومه .. و هي تحمي وجهها من أشعة الشمس التي راحت تتسلط عليها بلا رحمه ..
في اللحظة التي توقفت فيها سيارته الصغيرة أمام البيت و هو ينزل .. هبت حور واقفة تستقبله .. سلّمت عليه و هو يقول باعتذار ..
- تأخرت عسب ندخل الإدارة سيده و ما نرقب الطابور ..
ردّت عليه بهدوء و هي تشعر بأنها خائرة القوى .. جلوسها هنا لم يساعدها كثيرا ..!
- ما عليه أنا بسير أزقره من داخل و أول ما تخلص أمورك وياهم اتصلبيه و خبرنيه شوه الموضوع ..
أمسك يدها قبل أن تستدير للداخل و هو يسأل فجأة ..
- بلاه صوتج ..شي يعورج ..؟؟
هزت رأسها بسرعة و الغطاء يخفي ابتسامتها المتعبة ..
- ما شي .. بس تعبانة شويه .. يا الله ما بأخرك .. دقيقة بس ..
و دلفت للداخل و عيناه تتبعها ..
بدت غير طبيعيّة تماما ..!
* * * * *
كان يقطع الممر الفاخر المؤدي لمكتبه بخطى واسعة و هو يسأله بصرامة في الهاتف ..
- متى بيكون عندك بريك اليوم ..؟؟!
تدفق صوت أحمد مفكرا و هو يجيبه ..
- آممم .. ع الساعة وحدة و نص ..
تجاوز مكتب بطي ليدلف مكتبه بسرعة مغلقا الباب خلفه .. صوته يتردد بين الجدران .. ىمرا ..
- خلاص مرنيه الشركة بعطيك بطاقة و أوراق الحساب توديها بيت عميه حمد .. انشد عن حور يوم بتظهر لك عطها الأوراق و قلها غيث طرشنيه أعطيج اياها .. فهمت ..؟!
سأله أحمد بفضول حذر ..
- حور .. لي هي حرمتك ..؟؟
أجابه غيث بنعومة خطرة ..
- هيه ..
رد أحمد بطاعة ..
- خلاص أنا بشل بو سلطان ويايه و بنسير رباعة .. و لا يهمك يا خويه ..
.
.
أنهى المكالمة بسرعة و هو يمد يده نحو جهاز الاتصال الداخلي قبل أن يتوقف فوق الزر مباشرة ..
رفع يده و عينيه تلمعان بشيء غريب .. التقط الهاتف المحمول مجددا .. و تلك الفكرة تنبثق في ذهنه من العدم .. عليه أن يتصل بها ليخبرها أنه سيرسل البطاقة مع أحمد ظهرا ..
ابتسامة غامضة ناوشت شفتيه ..
هل هذا هدفه .. أن ينبئها بقوم أخاه .. أم أنه أراد أن يختبر طاعتها ..
يرغب في التأكيد على أنها تسير وفق ما رسمه من منهج لها ..
شيء مجهول يدفعه للمس العناد مجددا و هي تقاوم بيأس ما يفرضه عليها .. يستلذ ذاك التخبط اليائس و محاولتها البحث عن فرجة للانفلات من قبضته ..
راحت أصابعه الطويلة تبحث عن رقمها بسرعة بين الأسماء .. كم سيكون مذهلا أن يجد هاتفها مغلقا بعد أن أمرها بفتحه ..
ستكون حجة لتلقينها الأدب مجددا ..!
لحظات و أعلن الصوت المتقطع توافر الرقم .. و لكنه استمر في الرنين حتى انقطع .. تصلبت ملامحه و حاجبه الأيسر يرتفع ببرود ،،
حسنا مرة أخرى .. و سيرى إذا كان بإمكانها أن تتجاهله أيضا ..
.
.
.
.
.
.
كان الظلام الكثيف يحيط بها .. و هي تشعر بالهواء يضج في أذنيها .. رأسها ثقيل .. و هناك عرق ينبض بجنون في صدغها .. أنفاسها الساخنة تحرق انفها و فمها .. و هي تبتلع ريقها لتبلل حنجرتها الجافة .. رغم جسدها الساخن .. إلا أن الشعور بالبرد يكاد يقتلها و هي تلتف في بطانيتين مثنيتين .. تغرق للحظات في عالم سوداوي مليء بأحلام مزعجة غير مفهومة .. لتجد نفسها ليست نائمة .. بل تهذي ..!
هناك صوت يصيح بجنون عند رأسها .. تريد أن تهوي عليه بقبضتها فتسكته .. و لكنه يخرس لوحده ..
ثانيتين قصيرتين من الراحة قبل أن يعود للصياح قرب أذنها بجنون .. تشعر بأنه يكاد يشل حواها المرهقة .. أ هو الهاتف ؟ .. بالتأكيد ..!
بشكل ما استطاعت التقاطه و الرد عليه .. و رأسها يعود ليغرق في الوسادة .. عيناها مغمضتين .. و صوتها ياتي من غياهب الحمى .. هامسا .. تستميت ليصل إلى أذن من يريدها ..
- ألووه ..!
.
.
.
.
.
.
انعقدا حاجبيه حال تدفق صوتها الرخيم المبحوح عبر الهاتف ليسأل بقسوة ..
