كاتب الموضوع :
زارا
المنتدى :
الارشيف
► الخطـــــــــــــــوة الخامســــــــــــــــــــة ◄
║خطوات تغفو ،،║
صوت محرك السيارة المزوّد كان يعلو على ضحكته المجنونة و يصيح بابن عمه الواقف بعيدا عن الباحة الخلفية الخالية ،، التي يفترض بأنها خاصة بالإسطبلات القديمة ،،
- هاااا بو سلطااااان ..
أشار هزاع بيده في حركة دائرية للأعلى متحمسا ..
- عيدهاااا .. عيدهاااا ...........
مرة الأخرى ينطلق صوت المحرك المزعج مختلطا بصرير الإطارات الفظ ،، و أحمد يدير السيارة في حركات استعراضية مجنونة ..
يضحك هزاع بنشوة و هو يصفق تارة و يطلق الصفير تارة أخرى ،، أطلقت الإطارات صريرا عاليا كالصراخ بعد توقفها أخيرا ،، ليركنها أحمد في الموقف البعيد قبل أن يترجل صافقا بابها و هو يحث الخطى نحو هزاع بحماس .. عاد هزاع يصفق له بحرارة و هو يراه مقبلا نحوه ..
- وووووووووووووووووو .. عاااااش بو شهاب .. يا ريال لو تدخل الموتر هذا السباق و الله ليحطمهم ..
وصل إليه أحمد بخطوات سريعة ليضع هزاع ذراعه على كتقه و هما يتوجهان للجانب الآخر من المزرعة الضخمة .. كان أحمد يلهث من الحماس ..
- أخخخ يا بو شهاب لو طايح عليه قبل الريس لي طاف كانيه لول الحين و كاتبين عنيه بدالك ..
قهقه هزاع بقوة و هو يشد على كتفه متبجحا ..
- أونه بدالك .. أقول ابويه خلهم يدخلونك السباق أول .. ناسي إنك احتياطي ..
لكزه أحمد بضيق في خاصرته ..
- و انا هب قاهرنيه غير الاحتياطي .. لو يخلونيه أسابق مرة بس .. بيحلفون عليّه ان محد يسابق عنهم غيري ..
- هههههههه انزين يوم بيخلونك تسابق .. يصير خير .. عاد هذاك اليوم أنا بنسحب و بعتزل .. ما روم لك ،،
رفع أحمد حاجبا و هو ينظر له شزرا ..
- تطنز هاا ..
ضحك هزاع بقوة ..
- شرايك بعد .. أكيد أطنز .. ياخي خلاص .. انته ما يأست .. انته ما عندك أي فرصة دامنيه موجود ع الساحة ..
دفعه أحمد و هو يخفي ابتسامة و ينظر لهزاع الذي نفخ صدره متظاهرا بالفخر ...
- خقيت أشوف يا هزاع .. ناسي ان أول من علمك التقحيص عمك أحمد ..
أشار لصدره بقوة .. ابتسم هزاع ..
- حشى ما نسيت انيه التلميذ لي غلب معلمه ..
هز أحمد كتفيه بخفة ..
- أقول يا خي غير اسالفة .. أشوفك تسدح الاهانات واحدة ورا الثانية ..
الابتسامة لا تفارق شفتي هزاع ..
- نغيرها .. ما خبرتك .. مصبح اتصلبيه ..
- شوماخر ..؟؟
- هيه ..
- قاص على عمره ..
- أدري .. ما نشدتنيه شوه يبابي ..
نظر له أحمد بفضول
- شوه يبا بك ..
رفع هزاع بصره لأعلى ..
- اممم .. يبانيه أودر كنجز و أحول لا تهاب و ياهم يا ريال ..
لمعت عينا أحمد ..
- في ذمتك ؟؟؟
هز رأسه بثقة ..
- هيه .. شرايك ..؟؟
نظر له أحمد بشك ..
- بتخلي كنجز ؟؟
هز هزاع كتفيه ..
- ليش لا ..؟؟
اتسعت عينا أحمد ..
- هــزاع ..!!
ابتسم هزاع مطمئنا ..
- لا تخاف .. ذليته شوي .. خلاف كنسلت السالفة ..
لكمه أحمد في كتفه و سيارة هزاع تلوح أمامهما بجانب البوابة الحديدية العملاقة ..
- و ليش ما قلت لا من البداية ..؟؟
ضحك هزاع ..
- لقيتاا فرصة ألعب بأعصابه شوي .. تعرفينيه ما أدانيه هالريال .. و تعرف إنهم بعد ما يحبونيه .. بس هالحركة منهم وراها شي ..!
فتح باب السائق ليستقل السيارة الفاخرة و يجلس أحمد بجانبه ..
- حد يدري اننا يايين هنيه ..؟؟
هز هزاع رأسه نفيا ..
- قلت لسيف إننا مواعدين شباب .. ليكون حامد يدري .. عادي يخبر غيث خوك ..!
- لا لا .. مايدري ... الحين خلنا نسير البيت العود سيده .. أبوية قال بيتعشون هناك الليلة ..
أدار هزاع المحرك و انطلق بسرعة جنونية مخلفا وراءه سحابة ضخمة من الغبار ..
.
.
و سرا .. لا يعلمان متى قد يُكشف النقاب عنه ..!!
* * * * *
كانت الشمس تميل للرقاد على حدود السماء الغربية ..
أشعتها الواهية تتسلل باستماتة لتصل إلى تلك الصالة الصغيرة ،،
يضحكن بصوتٍ عالٍ و الأولى تصفق يد الثانية بمرح .. فيما تنظر الاثنتين إليهن بحقد .. زفرت هي بضيق ..
- مالت عاليكن .. ما شي يضحك ..
و لكنهن استمررن بالضحك دون مبالاة .. عقدت الأخرى جبينها ..
- يا الله عااد .. عيدن التوزيع .. دورج فطوم ..
توقفت فاطمة عن الضحك .. و هي تنظر لنورة التي لا زالت تضحك ..
- لا هب دوري ..!! دور حور ..
لا زالت حور تنظر لهن بغيظ ..
- عفاري منوه وزع قبلج ..؟؟
أجابت عفرا بسرعة ..
- انتي ..
رفعت حور حاجبها ..
- يا الله فاطمة خانوو .. وزعي حبيبتي ..
أمسكت فاطمة بالأوراق ترتبها بسرعة و هي تبتسم لسخرية نورة ..
- متأكدات ما بتنسحبن .. عنبووووه .. غسلناكن غسال ههههه ,, طالعي ويه حور كيف غادي من القهر ..
نفخت حور مجددا ..
- جب ..
نظرت لها فاطمة بضحكة مكتومة ..
- تيكت ايزي حواري .. ليش زعلانه .. هاي هند .. ربح و خسارة ..
عقدت عفرا جبينها و هي تنظر لهن بتشكيك ..
- و الله انكن تغشن أنا متأكدة .. و الا من يلسنا و انتن تربحن ..
فاطمة توزع الأوراق بسرعة ..
- مس ناقة .. ان بعض الظن اثم .. عيب هالرمسة .. نحن لعبنا لعب شريف .. صح نوري..؟؟
لا زال الضيق من الخسارة ينفث من حور ..
- وزعي و انتي ساكته ..
ضحكت فاطمة بأريحية ..
- ههههه .. حور بلاج محترقة ..
لوحت بيدها بانزعاج ،،
- ما يخصج .. افففف .. وينها هاي دانوووه .. حشى هب نسكافيه .. ذبيحه .. - رفعت صوتها ليصل للمطبخ القريب - دااندااااان ..
أتاها الرد الفوري من المطبخ و صوت دانة يصيح بعصبية ..
- دندن فعينج .. و الله ما ييب النسكافيه ..
اتسعت عينا عفرا بارتياع ..
- حوووه حور .. شوه دندن انتي بعد .. آخر هالمذلة ما بتييب شي ..
عقدت جبينها و هي تجيب ،،
- هب ع كيفها بتييب .. - صاحت بقوة في وجه فاطمة - ايييييه انتي وياها .. شفتكن ..شفتكن .. رديها .. ردي الورقة ..
رمت نورة أوراقها مع رؤيتها لدانة تحمل صحنا صفت عليه أكواب القهوة و صحن بسكويت .. و هبت واقفة لتجلس بجانب المها التي كانت تجلس بهدوء لا تنصت لضجيجهن .. و كتاب ضخم استقر بين يديها ..
صاحت فاطمة بها ..
- بلاج شردتي .. دانة ما تبى تلعب ..!
لوحت بيدها و هي تلتقط كوبا من الصحن الذي وضع أمامها ..
- يختي ملينا .. خلاص بنات يسدنا لعب خلنا نسولف ..
رحن يلتقطن أكواب القهوة على التوالي .. و سألت فاطمة بفضول ..
- وين نايف و مزوون و هندووه .. مالهم شوف اليوم ..
أجابتها عفرا و هي تقضم قطعة بسكويت ..
- ساروا ويا أمايا أبويه موديهم قدا خالوووه ..
ضحكت فاطمة و هي تقول بمكر ..
- و أنا أقول لعب ورقة في الصالة و أصواتكن شاله البقعة ..
سألتها دانة و هي تضيّق عينيها على عنوان الكتاب الذي بين يدي أختها ..
- أقول فطوم .. من وين تييبين هالكتب ..
- من عند عمتيه .. هي مديرة مدرسة و وايد تحب تقرا .. و الكتب لي ما تباها أنا يبتها للمها عسب تقرا فيها و تتثقف اروحها ..
رفعت حور حاجبا و هي تقول بتشكيك ..
- الصراحة أنا أخاف على ختيه .. تخيلي تكون لعمتج هاي معتقدات غريبة و تقرأ فيها و انتي تفرين كتبها ع المها و تلوثين تفكيرها ..
- ههههههه .. جب زين .. معتقدات أونه .. عفاري متى حفلة التخرج ..؟؟؟
نظرت عفرا للأعلى مفكرة ..
- آمممم .. ثلاث أسابيع تقريبا ..
قالت حور بحماس ..
- يبالنا نسوي بروفا للميك أب قبل الحفلة ..
سألت فاطمة ..
- منوه لي بيعدلها ..
أجابت دانة بسرعة ..
- حور ..
نظرت لها نورة باستفسار ..
- فطوم متى بتداومين في التوطين ؟؟
- شهر 9 ان شا الله .. أنا و حور لو غيرت رايها ..
و نظرت لها بأمل .. لكن حور هزت رأسها رفضا ..
- انتي ما تيأسين ..
.
.
تجاذبهن لأطراف توافه الأمور في الحديث ..
و تلك المزاحات الخفيفة ..
و هدوء تلك الجلسة الخالية من التعقيد ..
.
.
بساطة في الذاكرة لن تزول ..!
* * * * *
يشعر بالتوتر الشديد و ذاك يسلط نظرته المتمعنة عليه .. كانا قد اتخذا زاوية في المكان يجلسان فيها .. فيما انخرط الجميع في الأحاديث متفرقين في وسع مجلس بيت الجد الكبير ،، قال بصوت هادئ يخالف ما يعتمر داخله ..
- و الله يا غيث .. أنا قلت أرمسك أول تشاورها .. قبل لا أخبر أبويه .. و يخبر أبوك ،، لو هي ما تبانيه نبند الموضوع بهدوء .. و لا تستوي امبينا حساسيات .. تعرف انه لو ابويه و عمي اتفقوا ما بيردون الشور لنا ..
توقف عن الحديث بعد أن شعر بانه أطال التبرير .. لا يزال غيث ينظر له بتلك النظرة الثاقبة .. شيء يزعزع هدوء النفس حين تكون في حضرة شخصية بقوة شخصيته ..و حدتها .. لن يعلم قط ما الذي يدور في ذهنه .. سرعان ما انفرجت عن شفتيه ابتسامة هادئة و هو يربت على كتفه بهدوء ،،
- خلاص يا سيف .. فالك طيب .. ازهل السالفة .. أنا بشاورها و برد عليك ،، روضة ما بتلقى أحسن عنك ..
كاد يتهاوى تحت تلك الراحة التي سرت في عروقه و هو يرى الرضا يشع في عينيه .. كان يجد الأمر صعبا عليه حقيقةً ،، فهو رغم ثقته الكبيرة بنفسه .. و طبعه الهادئ الذي يجعله دائما مسيطرا على نفسه .. إلا أن التوتر يتملكه كلما فكّر بهذا الموضوع الذي أخذ يؤرقه ..
ماذا لو أنها أجابت بالرفض ..؟؟ تنهد بقوة نافثا تلك الأفكار مع أنفاسه .. ليس له سوى الصبر ،،
سيأتي أخاها قريبا باليقين ..
