كاتب الموضوع :
زارا
المنتدى :
الارشيف
تتقافز أختها الصغرى بفرحة ممزوجة بالحماس ..
شيء لا يفارقها مؤخرا .. رغم القلق الذي راودها كثيرا نحو أي اضطراب قد تشعر به أخواتها إثر كل الظروف التي مررن بها ..
لكن يبدو أن لا أحد سواها قد يشعر بهذا التوتر و التقلب ..
أما الجميع فيبدو عليهم تقبل الأمور بسهولة .. و الإستسلام الراضي ..
و هذا ما كان يثير حنقها أحيانا ..
لا تدري لما ..!
كن يجلسن جميعهن في الردهة ..
و ساعة هاتفها تشير للرابعة و النصف عصرا ..
قضين صلاة العصر للتو و استعددن للخروج ..
ها هن الآن يتوسطن الردهة الضخمة .. يتشحن بالحشمة سوادا ..
قبل أن تزفر نورة بشيءٍ من الضيق و هي توجه كلامها لحور ..
- يعني كان لازم تخلينها تييب حد من خوانها ..؟؟!
رفعت حور حاجبها بانتقاد و هي تنظر لنورة بحزم ..
- لا هب لازم .. عادي نظهر للسوق ويا الدريول .. تراه ريّال عنّا ..
ردت نورة بشيء من البؤس ..
- انزين شوه فيها لو سرنا ويا الدريول ..؟ روضة قالت انها متعودة تسير السوق وياه ..
- هي متعودة .. و نحن لا .. من متى و نحن نرتغد في الأسواق و ما ورانا ريّال ..؟ ما قد ظهرنا من البيت الا و أبوية الله يرحمه ويانا ..
تمتمن معا بأصواتٍ خافتة ترحماً على روحه .. قبل أن تعود نورة للمجادلة ..
- بس ما بناخذ راحتنا لو حد منهم ويانا ..
لكن عفرا أجابت عن حور و هي تقول بهدوء ..
- قالت لج انه بيوصلنا و بيتم قريب .. بس ما بيحدر كل محل تحدرينه .. بييلس فكوفي و الا يشوف له شغله .. يعني لا تخافين بتاخذين راحتج ..
تنهدت نورة و هي تسند فكّها بيدها .. لم يعجبها إصرار حور على أن يقوم أحد من إخوة روضة بإيصالهم .. و رفضها مرافقة السائق ..!!
كانت دانة تقول بنزق لمزنة التي تدور في المكان طوال الوقت ..
- اففففف .. مزنوه .. قري غربلج الله .. فريتي راسي ..
لم تبالي مزنة بها .. و هي تستمر في الركض يمنة و يسره .. فصاحت دانة لها ..
- ترانيه ما بخليج تسيرين ويانا ..
نظرت مزنة لحور مطمئنة لوجودها قبل أن تقول بصوتٍ طفولي ممطوط ..
- هب ع كيفج .. بسيييييير ..
- داسج بعييييييييير .. قولي آمين .. افففف يا الغثة .. لازم اليهال اييون ويانا ..؟!
صوتٌ هادئ وصل لحور يقول لها ..
- حور .. ابا أفصل عباة .. من متى و انتي واعدتنيه ..؟!
رفعت حور نظرها لهند بابتسامة معتذرة .. جسد أختها الصغير الغض على أعتاب المراهقة .. و حتما ستكون بحاجة حقيقية للعباءة قريبا جدا ..
لذلك قالت بهدوء ..
- على هالخشم غناتيه .. لو خلصنا بسرعة الليلة .. و شفنا ما فيها عبالة ع الريال .. بنفصلج عباة .. كم هنوده عدنا ..؟
ابتسمت هند ابتسامة صغيرة و هي تشكرها ..
- مشكورة حور ..
- العفو حياتي .. دانوووه يا حماااره .. شفتج ..
لم تكن بحاجة لرؤية أنامل دانة تقرص مزنة بخفة .. اذ سرعان ما انطلق صوت صرخات الطفلة مدويّا ..
ربما كانت القرصة مؤلمة .. و لكن العواء الذي أطلقته مزنة بدا و كأنها تحترق حيّة ..!
أمسكت نورة بأذنيها ..
- خييييييييبة تخيبهااااااا .. حشى هب حس عليهااااا ..!!
لكن حور كانت غاضبة و التقطت علبة المحارم المغطاة بالمخمل البني من على الطاولة الجانبية لتقذفها نحو دانة التي تفادتها بسهولة قبل أن تصيح الأولى بعفرا ..
- قرصيهااا السبالة ..
و بحماس غير متوقع نفّذت عفرا طلب أختها الكبرى .. و قلّصت أظافرها على فخذ دانة التي تلوت بألم ..
- آآآآآآآآآآآآي .. عنلاااااااتج عفرووووووه .. يا النااااااااقة ..
أغمضت عينيها بوجع و هي تفرك مكان القرصة ..
- آآآآآآآه .. السبالة من خاطرها القرصة .. شوه حاقده عليّه ..
أجابت عفرا بهدوء .. و هي تعيد من وضع غطاءها ..
- عسب تيوزين عن مزنة .. حشرتناا هي و هالصوت .. اففففففف مزنوووووه خلاص ردينالها القرصة .. عنبوه لو سطرتيها طراق شوه بتسوي ..
نظرت لها دانة بغل و هي تجيب ..
- عسب تعرفين ليش هالياهل تستاهل الظرب ..
كانت حور تمسح على وجه مزنة الآن متمتمة بعبارات الإسترضاء فيما تشاهق الأخيرة و قد توقفت عن الصياح ..
بدا الضجر على المها الجالسة جوار حور .. و ملامحها الرقيقة تتأمل السقف بتململ .. فيما تهتز قدمها دون توقف ..
هل سيطول انتظارهم ..
عادت نورة للشكوى مجددا ..
- انزين حور .. لو محد من خوانها طاع يودينا .. بنسير ويا الدريول ..
قالت حور بنبرة جازمة ..
- لاا .. بنيلس في البيت .. و برايها روضة لو بتتنقى فساتينكن ..
همست نورة بنزق ..
- يا ليل مطولك ..
فيما قالت دانة بخبث ..
- و ليش نيلس .. بنتصل بريلج حور ايي يودينا .. و الا ريل أخت ع الفاضي .. ما شفنا منه منفعه من عرفناه .. فاضي يهد ع الخلق .. و يصارخ ..
اتسعت عينا حور بدهشة ..
- متى هد ع الخلق و صارخ ..؟؟
تلعثمت دانة و هي تلتفت يمنة و يسرة ..
- مادري .. أحسه عصبي بس ..!
و قبل أن تستفسر حور أكثر .. تنهدت دانة الصعداء مع ارتفاع رنين هاتف الأولى .. لترفعه قليلا و هي تقول لهن ..
- روضة ..!
أجابت ابنة عمها بسرعة و هي ترد سلامها بهدوء ..
- و عليج السلام و الرحمه ،، مرحب الساع ،، هاا ..؟ صدق و الله ..؟ امنوه ..؟؟ يا حيّه .. رب ما عبلنا عليه و الا قطعناه .. يمكن مشغول و الا وراه شي ..؟ ما عليه .. ما يقصر بو علي .. لا زاهبات .. الحين بنظهر .. ههههههههههههه ،، لا بنسوي طابور عسب لا يتروع .. خلاااص ..
و أنهت المكالمة لتدس هاتفها في حقيبتها البسيطة و هي تلتقط غطاء وجهها الثقيل ..
- بنات يا الله .. روضة و خوها خاري ،، تقول مساعة يرقبونا ..
عدلت نورة غطاء شعرها بضيق .. قبل أن تلتقط غطاء الوجه و هي تزفر ..
- انزين خاري شوه يسوون ..؟ تخاطر عن بعد ..؟ كان اتصلوا مساعة بدال ما نيلس هنيه .. ما تقولين غير طرارات ..!
و مرّت من أمام دانة التي ضحكت و هي تنفخ في وجهها ..
- أوووووووووووف .. نار و شرار .. أعصاابج يا الطيبة ،،
لطمتها نورة بغطائها ..
- جب ..
قبل ان تبادلها دانة النظر بغل ..
- عنلاااتكن .. غادية مسطاع لج انتي و خواتج .. حلا لكن الظرب ..
نهضت المها تثبّت غطائها على وجهها .. فيما تهرول مزنة نحو الباب باستعجال لتسبقهن ..
هند جوار حور التي سألتها عفرا بإهتمام ..
- منوه من أخوانها بيودينا ..؟!
.
.
.
.
.
.
اخترقت أشعة الشمس زجاج السيارة الأمامي لتعكسها نظارته الداكنة ،،
تلقي ظلالها على وجهه المتجهم ..
و هو يربت بأصابعه السمراء الطويلة على المقود ..
حديث أخته الناعم المتحمس .. لم يصل إلى عقله و هو يهز رأسه تجاوبا دون توقف ..
رغم أن لا يفقه من كلماتها المتلاحقة شيئا ..
فكه المربع انقبض بقسوة .. و هو يرفع ركبته قليلا محاولا الإسترخاء ..
لكن العرق النابض في صدغه فضح الغضب المحرق الذي راح يلجمه ..
لا يدري لما راح الغيظ يتملّكه و هو الذي سعى لمرافقتهن ،، كانت روضة قد عرضت عليه الأمر دون ضغط ..
هو الذي تلهّف للمرافقة ..
أراد أن يراها .. يتعرفها ..
أراد أن يلتقيها الآن .. رغم أنه سبق و قد فعل ..
لكنه لم يعرها اهتماما شخصيا ..
الآن .. و هو يعرف سرّها .. و يعلم من ستكون بالنسبة اليه مستقبلا ..
اندفع وراء رغبة هوجاء اجتاحته .. يريد أن يراها لمرة ..
كي يعرف لما حدث لها ذلك ..؟
لماذا كانت ابنة عمه من تعرضت لهذا الشيء من بين ملايين الفتيات ..؟
هل أخطئت بشيء ..؟ هل استفزته ..؟ كيف وصل إليها ..؟
راحت تلك الأسئلة تعربد نيرانا مستعرة في جوفه ..
و هو يطلق لهبها انفاسا عميقة ..
ليس الموضوع بالسهولة التي يظنّها غيث ..!
سيموت كمدا ..
يشعر بالقهر الحارق كلّما استعاد الأمر في ذهنه ..
سيتزوجها .. حتما سيفعل . لن يتهرب ..
لا تسمح له كرامته و لا الرجولة بهذا الفعل ..
و لا يتخيّل أنه قد يعيش معها تحت سقفٍ واحد ،، يراها كل يوم .. و كل ليلة ..
ليتسعيد ما سمع عنها ..طوال الوقت ..!