- ليش ما رديتي يوم اتصلت ..؟
لحظات صمت ثقيلة تمر دون صدى لإجابة ينتظرها .. ماذا ..! هل أنهت المكالمة ..؟؟ بالتأكيد لا .. يمكنه أن ينصت لأنفاسها المتسارعة ..
و لكن ما أثار دهشته و ألجمه صوتها الحائر و هي تسأل بهمس ..
- منوه ..؟
أبعد الهاتف قليلا .. ماذا ..؟! هل أخطأ في الرقم ..؟؟!
تساءل بهدوء ..
- حور ..؟
عاد صوتها الخافت يتردد في أذنه ..
- هيه .. منوه ..؟
راح يضرب بأنامله سطح المكتب في حركة رتيبة .. هل انتشلها من نومها يا ترى ..؟
- أنا غيث ..
- نعم ..؟
- أنا غيث ..
قالت وصتها الخافت يرتفع أكثر ليبدو مسموعا و هو يتقطع .. حقا يبدو أنه أيقظها .. فلم تبدو في كامل وعيها ..
- ادري انك .. - و صمتت لبرهة قبل أن تتابع - انك .. غيث .. خير شوه تبا ..؟
حسنا .. ألا تبدو أقوى الآن و هي بعيدة عن متناول سلطته و المواجهة ..! قال ببرود ساخر ..
- أبا أسولف وياج ممكن ؟؟..
- فاضي انت ..!
جيد .. تتمادى في تمردها .. سيجد الوقت حتما ليعلمها الخضوع قربه .. و إن قطعت بينهم مسافات .. قال يوجز بعجرفة يعرف أنها ستوجعها بما يكفي حتى يلقاها مجددا ..
- أحمد خوية بيمركم الظهر و بيعطيج البطاقة لي حولت لكم فيها فلوس ..
حالا أتاه الرد و هي تقول بصوت متحشرج ..
- انته ما تفهم نحن ما نبا منك شي ..
أراح يده على الطاولة باستمتاع .. يدرك أنها تتألم لما يفرضه عليها ..
- هب ع كيفج .. البطاقة لي بييبها أحمد شليها أخيرلج لا تخلينيه أييبها أنا بنفسي ..
كانت نبرة التهديد واضحة .. و صوتها الضعيف يردد العبارة متقطعا ..
- ما .. ما تفهم .. ما نبا شي .. منكم .. مانبا شي ..
انقطع الخط بينهما فأدرك بغيظ حقيقي أنها أنهت المكالمة و أغلقت الهاتف في وجهه .. قاوم رغبة مجنونة في أن ينهض من مكانه ليريها حجمها ..
أعاد الهاتف على الطاولة بصبر ..سينتظر إلى أن يرى ما قد تفعله بالبطاقة التي سيحضرها أحمد ..
إذا رفضت .. سيتمتع كثيرا بإجبارها على الإحجام عن المكابرة ..!
.
.
الغريب أن تلك الفتاة التافهة أصبحت تتمعن في إثارة غيظه ..
و هذا ما لن يسمح لها به ..!
* * * * *
- انخطبتي ..!!
نظرت لها روضة بهدوء ..
- لي يشوفج يا رواية يقول أول مرة أنخطب ..!
هزت راوية كتفيها و هي تلتفت حولها لتتأكد من أن انفعالها لم يجذب أيا من أنظار المتواجدات في مقهى الجامعة ..
- لا هب أول مرة .. بس مادري .. قلتي ولد عمج ..؟؟
أومأت روضة بإيجاب و هي تحرك عصيرها ببطء شديد .. لم تكن صدمتها أقل من صدمة صديقتها .. التي تابعت تتساءل ..
- شوه اسمه ..؟
- سيف ..؟
- أكبر عنج ..؟
- بسنتين بس ..
ابتسمت راوية بمكر و هي تتأمل وجهها الهادئ ..
- أهاا .. و شوه .. كشخة ..؟؟
ارتفعت عينا روضة تغشاها الحيرة ..
- هاا ..؟؟
رفعت راوية حاجبها ..
- كشخة .. حلوو .. كيف شكله ..؟
نظرت روضة للأسفل ثانية قبل ان تهز كتفيها بعجز ..
- مادري ..!
شهقت الأولى بصدمة ..
- ولد عمج و خاطبنج و ما قد شفتيه ..!!!!!
هزت روضة رأسها و ذهنها يتشتت .. لم تنتبه يوما لسيف .. لم يخطر لها أن ترى وجهه اذا كان جميلا أو لباسه إذا كان مهندما .. كانت هناك هالة من السلام تحيط به تشغلها عن ذلك .. لقد كان دوما هادئا .. منزويا في اجتماعاتهم المختلطة ..
- لا شفته .. بس مادري .. يعني شوه أقولج .. هو نشوفه بس ما ندقق في ملامحه ..
ضحكت راوية ..
- شوه يستحي ..؟!
ارتشفت روضة عصيرها بشرود ..
- لا بس .. هو ملتزم .. و ييلس بعيد عنّا ..
كان النفور جليا من الفكرة يعلو وجه صديقتها و هي تستنكر ..