.
.
بدا الشرود على وجهه ..و هو يتخلخل لحيته الوقور بأصابعه .. ابتسم هو في نفسه.. مر وقت طويل لم يرى سيف بهذا التوتر .. رغم أنه يصغره بستة سنوات .. إلا أنه كان الأقرب لغيث من أبناء عمّه .. دفء غريب يشع في عروقه كلما وجد نفسه جالسا معه .. شيء من السكينة يغرق روحه و هو يستمع لصوته الهادئ الرتيب الذي لا يحمل إلا الصدق ،، كان سعيدا باختياره لروضه .. لن تجد روضة أفضل منه ..
تمنى بصدق و هو يرى جبين سيف ينعقد بتفكير .. أن توافق روضة بهدوء ..
.
.
لأنها إن لم تفعل سيجبرها على ذلك ..!
* * * * *
حين انبلج ضوء ذاك الفجر الجديد ..
بدا كعادته .. مشعا .. مفعما بالأمل ..
و لكنه كان يحمل في طياته شيئا مختلفا أيضا ..!
.
.
.
.
.
صفقت باب السيارة بمجرد أن استقلتها .. لتلتفت إلى جوارها و هي تقول بكسل ..
- هاي ..
لم ترفع روضة رأسها عن الأوراق التي بيدها ..
- أهلين ..
انطلق السائق فورا نحو الجامعة و روضة تأمره بصوتها الناعم ..
- حطونيه في الجامعة أول ..
سألتها أختها بصوتها الخشن ..
- ع شوه مستعيلة ..
تقلب روضة الأوراق ..
- عنديه امتحان .. أبا أوصل بدري ..
لكزت شيخة الخادمة التي استقرت في المقعد الأول بيدها ..
- صحيبه .. هاتي كلينكس ..
تناولها الخادمة علبة المحارم .. و هي تسأل بسخرية ..
- وينها بنت عمج مالها شوف هالايام .. أحيدها ما تفارق بيتنا وبيت يدي ..
رفعت روضة بصرها بعتب ..
- وداها عمي عند خالتااا ..
- أحسن ..
هزت روضة رأسها بعدم رضا ..
- مادري بلاج عليها .. و هب حلوة حركاتج يوم تيلسين تتحرشين ابها ..هاي أكبر عنا ..
شخرت شيخة باستهزاء ..
- هيه بس عقل ما شي ..و الا عايبتنج حركاتاا يوم تلاحق غيث ..
رفعت حور حور حاجبها ..
- شوه بتحامين عن غيث ..؟؟
لوحت أختها بيدها و هي تلوي فمها ..
- هه .. ما يحتاي .. يعرف كيف يتصرف ويا هالأشكال ..
نظرت لها روضة بحزم ..
- خلاص عيل لا تدخلين ..
نفخت شيخة بقهر .. لا تريد أن تتشاجر مع روضة في بداية هذا اليوم .. لذلك قالت بضيق ..
- الحق ما تبين تسمعينه ..! عوشوه ما قامت تحشم حد .. عنبوه تتلصق في الريال عيني عينك ..
صفقت روضة بيدها على الأوراق ..
- شيخاني .. سدي السالفة بليز .. هب فاضية عسب أناقشج .. هي حرة تسوي لي تباه أبوها و موجود .. شوه تبين تربينها انتي ..؟؟ طبيها .. تأكليناا لحمها ع الصبح ..
لوحت شيخة بيدها بحركة لا مبالاة عصبية .. و هي تنظر عبر النافذة للخارج ..
الحقيقة أنها لا تدرك سبب مقتها الشديد لقريبتها هذه ..! أ لأنها دوما تسخر منها ..؟
من لباسها و طريقة حديثها .. و تصرفاتها .. لا تحب أن تسخر منها رغم أنها لا تبالي بها ..
ففراغ رأس تلك الدمية الملونة .. لن ينم عنه سوى تفاهات تُعرف بها ..
.
.
ارتفع صوت هاتف روضة المتحرك يشق سكون السيارة .. التفتت لها بتلقائية لتراها تنظر لشاشته بجبين معقود .. رفعت عينها لشيخة و هي تهمس ..
- غيث .....!!
* * * * *
لم يكن يفصل بينهن و بين فرصة الغداء إلا بضع دقائق .. شعرت بها تلكزها في خاصرتها بالقلم .. فهمست بجبين معقود ..
- آآآآي .. عورتينيه يا الدفشة ..!!
أشارت صديقتها للأمام .. لتنظر هي أيضا فتقع عينها بعين المعلمة التي نظرت لها بعتب .. و هي ترفع صوتها ..
- نورة .. انتبهي ويانا ..
شعرت بوجهها يحمر .. هذه هي المرة الرابعة تقريبا التي تجدها المعلمة شاردة الذهن في هذه الحصة ،، المشكلة أنها تجد هذه المادة مملة جدا .. التقطت قلما تتظاهر بتتبع الدرس معهم على الكتاب .. رفعت عينها لتجد منى تكتم ضحكتها و هي تهمس ..
- هاا .. ارتفعت و الا نزلت ؟؟
عقدت جبينها بعدم فهم ..
- شوه هي ..؟؟
انفرجت شفتيها عن ابتسامة و هي تخفض رأسها كي لا تراها المعلمة و هي تتحدث ..
- أسهم شركاتج لي تفكرين بها ..
ابتسمت نورة بهدوء ما عندج سالفة .. انتـ ...
بترت عبارتها مع وقوع ورقة صفراء صغيرة على طاولتها .. التقطتها بسرعة و هي ترى أحد صديقاتها في الطرف الأقصى تشير بيدها ..
فتحتها لتلتهم الكلمات بسرعة قبل أن تهمس ..
- شما تقول تسأل لو بنحضر التخرج .. عسب تييب لنا بطايق الدخول ..
نظرت منى للأعلى مفكرة و هي تسأل بخفوت ..
- انتي بتحضرين ..؟؟
صمتت نورة لبرهة و هي تفكر ساخرة بأنها لن تجد شيئا لائقا لترتديه رغم أنه حفل تخرج شقيقتها أيضا .. لكنها فضلت قضاء ذاك اليوم في النوم .. قالت بحزم ..
- لا ما بحضر ..
بدا الإحباط فورا على وجه صديقتها و هي تقول ..
- مالت عليج عيل أنا بعد ما بحضر ..
ابتسمت نورة و عينها لا تفارق خطوات المعلمة تخشى أن تراها و هي تتحدث .. راحت تخط الرد بالنفي في نفس الورقة الصفراء لتعطيها الفتاة التي أمامها .. ليتناقلن الورقة .. ألقت نظرة على ساعة الحائط .. لازالت تفصلهم دقائق عن انتهاء الحصة ،، تنهدت و هي تسند فكّها بضجر .. تدريجيا بدأت تغرق مجددا في التفكير ،، ابتعدت كثيرا عن هذه البقعة من الأرض قبل أن تشعر بمنى تلكزها مجددا .. انتفضت و نظرت بارتياع للمعلمة .. هل انتبهت لشرودها مجددا .. و لكنها كانت تدير لها ظهرها و هي تكتب على السبورة .. نظرت لمنى بغيظ ..
- هاااا ..؟؟؟؟!
كانت منى تكتم ضحكة و هي تهمش مشيرة للباب ..
- شوفي الاستهبال بس ..
نظرت للباب .. لترى عبر نافذته فتاة قامت بوضع قناع مطاطي لوجه بشع .. بدا شكلها مضحكا و هي تلصق وجهها بزجاج نافذة الباب ..و تبعده مرة أخرى .. لحظات و نورة مبتسمة لهذا المنظر و الفتاة مستمرة في حركاتها ثم فجأة اصطدم وجهها بالزجاج .. إذ يبدو أن أحدا ما قام بدفعه إلى الأمام على غفلة .. انفجرت نورة و منى و بضع فتيات أخريات كن يراقبن الأمر بابتسامة .. لتلتفت المعلمة مع هروب فتاة القناع .. و هي تقول بضيق ..
- خير .. يالسة أنكت أنا ..؟؟
التزمن الفتيات الصمت باستثناء نورة التي لم تستوعب سوى منظر الفتاة و رأسها يدفع ليلتصق بالنافذة .. كانت تضحك بأريحية غير منتبه لوجود المدرسة التي ركزت الملعمة نظرها عليها ..
- هههههههههههههههههههههههههههههههه ..
قرصتها منى بخوف ..
- نورووه .. بس المعلمة تطالعج ..
رفعت نورة عينها بسرعة و هي تخنق الضحكة باستماتة .. كانت المعلمة تقترب من مقعدها و هي تعقد ذراعيها و نظرة صارمة تعلو وجهها الحاد ..
- هاا نورة .. ضحكينا وياج ..؟؟؟
التفتن الطالبات إلى نورة التي وقفت في مكانها ينتظرن الإجابة .. شعرت نورة بإحراج شديد و هي تكذب قائلة ..
- ما شي معلمة .. بس تذكرت سالفة و ضحكتنيه ..
كان صوت المعلمة قاسيا ..
- لا و الله .. و هالسالفة ما تذكرتيها الا فحصتيه ..؟؟ ما تعرفين ان الضحك من دون سبب .. قلة أدب ..
قالت نورة بلهجة مرتدة قوية ..
- أنا هب قليلة أدب ..
وضعت المعلمة يدها على الطاولة و هي تقرب وجهها من نورة بلهجة قاسية ..
- عيل لا تضحكين من دون سبب .. و انتبهي .. الغدا لاحقة عليه و ع التفكير فيه ..
وجدت نورة تعليقها سخيفا مع بضع ضحكات انطلقت في أرجاء الفصل .. أشاحت بوجهها و هي ترفع أنفها بشموخ .. عادت المعلمة لمكانها و نورة تجلس مجددا .. لم تكد المعلمة تبدأ بمواصلة درسها الممل حتى ارتفع الجرس خارج الممر معلنا انتهاء الحصة .. ابتسمت نورة ابتسامة كبيرة و كأنما أفرج عنها .. راحت المعلمة تجمع أغراضها و هي تنظر لارتياح نورة شزرا ..
- الشيخة نورة المرة الياية لو بتسترجعين ذكرياتج استرجعيها برا .. ما فيه داعي تضيعين على غيرج الحصة ..
التزمت نورة الصمت و هي تنظر لها بغل ،، قالت بحقد لمنى و هي تراقب المعلمة تخرج من الصف ..
- عنبوه ما ترزا هالضحكة ..
ضحكت منى و هي تدس كتبها في درج الطاولة ..
- لا انتي ما تسمعين ضحكتج كيف لنج متعودة .. ضحكتج بروحها نكته .. ما تشوفين البنات يضحكن كل ما ضحكتي حتى لو ما يعرفن السالفة ...
هبت نورة واقفة و خرجت من الفصل ترافقها منى .. ما أن وصلت عند الحمامات الواقعة في أقصى الممر .. و دخلتها حتى ظهر فجأة ذاك الوجه المريع .. لتجفل خائفة .. رأته منذ لحظات و لكنه بدا مروعا عن قرب .. ضحكت منى على منظرها و هي مذعورة .. و أزالت الفتاة القناع ليطالعها ذاك الوجه من خلف فتشهق بغيظ و هي تضربها على كتفها ..
- داااااااااااانوه يا السبالة روعتينيه ..
فركت دانة كتفها ..
- آآه .. يا الدفشة .. مايكل تايسون هب نورة .. ايدج ثقيلة ..
سألتها منى بلهفة ..
- انتي لي كنتي توايقين من دريشة الباب ؟؟
ضحكت دانة بقوة و شاركنها صديقاتها اللواتي كان يمتلئ بهن المكان .. و انشغلن في الإصلاح من هندامهن ..
- هههههههههههههههههه .. عيبتكن الحركة .. ما دريت وين نورة يالسة عقب ما غيرت مكانها بس شفتج ..
- ههههههههههه منوه لي ظرب راسج فالدريشة ..
نظرت لإحدى صديقاتها بحقد ..
- هاي شمشون ..
قالت نورة بضيق ..
- انتي كيف ظهرتي و الحصة الرابعة ؟؟
هزت دانة كتفيها و هي تنظر لنوف التي انشغلت بتمشيط غرتها بتركيز ..
- عدناا فراغ .. صع نوف ..؟؟
قدمت نوف وجهها حتى كاد يصطدم بالمرآة و هي تهز رأسها موافقة .. تابعت منى استفسارها ..
- و من وين يبتن القناع ..