رغم هذا سيكابد المستحيل بهذا الفعل .. مع الزمن سيخبو هذا الوجع الذي يمزّق نفسه ..
و هذه الكراهية للعدم الذي لم يجد احدا يوجهها إليه ..!
رغم كل هذا .. لا يتخيّل أنه قد يلومها على ما حصل ..
غيث يثق بأخلاقها .. و متأكد من القصة ..
و هو يثق بحكم أخوه الأكبر .. و يعلم أنها لم تكن لتبقى حيّة لو أنها أخطئت مثقال ذرّة و تسببت بما جرى لها ..!
كلّما تخيّل الأيام البائسة الصامتة التي سيعيشها مع هذه الشابة يوما .. يتفجّر الغضب داخله ..
الغضب الذي سيعاني و هو يبتلعه مرارا ..
إذ أنه ليس بالرجل الذي قد يمارس الإذلال على قريبته ،،
لمجرد أنها تعرّضت لأمر مشين خارج إرادتها .. و يرى أنه تفضّل عليها بالستر الذي قدمه لها ..
كان قد فكّر بالأمر مطولا ..
تخيّل كل ما سيمر به ..
و كأنما عاش حياة منفصلة بأكملها منذ حدثه غيث عن الأمر .. و وافقه هو ..
الآن يريد أن يراها .. بالمنظور الجديد الذي حصل عليه ..
زفر بقوّة .. مع ازدحام الأصوات الهامسة و نزول روضة من السيارة كي تسلّم على بنات عمّها القادمات ..
الضوضاء التي أتت من الخلف .. و روضة تنزل أحد الكراسي الخلفيّة سامحة لمن تريد الجلوس في الخلف بالمرور ..
أما هو فراح ينتقي أنفاسه بصبر ..
يبتلع كل أفكاره .. و كل ما يشعر ..
تأكد من غيث للتو بأنه لم يخبر الفتاة بعد عن اتفاقهم .. ما يعني بأن لا علم لها بأنه الوسيلة الوحيدة لسترها ..!
.
.
- حامــد ..!!
التفت لروضة بعد ان استقرت مجددا في مقعدها .. و ابتسامة عريضة تتوسط وجهها ،،
- القوم في ظهورها ..
لا يدري لما ابتسم أمام كلماتها .. رغم أن آخر ما قد يرغبه الآن هو الإبتسام ..!
هل سلّمن ..؟ بالتأكيد فعلن .. لكنه لم يسمع .. و لم يرد ..
تأكد من أن الأبواب جميعها مغلقة .. قبل أن يسأل بهدوء ..
- تم حد ..؟
هزت روضة رأسها بلا .. و الإبتسامة السعيدة لا تزال ترتسم على وجهها ..
بدت كطفلة فرحة بأمنية قدّمت لها ..
و تساءل في داخلها عن اهتمامها بهم .. و قربها الشديد من بنات عمّها ..
و سعادتها بقدومهن ،، التي لاحظها جميع من حولها ..
تحبّهن دون شك ..
لكن لما لا يرى هذا الحماس في قربها من أختها يا ترى ..؟
شيخة التي بدت له فجأة وحيدة للغاية .. فروضة على ما يبدو منشغلة بالقادمين الجدد .. و تجهيزات عقد قرانها ..
هل علمت بأمر مشاجرة الأولى مع ابنة عمّهم يا ترى ..؟!
عقد جبينه باستياء .. و هو يستعيد المنظر المشين الذي رآهن عليه و هن يتشاجرن كالقطط ..
معاملته لعوشة بقلّة احترام ..
و الألفاظ النابية التي أطلقت ..
لم يكن قد انتبه لما قيل بالحرف من مشادة كلامية يائسة بعد قتالهن ..
و السباب السوقي الذي أنصت إليه و هي يبعدهما عن بعض لم يعني له شيئا ..
لكن الآن .. و هو منخرط بأحاسيسه السوداء الجديدة ..
راح يتجاهل كل ما يتعلّق بعفرا .. و بشعوره و هي تجلس في الخلف ..
و كل فكرة تدور في رأسه عمّا حدث لها و ما سيحدث مستقبلا ..
تجاهل الضيق .. و النفور .. و الشعور النبيل بالتضحية .. ليفكر للحظة بصفاء ..
في أمرٍ لا دخل له بكل ما حوله الآن ..
تهجّمت عوشة على أخته صارخة .. و هي تعايرها بما سمته - بنات شوارع - ..!!
اتسعت عيناه من خلف نظارته الداكنة ..
ما الذي قصدته جوار كل ذاك السباب البذيء الذي أطلقته شيخة بحماس..؟
أتكون أخته الصغرى قد انخرطت في علاقة ما مع فتياتٍ سيئات ..؟
تصلب جسده إثر هذه الفكرة ..
عليه أن يحدّثها .. و يسألها على الأقل فـ .....
- حامد .. حامد ..!! حور تتخبرك ..
قالتها روضة تنبهه ..
ليرفع رأسه بتلقائية للمرآة الأمامية .. و هو يرد بصوته العميق الذي دوى بقوة في السيارة ..
- مرحبــا حور .. شحالج ..
اكتسحت عيناه السواد الذي يغطيهن في الخلف .. و صوت زوجة أخيه الهادئ يسأله ..
- بخير ربيه يعافيك .. شحالك حامد .. ربك بخير ..
عاد ينظر للأمام و هو ينطلق بسيارته و التقطيب لا زال معلم واضحا على جبينه ..
- يسرج حاليه .. شحال أخوانج .. و شحالها عموه ..
- الحمد الله ،،
و صمتت للحظة قبل أن يتدفق صوتٌ خافت من خلفه .. بأحرف متعثّرة ..
- شهــااااك .. هااااامد ..
رفع نظره بسرعة لروضة التي أشارت فورا لأذنها و هي تقول له ..
- المها بنت حمد .. أشر بيدك .. ما تسمعك ..
ارتبك فجأة .. و هو يبطئ من حركة السيّارة..
الصمّاء إذا ..!
كيف عليه أن يجيبها ..
و بارتجال رفع أبهامه بعلامة النصر دون أن يلتفت للخلف .. ثم أدار كفّه بخفّة .. يشير عن حالها ..
قفزت ابتسامة على شفتيه حين أتاه صوتها الخافت .. بنفس الأحرف المكسّرة ..
- همد الله ..
صوتٌ آخر يخلف صوتها الخافت ..
- حامد شحالك ،،
يتبعه صوت روضة تقول ..
- عفرا بنت حمد ..
.
.
تفجّرت مشاعره في ثورة حارقة ..
شعر بالغضب يتصاعد لرأسه حين سمع إسمها ..
و أصابعه تتقلص على المقود .. مع تصلّب ظهره و ملامحه بقوة ..
هي .. هي .. هي ..
باستماته راح يبتلع غضبه .. يصر على أسنانه ليقول بأحرف مختنقة من بينها ..
- الحمد الله ..
فيما كل ما يريد فعله هو إيقاف السيارة .. لجرّها .. و القائها خارجا ..
لحظة سكون .. و صوت آخر يسأله عن حاله .. و روضة تستمر بالتعريف ..
لم يلاحظ أحدٌ جفاءه ..
راح يجيب بآليّة .. و البرود ينمّل أطرافه ..
شعور كريهة يتسلل داخله .. دون أن يظهر ذلك ..
ستكون هذه الليلة صعبة ..
صعبة للغاية ..
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
- حد غاصبنه خوج ايي ويانا ..؟؟
قالتها دانة بعد مرور ساعتين من تجوّلهن في المركز التجاري .. و عيناها تلتقطان وجه حامد العابس و هو يقف خارج المحل مع هند و مزنة .. يمسح على لحيته بانتظارهن ..
تتبعت روضة نظراتها قبل أن تبتسم بخفّة ..
- لا و الله .. انا تخبرتهم الثلاثة .. و هو لي ضحى بوقته !!
قالت نورة بهدوء و هي تداعب بيدها فستانا ناعما بلون البحر ..
- يمكن ندم ..!!
لكن قبل أن تقول شيئا آخر .. جذبتهن شهقة مسموعة من الجانب الأيمن .. ليستدرن معا .. و همسة حور الغاضبة تصلهن ..
- مررررض ..!!
كانت توبّخ عفرا على شهقتها .. .. اقتربن الثلاثة منهن .. و روضة تتسائل بابتسامة ..
- بلاكن ..
التفتت عفرا نحوهن و هي تشير للفستان ..
- شرايكن فيه ..؟
نظرن إليه معا .. لتقول نورة ببساطة ..
- حليوو ..
نظرت لها عفرا بفتور من خلف الغطاء ..
- بسبعه ألف و ثمانمية ..
شهقن دانة و نورة معا بصوتٍ مرتفع ذهولا .. و حور تقول من بين أسنانها بهمس ..
- عنلااااتكن يا السبالات ..
همست دانة بخفوت و هي تدني رأسها منهن ..
- آآه يا فواديه .. ثمانية آلاف .. بتيينه جلطة ..
نظرت نورة مجددا للفستان ..
- وعع .. حتى هب من زينه .. شكله عادي ..
لكن روضة قالت بصراحة ..
- بالعكس .. شكله ناعم .. وايد حلو .. حتى لونه راوي ..
سألتها عفرا بسخرية ..
- و بتدفعين فيه ثمانية آلاف عسب تلبسينه ..
ابتسمت روضة ببساطة ..
- و ليش ما أدفع .. هاي أسعار الفساتين الحينه .. تحت الألفين ما بتحصلين ..
ثم أدارت عينيها بينهن .. لهم ساعتين يتنقلون من محلٍّ إلى آخر .. ترى ترددهن الفاضح في اختيار أي قطعة .. لمجرد أن البطاقة المعلّقة عليه تخبرهن بسعره .. إستطاعوا انهاء شراء فستانين لهند و مزنة .. بعد أن خاضت جدالا طويلا مع حور التي رفضت شراء الفستانين بحجّة أن أسعارها مرتفعة ..
في اللحظة التي رأتهن .. يدرن من محلٍّ إلى آخر .. راودها شعور بأنهن مغمورات ..
هي اشترت لشيخة فستانا يفوق ما رأنَّ سعرا .. و لم تكترث أختها بالقاء نظرة واحدة له ..
و هن يكافحن للحصول على قطعة لا يشهقن وراء سعرها ذهولا ..
سحبت نفسا عميقا و هي تردف بقوة ..
- بنات .. مساعة و نحن ندور فالمحلات .. كل ما عيب وحدة منكن فستان ما طاعت تشلّه لنه غالي .. وين بتحصلن فساتين رخيصة ..؟ و ليش رخيصة و نحن كلنا فساتينا من خمس لعشرة ألف .. العرب بيشوفونكن أول مرة في الملكة .. ما تبن تظهر كاشخات و مرتبات .. و الله ان الرصيد يسد نشتري مية منهن .. بس انتن اخذن لي يعيبكن و لا تستهمن من الأسعار ..