- مطوع ..!!!!!
اتسعت عينا روضة باستفسار ..
- هيه مطوع .. ليش .. فيها شي ..؟
صمتت راوية لبرهة قبل أن تقول بصراحة سافرة ..
- لا ما فيها شي .. بس الله يعينج .. الصراحة الريال يوم يكون مطوع يلعوز حرمته .. تشوفينه بس يتأمر .. الا يبا يغير هذا .. و هذا هب عايبنه .. و هذا حرام .. و هذا غير مستحب .. الدين يسر .. بس الرياييل لي كذيه يخلون كل شي ممنوع ..!! يعني بيشد عليج وايد روضاني ..
بدا الكلام قاسيا للغاية و هي تحاول استعادة صورة ابن عمها الطيبة .. تلك الأخلاق العالية .. و ذاك التعامل النظيف لم يبدو لها بهذه الفظاظة أو هذا الجانب الذي صورته صديقتها بإجحاف ..
- و الله الحرام محد يرضاه لا مطوع و لا غيره .. انا نفسيه الحمد الله .. ما قد سويت شي يسحبنيه للغلط .. - ثم نظرت لراوية بشك - أحسج تبالغين ..!
شخرت صديقتها ساخرة ..
- و الله ما أبالغ . هو الموضوع أولا و أخيرا لج و القرار من صوبج .. بس أنا أبين لج جانب لازم تحطينه في بالج .. وحدة من بنات عميه ماخذة مطوع .. و ما نشوفها بالمرة .. و اذا لقيتاا في المناسبات ما يبين عليها الزين .. لا لبس شرات العالم و الناس و لا مكياج .. مادري رويض أحسج انتي بالذات حرام تاخذين مطوع .. يعني بما انج تحبين الكشخة و الطلعات و هالسوالف .. اعرفي ان كله هذا انسيه اذا عرستي بواحد بيشد عليج .. ع العموم هذا راي و انتي سوي لي يريحج ..
الغريب أن صديقتها بدت معارضة للفكرة بقوة .. غير راضية عن زواجها من سيف ..
هي لم تعرف سيف و لم تلتقيه قط ..
سيف رجل مسالم و هادئ .. وجوده في المكان يعطي إحساسا دافئا بالطمأنينة .. و ابتسامته المتواضعة .. ربما لم تلتفت لوجهه يوما .. و لم تفكر به كزوج و لم يخطر لها ما شابه من هذه الأمور..
حاولت اعتصار مخها لتكوين صورة قريبة له .. و لكن لم ترى أمام عينيها سوى وقار لحية سوداء و ملامح مبهمة ..!
و لكن ..
هناك خيط خبيث أخذ يُحبَك في الصورة الجميلة.. ليشوهها .. و كلمات صديقتها ترتطم بصفحة الماء الصافية في ذهنها .. مكونة دوامات كبيرة ..
.
.
دوامات ،،
دوامــــات ..
دوامــــــــات ..!
.
.
كثير من هذه الدوامات في حياتنا .. شيء من المعتقدات السخيفة يخلقها ..
و أشياء خاطئة تجعلنا موقنين بأن هناك جانب أسود للخير .. لن نراه إلا إذا اقتربنا منه ..
عندها لن يكون هناك خير قط ..
سيكون له اسم آخر ..!
* * * * *
الضيق يكتنف صدرها و هدى تصدر أصوات انفعالاتها المضجرة التي أعلت قلبها ..
- حيوانة .. أنا أقول هالاشكال ما منها أمان .. حبيبتي لا تضيقين صدرج .. بنعرفج على وحدة تسواها و تسوى طوايفها ..
دفنت وجهها بين كفيها .. لا تريد الا أن تتوقف عن الحديث فهي تمعن في غرس ذاك النصل في روحها .. قالت بصوتٍ غليظ تنهرها ..
- بس سدي السالفة .. طاريها يكرهنيه فحياتيه .. ماريد أتعرف على غيرها ..
و بحركة سريعة سحبت غطاء شعرها بخفة لتضعه على كتفيها .. و كأنما بهذه الحركة و ما ظهر وراءها تنهي الحديث ..
شهقة هدى المنبهرة كانت خير دليل على فداحة ما فعلت .. تعلم الآن أن أمها ستقتلها دون شك .. لن يطول بها الأمر قبل أن تكتشف الأمر ..!
- قصيتييييييييه ..!!!!!!
أومأت برأسها و هي تتخلل شعرها القصير الذي يصل لمنتصف رقبتها بأصابعها .. و عيني هدى تضيقان ..
- ليش ..؟؟ أحيدج ما كنتي تبين تقصينه ..!!
هزت كتفيها تقول ببرود يعاكس تلك الحرقة التي تسكن روحها ..
- غيرت رايي ..
.
.
رغم صوتها الواثق إلا أن احساسا انهار بداخلها .. شيء أرادت أن تبكي لأجله ..
شعور قاتل بانها تجاوزت حدا ما .. و لم يعد هناك وازع غيره قد يردعها ..!
* * * * *
تحركت الحافلة منطلقة بعد أن أنزلتهن عند رأس الشارع .. و نورة تتلفت حولها بسرعة و هي تقول بحماس ..