وضعت دان قطعة لبان في فمها و هي تمد قطع أخرى لأختها و صديقتها ..
- هاي سارونة صارقتنه من النادي الترفيهي ..
اتسعت عينا نورة و هي تشهق ..
- يا قواة عينها ..!!!!
قالت احدى صديقات دانة التي لا تعرف نورة لها اسما ..
- عادي أصلا محد يشرف عليه هالنادي ..
لوحت دانة بيدها و هي تلقي نظرة على المرآة تعدل فيها من وضع ..
- صدق .. عادي .. بس تدرن انتن أحسن عن عفاري سيده انتبهتن .. عفرا تميت ساعة عند الباب و الصق ويهي كل بنات الصف و المعلمة و الصف لي عدالهم انتبه و هاييك مبهتة في الصبورة و تنسخ .. !!
* * * * *
الشمس تتصدر قلب السماء .. تنفث أشعتها لهبا .. حارقة ..
تتوقف سيارته العتيقة بأنين معذَّب أمام باب البيت الصغير .. يفتح سيارته ببطء شديد ..
يتساند بيده و هو يضع مفتاحها في جيبه مصدرا عند حركته المرهقة صوت اصطدامه بهاتفه القديم ..
بدأ يدفع خطاه نحو الباب .. حرارة كتلة النار التي أبدع الخالق بها نورا .. تكوي مؤخرة عنقه الأسمر ..
يقطع المسافة القصيرة بين الرصيف و باب بيته القريب بجهد بالغ .. و هو يحرك - غترته - إلى الخلف قليلا ..
يشعر بثيابه .. بأنفاسه .. بخطاه .. ثقيله ،،
ثقيله للغاية .. قطرة من العرق تسيل على جبينه لتستقر بجرأة على جفنه المجعد .. ليمسحها بتعب ..
.
.
ما بالها هذه المسافة لا تتقلص ..
شعر بأنه متعب ..
متعب جدا ،، أحنى رأسه ليعبر الباب القصير .. مدخل المجلس الصغيرة أمامه ..جلس على درجتيه الصغيرتين يسند ظهره للجدار المجاور ..
شعر بجسده ضعيفا للغاية .. لا يملك القوة ليواصل طريقه للداخل ..
سيرتاح لثوانٍ هنا ،، ثم سيتابع طريقه ..
أسند جسده للأرضية الإسمنتية الساخنة .. تلذعه حرارتها ..
لكنه لم يبالي .. فها هي الشمس أكثر قسوة .. تلسع وجهه و جسده بحرارة أشعتها التي تسلطها عليه ..
فيما يجلس هنا مستسلما ..
الحرارة تخنقه .. و جسده المضني لم يعد فيه من القوة ما يملك ليتزعزع من مكانه ..
تتسرب الأنفاس منه الآن .. و هو يسدل جفنيه بتعب ..
لم يعد يقوى الاستمرار تحت لهيب هذه الأرض .. أَ يمكنه أن يغفو للحظات عند هذه العتبة ..؟!
سينشد الراحة للحظات قليلة فقط ..
يريد السلام الذي يسكن خلف تلك الظلمات .. سيصلها بهذه الغفوة ..
الشمس لا زالت تطلق سهامها نارا عليه .. و جفاف في حلقه يؤرقه ..
هو ظامئ ،، جسدا .. و روحا ..
قواه تخور ببطء .. و عمامته أصبحت تنزلق ..
تنزلق ..!
و وجه قديم ينبثق من العدم في هذا السواد ..
هذه التجاعيد .. و هذه العينين .. و هذا الحنان البعيد .. هذا العبق الذي ملأ الجو الساخن ..
راحتيها يريد أن ينحني ليقبلها .. يريد أن يمسك بها .. يستنشقها .. و يتنفس رائحتها مجددا للحظة أبدية ..
و لكن الصورة كانت تختفي .. تتبدد في تلك الظلمة المريحة ..
.
.
أنفاس ..
و لم تعد شمس الصيف الحارقة تؤذيه الآن ..!
* * * * *
وضع في فمه لقمة ضخمة و هو يشير بيده المتسخة إلى زجاجة الماء .. ابتسم هو بهدوء و هو يفتحها له و يدنيها منه .. ابتلع اللقمة ليعقبها بجرعة مياه كبيرة و يتنهد بشبع ..
- الحمدالله ..
لا زال هو يبتسم بهدوء ..
- يعل فوقه العافية ..
ربت الأول برضا على بطنه و هو يقول ..
- يا خي ما شا الله على أمك طبخاا فنان .. بو هناد يوزنيه وحدة من خواتك أبا أناسبكم ..
ضحك سيف من قلبه ..
- هههههههههه أفاا يا عبدالعزيز .. تناسبنيه عسب طباخ أميه .. الحمد الله ان ما عنديه خوات ..
ارتسمت على وجه عبدالعزيز ابتسامة طفوليه ..
- و الله يا سيف ان قربكم ينشرى بفلوس .. بس طباخ أمك بعد ما فيه حيله .. بس تدري شوه ..؟؟
بدا الإحباط عليه و هو يهوي براحة يده على بطنه الكبير الذي شد بفعل حزام لباسه الرسمي للشرطة ..
- دوم تخرب عليه الريجيم بهالعزايم ..
ضحك سيف هو الآخر و هو ينهض من مكانه ..
- أي ريجيم يا خي .. انتي تمشي عليه خمس دقايق و باقي الوقت ع كيفك ..
عقد عبدالعزيز جبينه ..
- ياخي لا تحبطنيه أول شي يخرب وصفات الريجيم هي الرمسة المثبطة للعزيمة .. و رمستك مع احترامي الشديد تبط أبوو العزيمة ..
- خلها تثبط العزيمة عسب لا تاكل شي فيها ..
- هه بايخة .. أنا بسير أغسل ايديه عسب نكمل الدورية ..
هز سيف رأسه و هو يخرج هاتفه و يتصل بأمه ليبلغها بان ترسل أحدا لأخذ الطعام ..
و جلس عن المدخل يرتدي حذائه .. استرعى انتباهه دخول أخوه الأصغر حاملا كتبه بيده .. سلم بإرهاق حال دخوله ..
- السلام عليكم و رحمة الله ..
عقد سيف جبينه ..
- و عليكم السلام و رحمة الله .. مرحبا حارب .. عنبوه الساعة ثلاث و نص ..
سلّم حارب باحترام و هو يتنهد ..
- شوه بتقول يا سيف .. الحين يدبلونهن الساعات علينا دراسة و امتحانات .. المدارس الخاصة تبا ترفع مستواها عسب تصديق الوزارة ..
ابتسم له سيف مشجعا و هو يشد على كتفه ..
- ما عليه شد حيلك .. هاي ثنوية عامة .. انته قدها ..
تأمل حارب لباسه الرسمي الخاص بالشرطة و بادله الابتسامة ..
- ادعليه بس .. شوه عندك دورية ..
قبل أن يرد سيف أقبل عبدالعزيز من خلفه ..
- السلام عليكم و رحمة الله ..
ابتسم حارب باحترام و هو يسلم ..
- و عليكم السلام و رحمة الله .. يا الله حييه بو سعود ..
- يحييك .. شحالك يا حارب ..
- بخير و سهالة .. شحالك انته .. ربك بخير ..
- يسرك الحال .. الحمد الله .. علوم دراستك ..
- طيبة .. هاا ظاهرين ..؟؟
نظر عبدالعزيز لسيف الذي هز رأسه موافقا ..
- هيه باقي لنا 3 ساعات ع الدورية .. يا الله حدر انته .. نحن سايرين .. و لا ترقد ما بقى شي ع صلاة العصر ..
قال حارب بإحباط ..
- الحين صيف يا سيف ..
ضحك عبد العزيز ..
- حلو السجع.. صيف و سيف ..
قال سيف بحزم رقيق ..
- ماشي باقي ع الصلاة غير نص ساعة .. تغدى و افتح لك كتاب .. لو رقدت بتطوفك صلاة العصر ..
بدا الخنوع المحبط على وجه حارب و ابتسم عبدالعزيز ابتسامة كبيرة و هو يتوجه خارجا حيث أوقفا سيارة الدورية ،،
* * * * *
- ما كأنه ابويه تأخر ..؟!
قالتها مزنة و هي تنتزع قطعة المصاص الملوِّنة من فمها الأزرق بفعلها .. انكمش أنف هند باشمئزاز .. و بدا على وجه حور تعبير مشابه ..
- عادي هب أول مرة يتأخر .. و بعدين سيري فري هالخياس لي يالسة تاكلينه و اغسلي ثمج قبل لا يي و يشوفج و يغسل شراعج ..
هزت مزنة رأسهة رفضا و راحت تقضم الحلوى كي لا ترميها .. اتسعت عينا المها و هي تراها تخرجها من فمها و قد التهمت أجزاءٍ منها .. فيما قالت هند و هي ترفع حاجبها..
- خيبة .. هب ظروس عليها .. هاون .. طالعي كيف كلت الحلاوة ..
تجاهلتهن حور حين ارتفع صوت الأذان مناديا لصلاة العصر لتنظر لنايف الذي جلس في زاوية الصالة يستذكر دروسه قبل أن يأتي أباه ..
- نايف حبيبي .. صلاة ..
هز رأسه بطاعة و عيناه لا تفارقان الكتاب الذي يخط بقلمه فيه ..
- ان شا الله ..
أشارت للمها ترفع يدها بقرب أذنها في حركة تكبير .. لتهب المها من مكانها لتصلي .. توجهت لغرفتهن .. لتفتح الباب فيقع ناظرها على عفرا التي توسطت ضيق الحجرة بين كتبها و نورة التي كانت تنبش شيئا في خزانة ملابسها .. فيما استلقت دانة على فراشها و هي تضحك حين قالت عفرا بحيرة ..
- غريبة ..! ما شفتكن ..
دانة تقهقه بقوة ..
- انتي لو شفتي ويهج بس بتموتين من الضحك .. عيونج بتاكل الصبورة ما تقولين غير الكلمات لي عليها بتشرد .. هههههههه .. صدق ويه علمي ..
قاطعتها حور بهدوء ..
- صلاة ما سمتعن أذان العصر ..؟؟
تقلبت دانة على الفراش و عفرا تضع كتبها جانبا ..
- ان شا الله ..
أغلقت حور الباب متوجهه نحو غرفة أمها حين استوقفها صراخ نايف و هو يركض داخلا للصالة ..
- حوووووووور ..
اجفلت بقوة و هي تلتفت إليه فزعة ..
- بسم الله .. شفيك ..؟؟
كان يلهث بقوة عند الباب حين ظهرت عفرا من باب الغرفة المجاورة تطالع أمر الصراخ .. بدا الكرب على وجه نايف و هو يقول بخوف ..
- أبويه راقد عند باب الميلس .. و أوعيه للصلاة ما طاع ينش ..!!!
اتعست عينا حور بصدمة ..
- عند باب الميلس ..؟؟!
هز نايف رأسه حين ركضت حور و راح يركض ورائها نحو المجلس .. عفرا تتبعها بسرعة .. و صياح دانة المتسائل يتردد في الجو بلا مجيب ..
- بلااااااااااكم ..؟؟
وصلت حور بسرعة و شهقت فور رؤيتها جسد أبيها الراقد على الأرض بحركة غير مريحة و قد ألقى رأسه على إحدى عتبات مد خل المجلس .. هرع له بسرعة و ركعت بجانب رأسه .. جسده الطويل كان مائلا بطريقة أثارت ذعرها .. أطلقت عفرا صيحة فور رؤيتها له و اقتربت هي الأخرى لتجلس بجانب حور .. نايف كان يقف بعيدا عنهن و الخوف يلجمه.. ابتلعت حور ريقها بتوتر .. و هي تهز كتفه تنبهه بهدوء ..
- أبويه .. أبويه .. أبويه أذن العصر .. أبويه ..؟؟!!
كانت الكلمات ترتد عن هدوء صلب يغشى ملامح والدها .. تشد على كتفه بقوة أكبر ..
- أبويه ... أبويه ..!!
و تواصل النداء بلا كلل .. و لكن أباها لا يجيب .. لحظات و الرعب يضطرم في صدرها .. عفرا بدأت تبكي بصوت منخفض .. و نايف يترجم مخاوفهن بصوت مذعور ..
- عور شفيه أبويه ما يتحرك ..
التفتت له حور بخوف عصيب ..
- مادري .. انته حصلته كذيه .؟..!!
هز رأسه دون أن يتكلم .. و عيناه ابتدأتا بذرف الدموع .. هزت حور رأسها و صوتها يرتجف ..