اعترضت حور بصوتٍ واثق ..
- روضة .. هذا اسراف ..
قطبت روضة التي كانت الوحيدة بينهن .. الواقفة بلا غطاءٍ على وجهها .. و هي تقول بهدوء ..
- هاي أسعار الفساتين هنيه .. كل وحدة تشل لها فستان .. لنا ما بنظهر من المول الا و انتن مخلصات .. الفلوس ما يبتها من مخباية .. الفلوس فلوسكن .. و اصرفنها كيف ما تبن .. بس حركنّا شويّة .. عقب شويه بيأذن المغرب .. و عدنا ما خلصنا .. متى بتقايسن .. و متى بناخذ الاكسسوار و النعول .. و الخرابيط الباقية ..؟
- قالت نورة بسرعة ..
- أي خرابيط باقية ..
- بدلات .. تنانير .. و شناط و نعول .. و مكياج .. و عطور ..
سألت حور بصوتٍ لم تخفي فيه ضيقها ..
- و ليش كل هذا ..؟ الملكة ليلة وحدة بس ..
- و عقب الملكة باسبوعين عيد الأضحى .. نبا نخلّص لكن كل شي .. حور فديتج .. لو تميتن كل شوي اطالعن السعر و تردن لي يعيبكن لنه غالي ما بنخلص .. انا أدري انها هاي الأسعار .. و متعمدة يايبتنكن هنيه .. انتن بنات حمد بن سيف .. ما نباكن أقل من حد .. نص لي بيوون الملكة .. يايين عشان يشوفونكن ..
زفرت حور بصوتٍ مسموع .. و روضة تلح عليهن ..
- دخيلكن خلصنا .. حور .. عقب ما نظهر من المحل هذا بنرد تينا و بناخذ الفستان البنفسجي لي عيبج ..
أنكرت حور بسرعة ..
- ما عيبنيه ..!
لكزتها روضة بخفّة ..
- جب .. كذابة .. عيبج .. و تميتي ساعة تبحلقين فيه .. بيطلع روعة عليج .. لونه غامج و انتي بيضا ..
تمتمت دانة بشيء من الخجل .. و هي تشير لواحدٍ بلون الذهب في أقصى المحل ..
- انزين بنات شرايكن في الذهبي ..
ابتسمت روضة لتجاوبها .. و هي تقول بانبهار ..
- اوووووووف .. و الله ان شكله طر ..
- بس ظهره مفتوح .. و ماله أكمام ..
عقدت روضة جبينها ..
- انزين .. حلو كذيه ..
تدخلت حور تقول بنبرة قاطعة ..
- لا .. شوفيهم رويض لو ما يرومون يعدلونه و يغطون ظهره و نركب له أكمام .. ما بتجربه ..
تذمرت روضة ..
- انزين عادي لو طلعت ايدينها .. شوه فيها .. عند الحريم ..!!
لكن عفرا من ردت هذه المرة .. و هي تكرر جملة سمعتها ..
- لا روضاني .. ابويه الله يرحمه ما خلانا نلبس البجامات .. تبينا نتفصخ قدام الخلق .. لي كان أبويه يمشيه بيمشي علينا حتى عقب عينه ..
همست روضة و هي تتنهد ..
- الله يرحمه .. انزين هب مشكلة .. بس هب أكمام طويلة .. يا مفتوحة .. و الا قصيرة .. و الا بنسوي حركة .. واحد طويل و واحد نص .. شرايكن ..؟؟ عاد فستان بكم طويل و الله ما بيطلع حلو ..
وافقت حور على مضض ..
- ما عليه .. بيصير خير .. شوفيهم بيعدلونه أول .. ؟؟
أومأت روضة بسرعة ..
- لا تخافين .. يعدلون .. قد شريت من عندهم مرة ..
و لوّحت للمرأة الواقفة عند أحد تماثيل العرض .. لتقترب المقصودة بسرعة .. و روضة تشير للفستان الذهبي طالبه منها أن تنزله لدانة ..
راحت نورة تتجول بين مختلف الألبسة المعلّقة في المكان ..
و عفرا تقول لروضة و حور ..
- خلاص .. أنا برد و باخذ الأحمر بو خيوط لي شفنا عدال محل فساتين الصغارية .. هب حلوو ..؟؟
شجّعتها روضة بحماس مبتهج ..
- الا حلوو .. شكله روعة من الخاطر .. لو شفته قبل ما آخذ فستانيه كان خذته ..!
شعرت حور بمحاولات روضة لاشعال حماسهن و دفعهن لأخذ راحتهن .. و إمتنت في داخلها لما تفعله .. لذلك قالت بهدوء ..
- خلاص روضة .. نحن بنخلص المهم الحينه و الأشياء لي يبالها مقاسات .. عسب لو بقى شي .. أرد أنا و انتي باكر .. ما يحتاي .. انسير كلنا .. و الا شوه الشور ..
وافقتها عفرا ببساطة ..
- صادقة حور .. الأشياء لي ما يبالها قياس .. و تروم حور تييبها لنا .. أجلنها لباكر .. و نخلص الليلة كل شي يباله مقاس ..
دهشت روضة و هي تتسائل ..
- يمكن لي تييبه حور ما يناسبكن ..
لكن عفرا قأكدت لها ..
- بيناسب لا تخافين .. أول كان ابويه يودي أميه و حور بس .. و هي تتنقى لنــا .. ذوقها حلو ..
هزت روضة كتفيها و هي تنظر لحور ..
- خلاص .. ما عنديه خلاف .. بس الحين نخلص من هالمحل و نسير المسيد نصلي ..
ابتسمت حور بحب و هي ترى المهــا تقف قرب فستــان مذهل بلونٍ الزفير الأزرق .. انسل قماشه الحرير برقّة .. ليلامس أطرافة الأرض .. و تنتشر حول ساقي تمثال العرض ..
انخرطت نورة و عفرا في مناقشة ،، فيما انشغلت نورة بالبحث مرة أخرى ..
مهلا ..!
أين مزنة و هند ..؟
دارت بعينيها تبحث عنهما بلهفة ..
سرعان ما رأتهن عبر واجهة المحل الزجاجيّة .. على بعد أمتارٍ يقفن مع حامد الذي اتكئ بظهر للخلف .. و يحدّث مزنة .. فيما تقف هند بعيدا عنه بشيء من الخجل ..
التفتت للمها .. و لامست كتفها بخفّة لتستدير لها أختها بسرعة ..
تقابلها حور بابتسامة لن تراها .. قبل أن تشير بيدها للفستان الناعم .. ثم تلوح بحركة تسألها فيها بماذا ..؟
أحرف المها المكسرة تنساب من خلف الغطاء و هي تقول بخفوت ..
- هلوووو ..
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
- بألف و ميتين ..؟!!!!!
قالتها بذهول و هي ترفع الحذاء في وجه روضة التي قطبت جبينها متسائلة ..
- هيه .. ما تشوفين السعر ,,
زفرت دانة و هي تقول ..
- أشوف السعر .. بس مصدومة ..!! حد يشتري نعول بألف و ميتين ..؟ نعول بس بألف و ميتين ..؟؟ نحن أيام أبويه الله يرحمه .. ثياب العيد شرا و تفصيل و نعولها .. و الفوالة .. و الحنا ..و عروسة لمزنة .. ما تيي ألف و ميتين ..! تبينا نشتري نعول بألف و ميتين ..؟
لم تستطع روضة استيعاب اعتراضها .. فالتفتت نورة التي بدت مذهولة هي الأخرى من الأسعار ..
- نورة ما لقيتي شي عيبج ..؟
ردت نورة باستنكار ..
- شي عيبنيه ..؟ الأسعار كلها فوق السبعمية .. ما نبا نشتري من هنيه ..!!
رفعت روضة رأسها للسقف ..
- يا بنات الحلال .. أنا أعرف ان هاي أسعاره .. و متعودة أيي هنيه .. لازم ايكون غالي .. ماركه عالمية ..
قلبت دانة الحذاء في يدها ..
- نحن ما نبا الماركة .. انتي صاحية ..! أنا ما بروم أمشي بهالنعول .. بتم أتسحب بها .. خايفة عليها ..
ثم زفرت و هي تعود للقول ..
- ألف و ميتين ..!!!
تنهدت روضة و هي تجذب الحذاء من يد دانة ..
- و لو ما تبين الماركة .. من وين ناخذ لج ..؟؟
- من أي مكان .. أو أي محل من هالمحلات .. ان شا الله سوق البتان .. لكن أحط ألف و ميتين ع نعول .. حتى لو شفتي شكلها .. ما بروم ألبسها في المستشفيات و لا السوق .. كعبها وايد عالي .. و يطلع صوت ..
- انتي لي تبين الطول ..!! و بعدين وين هذا سوق البتان لي بتشترين منه ..
- ابا الطول بس هب بألف و ميتين .. الله يغربلهم ..!يعني نعولنا نحن كلنا بعشرة آلاف ..؟؟!!! مادري وينه سوق البتان .. تخبري حامد خوج يمكن يدله ..
اتسعت عينا روضة بصدمة ..
- أسير و أقوله ودنا سوق البتان .. بنات عميه حمد ما يبن يشترن من هالماركات ..؟؟!
ضحكت نورة ..
- ذبحتينا بالماركات .. شوه فيها من زود .. بتلقين وحدة نفسها .. و نسخة طبق الأصل بنص السعر في الأماكن العادية ..
التوت ملامح روضة بشيء من الاشمئزاز و الاستنكار ..
- تبينيه أناا روضة بنت علي .. آخذ تقليد .. لا فديتج .. فلوس أبوية تييب المحل بكبره لو أبا ..
ضربتها نورة بالحذاء الذي كانت تمسكه ..
- خقاقة ..
اتسعت عينا روضة بذهول ..
- نورة يا الجنقل .. نحن فمكان عام ..
- شوه جنقل .. الحين أنا أدغال ..
- قصدي غجرية .. و المحل هذا ما بنظهر منه .. الين ماخذات نعولكن .. اففف .. افف .. يبالكن ظرب .. افهمن .. فلوس أهلكن شرا التراب .. و ما ترومن تاخذن ماركات .. شوه بيقولون العرب ..؟؟
اتسعت عينا دانة من خلف غطاءها ..
- الحين العرب بيقيمونا بالشي لي نلبسه ..؟؟
ردت روضة بسرعة ..
- عيل ..؟؟ يعني لبس الواحد .. و ذوقه و قيمة اللي بيلبسه هي لي ترفعه في عيون الناس ..
قطبت نورة حين لم يرق لها هذا المنطق ..