- شرايكن نربع البيت قبل لا يي ويه العنز الحين ..؟!
و كأنما علم بنيتها برزت مقدمة سيارته العتيقة من الشارع المجاور .. تسير بتهالك نحوهن و دانة تقول بحقد ..
- و الله لو راكبة صاروخ بيلحقج الحقير .. الله يغربله ان شا الله .. هذا ما وراه شغله غيرناا ..!!
قالت عفرا بقوة ..
- انطبن و طنشنه شرا كل مرة .. و نورة لا تردين عليه أبدا و لو يلس يسب حتى ..
لوحت نورة بيدها غير مكترثة و هي تقول بكراهية ..
- يخسي و الله أفره بجوتييه لو زودها .. عنلاته ..
كانت السيارة تمشي بمحاذاتهن الآن .. و صوته القذر يرتفع بشوق زائف ..
- يااا الله يا رب .. كم بعيش أنا .. كل يوم و أنا شوف أغصان البان تتمايل .. هيييه .. هيييه .. يا الله .. يسار .. يمين .. آآه يا فواديه ..
همست نورة بمقت ..
- غصن في عينك يا الكلب يعلك العمى .. يعل فوادك العلة .. يا ويه العنز ..
صرت عفرا أسنانها بخفوت ..
- جب ..
كان ألم رهيب يكتنف صدرها .. و كل أملها أن لا يطل أحد من نوافذ البيوت المجاورة ليرى هذا المنظر البمعتاد .. ما الذي قد يقال عنهن ..! كل يوم و هو يقوم بملاحقتهن و لا يردعه التجاهل ..
ليس لهن ظهر يسند اليه حملهن .. هن ،،
فتيات .. لا هم .. و لا فخر .. و لا ثمين لهن .. سوى سمعة ..
قد تلطخ بأدنى قذف يصيبهن ..
لم يجدن الشجاعة ليخبرن أباهن حين كان هنا .. الآن في غيابه تمادى هذا الحيوان .. و أصبح يدنو من افتراس حرماتهم ..
شعرت بالضعف .. باليتم ..
لا أحد قد يتصدى لهذا الحقير .. فها هو يصل لعتبات بيتهم الآن بعد أن كان يهاب اقترابه ..!
من أين لهم أن يأتوا بعزوة .. من أين ..!
.
.
يــابــــوي شــفـت الـــويـل وأنا لحـــالــي
....تـــــركـــتنــي للـــــوقــــت ولضــيــــم الأقـــــــــــــراب
مــــالي عضـــيــد(ن) في حيــاتي مــوالي
.... أنخــــــــاه لاضـــــاقــــــت مــــعــــي كـــل الأســــــباب
أخــــذ بــرايــــه لاتسـكـــــر مجــــالـــــي
...... وفيـــه اعـــــــتزي كــــــــان الــــزمـن كشـــر الــــناب
مــــالي سنـــــد غــــــيرك ولالي ولا لي
......غــــــــــيره ســــــــوى المــعـــــبـود هــــو رب الاربــاب
.
.
.
.
.
.
أخفضت صوت المسجل الذي كان يصدح في السيارة بقوة و هو يقول بضيق ..
- يا خوك ما رمت أقوله ..!
نظر له هزّاع بقوة و هو يقبض على مقود السيارة بعصبية ..
- و الله انك معثور .. ترانيه قلت لسيف انك ظاهر ويانا .. شوه بيقول يعني غيث .. قلّه انيه ساير وياك .. شدراه اننا سايرين سباق .. احمد .. لا تطولها و هي قصيرة ..
أعاد أحمد ظهره للخلف و هو يشير لمقدمة السيارة ..
- انزين طالع قدامك لا تخطف الشارع لي فيه البيت .. بعدين انا تميت ساعة واقف قدامة .. لقيته معصب و يهازب .. ما يتناغى يا رياال .. لو قلتله كان كفخني بشي .. اصبر الين العصر بسير بيت يدي و برمسه هناك ..
ثم قال بهدوء ..
- و بعدين نحن ليش حارقين أعصابنا .. يعني سباق دراجات .. و هب رسمي .. لمة شباب .. لو ما سرنا العافية ..!! أهم شي السباقات العودة لي صدق بتسابق فيها .. - ثم أشار إلى الشارع الجانبي - حول حول .. هذا الفريق ..
أدار هزاع المقود و هو يقول بعناد ..
- حتى و لو .. ياخي خلنا نظهر و نوسع صدورنا .. و لو ما طاع غيث خبرنيه .. بنقردن سيف يرمسه .. أي بيت ..
- آخر واحد الأبيض ويا البني .. الحين سيف لو درا ان غيث ما طاع بيعيد و بيقولك لا ..
صمت لبرهة و عيناه تضيقان مما يرى ..
- هاييلا البنيات هب سايرات قدا آخر بيت ..؟!
احتبست الأنفاس للحظة مع ادراكهم أن صاحب السيارة الذي يلاحق الثلاث فتيات يصل لآخر الشارع الذي لم يعد به بيت سوى بيت عمهم ..
ليضغط هزاع بقوة على دواسة البترول و تنطلق السيارة بسرعة رهيبة للأمام مع صوت أحمد الذي شتم بقوة ..