- لازم نوديه المستشفى ..
صوت عفرا البايك يوتر احساسها ..
- منوه بيوديه ..؟؟
دست يدها في جيب أبيها تخرج هاتفه القديم .. راحت تضرب الرقم الذي تحفظه عن ظهر قلب .. لحظات فقط و يتدفق صوته الرجولي عبر خطوط الاتصال ..
- ألوووو .. مرحباا ..
كان صوتها غير ثابت و هي تهتف بذعر .. شعرت بأن دموعها تهدد بالهطول ..
- مااااااايد .. أنا حووور ..
- بلاج حووور ..؟؟؟ رب ما شر ..؟؟
بكت الآن و هي تقول ..
- مايد تعال البيت بنودي أبويه المستشفى .. ابويه ما يتحرك ما طاع ينش ..
لحظات صمت قبل أن يقول بصوتٍ هادئ ..
- لا تروعين .. الحين ياي أنا و عبيد ..
و أنهى المكالمة بسرعة .. لم تفارق عينها وجه أبيها .. و هي تعيد الهاتف لجيبه بهدوء .. ابتلعت ريقها و هي تكافح لمنع نفسها من التداعي الآن .. نظرت لعفرا و هي تأمرها ..
- سيري هاتي عباتيه و غشوتيه بسرعاااه ..
قفزت عفرا من مكانها و ركضت مجددا للداخل ..
تنظر هي لوجه أبيها المغضن .. و الأخاديد التي خطت على وجهه الكالح .. سحنته الحبيبة و هو يعقد جبينه و كأنما تضايق من رقاده بهذا الشكل ..
التقتت لنايف الذي التصق بالجدار و عيناه المرعوبتين لا تفارق وجه أبيهم .. لحظات و اندفعت عفرا تتبعها دانة و نورة و المها .. ناولت عفرا حور العباءة و ما تحمل .. وضعت نورة يدها على فمها ..
- بلاه أبويه ..؟؟
راحت حور ترتدي عباءتها بسرعة ..
- لقيناه طايح .. بنوديه المستشفى ..
عادت المها أدراجها راكضة .. لتظهر بعد دقيقة و وهي تمسك بعباءتها الأخرى .. عيناها الحازمتين أنبأت حور بأنه لا داعٍ لمنعها .. تنهدت حور و هي تعيد النظر لوجه أبيها .. دانة و عفرا يبكين بصوت مسموع خوفا مما قد يحدث لأبيهن .. المها تامع مخاوفها في أفق عينيها الواسعتين و هي تعض شفتها السفلى بقلق شديد .. نورة تجلس بجانب حور و عيناها تمتلآن بالدموع .. و هي تهمس ..
- حور هو يتنفس ..؟؟؟
همست حور و هي تشيح بوجهها .. لا تريد أن تبكي .. خائفة .. خائفة ..
- ما أدري ..!
سمعوا صوت بوق سيارة عند الباب و ركضت عفرا التي كانت بلا غطاء للداخل .. فيما غطت المها باشارة من أخواتها و و دانة و نورة وجوههن ..
خرج نايف لاستقبالهم .. و في ثوانٍ فقط كان عبيد و مايد .. قد دخلا .. لم يلتفتا لأي أحد منهم حتى حور التي كانت قد قضت ما يقارب الشهر دون أن ترا عبيد .. بسرعة إقترب مايد منه و حور تهتف بذعر ..
- ما يتحرك .. و ما يرد علينا .. بسرعة يا مايد .. خلنا نلحق عليه ..
راحت ترتدي عباءتها في حين قام مايد يساعده عبيد في نقل بو نايف للمقعد الخلفي لسيارتهم .. لحقت بهم حور و المها .. و تقدم نايف أيضا .. و لكن حور أمسكته من كتفه و هي تقول بصوت مرتجف ..
- خلك في البيت محد بيتم هنيه .. نحن بنرد بسرعة لا تخاف ..
لم يرد نايف فقط هز رأسه بطاعة و هو يكبح لمعة الدموع في عينيه .. نظرت حور لدانة و نورة و هي تقول آمرة ..
- لا تقولن لأمايا أي شي و لا تروعنها .. خلونا نتصل لابكن كان بيرخصونه و الا شوه السالفة ..
و ركبت السيارة في المكان الصيق الذي حشر فيه جسد والدها مغلقة الباب خلفها لينطلق مايد بسرعة نحو المستشفى .. وضعت قدمي أبيها في حجرها .. فيما كان رأسه يغفو على صدر المها التي كانت تتشبث به بقوة .. لم تعرف ما الذي كان يخالجها في تلك اللحظات .. خوف .. قلق .. و شيء من عدم التصديق .. تشعر بان كل ما يحدث غير حقيقي ..! لا تدري سببا لهذا الشعور ..!
دموعٌ حمقاء تدفقت فجأة من عينيها و هي تناظر وجه أبيها الراقد بلا حراك .. إلهي .. إلهي ..!
ما خطبه ..!
لما هو مسجى هكذا بلا حراك ..؟؟
كان صوت عبيد و هو يتصل بالطوارئ ليستعدوا لإستقبالهم .. ينتشلها مما هي تغرق فيه .. من مشاعر متخبطة .. قلبها يخفق بجنون و هي تنظر للمها التي أخفت وجهها خلف الغطاء ..
ما الذي يخالجها يا ترى ..؟؟!
- اتصلت بابويه ؟؟
رد عبيد و هو يلتفت إلى الوراء نحوهن ..
- يقول بيلاقينا في الطواري .. حور ؟؟
رفعت حور وجهها نحوه و هي تحاول ابتلاع دموعها .. لم تشا أن تكون بهذا الضعف .. و لكن ،،
قال بحنان كبير و يمد يده الطويلة و يقرص خدها ..
- لا تخافين .. ان شا الله ما فيه إلا العافية ..
ارتجفت دمعة أخرى تتبع الشابقات و هي تهز رأسها غير واثقة ،،
لا تعلم لما تشعر بهذا الخوف الشديد .. شعور بدنو نهاية ما يرعبها ..!
.
.
.
كانوا ثكلة من الممرضين و الأطباء عند باب الطوارئ في انتظارهم اضافة لأبو مايد الذي بدا أنه سبقهم إلى هنا ..في الحال وضع بو نايف على سرير نقال ليختفى به في إحدى غرف الفحص .. مرت ما يقارب الربع ساعة و هم يجلسون هناك بتوتر .. بو مايد يقف قرب باب مدخل قسم غرف الفحص الخاصة بالاسعاف المستعجل .. و عبيد يقطع الممر على قدميه ذهابا و إيابا .. مايد جلس مسترخيا بجاور حور التي كانت تعتصر قبضتيها بخوف .. تسمع المها تتمتم بشيء ما خمنت أنها أدعية .. كان الجو ثقيلا على النفس .. لا تريد أن تجلس هنا في انتظار ان يخرج أحدهم ليخبرهم ما يحدث خلف هذه الأبواب المغلقة .. يفترض بهم أن يكونوا في الداخل .. بجوار ابيها ..
راحت تناجي ربها في صمت أن يكون الأمر غير ذي بال .. و أن يكون والدها بخير .. في غمرة ازدحام حواسها و أفكارها طرأ على بالها أمرٌ ما .. همست لمايد بصوت مرتجف ..
- مااايد ..
التفت لها بسرعة ..
- لبيه ..
ابتلعت ريقها ..
- لبيت في منى .. أبا أصلي العصر ..
هز رأسه موافقا ..
- ان شا الله .. شوفي المها بتسير وياج ..؟؟
رفضت المها التحرك بعد أن قضت صلاتها في البيت قبل الجميع .. و فضلت الجلوس هنا في انتظار خبر عن أبيها ..اختفت حور و مايد الذي راح يدلها على مكان مصلى النساء .. و ثوانٍ قبل أن يظهر مجددا ليجلس بعيدا عنها بخطوات ..
.
.
أفكار مجنونة كانت تقلبها في ذهنها و هي تجلس في مكانها بهدوء .. تدعوا ربها بقوة ..
خيالات فظيعة راودتها و هي تستعيد صورة أبيها و هو مسجى على الأرض بلا حراك ..
وجهه المتعب الذي أشقته أيام العمر المضنية و هي تحتضنه باستمامته .. أرادت أن تبث وجهه الجامد شيئا من الحياة ،، رمق من أدنى أثر لشعوره بمن حوله ..
كان الرعب القاتل يسري في عروقها مع طول انتظارهم .. و تأخر أحدٍ ما في المجيء ..
أغمضت عينيها للحظات تنفي كل فكرة سوداء قد تغرقها .. و تسحبها بيأس إلى الأسفل ..
فتحت عينيها و أدارت وجهها نحو الباب .. خفق قلبها بقوة حين رأت رجلا يرتدي معطفه الطبي كان يقف مع عمها بو مايد يبتعد عنهم نحو ذاك الباب مجددا .. و أبو مايد يضم طرف - غترته - لعينيه ..
كان على ما يبدو أنه يكلم ابنه الأكبر الذي كان يهز رأسه المنخفض بطاعة .. و عبيد يجلس على كرسي قرب الباب و قد أراح رأسه بين كفيه ..
كان المشهد بليغا للغاية .. هناك سوء ما قد أصاب والدها .. متأكدة من ذلك .. هبت على قدميها المرتعشتين .. و عبرة خائفة تقف على أعتاب مقلتها .. تأبى النزول من عليائها .. و كأنما يعني سقوطها .. أوان النهاية ..
تقترب من عبيد الذي بدا أقربهم في تلك اللحظات .. تجر قدميها جرا نحوه ..
لما بدت لها خطواتها تقودها نحو الحتف القريب ..؟!
لماذا راودتها رغبة مخيفة في العودة لمكانها .. و التشبث بذلك المقعد ..
هل عليها أن تهرع لما تحمله تلك الوجوه من وجع منتظر ..؟؟!!
شعر عبيد بوقوفها عند رأسه .. رفع وجهه المحمر نحوها .. عينيه المغرقتان بالدموع .. وجه المبتل ..
.
.
رباه .. هذه العبرات ..!
أيقنت بأن الأمر تجاوز حدود هذا الرجل بالمكابرة .. تجاوز حدود الهدوء ..
حدود التحمل ..
حدود الحياة نفسها ..!
هــل ..؟؟
رفعت يدها لحنجرتها تتحسسها .. تريد التأكد من أن صوتها الذي لا تسمعه ستخطى شفاهها .. و هي تقول له بنبرة غريبة ..
- أباااه مااات ..؟؟
بدت الصدمة جلية على وجهه .. و لم يجبها .. فعادت تسأله بإصرار ..
- أباااه مااات ..؟؟
ازدادت عبراته في التتابع .. و هو يومئ برأسها بايجاب ..
فجأة وصلتها الإجابة ..لقد فارق والدها الحياة .. رفعت عينها بذهول .. كان وقع الخبر أكبر من إدراكها ..
أدارت بصرها في وجوه من حولها .. مايد الذي كان ممسكا بالهاتف يتحدث فيه و هو يبكي .. بو مايد يقف مستندا على الجدار و جسده المسن يهتز بأسى ..
إنهم يبكونه ..!
يبكون فقيدهم .. أباها ..
أباها .. لقد رحل .. تركهم .. لقد أخذوه الأطباء إلى الداخل .. و لن يستطيعوا الآن استرجاعه ..
راحت تنظر للباب البعيد الذي أدخلوه عبره .. و خرج الطبيب منه حاملا خبر رحيله ..
تري ان تصله .. تقتحمه .. تعيد أباها مجددا .. تريد أن ....
في غمرة تلك المشاعر التي بدأت تخنقها .. نسيت قدرتها على التنفس ..
أصبح الهواء لا يصل رئتها حين بدأت تعجز عن الوقوف على قدميها ..!!
.
.
.
.
.
.
.
يلامس جبينها الأرض بخشوع .. تمسك بأطراف الدموع بعيدا عن متناول الهطول .. ليس وقت الضعف الآن ،، حتما سيكون أباها بخير ،، و لا هذا الأمل ارتجفت شفتيها و هي ساجدة .. على وشك البكاء ..
تتوسل الرب من قلبها أن يحفظه لهم .. رباه ليس لنا سواه ..! .. كيف سنواصل العيش إذا أصابه مكروه ما ..!!
كيف لعائلتهن البسيطة أن تتدبر أمورها دونه ..؟! كان هو السند الوحيد لهم ..