- يعني الحين قيمتيه من قيمة لي بلبسه ..؟
- لا .. لكن طريقة لبسج هي لي تدل ع شخصيتج ..
ربتت دانة على وجهها بأناملها ..
- آهاا .. يعني يوم بلبس الماركات بكبر في عيون الناس .. و يوم بلبس العادي .. بطلع ما أسوى شي .. هممممم غريب ..!! لنيه من 17 سنة ألبس عادي .. و العرب كلهم يحبونيه .. إلا معلمة الفيزيا .. بس ما شفتها تطالع ماركة نعوليه ..!
ضاقت عينا روضة على ابنة عمها و هي تلمس السخرية ..
- لا و الله .. تطنزين دانة علمي ..؟
- لا أتطنز .. يعني شي غريب و الله .. هاي نعول .. و هاي نعول .. بلبسها فريوليه .. و هاي بلبسها في ريوليه .. كلهن بفرهن عند الباب .. و كلهن بيتخيسن و بيتقطعن .. بس هاي بمية .. و هاي بألف و ميتين .. كل الفرق وسم ماركة ..؟؟!!
تأففت روضة غير مقتنعة .. قبل أن تجذبها دانة من ذراعها جانبا لتقنعها ..
- الحين بالله عليج شوه في هالزنوبة أم فص من زود يحطونها بألف و ميتين .. و الا الكعب بو خيطين لي في ايد نورة .. بحصله خاري بستين ربيّه ..
رفعت روضة رأسها للسقف بيأس ..
- دانة .. حومتي ذهني يا بنت الحلال .. نحن نشتري من هنيه .. عدنا فلوس .. نشتري ع قد فلوسنا .. هاي أصلية .. و تطول وياج .. ترومين حتى تورثينها عيالج .. بس شلي نعول و خلصينا ..
- أورثها لعياليه ..؟!!! ها لي قاصر .. أورثهم نعول .. هاي لو قاومت الماي اسبوع و ما طار فصها .. بحلق شعريه ع الزيرووو ..
عقدت روضة جبينها ..
- ليش ناوية تسبحين بها ..؟؟
هزت دانة رأسها و هي ترفع الحذاء البسيط في وجه روضة ..
- لا بحطها لحمامي ..
نظرت لها روضة بصدمة ..
لكن حين ميّزت تفلّت ضحكة دانة ظربتها على كتفها بغيظ ..
- عنلاااااااااااتج .. تضيعين وقتيه يا الفاضية .. انقفضي .. جربي النعول .. و الا خليناج تحضرين الملكة حافية ..!!
* * * * *
- هزاع .. اسمع الرمسة يا خووك .. السباق هب مهم .. و الدورة بناخذها .. بس الموتر صوته هب طيّب ..
قالها أحمد بإلحاح و هو يرفع صوته ليرتفع فوق ضجّة الجموع المتجمهرة الصاخبة .. لهزاع الذي كان يقف أمام سيّارته بلا مبالاة ..
ليغمض الأخير عينيه بشيءٍ من الضجر ..
- أحمدووووه .. صدعتني ياا خي .. كم مرة أقولك .. أنا حر فموتريه .. بدخل به السباق .. شوه مشكلتك انته ..
كان متوترا للغاية .. و قلقا .. و لا ينقصه إلحاح أحمد المستمر منذ وصولهم .. و هو يحاول إثناءه عن الدخول للسباق ..
لكن أحمد أصر ..
- السلعاوي زاهب .. و الا أي حد من الإحتياط .. اعتذر و هو بيمثل كنجز بدالك ..
رفع هزاع حاجبه .. و هو يشعر بشيء من الضيق يجتاح أعصابه المشدودة ..
- السلعاوي لو يموت .. ما بيلعب بداليه الليلة .. أدري انها الغاية .. لكن بعيد عن خشمه ..
تأفف أحمد بقهر من عناد ابن عمّه ..
- ياخي خل عنك البطرة .. لو اتسابق بموترك و هو خربان .. و انقطع السير .. بتنقع المكينه .. لا تسااااااااابق .. و لو ما تبا السلعاوي .. عندنا غيره ..
اللحظات التي تفصله عن بداية السباق .. كانت عصيبه بحق ..
مشحونة دوما بالتوتر .. و القلق .. و الترقب ..
و ضاعف ذلك .. العطب في سيّارته ..
و إلحاح أحمد المستمر .. الذي راح يدوي كالأزيز في أذنيه ..
لن يسابق أحدا غيره الليلة .. لا أحد ..
- و منوه غير السلعاوي ..؟
أجاب أحمد بسرعة ..
- شبيب .. و أنا .. أي حد ..؟
عقد هزاع جبينه بعصبيه .. لا يكفيه إلحاحهم على السلعاوي .. لينقلب أحمد و يطالب بالتبديل هو الآخر ..
- آهاا .. يعني انته تبا تسابق ..؟؟
نظر له أحمد و هو يقول ..
- و ليش ما سابق .. هب احتياط هنيه .. و الا ياي أشجعك بس .. لو موترك خربان لا تتهور .. و تدخل به .. ما بيخسر التيم بس .. يمكن يستوي بك شي ..
خذلان غريب شعر به هزاع و هو يرى ابن عمه و صديقه الأقرب على مستوىً واحد من السلعاوي الذي لا يريد الا انتزاع مكانه من الفرق ..
- و يوم انك تبا تسابق ليش ما تقولها من لول .. مليت من الاحتياط .. و لقيت العذر و حاشرنيه من الصبح .. كان قلت ليه .. و خليتك تسابق بداليه ..
لا ..
لم تكن هذه النبرة لطيفة أبدا ..
شيطانٌ أخرس راح يحرّكه مستغلا غضبه ليتقمص لسانه .. و هو ينظر لأحمد الذي بدا مذهولا لبرهة ..
- أنا ابوك يا علي ..!!! الحينه أنا ما استهميت عليك الا لنيه ابا اسابق بدالك ..؟؟
يعلم أنه يفسد الوضع بكلماته ..
لكن التوتر و العصبية لم تسعفاه .. و هو يقول ببرود ..
- يعني لو اعتذرت ما بتسابق مكانيه ..؟
رفع أحمد حاجبه و هذه النبرة لم تعجبه البتة ..
- و ليش ما سابق .. هب احتياط ..؟
- لو انته تعرف تسوق ما حطوك احتياط بداليه أنا .. عسب كذيه تبانيه أعتذر ..؟ تبا تسابق بداليه ..
أخفى أحمد صدمته ببرود ..
- و اذا سابقت ..؟؟
- لا تحلم وايد بس .. لنه محد بيسابق غيري .. لو يحترق الموتر حريق .. و بدال لا ترقبنيه أعتذر .. و تيي مكانيه .. سير تعلم كيف تسوق عسب تنحط أساسي ..
قطب أحمد بنظرة غريبة .. و مسح على لحيته ..و هو يقول بصوتٍ مستنكر ..
- اتصدق انك ياهل ..!!
- محد سألك ..
- ياهل .. و الشرهة هب عليك .. الشرهة ع لي يخاف عليك .. اذلف سابق .. تخسر .. و الا ينقع الموتر .. أنا ما بيلس لك تفك حرّتك ع الموتر فينيه .. ترانيه لام ثميه بكيفيه .. و الا اعرف كيف أرد عليها رمسة الحريم هاي ..
قالها قبل أن يلقي نظرة أخيرة ..
امتزج فيها الاشمئزاز بالخيبة .. و بمكابرة ..
شعر هزاع بالذهول ..
لم يكن أحمد حساسا هكذا .. أم أن كلماته كانت - رمسة حريم - بحق ..؟!
تبع بعينه عرض قفاه و هو يتوجه نحو سيارته ..
أفسد الوضع .. صب جام اضطرابه و غضبه .. و عصبية بداية السباق على أحمد ..
كلماته الشائكة خدشت روح صديقه الطيبة بقسوة ..
رفع يده .. يريد أن يناديه قبل أن يرى الزحام يبتلع جسد أحمد .. فأسقط يده
و هو يشتم بقسوة ..
هذا ما ينقصه .. شجار مع أحمد .. ليزيد من السوء الذي يشعر به ..!!
- بو سلطااااان ..!
استدار نحو محمد منسق الفريق بسرعة و الأخير يقول ..
- انته ورا اللي ورا لي بيسابق الحينه .. حمي الموتر .. و حرّك للشبك لي قدام ..
رفع ابهامه بعلامة النصر ..
قبل أن يستدير بعينه للمكان الذي اختفى فيه أحمد للتو ..
و هو يزفر بقوة ..
انقبض صدره بشيء من الألم ..
لم يبدأ يوما أي سباق دون أن يكون أحمد الى جانبه .. ليشد من أزره ..
أمسك بعمامته .. يلفّها على وجهه متلثما .. ليخفي ملامحه بعناية .. و هو يحتل مقعد السائق ..
الإختباء الذي يقوم به دوما خشيّة أن تلتقط صورته بشكلٍ ما ..
هل استقل أحمد سيارته و عاد للعين ..؟ لا بد أنه فعل ..!
ألما غاضب راح يجتاحه و هو يعتصر المقود ..
حرّك السيارة بخفّة اتجاه السياج الذي سينطلق من وراءه ..
و عينه تعود بلا كلل نحو الزحام الذي ابتلع أحمد ..
ليهمس بشيء من اليأس ..
- أحمد لا تخليني .. هب وقتك ..!!
يرى محمد يلوح بيده .. و هو يقدم سيارته بسهولة نحو المكان الذي سينطلق منه ..
أنفاسا عميقة يسحبها .. ليطلقها متعاقبة .. و هو يهدئ من توتره ..
دوما يخالجه هذا التوتر قبل كل سباق ..
لكن الأمر مختلف هذه المرة ..
هناك عطلٌ في سيارته .. لا يعلم هل سيصمد المحرك بوجوده حتى القمة ..؟!
بالتأكيد يختلف الأمر .. أحمد لا يقف عند خط الإنطلاق .. متلثما بغترته .. مشيرا بعلامة النصر ..
يخبره أنه هنا ..!
توقف مكانه .. ليضغط مرتين على دواسة الوقود فيزأر محرك السيارة بقوة ..
سموت كمدا إن خسر .. عندها سيجد أنه أبعد عن أحمد فرصته في السباق .. و كابر كالطفل كما أشار من أجل خسارة ..!!
ها هو المتسابق الثاني من فريق - مِطراش - يتعرقل ليبطئ سرعة سيارته عند منتصف - العرقوب - العالي ..
حرّك سيارته بمرونه ..
دقيقتين تفصله عن الإنطلاق ..
نظر حوله .. يبحث عن طيفه ليدفعه إلى الأمام بشجاعة ..
لكنه لم يره ..