- ولد الكلب ..!!
للحظات لم يعد يرى سوى اللون الأحمر يغشى كل شيء أمام ناظره .. و مقدمة سيارته الفارهة تقترب بسرعة جنونية من مؤخرة سيارة سالم المهالكة لتصطدم بها من الخلف بصوت مروع قفزت اثره الفتيات اللواتي تجمدن دقيقة في مكانهن مصدومات قبل أن يهرعن للباب الذي كان قريبا ..فتح بابه هو و أحمد بقوة لينزلا راكضين نحو صاحب السيارة الذي كان قد نزل منها مذهولا .. في خطوتين وجد نفسه يقف أمامه يجره من تلابيبه .. و أحمد يسدد لكمة مباشرة لأنفه .. انهالا عليه ضربا و ركلا دون توقف ..
شيء كالسعير كان يحرق جوفه و رغبة عارمة في تمزيق هذا الحيوان بأسنانه ..
لم يكونا يعرفان الفتيات أو أسمائهن .. لا يعرفان عددهن .. و لم يصادفا هن قط .. و لكن يكفيهما بأنه يشار اليهن ببنات عم ..!
و قد تخطى هذا الحثالة حدوده و مس عرضهم .. تعرض لمن تربط بهم صلة قرابة دثرتها السنوات نسيانا ..
رغم هذا كاد يقتله .. كان أحمد يضربه بقوة و حقد غير طبيعيين .. و أدرك بأن الرجل قد يقتل بين يديه .. لذلك راح يشده بقوة للخلف فيما ينفلت مجددا منه ليركله و يبصق عليه .. و هو يشتم عاليا ..
حقا هذا الأمر تجاوز حدود تمالكهما للنفس ..
لم يحدث أن مشت أحد بناتهم في الشارع ليعترضها مثل هذه الحثالة ..
كان موقفا رخيصا .. أصابهم في كرامتهم ..!
.
.
.
.
.
.
- شووووه ..؟؟!
همست بتلك الكلمة بما تملك من بقايا قوة .. و رأسها يثقل ببطء ..
عفرا لا تزال ترتجف و دانة تبكي بخوف .. أما نورة هي من تمالكت نفسها لتدرك الأمر ..
- سالم ولد ييرانا ..؟؟!
ارتعش صوتها و هي تنظر لحور التي راحت تقاوم الارهاق البادي عليها و عيناها تجحظان ..
- هيه .. هوو .. بس مادري منوه راعي السيارة .. قدام البيت يا حور ..
ضغطت حور بيديها على جانبي رأسها و هي تهمس ..
- نايف ..!
التفت اليها و وجه الصغير يتميز غيظا .. همست له ..
- سير شوف شوه السالفة .. بسرعة ..!
قفز بقوة من مكانه و هو ينذرهم ..
- و الله لراويه الحقير .. و الله ما خليها له .. بفلعه بقب .. و الله ليروح دمه اليوم ..
ضغطت حور على عينيها و هي تشعر بأن فقدانها لرشدها دانٍ اليوم .. حقا هذا ما ينقصها .. ابن جيرانهم يعاكس اخواتها .. و أحد ما قام بالاصطدام به ...
.
.
.
مرت دقائق ثقيلة قبل أن يأتي يعود نايف مهرولا و في وجه المتجهم يتصارع قلق و حماس غريبين ..
- هذا أحمد ولد عمي علي و هزاع بطيخة .. دعموا سالم الكلب و ظربوه .. الشرطة يت الحين ..!
.
.
دفنت حور وجهها بين كفيها الحارين .. و هي تشعر بيدي المها التي كانت تقف جانبها تحتضن رأسها بحنان أتعسها ..!
و هي تمسح على ظهرها بهدوء ..
أي احراج .. و أي ضيقٍ و أي فظاعة قد تفوق هذا ..!
شعرت بعينيها الملتهبتين لا تتوقفان عن ادرار الدموع و هي تبلل صدر المها التي بدا لها باردا في تلك اللحظات ،، لا يمكن أن يبلغ بها اليأس قمة أخرى ..!
* * * * *
وقف بجانب ابن عمّه و هما يقفان قرب الباب و أخاه الأكبر يسترخي في المقعد المواجه لمكتب الضابط و كأنما يملك المكان .. كان هادئا للغاية .. و يتحدث بصوت منخفض حازم النبرات .. كان الضابط ينصت له باحترام و اهتمام جلي ..
للحظات فكّر بأنه ربما أخطأ في الاتصال بغيث .. فإذا كان غاضبا الآن و يلجم ثورته .. سيمزقه اربا حال اخلائه به ..
ارتعد للفكرة .. و هو يبتلع ريقه .. نظر لهزّاع بتوتر لينصدم بابتسامة أنيقة تحتل وجهه .. همس بغيظ ..
- شعندك تتضيحك يا الخبل ..!!
نظر له هزاع ببساطة ..
- كيفي عيناوي .. - ثم عاد يتأمل غيث بشيء من الغرور - و الله ان خوك هب هين شوف كيف قلب السالفة عليهم و الحين هو لي يبا يشتكي ..
- حتى لو .. ما تنفع الشكوى و نحن ضاربين الريال .. يعله العوق ان شا الله ..