ترفع نفسها لتستوي جالسة قبل أن تنهي صلاتها .. توجهت نحو الحمام التابع للمصلى النسائي .. وقفت أمام المرآة العملاقة و هي تضع غطاء وجهها جانبا .. بهدوء .. تدير الصنبور لتتدفق المياه بقوة .. فتجمعها هي بهدوء بين راحتيها ثم تنثرها على وجهها ..
تريد أن تبرد شيئا من حر فؤادها قبل وجهها الذي أحرقته الدموع ..
لا تعرف كيف تخنق خفقان قلبها الخائف .. الأمر كان مرعبا للغاية .. لم يحدث هذا لأبيها من قبل ..!
اتجهت نحو الردهة الواقعة قرب مدخل غرف الفحص حيث تركت البقية ،، ما إن اقتربت من مكانها حتى عقدت جبينها .. لم يكن أحدهم هناك ..!!
مهلا .. هذا بو مايد يقف في الطرف الأقصى .. شعرت بتفاؤل غريب يجتاحها .. لا بد أن أباها استيقظ الآن و البقية يجلسون عنده .. اقتربت من بو مايد الذي كان يدير لها ظهره.. بلهفة و هي تكاد تركض نحوه .. وصلت اليه بسرعة ..
- السلام عليكم و الرحمه ..
رأت ظهره يتصلب وهو يرفع رأسه دون أن يلتفت إليها .. رد سلامها بصوت ضعيف .. قبل أن يلتفت إليها ..
- و عليكم السلام و رحمة ..
أدار وجهه بعيدا عنها و هو ينظر حيث الاستقبال .. تلك النظرة المتألمة لم تخفى عن حور التي وضعت يدها على صدرها بارتياع و كل إحساس جميل راودها للتو ذهب أدراج مخاوفها ..
- عمي سلطان بلاك ..؟؟؟ أبويه فيه شي ..؟؟؟
هز رأسه نفيا بسرعة .. دون أن يجيب .. تهدج صوتها و هي تشعر بأنها على شفير البكاء ..
- دخيلك لا تكذب عليه .. ابويه شفيه ..
.
.
نظر لها و هو يوأد أي إحساس قد يطفو على وجهه .. لن يستطيع تحمل ردة فعلها عند علمها بخبر أبيها .. عبيد ذهب لإعلام أمه و إصطحابها لبيت خالته .. ستقوم هي بابلاغ من في البيت .. مايد في الخارج ينتظر إخوة المرحوم الذين سيكونون على وصول بعد دقائق .. الحقيقة أنه لا زال هو نفسه مهزوزا من هذه الفاجعة التي أصابتهم في ذاك العزيز على حين غرّة .. لا يجد في نفسه القدرة أن يخبر هذه الشابة بذاك النبأ .. فضّل اللجوء للمناورة حتى يأتي مايد .. سيقوم هو بإخبارها .. و امتصاص ردة فعلها و مواساتها .. أَ وَ ليس أخوها .. و الأقرب لها ..؟!
ابتلع كتلة شائكة سدت حلقه بمرارة و هو يتنهد قائلا بهدوء خادع أخفى وراءه صرخات مجنونة لا تسمع ..!
- ما شي بس تروعت ع ختج .. مادري بلاها طاحت علينا مرة وحدة ..
كانت تلك نصف الحقيقة فقط .. و لكن الفزع في صوتها أربكه ..
- المهــــــا ..!!!! بلاها ..؟؟ شوه استوى عليها ..؟؟ وينها الحين ؟؟
- داخت و صك راسها في القاع .. ما ياها غير الكدمة و تقول الدختورة انها بتم ساعة و إلا زود راقدة ..
هزت رأسها بعدم فهم ..
- مايد و عبيد وينهم ..؟؟
تابع كذبته التي بدأت تتمادى الآن ..
- ساروا يشوفون أبوج شوه استوى عليه .. ما تبين تسيرين تشوفين ختج ؟؟ تعالي بوديج غرفتاا ..
تقدمها بهدوء و هي تتبعه نحو غرفة الملاحظة التي وضعت فيها المها تُمَدُّ بمغذٍ و ترتاح إثر صدمتها التي أدت لسقوطها على الأرض الصلبة .. أشار من عند الباب الذي لم يكن يبعد كثيرا عن المدخل ..
- هاي حجرتاا ..
.
.
.
هزت حور رأسها بامتنان و أطرافها ترتجف .. ماذا الآن أباها .. و المها ..!! أخطأت حين وافقت على إحضارها لم تشكْ قط بأنها مرهفة لهذه الدرجة .. أ سيطر الخوف عليها حتى أفقدها الوعي ..؟؟!
ارتعبت حور من الفكرة و دفعت الباب لتدلف بسرعة مغلقة إياه خلفها .. كانت المها تتمدد بهدوء على ذاك الفراش الأبيض الذي التفت حوله ستارة انزاح طرفها لتتبين من خلفها.. حجابها لا زال محكما على رأسها فيما أُلقي غطاء رأسها على الطاولة المجاورة .. و أنبوب طويل راح يمدها عبر الوريد بالسائل المغذي .. فيما هي تسكن عالما غير عالمهم هذا ..
دنت من فراشها بسرعة .. وضعت يدها على جبين المها .. كانوا قد وضعوا شريطين لاصقين أخفا طرفها الحجاب . هناك من فك الحجاب و أعاد لفّه بطريقه محكمة .. بدا وجهها الجميل غارقا في ما تجهل هي .. سحبت كرسيا تقربه من السرير لتجلس عليه .. تمنت أن يأتي عبيد و مايد بأخبار طيبة .. و أنا تستيقظ المها بسرعة .. مضي الوقت هنا أخذ يشعرها بالتوتر .. كانت الثواني تمر ثقيلة للغاية .. مر وقتٌ طويل لم يأتها أحد بخبر .. عليها أن تخرج لترى ما خطبهم .. هل نسوا وجدهن هنا ..؟؟ أم أن ...
تجاهلت أي أفكار سخيفة قد تراودها و هي تسحب الستارة حول سرير المها و تعيد الغطاء على وجهها .. توجهت نحو الباب لتفتحه .. ما إن خرجت من الغرفة ليقع عينها على هذا المظهر الغريب ..!! تراجعت بارتباك للخلف و لكن حركتها كانت قد استرعت انتباه الموجودين .. التفتوا أولئك الرجال الغرباء نحوها فور خروجها .. لتعود إلى الغرفة مجددا .. قلبها يخفق بعنف .. يا إلهي .. أين عمها سلطان و أبناءه ..!!
.
.
.
كانوا موجودين بين الرجال الذين لاحظوا وجودها في تلك البرهة القصيرة دون أن يعرفوها .. تبادل بوسلطان و ابنه مايد نظرة متفهمة .. و هو يقول له بصوت هامس حزين..
- أنا ما خبرتاا .. سير خبرهاا الحين و شوف لو تروم تردها هي و ختها البيت قبل لا يمزرون هلهم المستشفى ..
هز مايد رأسه بسرعة و هو يمسح وجه .. نظر للرجال الذي وقفوا حوله .. بحضورهم المهيب .. بملابسهم الفاخرة .. بالثراء الذي أخذ يلوح ببساطة على كل حركة .. حتى الحزن الذي ارتسم على ملامحهم لم يُزل كبرياء فطرية نُحتت على وجوه بدت له مألوفه ،، ألم يكن ذاك الراحل يملك هذه الملامح ..؟؟ هذا الطول .. و هذه الصلابة .. شعر بالغصة تخنقه و هو يشيح البصر عن أخوان بو نايف الأربعة و ابنهم الأكبر الذي تعرفه مايد ببساطة بما أنه مالك الشركة التي يعمل بها .. و شاب آخر لم يعرفه .. و لكنه تأكد أنه فردٌ من العائلة ..
لم يأتي أبو حمد ..!! لم يُقدم على المجيء معهم ..
توجه بهدوء نحو الغرفة التي رقدت فيها المها .. كيف سيعلم حور ..؟؟ كيف سيحطمها بما يحمل ..
كانت الأنظار تتأمله و هو يقف أمام الباب بعجز .. لا يقوى الدخول .. شعر بأنه أطال الوقوف هنا رفع يده ببؤس يغالب الدمع الذي تدافع لعينيه مجددا .. عليه أن يكون قويا من أجلها ..
دق الباب بخفة عدة مرات قبل أن يدفعه ليجدها واقفة في منتصف الغرفة و قد أسدلت الغطاء على وجهها و أغلقت الستار حول فراش المها .. ما إن تعرفته حتى أزالت غطاءها بسرعة و هي تقترب منه بلهفة ..
- مايد وينك ..؟؟ أبطيت عليّه ؟؟ شوه قالو لكم ..؟؟؟ أبويه شفيه ؟؟
كان مايد قد أخقض رأسه .. هذه اللهفة .. الأمل الذي مسه في كلماتها .. كيف يحرق قلبها ..؟؟ كيف ..؟؟
أي ثقل ألقي على كاهله .. !! أي وجع يفترض به أن يصيبها به ..!!
نظرت له بحيرة .. لماذا يبدو هذا الإنكسار عليهم .. عمها سلطان و الآن مايد ..!! همست بصوت مرتعش حين بدأ الذعر يدب في قلبها ..
- مايد .. بلاك .. أبويه شفيه ..؟؟
رفع رأسه المغرق بالدموع .. و صوته الرجولي بدا ضعيفا و هو يرمي تلك القنبلة مسلما الأمر ..
- أبـــــوج عطاج عمره ..!
لم تفهم ما قال .. تلك الكلمات أبى عقلها الخائف أن يترجمها ..
- هاه ..؟؟ كيف يعني عطانيه عمره ..؟؟
لم يجبها و هو يشيح بوجهه مخفيا تدفق الدموع الذي ازداد مع سؤالها .. عاد صوتها المرتعش يتوسله ..
- مايد ارمس دخيلك .. ابويه شفيه ..؟
التفت لها و هو يقول بألم ..
- حور أبوج متوفي من أربع ساعات ..!!
بدا و كأن مايد لا يتكلم العربية في تلك اللحظات و هي تعقد جبينها دون أن تستوعب ما قال ..
- متوفــــــي ..؟؟!!!
هز رأسه بألم و هي تتلفت حولها بحيرة .. تدور في الغرفة ..
- منوه لي متوفي ..؟؟ أبوية ..
توقفت في مكانها لتلتفت له بصدمة و عيناها تتسعان .. و هي تصيح فجأة بجنون خلع قلب مايد ..
- كذااااااااااااااااااب ..
.
.
.
.
كان يقف مسندا جسده المديد على الجدار يراقب من حوله بصمت .. الألم و الحزن اللذان رآهما في عين أبوه و أعمامه الثلاثة لم يكن يضاهي الوجع الذي لاح على وجه بو مايد و لا على ابنه .. لقد كانوا هم العائلة الوحيدة لحمد منذ سنوات ..! شعر بصعوبة في التعاطف مع أبوه و أعمامه .. و ذاك الشرود الذي بدا على وجه حامد .. ما كان يسحق فؤاده حقا هو ردة فعل جدته .. كيف له أن يبلغها بخبر كهذا .. لم يخبروا أباه سيف حتى الآن .. أتوا إلى هنا على عجل .. كان والده يعيد رأسه للوراء و هو شارد .. نظرة كسيرة تسكن عينيه ..
كبح شعورا ساخرا في غير وقته .. هل شعر والده الآن بالندم لابتعاده عن أخيه كل تلك السنوات ..؟؟ اعمامه هؤلاء .. أي إحساس يسكنهم بفقد أخٍ قد هجروه لسنوات .. و ها هي الأيام تعيدهم للقاءه بعد رحيله ..
سخرية حقّه .. لا يمكن للأمر أن يكون أكثر تعقيدا من هذه الصورة ..
يجلسون هنا في انتظار أن يسمح لهم الطبيب برؤيته .. تحرك من مكانه ليقترب من بو مايد الذي كان واقفا في الطرف البعيد .. و قال بهدوء حالما وصل إليه ..
- كيف مات ..؟؟
بدا السؤال قاسيا .. و لم تبدو المراعاة على وجه غيث الصلب .. الحقيقة أنه لم يكن يشعر بأي رثاء سوى على حال أبناءه .. شعر بالشفقة لمصيرهم بعده .. أين سيؤول بهم الحال يا ترى ؟؟
قال بو سلطان بتعاسة ..
- لقوه عياله راقد عند باب الميلس و ما طاع ينش لهم .. و اتصلت - تردد لبرهة و كأنما لا يريد نطق اسم الفتاة أمام هذا الغريب .. رغم علمه بأنه زوجها !!- آآ حور بمايد و شله هو و عبيد المستشفى .. و .......