لا .. يحتاج لأن يكون أحمد موجودا معه ..
الدقيقتين تمضي ..!
و هو على وشك الإنطلاق ..
و في جنون لحظة ..
انتزع هاتفه من جيبه .. و بأصابع عجولة .. أخطأ الرقم مرتين .. قبل أن يلتقط الخط ..
صوت تقطع الرنين الذي طال دون إجابه أخبره أن أحمد لن يرد ..
عاد يتصل مرة .. و مرتين ..
قبل أن يشتم بهمس ..
- أحمد يا الهرم .. رد عليّه ..
و كأنما سمع أحمد شتيمته .. توقف الخط المتقطع عن الصياح .. ليتدفق صوته البارد ..
- هلا ..
- أحمد وينك ..؟؟
كان صوته غريبا .. نبرة جافة لم يعتدها هزاع منه ..
- ماسك الخط .. و راد العين ..
اتسعت عينا هزاع ..
- أحمد عنلااااتك يا الياهل .. رد ..
استنكر أحمد ..
- انا ياهل .. و الا انته .. هب أنا لي خايف يقولون عنيه انسحبت لن موتريه خربان ..
ثم أردف بنبرة ساخرة ..
- أنا حيا الله واحد .. ما عرف أسوق و الا ما حطونيه احتياط .. خلاص .. بعيد أنا الحين .. قد وصلت الشارع العام ..
أغمض هزاع عينيه بيأس .. هذه كلماته ..!
- أحمد يا السبال .. و الله لو ما ترد الحين .. بنسحب من السباق .. خلاص .. الحين آخر الوقت .. و الانسحاب خسارة .. بيقولون الكاسر خسّر - كينجز - .. و انيه خايف من - ما تهاب - ..
صاح أحمد ..
- انسحب يا الكلب .. و الله لدعمك بموتريه ..
ابتسم هزاع حب السباقات يجري في دمهما ..
- رد يا أحمد ..
تنهد أحمد و هو يقول ..
- انزين طالع يمينك .. صوب الكيمرات ..
التفت هزاع بتوتر .. نحو اليمين ..
- ليش .. سـ ...
و قطع عبارته و هو يرى السيارة المألوفة المتوقفة قرب الكاميرات ..
نافذة السيارة المفتوحة تكشف عن ذاك الرأس المتلثّم .. و إصبع النصر المرتفع ..
فيما صوت أحمد يقول بقوة ..
- هزاع بطيخة .. اخسر يا حمار .. و الله لأقلصك بموتريه .. و شوط بك ويلات في الميدان ..
ضحك هزاع بقوة ..
فرحة .. و راحة .. و شيء آخر . راح ينبض به صدره ..
جميل أن تشعر بأن هناك من يقف خلفك ..
لن يخذلك .. حتى لو فعلت ..
يظل أبدا يشد من أزرك ..
حتى في اللحظة التي تعتقد أنه أدار ظهره لك ..
و مضى ..!
أغلق الهاتف و رماه جانبا ..
تقدم بسيارته في اللحظة المناسبة .. و اسم فريقه يصدح في المكبرات مع صراخ الجماهير المحتشدة .
كان يبتسم بثقة غريبة الآن ..
سيفوز ..
و إن كان لمحركه أن ينفجر .. فليفعل ..
لكن في القمة ..
لذلك ما إن أعطي تلويحة البداية .. حتى إنطلق ،،
السرعة العالية العادية ..
يقطع المسافة البسيطة قبل أن يرتفع على و تلامس سيارته الكثبان الثقيلة ..
رجله تدوس بقوة على دواسة البترول ..
لنطلق زئير المحرك مع ارتقاء السيارة بسرعة ..
النافذة النصف مفتوحة ..
تسمح للهواء البارد بالتدفق إلى رئتيه المتحمستين و هو يلهث ..
يضغط أكثر بقدميه ..
السرعة المجنونة التي وصل بها .. أشعرته بالنشوة ..
لحظات فقط ليبلغ القمة ..
هدير محركه كان يصمّه عن صرخات الجماهير .. و التشجيع ..
ما إن بلغ القمة .. حتى عاد للنزول ببطء الآن ..
فالمطلوب هو بلوغ الأعلى فقط ..
متأكد بأن الفوز حليفه ..
هذه المرة لم تغفل عينه عن الساعة في سيارته و هو يرى الوقت الذي استغرقه للصعود ..
ما إن انسلت سيارته عائدة خلف السياج .. تقدم ليوقفها قرب .. فريقه ..
التجمهر المتحمس الذي كان يصرخ و يصفق ..
بمجرد أن توقفت سيارته .. حتى فتح بابه بعنف ..
نظر بفرح نحو الوجه الذي بدا عبر فتحت الباب ..
و ذاك يضحك بانتصار قبل أن يلكمه بقوة ..
- 39 ثانية يا البطيخة .. أربع ثوانيه بينك و بين ما تهاب ..
لكن هزاع لم يهتم لذلك .. فقط قفز من سيارته .. ليحتضن ابن عمّه بقوة ..
شعر بأنه انتصر بشكل ما قبل أن يبدأ السباق ..
شعر بأحمد يضحك بفرح ..
لكن أسى غريب خالط بهجته هو .. و هو يستعيد الكلمات التي قالها له ..
أغمض عينيه و هو يشد على أحمد هامسا ..
- أحمد .. سامحنيه يا خويه .. سامحنيه ..
اشتدت قبضة أحمد و هو يضحك ..
- لم ثمك .. ما نسيت السالفة و بلعن خيرك عليها ..!
* * * * *
.
.
بعد مرور يومين ،،
.
.
جلست بهدوء على أحد المقعدين المتقابلين أمام المكتب الخشبي العريض لإخصائية المركز التي كن ينتظرنها بصبر ،، بعد أن قدّمت حور أوراق المها لمكتب الناظرة و أتمت إجراءات التسجيل بشيء من الجهد ،
فيما قضت المها وقت الإنتظار باجتياز بعض الإختبارات الفكرية الخفيفة ,,
قبل أن يطلب منهن البقاء لالتقاء الإخصائية المشرفة هنا ..
كانت قد انتهت من جنون التسوق الذي اعترى روضة .. و قضت أهم حاجياتها بالفعل ..
آن لها أن تلتفت قليلا للمها .. لتمنحها حقّها من الإهتمام ..!
التفاتة واحدة نحو ملامح المها الناعمة و قد انقبضت بشدة .. تخبرها أي توتر تعايشه أختها الآن ..
هي نفسها تشعر بالإضطراب أيضــا .. شعور لذيذ بأنها ترافق المها لتسجيلها هنا دفعها لترى نفسها بمنظور المسؤول الحقيقي ..
هي من تمسك بيد أختها لتدفعها قُدما ..
ابتسمت لها بحب .. تشجّعها .. فيما انعكس الخوف في مقلتي المها الواسعتين ..
لم تكن المها قد ذهبت إلى مدرسة من قبل ..
ذاك الشعور الأول بالخوف و القلق .. التمسك بالأهل .. و الصراخ الباكي خشية رحيلهم ..
لم تعشه المها قبلا ..!!
لم تعرف ذاك الرعب الأولي و التوجس الخفي ..
و لا ذاك الحماس الدفين .. لطفلةٍ تتراقص بثياب المدرسة الجديدة ترتديها لأول مرة ..
تتقافز مستعجلة .. لتتطاير جديلتيها في الهواء .. تريد أن تبلغ السحاب ..
لا تعلم الصغيرة ما الذي حقا ستفعله هناك ..؟
تلعب مع بقيّة الأطفال .. أم تأكل .. أم أنها تمارس ما يسمونه - تعلم - ..؟
كل ما يخطر لها هو علبة ألوانٍ كبيرة .. و بياض لوحة سترسم عليها أحلامها اللذيذة ..
و سترسم أمها .. و أبيها .. و عائلتها كلّها ..
سترسم المعلمة .. و بقية الطلاب ..
و ستنثر كل ذرة حماس فيها .. و إن لم يفهموا معنى اللوحة و لم يروا من الوجوه سوى خطوطا متشابكة ..!
لم تجري أختها في الساحة الكبيرة وسط صرخات الفتيات قريناتها .. و ضحكاتهن .. و ألعابهن الطفولية ..
لم تشتم رائحة حذائها الجديد .. و حقيبتها الجلدية المزدحمة .. التي احتوت قبل الكتب أمنياتها ,,
لم تتبعثر الدفاتر حولها أرضــا و هي تزفر ضجرة .. تفكر ما بال هذه المدرسة تبدو صعبة أكثر مما تخيّلت ..
واجباتها .. و سبابة تتقافز منادية للمعلمة ..
متلهفة للتباهي الطفولي .. و الحماس بإجابة توصلت إليها قبل غيرها ..
درجات سلّمٍ طويل ترقاه .. واحدة تلو الأخرى ..
لترمي السنوات خلف ظهرها مع تقدمها ..
كل هذا و أكثر ..
لم تصادفه المها كما فعلن ..
و الآن بعد نضجها .. تكابد للمرة الأولى يومها الأول في طريق العلم ..
هدبها الطويل راح يخفق مراتٍ و مرات .. و هي تدير عينيها حولها ...
لتزحف أنامل حور نحو كفّها بخفة .. فتعتصره بتشجيع .. و هي تومئ لها بقوة ..
قبل أن تدلف المرأة الطويلة المتشحة بالسواد مع طرقتين على الباب .. و هي تقبل بإبتسامة ..
- السلام عليكم ،،
فوقفن حور و المها معا .. لترد الأولى و المرأة تصافح يديهن تباعا ..
- و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته ،،
بدا وجه المرأة البشوش مرحبا للغاية .. سيّدة في العقد الرابع من العمر تتحرك بخفة و هي تستدير خلف الطاولة لتجلس على مقعدها و هي تنقل بصرها بين الفتاتين الواقفتين ..
- حياكن الله .. تفضلن ..
تمتمت حور شاكرة ..
- الله يحييج و يبقيج ..
الثقة و الثبات اللتان لازمتاها دوما في شؤون إخوتها .. راحت تنير وجهها .. و صوتها الهادئ يعرّف عنهما ..
- أنا حور حمد سيف .. و هاي ختيه المها .. يايه أسجلها في المركز .. و تونيه مخلصه أوراقها ،، بس قالوا ليه لازم أخطف عليج ،، لنج المشرفة ع القسم لي يمكن تدرس فيه المها ،،
قالت المرأة برصانة و هي تزيح عددا من الأوراق من أمامها ..
- مرحبــا بج الشيخة .. هاي المها ..
و نظرت للمها التي راحت تطالها بوجه يشوبه الإرتباك .. لتلمع عيني المرأة إعجابا و هي تتمتم ..
- ما شا الله .. و لا حول و لا قوة إلا بالله ..