وقف في تلك اللحظة غيث يصافح الضابط الذي هب هو الآخر باحترام ثم نظر لهما و غيث يوقع ورقة مدّت أمامه بسرعة ..
- تفضلوا وقعوا التعهد يا شباب .. و مرة ثانية ما نبا نشوفكم هنيه ..
ابتسم غيث للضابط مرة أخرى ..
- ما قصرت يا بو عبدالله ..
أومأ الضابط برأسه و هو يتأمل هزاع و أحمد يوقعان واحدا تلو الآخر ..
- حاضرين طال عمرك .. و نشكركم ع التعاون الطيب ..
.
.
بعد تبادل عبارات المجملة الطويلة التي بدت للاثنان كأنما تسرد في حفل عشاءو هما يقفان هناك بثيابهما الممزقة و الملطخة بالدمة ..
خرجا مع غيث الذي كان يتقدمهما بسلطة و ما ان استقلا سيارته التي كانت البديل عن سيارة هزاع التي أُخذت لكراج تصليح السيارات بدل أن تحجز ..حتى تأملهما باشمئزاز و هزاع يشيح بطرف وجهه الذي الذي خُدش .. و أحمد يضع يدا تخفي شفته المتورمة .. و صوته الغليظ يملأجو السيارة ..
- ماريد حد يدري عن لي استوا .. و لا حد حتى اعماميه .. الموضوع هذا لا ترمسون فيه حتى امبينكم .. تسمعون ..
كانا كطالبين مذنبين يتلقيان العقاب من أستاذهما و هما يجيبان ..
- ان شا الله ..
و أردف هزاع بشيء من الحذر ..
- و قوم عمي ..؟!
بدت نظرة غيث أقسى من الجليد و هي تنعكس على المرآة الخلفية و صوته العميق يقول بوعيد ..
- انا بخلص الموضوع ..
.
.
كان يغلي بشدة الآن ..
بدا أنهم بشيء من الاهمال قد فتحوا بابا لن يسد ..!
* * * * *
كانت الشمس قد غفت خلف حدود الأفق منذ ما يقارب الساعتين و سيارته الصغيرة تقطع الشوارع متوجهه لبيت خالته .. ألقى نظرة أخرى عليها ليجدها لا تزال تسند رأسها على زجاج السيارة و يديها المرتخيتين تحتضن كيس الدواء الذي أحضراه للتو من المستشفى ..
صوت أنفاسها يتردد في السيارة بثقل كالخشخشة .. و هي تزفر باستماتة ..شعر بموجة حنان هائلة تجتاحه .. لم يرها قط مريضة بهذا الشكل .. كان هذا الفيروس منتشرا في الهواء و بين الناس بشدة هذه الأيام .. و حين اتصلت به عفرا تخبره بان عليه الحضور لأخذها للمستشفى .. ظن أنها تهول الأمر فقط .. فقد رآها صباحا و لم يكن بها خطب سوى ثقل صوتها و الارهاق ..!
و لكن الآن راعه مظهرها البالي .. و قد أنهكتها الحمى .. ماذا يقال عن رشح الصيف ..؟؟ أ و ليس أحد من السيف ..!!
مد يده ليحتضن كفها الصغيرة و هو يهمس ليتأكد من أنها ليست نائمة ..
- حور ..؟
.
.
كانت قد أسدلت أهدابها .. بتعب .. بحزن .. بيأس ..
خواطر شتى أخذت تتنازعها و هي تشعر بانها ضعيفة كما لم تكن قط ..!
ممزقة للغاية .. و مستنزفة .. لا تدري بالضبط ما الذي عليها أن تفكر به ..
طريقة لجلب المال لدفع اخوتها للدراسة .. أم الحرص عليهن مما قد يواجههن خارج حدوةد البيت كما حدث اليوم .. ام عليها أن تجتهد في مراقبة أخاها الوحيد الذي تبين أن سبب استدعاء ولي أمره لم يكن سوى نتيجة عنفه اتجاه طالبٍ قام بضربه .. في مرحله يحتاج حقيقة الى ارشاد رجل فيها و ليست وقفتها هي ..!
أم يجب أن تهتم بامر أمها المريضة أم إخوتها الصغار .. أم ... أم ...
مئات الأفكار تتزاحم في ذهنها المريض حتى خيل إليها أنها تهذي بصوةتٍ عالٍ أو أنها ترى رؤى أمام عينيها الغائمتين .. رأسها يضج بأصوات لا مصادر لها و لا أساس .. و شريط صور ينزلق أمام عينيها الساخنتين ..
تضم شفتيها و هي تشعر بحرارتها .. برد شديد يحيط بها .. و صوت مايد يأتيها من مقعد السيارة المجاور و يده تحتضن كفها بقوة ..
- حور ..؟؟
قاومت هذا الضباب باستماتة و هي تجيب بصوتها المبحوح ..
- لبيه ..
- لبيتي في منى .. رقدتي ..؟!
هه .. أنى إليها أن تفغو عينيها و أقدار تنهال عليها مرّة واحدة .. أ لك أن توقف الزمن أخي للحظات ..
للحظات فقط ..