بتر كلماته و رأسه يلتفت بقوة مع استدارت الجميع نحو الصيحة التي انطلقت من الغرفة القريبة ..! كانت صرخة الفتاة واضحة ..
- كذااااااااااااااااااااب ..
بدأ الجميع يلتفتون لبعضهم توترا .. أما غيث فقد لمع في رأسه شيء و هو يسأل بحزم ..
- حد من بناته هنيه ..؟؟
هز بو سلطان رأسه و قد شحب وجهه بشدة .. و هو يهمس ..
- هاي حور .. أكيد مايد قال لها عن أبوها ..!
نظر له غيث و هو يعقد حاجبه لوهلة قبل أن يرفع طرفه بكبر .. مايد ؟؟! و ما شانه بها ليخبرها بذلك .. استدار متوجها للغرفة التي خرج منها الصوت .. شيء من الضيق اضطرم في صدره .. على كل حال هذه الفتاة زوجته .. و لا يحبذ وجود رجل غريب لمواساتها في لحظاتها هذه .. طرق الباب ثلاث مرات بخفة قبل أن يدفعه دون انتظار الأذن .. كان مايد يقف قربها .. عرفها .. هي نفسها حور .. عقد جبينه .. مايد الذي التفت له بنظرة أليمة بدا أنه الوحيد الذي شعر بدخوله .. فيما استمرت حور بالنظر لوجه الأخير بشيء من الذهول .. كان وجهها مكشوفا و حجابها قد تراجع للخلف قليلا كاشفا خصلاتٍ انزلقت من تحته على جانب وجهها .. التعبير على وجهها يشبه الصدمة و هي تتوسل بصوت ضعيف ..
- مايد .. حرام عليك .. ليش تتبلى على أبويه .. نحن يبناه هنيه .. سير شوفه .. وين ودوووه .. ؟؟
نظر مايد لغيث بحزن .. و لكن وجه غيث كان قاسيا و هو يشير بيده آمرا أن يخرج .. اتسعت عينا مايد ..
ماذا ..؟؟ أيترك أخته مع هذا الزوج الذي لم تعترف به يوما .. أيتخلى عنها الآن تاركا مهمة تماسكها على عاتق هذا الرجل .. لم يكن لديه الخيار .. كان غيث ينظر له بصلابة منتظرا خروجه .. غيث الذي كان بودّه أن يهشم أنف هذا الشاب الذي يقف متأملا زوجته .. وجهها .. شعرها .. في حين لا تدرك هي ما يجري حقا ..!!
و يقف مترددا في إخلاء الغرفة لهما .. قال ببرود قاتل ..
- تفضل برا .. أنا بتصرف وياها ..
ارتخت كتفا مايد و هو يخرج .. عينا حور تتبعه بحيرة .. مشاعرها متخبطة .. لا تفهم ما قال مايد للتو .. لماذا خرج و تركها .. ؟؟
من هذا ..؟؟ نظرت له .. لا تزال الصدمة على وجهها مما قال أخيها للتو .. تشعر بالضياع .. الأمر ضخم للغاية .. لا تستطيع مشاعرها تفسير ما يقال ..!
.
.
هذا الوجه رأته في مكان ما ،، و لكنها لا تهتم الآن .. بدأت بالتحرك في مكانها .. اقتربت من الستارة التي تقبع المها خلفها .. و لكنها توقفت لتتراجع .. ماذا تريد ..؟؟ والدها هناك في الخارج ؟؟ التفتت مجددا نحو الباب ..
نعم هو هناك ستخرج لتراه جالسا .. لا بد أنه متعب .. متعب كثيرا .. و الا لما سقط هناك .. ستخبره بأن المها هنا مسجاة .. و أنها فقدت الوعي .. ستشكو مايد إليه .. لقد كان يمزح بثقل .. لقد قال أنه ميت .. الأبله .. لا يعلم شيئا ..
لا يمكن لوالدها أن يموت .. تحث الخطى نحو الباب .. أبي في الخارج .. حتما سأجده ..
سرعان ما التفت قبضة قوية على ذراعها تمنعها من الوصول للباب .. التفتت بعينين لا تريان لصاحب اليد الذي سأل بصوت قوي ..
- وين سايرة ..؟؟
بدت تسحب ذراعها .. عقلها المشتت لا يدرك من هذا الرجل الذي يقف هنا .. رأت وجهه في مكان ما .. لا يهم .. تريد الخروج ..
- بسير لأبويه .. بنرد البيت .. بيعصب .. غداه برد .. محد وعاه لصلاة العصر .. ممـ ..
بدت الكلمات تتقطع .. و هي تسحب ذراعها من تلك القبضة المحكمة .. لم تكن ترى شيئا .. ذهنها لم يعد يعي سوى أن عليها الخروج .. ستجد أباها حتما خلف هذا الباب ..
- خوز .. أبا أظهر .. انت .. ما تعرف .. المها طاحت .. كانت خايفة .. ولـ .....
.
.
كانت تهذي .. تجر ذراعها من قبضته .. غير واعية .. لا تزال مصدومة و إلا لما أرادت الخروج بلا غطاء و شعرها ينسدل .. نظرتها الضائعة .. شفقة قوية اجتاحته و هو يرى حيرتها البالغة .. لم تبكي حتى ..!
بدت تجر يدها الآن و صوتها يرتفع ..
- ودرنيه .. أبا أظهر .. ابويه يرقبنا .. يا ويليه لو أبطيت ..
تحاول الإفلات فيما يحكم يده حولها و يمسك ذراعها الأخرى بيده .. و هو ينبهها بهدوء ..
- حور .. حور ..
شعر باسمها غريبا على لسانه ..
لكنها لم تكن تسمع .. تشد نفسها .. تريد أن يتركها .. و صوتها يردد بجنون ..
- بطل ايديه .. بطل ايديه .. ابا أظهر .. هناك .. هناك ..
كان صوتها يرتفع بهستيرية .. بدت على وشك الإصابه بالجنون .. و عينيها المتسعتين تكاد تخرج من محجرها بذهول ..
- أبااااااااااااا .. أظهاااااااااار .. ودرنيييييييييييه ..
كان عليه أن يوقظها مما هي فيه .. أن يعيدها للواقع .. لا يجب أن تصاب بانهيار الآن .. هزها بشيء من العنف و صوته القوي يقول بصرامة ..
- حووور .. بس .. أبوج مات .. ترحمي عليه .. و لا تسوين بعمرج كذيه ..
ما إن ذكر الموت حتى ازداد جنونها و هي تدفعه من صدره بيديها ..
- خوز .. يا الكذاااااااب .. منوه لي مااااااااات .. ودرنيييييييه ..
بدت تضربه الآن بقوة .. قبضاتها تصطدم بصدره القوي .. لم تؤثر تلك الضربات فيه و لم تزعزع ثباته .. شدها فجأة بين ذراعيه متجاهلا صيحاتها الهستيرية و هو يدفن وجهها في صدره .. يخنق صيحاتها في حضنه .. و هو يقول بصوتٍ واضح .. قوي ّ..
ذبحها ..!
- أبوج مات ... مات .. تسمعين .. ؟؟ مات أبوج .. ترحمي عليه ..
تهز رأسها فيما يشد زراعيه حولها ..
- لأ .. لأ .. لااااااااااااااااااااا .. لاااااااااااااااااا ..
بدت تصيح و هي تضربه تحاول الهروب .. لا تريد أن تسمع شيئا من هذه الكلمات و هي تصيح بصوتٍ عالٍ ..
- لاااااااااااااااا .. أبوووووووووووويه مااااااااااااا مااااااااااات .. كذااااااااابين ..
صوتها ينخفض الآن و أنفاسها تتقطع .. ذهنها الذاهل أخذ يرسم الصورة جاهدا .. لقد أتوا بوالدها إلى هنا .. لكنها ستعود دونه ..!
- لااااااااا .. أبوووووووووويااااااه .. أبووووووووووياااااااااه .. لاااااااااا ..
بدت مقاومتها تخمد و هي تتشبث بصدر ثوبه باكيا .. تنتحب بصوت عالٍ كالطفلة .. بدت ذراعيه تلين بعطف .. و هو يربت على ظهرها مواسيا ثم يمسح على شعرها بأسىً على حالها .. صوتها المبحوح إثر صياحها .. يخرج متقطعا من بين شهقاتها المتتابعة ..
- أبووووووووووويااااااااااه ...
غريب كيف أدناه الموت من هذه الغريبة ..!
يشاركها أحزانها و يواسيها ،،
بدت تنزلق جالسة على الأرض و تسقط على ركبتيها .. شعر بالرحمة تسري في عروقه .. و هو يرى وجع قلب هذه الشابة .. لم يفقد أحدا من أحبته .. و لا يتخيل هول ما تشعر به .. لقد أدركت للتو أنها أصبحت بلا أب ..
.
.
يا بوي وينك ..؟؟
صرخة ضاعت بين ونات المواجع ،،
يا بوي وينك ..؟؟
هذي صيحة ما سمعت لها مجيب ..
راح صوتي ..
وين انته يا الحبيب ..؟؟
غاب صوتي عن شعورك ..؟ و إلا سامع ..؟؟
شوف لي عبرة تكابر .. ما تطاوع ..
شوف حالي يوم سمعته هالخبر .. كله كئيب ..
شوف لي شوقٍ ذبحني ..
يرجي حنانك .. قسوتك ..
يرجي ملامح بسمتك ،،
ينتظر منك وجودٍ .. يطفي وسطه هاللهيب ..
ليه عزمت الموادع ..
صار بَعدكْ كل هذا الكون يسعى للمغيب ..
هذي دنيا يغشى ضيّها لون السوادي ،،
هذا يوم أصبح لحاله رمادي ..
وين ألوان الشوارع ..؟!
ليه تغرق عيني عبرة .. يا تكابر ..
أو على خدي سكيب ..؟؟
من يكفكف هالمدامع ..؟؟
وين راعي هالأصابع ..؟
ليه كني بعد يومه .. منحبس و الا غريب ..!!
.
.
لم يدرك غيث جزءا بسيطا مما تشعر به حور في تلك اللحظة .. تجثو على ركبتيها على الأرض .. و تستند بإحدى راحتيها .. و هي تضع يدها الأخرى على صدرها .. ترى إخماد ذاك الوجع .. ذاك الألم الرهيب الذي يمزق فؤادها الآن ..
تنشج باكية بصوتٍ مخيف .. تناديه ..
تردد اسمه ..
أين هو .. ؟؟ كيف له أن يتركهم لوحدهم .. من لهم بعد الآن ؟؟
كانت الدموع تطفح أنهارا .. مع إدراكها لحقيقة هذه الفاجعة .. لن ينتظروه بعد الآن .. لن يأتي متأخرا ليراقبوه و هو يتغدى مصدرا الأوامر ..
لن يجمع لهم الحطب حين يقترب الشتاء ليشعل نارا تدفئهم .. لن يلقي تلك العمامة طالبا منها أن تغسلها ..
أن تضيّع عرقه الذي تحتضنه بحب ..
صورة وجهه الحبيب ترتسم أمام عينيها و هي تصيح بمرارة ..
هذا الأمل رهيب .. رهيب للغاية ..
يمزقها .. يخنقها ..
و جزء من روحها .. لا يريد أن يصدق بعد هذه الحقيقة ..!!
يأبى أن يدرك ..
أنها أصبحت يتيمة ..!!
.
.
راحة ايدٍ تمسح على راسي بحنان ..
صوت حرمة تبكي على حالي الأليمة ..
صوتها شتت كياني ..
تقول مسكينه بنته .. منهو لها بعده .. يتيمة ..!!
كلمة شلّت شعوري ..
يتيمة ..!
لا .. لا ..
ماني يتيمة ..
ولا غريبة و لا وحيدة ..
ماني شريدة ..!
لا ثيابٍ ترتديها .. لا مساكن تحتويها ؟!
لا عيون ترتجيها .. غير قاع ما تبيها ..
أنا بنته .. بنت أبوي ..
بنت رجل لا انتخوا به ما يخيّب من نخاه ..
بنت شيخ ما ملكْ من مال شي و لا له جاه ..
بنت واحد شفته في عيني كبير ..
واحدٍ يسوى فحياتي كل شي .. يسوى كثير ..
ماني يتيمة ..
صيحة تحرق فوادي .. من يبرِّد هالسعير ..؟؟!
ليتني على جنح طير .. ليت أوجاعي بخير ..
ليت حزنٍ يغسله بعد الفجر باقي الندى ..
ليت به من يسمع صرختي و يرد بعدي هالصدى ،،
ليت حلم ما يضيع .. ما يتوه .. ما يروح في بُعد ذاك المدى ..