ثم أخفضت ناظرها إلى الملف القابع على طاولتها .. لتلتقط عيناها كلماتٍ من أول صفحة قبل أن تنظر مرة أخرى للمها .. ثم تلتفت لحور متسائلة ..
- إعاقة سمعية ..؟
أومأت حور بسرعة ..
- هيه نعم ..
قلبت المرأة الملف للحظات صامتة قبل أن تغلقه بهدوء و تلتفت لحور التي كانت تتأمل وجهها بملامحه المطمئنة ،، ثم تشرح لها بابتسامة لطيفة ..
- أنا نشوى حريز ،، الإخصائية المشرفة ع المركز ،، و متخصصة بالإعاقات السمعية و النطق ،
أومأت حور برأسها محيية .. و نشوى تريح يدها على الطاولة قبل أن تستفسر بهدوء ..
- بدايةً أنا عنديه سؤال .. لي لاحظته من ملف المها .. انها ما انظمت لأي مدرسة خاصة أو مختصة .. أو حتى مركز من قبل ..؟؟!
نظرت حور للمها و هي تجيب بسرعة ..
- هيه .. هاي أول مرة تدخل المها مدرسة من هالنوع ..
بدت الصرامة فجأة على وجه نشوى و هي تقول بشيء من الفتور ..
- أول مرة تدخل أي مدرسة ع حد علمي ..! و السبب ..؟
عقدت حور جبينها دون أن تفهم ..
- سبب شوه ..؟
نظرت نشو للمها التي كانت عيناها تتعلقان بوجه أختها و الإخصائية تلتقط إنفعالاتهما و التواء الشفاه بجهدٍ بالغ ..
- المها عمرها 20 سنة الحين ..!! شوه لي يمكن يخيلكم تتجاهلون تعليمها الين الحين ..؟ يفترض انها دخلت المرحلة التمهيدية من يكون عمرها أربع لست سنوات .. عسب تتأهل الطالبة للمرحلة الإبتدائية ،، بس الملف يقول انها ما مارست أي نوع من التأهيل أو الدراسة ..؟
شعرت حور بالإهانة الآن .. ألا تعتبر محاولتها لتعليم المها القراءة و الكتابة في المنزل إنجازا خارقا .. يفوق التأهيل بمراحل ..؟
- أخت نشوى .. الوالد الله يرحمه ما فكر يدخلها مدرسة أو ما شابه .. و نحن من كان عمرها 12 سنة علمناها تقرأ و تكتب في البيت ..
رفعت نشوى بصرها للمها بدهشة فاضحة ..
- تقرأ و تكتب ..؟؟ تعرف المهارات الكتابية ..؟
أجابت حور بشيء من الفخر ..
- هيه ،،
- يبتولها معلمة في البيت ..؟
- لا .. انا كنت أحاول أعلمها الأحرف الهجائية ..
ثم استطردت .. و هي لا تعلم إن كانت المعلومات بهذه الأهمية .. لكنها لم تشأ أن تغفل شيئا فيبدو تعليم أختها بلا أهمية ..
- و يارتنا كانت مدرسة في الثانوية .. و كانت تساعدها .. و تدرسها ..
رفعت المرأة حاجبيها بإهتمام .. و هي تحث حور ..
- تدرسها كيف ..؟؟
- تمييز الأحرف .. نطقها .. و لو ان المها ما كانت تعرف تنطق بعضها .. و تعرّفها على أشكال الأحرف .. خلاف .. نعطيها كلمات .. يعني .. كلمة مكونة من أحرف .. عقب صارت تقرن الكلمات بأشياء من قدامها .. و تفصل الكلمات على شكل أحرف .. تخلي المها تكتبها و تنطقها .. مثلا .. تعرف إن هاي طاولة .. و الطاولة تنطق بهالطريقة .. و الأحرف هي الطاء .. ألف .. واو .. لام .. تاء .. عقب فترة .. بدت تعطيها مجلة ماجد ..
شعور طفيف بالحماس راح ينتشر داخلها و هي تستعيد تلك الأيام ..
تعجبت في داخلها مما كانت تفكر فيه و تفعله ..
صغيرة للغاية .. فتاة في السادسة عشر .. تكافح كي تدفع أختها للتعلم ..
- تعرفها بالشخصيات .. نطق أسماءها ،، و قراءة الكلمات .. و فهمها .. و محاولة كتابتها .. على فكرة .. ترى خطها هب شي ..
و ابتسمت للمرأة التي هزّت رأسها بتفهم باسم .. قبل أن تتابع حور و هي تتذكر ..
- كانت خطة أم إياد إنها تخلي المها تتعلق بالمجلة .. عسب تتلهف لقراءتها .. و هالشي بيدفعها أكثر و أكثر للتعلم .. بس المشكلة كانت في ..
قاطعتها المرأة متممة ..
- في إن الفصحى تختلف عن العامية لي هي متعودة عليها .. و كل كلمة تعتبر مفهوم يديد صح ..؟
أومأت حور جيبة ..
- صح .. عسب كذيه هي كانت تسأل عن كل معنى .. كل كلمة تتعرف عليها .. شكلا و نطقا .. لازم نييب لها مرادف ملموس أو نظري .. عسب تشوفه .. و هاي مشكلة ثانية كانت تعوقنا .. لكن المها تعلّقت في مجلة ماجد .. و اعتمدت أكثر شي ع المغامرات المصورة .. و هالشي ساعدها وايد .. لكنها الحين بدت تاخذ اللغة الكتابية فصحى بس .. يعني لو بكتب لها كلمات بالعامية .. يمكن ما تفهمها على الرغم انها تفهمها بالإشارة و الصراخ ..
هزت المرأة رأسها و هي تجيب حور بتفهم ..
- المها تعلمت القراءة و الكتابة بالفصحى لي كانت غير مفهومة لها .. و هالشي خلاها تفصل بينها و بين العاميّة .. جربي تقرنين الكلمات الفصحى مع لفظة عامية مكتوبة .. و بالتدريج وايد مفاهيم بترتبط وياها .. مع انيه أفضل انها تستمر على اعتماد الفصحى لن الفصحى هي المرتبطة بالكتب و الجرايد و كل مقروء أكثر من العامية اللي نادرا ما تلقاها على الورق .. و تقتصر بس على تعاملها اليومي لي ما يحتاي كتابه .. ع العموم عنديه سؤال ،، الملف ما يظم أي كشف طبي على المها مؤخرا ..؟؟ متى آخر مرة سوت شيك أب ..؟
شعرت حور بنفسها تُفحم .. و لا إجابة قد تأتيها .. فقط هزت كتفيها بشيء من الخجل و هي تقول بخفوت ..
- مادري و الله ..
لكن المرأة أجابت بصبر ..
- يوم كان عمرها 11 سنة .. و التقرير يقول انه كان عندها التهاب في الأذن .. يعني محد حاول من عقب ما ولدت البنية يكشف على سمعها أو تطور الحالة ..
ردت حور بهدوء .. و هي تشعر بأنها في حربٍ كلامية عليها أن تثبت من خلالها كفاءتها في العناية بأختها ..
- إعاقة المها وراثية .. و من عقب ولادتها .. المستشفى عطانا تقرير صريح بإنه مالها علاج .. لا زرع .. لا أدوية .. و لا عمليات .. و لا حتى معينات سمعية .. الوالدة عندها نفس الإعاقة .. و يد الوالدة عنده صمم بعد .. ما كان فيه داعي للمراجعة الطيبة .. و الإعاقة ثابتة ..
ربتت نشوى على الملف بهدوء .. تنظر لحور بشيء من العتب ..
- لا ختيه .. الصراحة كان فيه داعي .. و داعي كبير .. لن حالة أختج يمكن تدهور .. و تفقد تدريجيا نسبة السمع الضعيفة لي عندها و تعتمد عليها في تمييز الأصوات و النطق ،، هالنسبة من التقرير تعتبر شبه معدومة درجة سمع أختج وايد منخفضة ،، تقريبا 75 ديسيبيل ما تعني سمع أبدا ،، و هالنسبة احتمال ترتفع لأكثر من 90 ديسيبيل .. و حزتها تكون صمم تام ..
تنهدت و هي تقول بلومٍ واضح ..
- يعني لا تأهيل أو تعليم .. و لا رعاية طبية .. مع ان المها ما شا الله عليها .. وايد ذكيّة .. الإختبارات البسيطة الفكرية لي مرت بها قبل شوي .. عطت نتايج ممتازة ،، تعلم طفلة صماء القراءة و الكتابة حتى لو تغاضينا عن المفاهيم لي تصعب عليها و الخط ،، شي ممتاز و اذا دل ع شي .. فهو يدل على ذكائها .. و قدرتها و رغبتها في التعلم .. ليش هالإهمال .. و منوه المسؤول عنه .. ترى إعاقة أختج ما تعني أبدا انكم ترمونها على الهامش و انها هب انسانة قادرة على التعلم .. و العطاء ..
ضيق بالغ اكتنف صدر حور و هي تتلقى اللوم على ما لم تفعل .. ليست المسئولة إن رأى والدها بأن تعليم المها بلا جدوى .. و لا يمكنها لومه و هو في قبره الآن .. أما عن الكشف الطبي .. فلم يخطر ذلك في بالها يوما ..!
ما الذي كان سيقدمه الفحص لهم سوى التعزيز من يأسهم بأن لا علاج قد يحيل المها لفتاة طبيعية .. و يعيد لها سمعها الذي لم يكن لها يوما ..!
لذلك كان صوتها زاخرا بالضيق .. و هي تقول بخفوت ..
- أخت نشوى .. الظروف لي كنا فيها ما كانت تسمح للمها انها تتعلم .. لكن الحين الحمد الله .. اول ما ربيه فتحها علينا ,، يبناها تتعلم ..
نظرت نشوى مجددا للمها الجالسة على طرف مقعدها بهدوء .. و عيناها البراقتين تمعنان النظر في أختها ..
- ما فيه أي عذر يمنع المها من إنها تحصل على حقها من الرعاية و التعليم .. سؤال .. انتي متعلمة ..؟
رفعت حور رأسها بعنفوان ..
- هيه ..
- أي مستوى ..
- شهادة ثانوية ..
- و ما لقيتوا وقت تدرسون المها ..؟
ضاقت حور ذرعا بهذه اللهجة المهاجمة ..لذلك قالت بقوة ..
- لو كان بيدي كان درستها الشيخة .. لكن الموضوع كان في ايد ولي أمرها ..
نظرت لها المرأة مفكّرة قليلا .. قبل أن تعود للقول ..