تلك استراحة محارب اتلهف اليها .. اريد أن أضع رأسي بعيدا عن كل شيء .. لأنام .. لأموت ... لأغيب فقط ..
للحظات ..
ثم بعدها فليحدث ما يحدث ..!
- لا ما رقدت ..
- انزين وصلنا ..
رفعت رأسها لتجد السيارة قد توقفت أمام البيت .. ليسألها بهدوء ..
- محتاية شي ..
كانت ابتسامتها ميتة و هي تقول بارهاق جعل عينيها الواسعتين تبدوان فجوة بلا قرار ..!
- سلامتك يا الغالي .. سلم على أمايا و عبيد و عمي سلطان ..
- يبلغ .. باكر العصر ان شا الله بخطف عليكم .. و انتي اشربي الدوا و ارتاحي .. تحملي ع عمرج ..
همست و صوته الحاني يدفعها لشفير البكاء .. تشعر بدمعتها المتخاذلة قد أقبلت .. فتتدارك أحزانها و هي تفتح الباب ..
- لا توصي .. و مشكور فديتك ..
لم يتبين ذهنها الغائب ما يقول و هي تغلق الباب بهدوء لينزل زجاج النافذة و يلوح بيده فترد التلويحة بوهن قبل أن ينطلق .. تستدير للبيت و هي تمشي بخطى متثاقلة .. تشعر بان كل خطوة ترتج لها عظامها و المخ بقوة ..
بدا الليل باردا للغاية .. و الباب الذي تدنو منه ببطء بعيدا ..
قبل أن تشهق بقوة و أنفاسها تحتشد في حنجرتها حين أطبقت قبضة حديدية من المجهول على ذراعها الغضة و هي تجرها جرا للداخل ..
لم تستوعب ما يحدث خلال تلك الثواني حتى وجدت نفسها تدفع لمجلس الرجال بقوة جعلتها تتعثرو هي تصر بيدها على كيس الدواء .. التفتت بصدمة نحو هذا الهمجي الذي قام بهذا . لتجده يقف أمامها ملامح وجهه المتصلبة بدت شيطانية للغاية و هو يلهث بفرط ما يخالجه من غضب .. كان صوته مزلزلا و هو يصيح بها بغلظة قبل أن تبدأ بالهجوم ..
- امنووووه هالحيوااااان لي كنتي ويااااه ..؟؟؟!!
انتفض جسدها الضعيف بقوة ذعرا .. بدا مجنونا في تلك اللحظة و أخافها بشدة لم ترى هذه الناحية من قبل .. فكل ما كانت تواجهه مسبقا جبل الجليد ذاك ..! ارتعش صوتها و هي تقول بخوف و تنأى بنفسها عنه ..
- مــ .. ماا .. مايد ..!
تجمد لبرهة في مكانه .. قبل أن يدنو منها .. تراجعت للخلف بسرعة .. بدا مخيفا و هو يشرف عليها بهذا الشكل .. و عاد يصرخ في وجهها مجددا ..
- و شوووه كنتي تسوين وياااه .. انتي ناسية انج ع ذمة ريال .. و الا شفتي الدنيا فالتوووه و قمتي ترتغدين يسار و يمين .. عنبوووه أبوكن ما قد له شهر متوفي و خواتج يرتغدن في الشوارع .. و انتي كل ساع و يا هالسبال .. انا بربيج يا الخايسة و بربيه ..
كان صراخه يصم أذنيها و هي تشعر بالدوار .. حتى بدأ بشتمها .. فانتفضت بغتة و هي تصيح بضعف ..
- انته تخبلت .. ؟؟!!
كان الرد فوريا و هي تشعر بأن الدماء سد مجراها في الذراع ..
- تخبلت يوم انيه ميودنج ظاهرة ويا واحد .. شوه كنتي تسوين وياااه هااا ..؟؟
ارتجفت بشدة و هي تصارع الدموع بقوة .. لم ترد أن تبكي أمامه قط رغم أن صوتها راح يتهدج بوضوح ..
- انا و خواتيه أشرف منك و من لي يابووك .. ماااايد أخوووووية ..
هزها بعنف ..
- هندي تقصين عليه .. أخوج من وين ..؟؟
راحت تقاتل بضعف .. تشعر بانها تستهلك ذرات القوة الأخيرة .. تفني نفسها ..
- خوووية بالرضاااع ..
لحظات طويلة شعرت بانها ستتهاوى خلالها قبل أن يفلت ذراعها .. بدا وجهه مجردا في تلك اللحظة و خاليا من أي تعبير .. لا زال يقف أمامها بجسده الكبير .. و هي تنظر لغطاءها الذي سقط أرضا .. و شعور بالموت يزحف في روحها .. ينهكها .. و يلتهم الاحساس في داخلها .. و هي تقول بصوتها المبحوح ..
- انته شوووه تباا .. شوووه تبووون مناااا ..
هزت رأسها بجنون و خيط التعقل قد انقطع و صوتها يرتفع باستماته إلى ما يقارب الهمس ..
- أنااا ماا اباااك .. طلقني .. فكني من شرك .. طلقني و اظهرووو من حياتنا .. ما نباا منكم شي .. ما نباا فلوووس .. و لا معووونة .. خلووونااا في حالنااا ..