.
.
رحـــل ،،
لم يعد لهم في هذه الدنيا سوى الأوجاع .. أخواتها .. نايف .. أمها و الطفل المنتظر ،،
روح ستنبلج للدنيا بلا أب ..
ماذا .. هل أضناه التعب .. هل طفح به الكيل من شقاء هذه الدنيا ..
هل أسلم أمره .. و لم يعد في قدرته المواصلة ..؟! أ فضّل المضي إلى ربّه ..
ستريحه أحضان الثرى .. بعيدا عن المواجع .. عن التعب .. عن الركض خلف لقمة العيش تحت قسوة ظروفهم ..!
سيغفو أبدا ..
تاركا خلفه أرواحا لا تزال ظمأه .. بحاجة له .. لوجوده ..
و قوته .. بدا أن هذا الحزن أبدي .. يتملك روحها يلوّعها ..
و هي تبحث باستماتة عن بصيص أمل .. بعودته ..
أي وهم قد يخمد هذه النيران التي تستعر في جوفها .. محرقة كل فرحة ..
تهدم كل ما هو باسم و سعيد ..
لم يعد هناك مأوى إلا للوجع ..!
.
.
ليت ألوان الشوارع ثاني تعود ،،
ليت ضيّ غاب عني يرجع و مرة يسود ..
ليت ضحكة صار مسكنها تراب ..
تنرحم من حر نارٍ تلتهب .. تنشد ذنوب ..
ليت فردوس ندية تحتضن وجهه سعود ..
.
.
شعرت بالحزن يحطمها .. يفتتها .. و انعدام بالشعور بالمكان و الزمان .. لازالت تجثو .. و أنينها يختلط بشهقاتٍ تهز جسدها بقوة ..
و هي تردد اسمه بلا كلل ..
أصبحوا الآن بلا سند .. بلا أمل ..!!
.
.
ابتدت لحظة شقيّة .. و أخنق الدمعة خفيّة ..
ماني ببنته بعد هاليوم العسير ..
أنا يتيمة ..
و أنتفض بردٍ و جوع ..
أغرق الأفراح فيني من بحر تلك الدموع ..
لا لي عون و لا لي عزوة و لا كبير ..
هذا ظهري أصبح الليلة كسير ..
من يداوي خاطري بعده تحطم .. و لا جبير ..
آه لو لا الخوف من ربي ..
قلت ليت لي نفس المصير ..
ليتني جنبه دفينه .. ما أقوى أيامي الحزينة ..
.
.
يقف عند رأسها متأملا .. لم يجد في يده شيئا قد يفعله .. رغم أن منظرها هذا أثر به ..
انحنى بهدوء يساعدها على الوقوف ..
- حور نشي ..
لكنها لم تجبه ..
لم تسمعه أصلا .. لم يعد في أنيها سوى طنين ذاك الوجع ..!
كانت هذه هي المرة الأول في حياتها التي ترى فيها الحزن و تقابله ..
وجها لوجه ..!
.
.
علميني يا سنيني ،، ذكريني يا ترى ..؟!
هي راحت أفراحي و حنيني ..؟؟!
هو ما بقى غير الكرى ..؟ *
* * * * *
كانت الإضاءة الخفيفة الصفراء .. مصدرها تلك المصابيح الخافتة التي عُلّقت في سقف المكان .. تصلب ظهره .. لم يكن يشعر بالارتياح أبدا .. شيء من البرود لا علاقة له بجو المكان الجليدي .. سرى في جسده و هو يقف عند الباب .. رائحة المطهرات القوية تعبق في المكان .. تتطفل على الأنفاس ..
إحساس الرحيل يلف هذا الهواء الذي يخترق رئته بنفس الهدوء البطيء الذي يستشعره هنا ..!
صمت يجتاحه روحه .. شيء من الإحترام شعر بأن عليه أن يلتزمه .. و هو واقف .. يشعر بأن لمحراب الموت هذا قدسية السكون ..
عينه ترتكز على ظهر الشخص الوحيد هنا .. الرجل الذي وقف دون حراك عند أحد الأسرّة الموزعة على وسع القاعة ..
ظهره المتصلب لا يبدي أدنى إنفعال قد يظهره وجهه الذي يخفيه ..
أدار هو ظهره له .. رغم أنه أصرّ على اصطحابه إلى هنا .. إلا أن شعوره بأنه تطفل على خصوصية ما له ..
منعه من القيام بأدنى حركة ،،
سوى الإنتظار ..!
.
.
.
كانت يده التي تجعد جلدها بقوة تلتف بقبضة قوية حول يد ابنه المسجى ،، لا يعلم حقا أي رغبه تعتريه .. أ ينحني ليطبع قبلة وحيدة و يودعه مديرا ظهره ليخرج من هذا المكان ..؟؟ أيدفن وجهه في صدره و يستنشق رائحته العزيزة للمرة الأخيرة ..؟؟
رغبة وحيدة ملحة أدرك أنها الأقرب لقلبه الآن ..
أراد أن يبكي بصوتٍ عالٍ كطفل صغير .. أراد أن يجد مخرجا لكل هذا الألم الذي يخنقه الآن ..
أراد أن يبرد شيئا من حرّةٍ لفحت قلبه بقسوة ..
أراد أن يستلقي في ذاك الفراش القريب .. و يطلب منهم أن يساق بدلا عنه للحفرة التي هي في انتظاره ..
لكن شيئا من ذاك لم يستطع القيام به .. بدا أن دموعه تعصيه .. تأبى النزول .. و كأنما تحرقه عقابا ..
مر وقتٌ طويل مذ رآه آخر مرة ..!
وقت طويل للغاية .. فمن يراه هنا الآن كان مختلفا تماما عن ذاك الشاب الفتي الذي قام بطرده من البيت ..!
راحت عينه تمسح وجهه بوجع ،، بشرته المسمرة إثر لفح نسائم السموم لها في عز الظهيرة .. وجهه الكالح .. يديه الخشنتين .. و همٌّ لا زال ينعقد على جبينه ..
لا يشبه طفلا بُشَّر ذات يوم بعيد بقدومه لهذه الدنيا .. لا يشبه فتىً لازم نشوءه .. لا يشبه شابا ضاع في غمرة الحياة ..
هذا رجل أضنته معارك الدنيا و كفاحها .. ملَّ قتالا فارغا .. أسقطه ..
هذا رجل غريب تماما هيئة عنه ..
لا يعرفه .. لو كان التقاه في مكان آخر لما قتله هذا الألم ..!
هذا ابنه ..
لكن بينهم سنوات .. بينهم كِبرٌ زائف .. بينهم وقت ضيّعاه .. بينهم قدر أقسم على أن لا يلتقيا إلا أمام رب العباد ..
بينهم برزخ .. إجتازه ذاك راحلا ..
و بقي هو هنا بحسرته .. متندما .. متأخرا ..
أرخى جفنيه الثقيلتين بإحساس معذب .. إنه حتى لم يسترضه ..! قضى وقته في استدراجه عبر ابنته ليحثه على القدوم مجددا .. يلتمس قربه ..
ماذا كان سيضره إن ذهب ببساطة له و مد يده داعيا اياه أن يعود لكنفه ..
لماذا بدا الزمن جائرا في هذه اللحظة .. ألا يمكن له ان يعود للحظات فقط..؟؟
هناك مئات الأخطاء التي هو بحاجة لأن يصلها .. ثغرات يبغي سدّها ..
خطوات أراد أن يعيدها لطرقات يعرفها .. لا تلك المسالك التي غرّبت ابنه لسنوات ..
ينظر لوجه الحبيب .. لازال ذاك العناد يستوطن ملامحه حتى بعد رحيله ..
ابتسامة مرّة غالبت دمعة حارة سالت بطيئة على وجنته المجعدة ..
لقد كان متأخرا .. متأخرا للغاية ..
الآن يفصل بينهما عمر ..
لا يمكن تجاهله ..
قبضته التي تتشبث بيد ابنه الثلجية .. تعتصرها بقوة ..
للمرة الأخيرة .. يقف هنا .. يواجهه ..
للمرة الأخيرة تحتضن عيناه وجهه الذي كان بلا حياه ..!
.
.
للمرة الأخيرة هو راضٍ عنه ،، راضٍ عليه ..
يسامحه ..
ينحني ببطء ليطبع قبله عميقه على جبينه البارد .. أطلقت عبرات تساقطت على وجهه ..
.
.
للمرة الأخيرة يدعو من الله أن يرقد هذا الإبن بسلام ..
مرّ كالدموع طعم الرحيل ..
حين لا تعلم ما كان يحمل ذاك الراحل في قلبه قبل المضي ..!
* * * * *
لم تكن تلك اليلة كغيرها من الليالي ..!
وقع الخبر على عائلة حمد كان مروعا ،، عادت المها و حور للبيت ليجدن أن الحزن قد سبقهن إلى هناك
..
في اللحظة التي دلفن فيه البيت .. حور تسند المها التي كانت تتعثر في مشيتها و صوت شهقاتها يختلط ببكاء حور الخافت ..
عرفت أن الجميع قد علم بالمصيبة تلك .. ازدادت وتيرة بكائها دون أن تستطيع السيطرة عليها ..
أخواتها الصغار و دانة و نورة كانن في حجرة أمهن .. الإنهيار على الوجوه .. و صوت البكاء العالي كان يصم الأذان .. فيما تحاول الخالة عذيجة الموجوعة مواساتهن ... لم يكن أحد ما أكثر تماسكا من أمها ..
أمها التي خافت عليها جدا نظرا لحالتها الصحيّة المتدهورة .. خشيت ما قد يفعله هذا الخبر بها .. و لكنها كانت تبكي بدون صوت جالسة في فرائها و هند و دانة يدفنّ رؤسهن في حجرها باكيات في ما انزوت نورة في طرف الغرفة .. و ضمت عذيجة ابنتة أختها الصغرى إلى صدرها تهدئها ..
كانت الصورة فضيعه للغاية .. شيء يعيد صدى الخبر و كأنها تسمعه للمرة الأولى ..
لم ترى عفرا و لا نايف .. اندفعت تحتضن أمها باكية تتبعها المها .. بدا أن قدومهن فجّر بقية التماسك في أخواتهن ،،
قادت حور المها بهدوء لغرفتهن كي تستلقي في فراشها .. ما إن دلفت الغرفة المظلمة حتى راعها الصوت الأنين الخافت ..
التفتت لفراش عفرا التي استلقت عليه .. دون غطاء و هي متكومة على نفسها ..كانت تنشج ببكاء يمزق نياط القلب .. ساعدت حور المها على الإستلقاء في فراشها .. قبل أن تسحب تلك اللحاف مغطية جسدها و رأسها كاملا ..
ملتفة بأحزانها ..
استدارت نحو عفرا و جلست على طرف فراشها .. تعض شفتيها .. و هي تشعر بالوهن يدب في روحها .. لم تستطع ايقاف سيل دموعها و هي تكتم شهقاتها التي أهلكتها .. تمد يدها لتمسح على شعر عفرا بهدوء .. و تمسح دموعها بقوة .. تنظر حالهم ..
بلا أب ..
انهيارهن جميعا .. خروج نايف الذي لا تعلم أين هو الآن .. أمها المريضة ،،
إلى أين سيؤول بهم الحال ..؟!
كم هو مخيف هذا الشعور بأن الأيام القادمة ستكون خاليــــــة ..!
لا شيء فيها ..
مجهولة ..
شيء يتملكها و هي تواصل مسح شعر أختها بلا شعور .. و عبراتها الحارقة تنزل تباعا على وجنتها ..
لا تستطيع تفسير ما يتملكها بأن هذه هي النهاية ..! و أن عقارب الساعة لم تعد تدور ..
.
.
- حور ..؟
الصوت الهامس المرتجف .. انتشلها من ذاك التيه الذي تخبطت فيه للحظات .. و عفرا ترفع وجهها المنتفخ من البكاء و هي تقول بصوت متهدج ..
- شوه بنسوي عقبه يا حور .. ابويه راااح .. راااح و خلاناا ..
ضمتها حور و هي تبكي ..فلفت عفرا ذراعيها تتشبث بها بقوة .. و بكاءها يرتفع شيئا فشيئا .. كانت حور تشعر بأن ثقلا ما ألقي على كاهلها .. الآن و الجميع قد تداعى تحت وطأة هذا الخبر ..
هذه الفاجعة التي هبطت عليهم فجأة ،، كيف لهم أن يتجاوزوها ..؟؟!