- ما عليه .. سمحيليه .. بس وايد من الناس يتجاهلون حاية الفئة هاي أو لي تشابهها من ذوي الإحتياجات الخاصة للتعلم .. و يظنون إن أي إعاقة تعني حاجز و تحيل صاحبها لعديم النفع أو الإستفادة و هالفكرة غلط .. لأن المعاقين يمكن يكونون أكثر فئة معطاءة و خلاقة .. و لو لاحظتي إنه وايد من الكتاب و المفكرين .. و المبدعين .. في أنحاء العالم أصحاب إعاقات .. لن الشخص المصاب بإعاقة يندفع أحيانا لتعويض أي شعور بالنقص من خلال العطاء ..
ثم أعادت جسدها للوراء مسترخية .. و هي تتساءل ،،
- قد سمعتي ببتهوفن ..؟
بدا الإسم مألوفا لحور .. لكنها لم تهتم بالتفكير .. فقط أجابت بفتور ..
- لا ..
- هذا موسيقار عالمي .. ألف مقطوعات موسيقية تعتبر الأشهر .. و عاش أكثر من 20 سنة و هو أصم .. هذا غير إنه ألف أشهر مقطوعة له و هي التاسعة .. و هو يعاني من الصمم ..
نظرت للمها و هي تتابع بتقدير ..
- أنا أشوف انها متميزة ما شا الله .. و يبين عليها إنها ذكيّة .. ع فكرة .. بعدنيه مستغربة من تعلّمها في البيت دون رعاية هيئة تدريسية و تقبلها للمهارات الكتابية .. و هالشي يثبت لنا قوة تفكيرها و تركيزها .. و رغبتها في التعلم ..
شعرت حور بانها تحتاج إلى إثبات قدرات المها أيضا .. لذلك قالت بشيء من الفخر ..
- على فكرة .. هي تقرا الشفايف بعد .. و تميز الكلمات لو انقالت ببطء شويّه ..
ربتت نشوى على الطاولة الخشبية بحكمة ..
- قراءة الشفاة شي منتشر عن وايد من الصم .. مهارة .. و تحتاي تركيز .. لكن المفروض انهم ما يعتمدون عليها وايد ..
قطبت حور متسائلة ..
- ليش ..؟
أجابت المرأة بثقة ..
- لن العلماء و الباحثين أثبتوا بدراساتهم انه بس من 30 إلى 40% من مجمل الحديث يمكن للأصم الذكي المتدرب عدل على اسلوب قراءة الشفاه انه يستوعبه .. لن قراءة الشفاه تعتمد على فلسفة العين قبل الأذن ..
لم تفهم حور شيئا من كلماتها الأخيرة .. لكن الخيبة هبطت في جوفها كالحجر الثقيل .. فقد كانت مهارة المها هذه تسعدها .. لذلك قالت تقاوم شعورها ..
- بس هي تفمهنا يوم نرمس مرات .. اذا ما صارخنا .. و رمسنا بمخارج حروف واضحة .. حتى لو استعيلنا شويه .. تلقط الكلمات ما شا الله عليها ..
استمعت المرأة لحور باهتمام قبل أن تقول لها ..
- شوفي ختيه .. المشكلة الأساسية هي في الإشتباه في الأحرف .. يوم أنطق حرف .. و يمكن ان الشخص لي ما يسمع يفهمه ع أساس إنه حرف ثاني .. و يغير معنى الكلمة .. و هاي هي من أكبر الصعوبات لي ترتبط بالتواصل الشفهي ..مثلا .. المها بتلخبط بين الصاد و السين في ( صاري و ساري ) و الباء و الميم فيما بتمبز الكلمتين عن بعض اذا قلت ( بدى أو مدى ) الطاء و التاء .. في ( طين .. و تين ) .. و ( غالي .. و خالي ) .. يعني نطق الأحرف و طريقة مخارجها .. تسبب مشكلة في اختلاف المعنى اذا تشابهت ..
انبثق اليأس و الإحباط مجددا في نفس حور ..
عيناها تتعلقان بوجه المرأة الجاد ..
يا الله ..!
كل هذا ..!!
لم تفكر بالأمر قبلا ..
رعاية طبية ..؟ و تقصير تعليمي ..!!
أين كان تفكيرها من كل هذا .. ؟! لما لم تستطع يوما اخبار والدها عن أهمية تعليم المها ..؟
أ يعقل بأنها رأت لاأمر بلا فائدة أيضا ..؟ قللت من أهمية حاجة أختها للتعلم و التواصل مع العالم الخارجي ..
و اكتفوا بعزلها بين جدران بيتهم المتشققة ..!!
و أمام عينها الآن استطاعت أن تستعيد رؤية المها تتهاوى على الأرض عند أول لقاء بجدّها ..
عزلتها تلك لم تفدها .. جعلتها حساسة للغاية و عرضة للصدمات بسرعة ..!!
جرّت عينيها .. تلقي النظرات على الوجه الناعم لها .. فمها الوردي قد تكوّر بشيء من العبوس .. فيما راحت أجفانها ترتخي مرارا .. تخفي لمعان الحيرة و الإضطراب ..
كم هم مهملون ..!
اتخذوا اعاقتها عذرا لحرمانها من أبسط حقوقها .. في حين كانوا يظنون أن الجلوس في البيت أفضل لها ..
تحت أعينهم .. و حمايتهم ..
و أن لجوء الصمّاء للتعليم لن يفيدها بشيء ..!
يعيدها صوت نشوى لأرض المكتب و هي تتناول الملف من أمامها ..
- حاليا ما نروم ندخلها في سنة تأهيل .. لن السنة انتصفت تقريبا لو بتدخل يبالها تعليم خاص شويه بما اننا ما بنحطها مع الصغاريه .. أنا أقول نحطها في دورة مهارات ،، و تعليم لغة اشارة أولية ..
و أمام نظرة حور المهتمة راحت تشرح لها أكثر ..
- بنبدأ بالإشاراة البسيطة .. من الأحرف العربية و الإنجليزية .. تكوين اسمها .. و الترحيب ..و الطلب .. و ما شابه ..هاي هي أساس لغة الإشارة ،،
قاطعتها حور بلهفة ..
- أخت نشوى .. عادي أداوم وياها ..
- لا تخافين .. اختج هنيه بتكون اكثر من مرتاحة و وجودج يمكن يكون عائق في تقدمها .. لنها بتعتمد عليج فوايد أشياء ..
- لا .. هب القصد .. أنا ما عنديه شك انها بترتاح هنيه .. بس يعني ماروم أحضر وياها دروس الإشارة ..؟؟ لو هي بتتعلم اللغة هاي .. لازم حد يعرفها وياها في البيت و الا كيف بتمارسها و تتفاهم بها ...؟
ابتسمت نشوى ببساطة ..
- لا من هالناحية و لا يهمج .. أغلب الدارسين ويانا في هالدورات ناس طبيعيين و سليمين .. و يتعلمون لغة الإشارة عسب يتفاهمون مع أصحاب الإعاقة لي يهمونهم .. يعني اذا بتلتزمين بالدوام و الدروس .. حيّاج الله ،،
عقدت حور جبينها متسائلة ..
- و شوه المهارات لي قلتوا بتدخلون المها فيها ..؟
- أشياء بسيطة تتعلمها .. استخدام الكمبيوتر ممارسة أنشطة مختلفة .. لن ميول أختج يمكن تكون متوجه لشي معيّن .. فالواجب اننا نحن نطور مهاراتها في هالشي .. و نشجعها عليه .. رسم .. تصوير .. كتابة .. فنون .. أي شي يخطر فبالج .. حتى الرياضة .. لن تنميو مهاراتها و قدراتها الإبداعية يعزز ثقتها فنفسها .. و نهمها للتعلم .. و هالشي لي نحن محتايينه .. لن الدراسة بتكون أكثر من صعبة اذا اجتازت المراحل الإبتدائية و قررت انها تكمل دراستها ..
أخذ الحماس يشع في قلب حور مجددا .. اذ بدا أن أصحاب هذا المركز يعرفون ما يفعلون .. ابتسمت لنشوى و هي تنقل بصرها للمها ..
- خلاص ،، نحن ان شا الله مداومين من باكر لو تبون ..
ابتسمت نشوى بهدوء ..
- لا ختيه .. قبل لا اداومون لازم المها تسوي فحوصات ،،
أجابت حور بسرعة ..
- تراها سوت قبل لا انقدم الأوراق .. و بتلقين التقرير في الملف ..
هزت رأسها رفضا و هي تجيب حور المتلهفة ..
- ما أطري الفحوصات هاي .. المها لازم تسوي كشف ع السمع عندها .. يخبرنا مدى تطور حالتها .. هب معقولة تعتمدون تقرير من عشرين سنة ..!!
ثم قالت بقوة ..
- فيه شي لازم تعرفينه زين .. المها إذا تعلّمت لغة الإشارة و أتفنتها .. و اتخذتها بطبيعة الحالة وسيلة للتواصل مع الناس .. أي نسبة ضئيلة للسمع عندها بتتجاهلها .. و بتعتمد ع العين .. يعني السمع الضعيف الشبه معدوم لي كانت تجاهد و تركز عليه بتهمله و بتتوجه للتعامل بلغة الإشارة لي هي أساسا وسيلة تواصل صعبه اذا فكرنا بإنه قلة من الناس يتقنونها .. غير انها تحتاي ممارسة و مرونه .. و اتقان .. و بعدين لغة الإشارة تحتاج للعين .. يعني لو كنتي تبين تتواصلين وياها في الظلام .. كيف بتكون الطريقة ..؟! أخت حور .. قبل كل شي .. و قبل لا تدفعين إختج في الطريق .. لازم تتأكدين من مدى إعاقتها و إذا كان فيه وسيلة لإنقاذ السمع المتبقي عندها ،، أو تعزيزه .. سواء بطرق طبية .. أو معينات سمعية .. الطب تطور من عشرين سنة لو ما تدرون .. و كل يوم أكثر من علاج مختلف للصمم .. حتى لو كان وراثي .. أتمنى قبل لا تيي المها المركز و تبدأ ويانا .. تكون عندج فكرة أكيدة عن مدى اعاقتها .. لنه لو كان فيه مجال تعيش المها كإنسانة طبيعية .. تجاهل المراجعة الطبيعية بيكون ظلم لها ..!
كان الهواء قد تبخّر فجأة ..
و شعرت حور بنفسها و هي تتخبط في الضباب ..
أمل ..! أمل ..! أمل ..!
سعت عيناها الملهوفتان لوجه المها الذي كان يطالعها بتعبيرٍ غير مفهوم ..
هل شعرت بما قالت المرأة للتو ..
كيف لم يفكروا بذلك قبلا ..
نعم تطور الطب كثيرا ..
لربما كان هناك طريقا لتتخلص المها من هذه الإعاقة .. و تعيش حياتها طبيعية كأي فتاه ..