.
.
كانت حدقتيها تتسعان بغرابة و هي تتلفظ بتلك الكلمات بغير ادراك بدت غير واعية لما تقول و هي تتحرك بسرعة لتدفع صدره بيدها .. لم يجد في نفسه الرغبة في الاعتذار حين وبخها على ما اعتقد بأنها تفعله .. و لكن لما بدت هكذا كالميتة .. و هي تنظر اليه بلا هدى و صوتها المبحوح المنخفض يتهدج ..
- ما نباا شي منكم .. اناا بييب فلوس و بخلي عفاري تدرس .. ما نباا صدقة .. انتووه شوه دراكم .. كل واحد لاهي بـ ..- ثم أمسكت رأسها بين يديها و هي تتوجه للباب -.. و نايف بحامي عليه .. أنا ولي أمره .. محد بيروم يأذي خوانيه .. انتووو .. مـ ..
عادت صورتها يوم وفاة والدها لذهنه .. ها هي تهذي الآن .. و لكن,,
كنت تترنح بشدة و بدا أنها على وشك السقوط .. في خطوة واحدة وصل اليها ليمسكها بقوة قبل ان تهوي على الأرض .. وضع يده خلف عنقها لتلذعه حرارة جسدها الساخن .. اتسعت عيناه بقوة ..!
قبل أن يرفعها ببساطة بين يديها ليعيدها من عند الباب إلى داخل المجلس فيمددها بهدوء على الأرض و يجثو قربها ..
وجهها الشاحب و وجنتيها الحمراوين الساخنتين ..و شفتها القرمزية .. بدت كالميتة .. رغم حرارتها .. شعرها المتدلي على جبينها بدا حالك السواد بالنسبة لشحوبها ..
و صدرها يعلو و يهبط في أنفاس متحشرجة ذات صفير غريب .. بدأ نبضه يتسارع بقلق .. أمسك كفها اليمنى لتضيع في يده الكبيرة و راح يضرب خدها بخفة و هو يناديها يقلق ..
- حور .. حور ..
اضطربت أنفاسها .. تسمعه إذا ..!
مسح على رأسها برقة و هو يسالها بعطف ..
- حور بلاج ..؟
شعر بانقباض في قلبه .. شيء كالشلل جمده و هو يرى دمعة صافية .. ساخنة .. تنزلق من جفنيها المطبقين .. و صوتها الهامس يخرج بوهنٍ يقارب الاحتضار و كأنها تسلم بأمرها ..
- انا تعبااااانة ..
سرى ألم غريب يخالطه شفقة .. و قد بدت و هي تستلقي كم استنزفت آخر قواها .. اقترب منها ليقول بشيء من الدفء ..
- انتي مريضة ..؟
لم يكد يقولها .. حتى بدأت تبكي .. كانت تبكي بخفوت و تعب شديدين لتنقل على جانبها .. أوجعه منظرها هذا .. و صوتها المتألم يأتيه من بين أنفاسها المتحشرجة ..
- هييييه .. انا مرييييييضة ..
التفت للوراء و كأنما وعى ذهنه الغائب لشيء ما فتسقط عينه على كيس الدواء الملقى أرضا .. أراد أن يلكم الجدار بكل قوته و هو يشعر باحساس ثقيل و الذنب يكتنفه .. و كل صراخه و عنفه يدور أمام عينه الآن .. لقد هاجمها بهمجية و وحشية في حين كانت خائرة القوى عاجزة حتى عن الدفاع عن نفسها ..!
رفع رأسها عن الأرض و هو يجلسها فيما ارتخت و لا زال صوت نحيبها يتردد بخفوت قرب أذنه ليمزقه باحساس قاتل .. لم يكن قط حقيرا مع من هو أضعف منه ..!
لم يضر إلى استعمال قوته أو قسوته حين بامكانه حل الأمور بغيرها ..
و لكنه الآن دهس هذه الفتاة الهشة حين جرّدت من قوّتها .. ليصدمها بعنف و يفرغ كل غضب يومه ليصب جامه عليها ..!
أسند رأسها برفق لصدره الفسيح .. و هو يتخيل ما قد تقول أمه نورة عن كل هذا .. و عبارات أخرى تمتزج ببعضها في ذهنه ..
تحدثت عن مال و دراسة لفتاة ما .. ! و عن أخاها ..!! هل كانت تواجه ضغوطا ما ..!
شعر بأن حملا ألقي على كاهله و هي تحول بضعف الابتعاد عنه .. و صوت خبيث يتردد في ذهنه ..
.
.
.
((قصديه إن لي بييلس وياهم لازم يكون محرم لها .. و محد محرم لها إلا غيث .. هب ريل بنتها ..؟؟ ))
.
.
.
رغم الحقد الذي تجلى في تلك الفكرة إلا أنها كانت صائبة .. وجودهن هنا دون رجل جعلهن عرضة للأذى ..
الآن و هو يجمع حطامها بين راحتيه .. ادرك أن لا حل لهذا الوضع سوى خطوة واضحة ..
عليه أن ينتقل للعيش هنا حتى يتمكن من نقلهم لبيت جده ..!
* * * * *
|