شعرت بأنه يجب أن يكون هناك من هو متعقل منهم .. من هو مستعد للملمة حطامهم ..
من يقع على عاتقه واجب مواساتهم ..
و من غيرها قد يكون الملزوم بهذا .. أ و ليست هي الكبيرة ..؟؟ بعد أمها الضعيفة ..؟
إحساس قاتل راح يسري داخلها و هي تدرك بأن عليها أن تداوي أوجاعهم بصبر .. متجاهلة أوجاعها ..!
عليها أن تصبر .. ان تتماسكْ .. أن تبتلع ألمها .. و إلا من المسؤول عن آلام إخوتها ..؟؟
كان هذا الإدراك يهبط على روحها ثقيلا .. ثقيلا للغاية ..
لا تطيقه النفس ..
رغم ذلك .. تلك الكلمات المواسية تنفلت بقوة من بين شفتيها و هي تمسح دموعها باستماته ..
- ادعيله بالرحمه .. ادعيله ان الله يوسع قبره ..
و راح صوتها يغيب بين شهقاتها ..
يصعب حقا ادِّعاء القوة حين نكون محطمين ..!
.
.
.
كانت الساعة تشير للواحدة و النصف .. الهدوء يغشى البيت التي بدا أن جدرانهم تشاركهم الحداد على فقيدهم ..!
تجلس هي على درجات مدخل المجلس .. المكان الذي غفا فيه أبوها غفوته الأخيرة و لم يستيقظ بعدها ..
تنتظر أن يعود نايف الذي كان قد خرج قبل المغرب و لم يعد إلى الآن .. لم تعرف كيف عليها أن تتصرف .. و ماذا يجب أن تفعل .. تشعر بأنها بطيئة في فعل أي شيء و كأنام تحمل أثقالا من الدموع على ظهرها ..!
أجفلت و هبت واقفة بلهفة مع صوت الخطوات الذي اقترب من باب البيت الموارب .. ما ان دفع القادم الباب حتى بدا الإحباط على وجهها المحمر من فرط البكاء و شفتيها المرتجفتين و هي تكبت شهقة معذبة ..
نظر لها عبيد الذي كان يحمل كتبه و عددا من الملابس بتعاطف ..
- بلاج حور ..؟؟
ارتجف صوتها الهامس .. تجاهد أن لا تبكي ..
- أرقب نايف .. ظهر يوم .. آآ - لم تستطع التفوه بالكلمة - ... ما رد الين الحين .. الساعة وحدة ..
دلف عبيد الذي كان قد تقرر أنه سيقضي بضعة ليالٍ هنا المجلس و علّق ثيابه و وضع كتبه جانبا .. قبل أن يخرج مجددا و هو يقول بثقة ..
- لا تخافين ما بيسير مكان .. أكيد هنيه في الحارة .. منوه ربعه خبرينيه أنا ظاهر أدور عليه عندهم ..
مسحت دمعة خائفة انزلقت على خدّها ..
- لا عبيد ايلس بنرقبه شويه بعد .. أكيد بيرد الحين ..
نظر لها مترددا قبل أن يطيعها و يجلس إلى جوارها .. لحظات صمت و هما ينظران إلى الأرض قبل أن تسأله بصوت مرتجف ..
- دفنتوه ..؟؟
رفع نظرها لها بدهشة .. و لكنها لم تلتفت إليه .. أصبحت روحها كومة من الفتات لا تريده أن يراها .. صوته الحزين يتدفق قربها ..
- لا بنصلي عليه باكر عقب الظهر و بندفنه في مقبرة العوهة ..
ابتلعت ريقها بحزن فظيع ..
- و العزا ..؟؟
صمت مطولا .. لا يدري حقا إذا كان هذا هو الوقت الملائم ..؟! و لكنها ستعرف إذا على كل حال .. الأفضل أن تكون مستعدة من الآن .. كان صوته حذرا و هو يقول ..
- العزا في بيت يدج العود ..
نظرتها المصدومة و الكلمة التي انفلت برعب من بين شفتيها ..
- شووووووه ..؟؟؟؟؟؟؟
هز رأسه بأسى .. هبت هي واقفة من مكانها ..
كيف ..!!
كيف تجرءوا على فعل هذا ..؟!
شعرت بالحقد يمتزج بالألم في صدرها .. يعتصر روحها ..
الأوغاد لم يورا أحدا منهم طوال حياة والدها .. لم يكن أحدهم يشاركهم الأحزان أو الأفراح ..
لم يعرفوهم قط ..!!
و الآن بعد رحيله يأتون لينتزعوا حق الرحمه ،، المواساة التي يفترض بان تكون لأبناء المرحوم ..؟
يغتصبون حقهم في تقبل تعازي أبيهم ..
شعرت بالدموع الساخنة تغسل وجهها مجدداو هي تبكي ..
- هب ع كيفهم .. يحطون العزا فبيتهم .. نحن عياله و العزا لنا ..
أحاط عبيد كتفها بحنان ..
- لا تضيقين صدرج يا الغالية .. هاييل معروفين و بيونهم العرب من كل بقعة .. و المكان هنيه ما بيسدهم .. و بعدين أبوه يبا عزا ولده يكون فبيته .. و بعدين يدتج ما تروم تتحرك من مكانها ..
لم يفهم ..!
لم يفهم ..!
صاحت بمرارة ..
- ما يهمنيه عزا الرياييل وين يكون .. بس عزا الحريم لازم يكون فبيتناا .. أمايا في العدة .. شووووه ما تبانا نحضر عزا أبويه ..
كان عبيد يقول كلمات و لكنها لم تكن تسمع ..
حتى هذا الحق الضيئل حُرِموا منه ببساطة ،، لم يكونوا هم بحاجة للتعزية ..
فهم لم يتذوقوا المصاب مثلهم ..
لقد تخلوا عن هذا الحق منذ سنوات .. كيف يعودون الآن بعد فوات الآن مطالبين به ..
.
.
كانت كراهية شديدة لهم تمتزج بلوعة غريبة و رثاء بالنفس ..
جعلت حور في ضياع .. لا تدري إلى متى سيستمر هذا الألم ..!
حتما سيقتلها قبل أن يتوقف .. تشعر بذراع عبيد تحيط بها مواسية .. و لكن لا شيء يخمد هذا اللهيب الذي يحرقها ..
صوته و هو يهتف باسم جعلها تنتفض في مكانها ..
- نايـــــــف ..!!!
كان أخوها قد دلف للتو من الباب .. وجهه المنتفخ و عيناه الحمراوين و هو يقف عند الباب ..
ركضت نحوه و هي تنسى كل شيء قبل أن تحتضنه بلهفة باكية ..
- وين كنت ..؟؟. وين روحت يا خويه .. روعتنا عليك ..!
لكن نايف لم يجبها .. بل إنخرط في نشاج عالٍ جعله أقرب للأطفال ..
- أبوووووووووووويه ماااااااااااااات .. ماااااااااااااااات ..
كانت الكلمات تنغرس كالحراب في قلبها و لكنها ضمته أكثر و هي تبكي معه ..
دموعهما تختلط ..
و جسده الصغير يرتعش بين ذراعيها كورقة ذاوية في مهب الأوجاع ..
.
.
ينتحب بقوة .. و هي تشاركه البكاء ..
تبكي مصيرهم المشترك ..
الألم .. الفقد .. اليتم ..
تبكي الخوف الذي راح يغلف كل إحساس فيها ..
مجهول مصير الأيام القادمة ،، لا يعلمون ما تحمل في طياتها ..!
* * * * *
مرر أنامله برقة على وجنتها المجعدة .. ثم إلتقط كفّها الحبيب ليطبع قبلة عميقة قبل أن يعيده برفق إلى جانب جسدها الراقد على ذاك الفراش الضخم الوثير ..
لم يكن ينير الغرفة سوى ضوء مصباح النوم الذي وضع جانب سريرها .. و أضواء تسللت عبر النافذة التي أزاح ستارها للتو .. تلقي بظلٍ خافت في الغرفة ..
استند هو على حافة النافذة العملاقة .. يشيح ببصره في الحديقة الممتدة ..
كان لليوم مذاقا غريبا .. صور تداخلت في ذهنه راحت تدور مرارا و تكرار ..
فيما يقف هو هنا عاجزا عن النوم قبل أن يطمئن إلى أنها بخير ..
لم تتقبل الخبر بصلابة جده .. إنهارت فور علمها بوفاة إبنها ..
أسدل أهدابه و حاجبيه الأسودين ينعقدان بضيق ..
صورتها بذاك الشكل مزقت فؤاده .. ذات الهياج و البكاء و الصرخات .. قبل سقوطها إثر ارتفاع السكّر في دمها .. أوجعه ذاك الألم الذي تجرعته بعد فقدها لإبنها ..
صورتها أمام عينيه تتداخل مع صورة تلكْ التي سقطت راكعة على أرض المستشفى .. وجهها الذي أخفاه شعرها المنزلق من تحت الحجاب .. دموعها التي أغرقت وجهها الصافي ..
شيء غريب و هو يتذكر تلك الصورة .. جعله يحس بأنها تتجرع الألم للمرة الأولى ..!
شتان بين شعوره .. لم يراوده غير الشفقة و الأسى على حالها .. بينما شعر بألم رهيب يعتمر صدره حين أفجعه منظر جدته ..
ربما لأن تلك قضت عمرها كلها معه .. بينما مضت سنوات جدته الأخيرة و هي تتقلب بين الشوق الذي لا يخمد لرؤية ابنها ..!
أجفل فجأة .. و التفت إلى الخلف بقوة . حين ارتفع من الجانب الآخر صوت بكاء منخفض .. علم أنها استيقظت .. اقترب بسرعة من فراشها ليجد جسدها الضئيل متكورا بوهن و هي تبكي ..
لم يفزعه سوى صوت بكاءها الذي بدا كالعويل .. أو كأنين لبوة جريحة .. شيئا جعل قشعريرة من الخوف عليها تسري على ظهره ..
التقط رأسها بين يديه الكبيرتين و هو يجلس على فراشها ليريحه المخدة .. و صوته الحنون يلامس أذنيها ..
- امااااه .. فديتج .. تسمعينيه .. تعوذي من ابليس .. حرام لي يالسه تسوينه .. ترحمي عليه الحين و ادعيله ترا الصياح بيتعبج و لا بينفعه .. ادعيله هو هب محتاي غير لدعواتج .. ادعيله ،،
.
.
لكن الألم كان كبيرا .. فضيعا ..
كان أكبر من حدود قدرتها على الصبر ..
كان يقتلها ببطء و إمعان ..!
تشعر به يخنقها ..
يعذبها ..
هذا البكاء و هذا العويل لا يخرج شيئا مما يختلج حقا في أعماقها ..
كيف لهم أن يفهموا ..؟؟! سنوات كانت تعيش صابرة .. محتسبة .. لمْ تشتكِ قط ..
تبتلع كل ليلة دموعها و حنين مؤلم يجرها لرؤية ابنها .. فلذة كبدها ..
لا يعلمون أي حرقة تسكنها لفراق ولدها منذ سنوات .. و لكنها كانت صابرة ..
يكفيها أنه يسكن أراضٍ قريبة .. ممتنة لأنه لازال قريبا .. تحتضن مخدتها غير الدموع حلما ..
بأنه يوما ما سيدنو منها .. ستعيده خطاه إلى هذه الأراضي مجددا ..
و ستلتقيه ..
كان أمل تحتويه بين أضلعها الواهنة .. يدفعها لمواصلة أيامها ..
و يتفاقم الشوق ..
.
.
و لكن الآن ماذا ..؟؟!
ما هذا الوجع الرهيب الذي يحرق قلبها ..
لم يعد ابنها هنا .. لم يعد يسكن هذه البقاع .. لم يعد يتنفس هواء قد يكون عانق وجهها ذات يوم ..!
لن تعيده الخطوات يوما إلى هنا ..
لن تراه و لن تلتقيه ..
كم هو قاتل إقتلاع الأمل بقسوة الأقدار من أرواحنا ..
فراغ يجتاح الروح الخالية .. شعور قاتل بالاستسلام ..
لن يفهموا الآن معنى أنه رحل دون أن تراه ..
حاملا معه خيوطا كاذبة من الأمل البعيد .. من التفاؤل ..
لن يفهموا ..
كم عذّبها فراقه منذ سنوات ..
ليعود فيفجعها مجددا .. و كأن الموت هو ما تتجرعه ..!
.
.
علِّ روحي ..
و أوجعني حزن هذه الأم ..!
* * * * *
* يا بوي وينك / من بوح قلمي ،،
|