راح قلبها بتخبّط بشعور من الفرحة ..
مجرد تخيّل الأمر راح يضخ السعادة في عروقها ..
لمعت عيناها و هي تسأل بصوتٍ مبحوح ..
- دكتورة .. يعني فيه أمل ..؟؟ يمكن المها تكون طبيعية .. و تسمع شراتنا .. ؟
قالت نشوى بهدوء ..
- ما أوعدج .. لكن لي أنا مستغربة منه ان البنية ما مرّت و لا بفحص واحد غير الفحص الأولي لي عقب الولادة و لي أثبت إعاقتها ..! ما شفتوا اذا فيه تطور في الحالة أو قابلية للعلاج .. يا ليت تسوون لها الفحص بسرعة أخت حور .. عسب تكون مستعدة للتعلّم ..
تجاهلتها حور و التفتت للمها بعينين مستبشرتين ..
فرحة صافيّة ..
راحت تتدفق من عينيها .. لوجه أختها المقطبة .. و هي تجاهد لفهم إيماءات حور المعقّدة ..!
* * * * *
تتمة
- تااااااااامي .. هااااااااتي كووووفي ..
صاحت بصوتٍ كسول و هي تلقي بجسدها المكسو بالبيجاما الحريرية على الأريكة في الصالة الواسعة .. و هي تلتقط الجريدة من على الطاولة ..
أناملها البيضاء المصبوغة بلونٍ أحمرٍ زاهٍ تقلّب الصفحات بلهفة .. و عينيها اللتان قد استيقظتا للتو تدور بحثا عن العامود المألوف ..
قبل أن تجد لتبتسم بانتصار ,،
حسنا قلم حر ..
ماذا لديك لي اليوم يا فتى ..!
.
.
قطبت باستياء و هي تلتقط كوب القهوة الذي قدّمته تامي لها .. و تقرأ بهمسٍ العنوان الذي اعتلى العامود الرمادي ...
( نزف إحساسٍ طاهر ،، في ذمّة الله )
.
.
في ذمة الله ..!
مات أحدهم يا ترى ..؟!!
راحت عيناها تبتلعان الأسطر بإهتمام بالغ ..
و هي ترى الكلمات التي صفّت في نعي ذاك الإحساس الطاهر كما أشار ..!
.
.
(( فلتطفأ الأنوار .. و لتسدل الستائر .. و ليعم السكون المظلم هذه البقاع ..
تلك الأماكن التي قيل لنا أن نجهّزها فرحـا .. و انتظارا لعودتها ..
لم نعد في حاجتها ..
آن للأجفان أن تسدل .. ليكتسح صخب العالم صمت السواد المفجع ..
أطلقوها .. عبرات الرحيل ..
قد آن أوانها ..
و جموعا .. لنقف ..
وراء جثمانٍ من نور .. ستقودنا الخطوات ..
نشيّع سموّ كلمة .. و رقيّ حرف ..
لنشهد بأعيننا الفانية ..
أكوام التراب تهال على نقاء تلك الروح ..
ثم نرفع أكفّنا البالية في تلويحات حزنٍ ..
النفس التي عافت دنوّ هذه الدنيا ..
أبت إلا أن تتركها لأصحابها ..
لترقى ..
كما فعلت دوما ..
تقرع بابا للجنة ..
ستطمر اليوم ..!
تلك الكف البيضاء ..
راحة بلون الطهارة .. و رائحة الصفاء .. قد أُسقطت إسقاطتها الأخيرة ..
معلنة الرحيل ..
بعد أن انسلّت روحها برفق ..
كأني أراها بعيني ..
تشيّعنا بدل أن نشيّعها ..
و ابتسامة حنين أخيرة تعتلي وجهها الراحل ..
فيما تتراقص دمعة بعمق غيابها في مقلتها ..
ستشتاقنا كما سنشتاقها ..
لكنها مضطّرة للمضي .. و ستكون هناك أكثر راحة ..!
سيوجعها الفقد الذي سينخر أرواحنا ..
و فجوة عملاقة .. خلّفتها .. في قلوب كل من أحبوها ..
.
.
.
.
هلمّوا ..
هي إمرأة نقشت بالضياء وجودها ..
لنسير خلف مسيرها الأخير .. نسوقها مثخنين بالوجع .. لمثواها الأبدي ..
لنتساقط ألمــا على ذاك الضريح ..
و ننتحب رحيل قلمٍ ..
و نلطم بالأوراق فاجعة كلماتٍ لم تكتب بتلك الأنامل ..
لنسقي بالدمع تلك التربة التي إحتضنتها ..
سنفتقدكِ ( هديل ) ،،
بقدر ما كُتب من الكلمات و ما لم يكتب ..
سنفتقدكِ ( هديل ) ،،
بعدد العقول الجاهلة التي فقدت الحق في معرفتكِ يوما .. و الإنغماس في نقاء حرفك ..
سنفتقدكِ ( هديل ) ،،
بحجم الحزن الذي صفعنا به رحيلك .. بقدر ذهولنــا .. و الفجع الذي أنهكنا ذات نبأ ..
سنفتقدكِ ( هديل ) ،،
كلّما بحثنا في أنفسنا عن رمق طيب .. لنتذكّر أنه كان يسكنك ..
سنفتقدكِ ( هديل ) ،،
بقدر ما كنتِ بيننا .. و ستكونين دوما ..
.
.
.
.
مبدعة يا راحلة ..
نحتَّ بقوة وجودكِ أثرا فينا لن يزول ..
كل عبقٍ طيب سيعيدنا لذكراكِ ..
و كل قلمٍ يكتب بالبياض الذي كنتِ تكتبين به ..
و كل هديل .. سنصغي إليه مترنمين بوجع فقدكِ ..
سأذكركِ يومــا ..
و أقول لهم ..
( هديل .. أنشودة الحمام الخافتة ..
تتراقص على وقع أنغام اسمها ثقل الغيوم الراحلة ..
كانت - رحمها الله - تحمل إحساسها بين راحتيها ..
تنثره حولها .. أحرف عطرة ..
لازلت أشتم رائحتها في الأماكن التي مرت بها يوما )
.
.
.
.
انتقلت إلى رحمة الله ،،
الراحلة ( هديل محمد الحضيف ) ،،
اللهم اجعل عن يمينها نوراً وعن شمالهِا نوراً ومن أمامهِا نوراً ومن فوقها نوراً حتى تبعثهُا آمناً مطمئناً في نورِ من نورك , اللهم انظر إليها نظرة رضا فإن من تنظر إليه نظرة رضا لا تعذبه أبداً , اللهم أسكنها فسيح الجنان واغفر لها يا رحمن , اللهم اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم فإنك أنت الله الأعز الأكرم .. اللهم اعف عنها فإنك أنت القائل ( ويعفوا عن كثير ) .
اللهم إنه جاءت ببابك وأناخت بجنابك , فجد عليها بعفوك وإكرامك وجودك وإحسانك ,
اللهم إن رحمتك وسعت كل شيء وهي شيء فارحمها رحمةً تطمئن بها نفسها وتَقَر بها عينها .
اللهم احشرها مع المتقين إلى الرحمن وفدا , اللهم احشرها في زمرة المقربين وبشرها بروحِ وريحان وجنة نعيم , اللهم احشرها مع أصحاب اليمين واجعل تحيتها سلام لك من أصحاب اليمين.
اللهم بشرها بقولك ( كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية ) , اللهم اجعلها من ( الذين سُعدوا ففي الجنةِ خالدين فيها مادامت السموات والأرض ) , اللهم لا نزكيها عليك ولكنا نحسب أنها آمنت وعملت صالحاً فاجعل لهُا جزاء الضعف بما عملت واجعلهُا في الغرفات من الآمنين , اللهم إنهُا خافت مقامك فاجعل لهُا جنتين ذواتى أفنان بحق قولك ( ولمن خاف مقام ربهِ جنتان ) , اللهم إنها صبرت على البلاء فلم تجزع فامنحهُا درجة الصابرين الذين يوفون أجورهم بغير حساب فأنت القائل ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) , اللهم إنهُا كان مصلية فثبتهُا على الصراط يوم تزل الأقدام , اللهم إنهُا كانت لك صائمة فأدخلهُا الجنةَ من باب الريان , اللهم إنهاُ كانت لكتابك تالياً فشفع فيهِا القرآن وارحمها يا رحمن من النيران واجعلهُا يا رحمن ترتقي في الجنة إلى آخر آية قرأتها وآخر حرفٍ تلته . اللهم ارزقها بكل حرفٍ من القرآن حلاوة وبكل كلمةٍ كرامة وبكل آيةٍ سعادة وبكل سورةٍ سلامة وبكل جزءٍ جزاء.
.
.
.
.
« يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ».. ))*
.
.
.
.
كانت الأوراق تتدلى من بين أناملها في صدمة مفجوعة .. لا تصدق ما قرأت عيناها للتو ..!!
تلك المدونة التي وقعت عليها على الشبكة العنكبوتيّة .. و التي قضت ساعاتٍ طوال تنبش كلماتها ..
لم تعد الأنامل التي تكتبها حيّة ..
أصبح من حق التراب الآن أن يحظى بإحتضانها الأبدي ..
رفعت عينها بذهول لأعلى ..
كانت قبل يومين قد بإخلاص في كلمتين من الرب أن يشفيها ..
لكنّها الآن و تحت وطأة هذه الخبر المفاجئ ..
داهمها حزن غريب لم تعرف له سببا ..
ربما لذكر الموت المفاجئ الذي لطالما أخافها ..
أو لأنها شعرت بانها شاركت المرأة صاحبة تلك المدونة شيئا ما باستمتاعها بكتاباتها ..
لا تدري ..
فقط خفقت اهدابها للحظتين تتدارك دمعة دافئة و هي تهمس ..
- الله يرحمها ..
.
.
.
.
.
.
رحمك الله يا هديل و أسكنكِ فسيح جناته ..
* * * * *
تتمهل الشمس في سيرها الأخير نحو الأفق ،،
لطيفة هي خيوط ضوئها الراحلة ..
و كأنما تعتذر بنعومة عن قسوتها طوال النهار ..
تنتشر مائلة على الأراضي الرمليّة الباردة ،،
و السماء الغائمة .. تنذر بالبرد الذي لم يهجر هذه الأرض بعد ..
قد تذرف السماء دمعا في المساء .. من يدري ..؟!
يقف هو بجسده الصغير أمام ضخامة تلك الدابة على أطراف أصابعه .. في محاولة لبلوغها ..
يرفع كفّه الصغيرة ليضعها على أنفها بلطف تعلّمه .. و أتقنه ..
يمسح عليها بهدوء .. بهدوء ..
و هي تحني رأسها احتراما لرقّته .. تنشده مزيدا من هذا الحنان ..
و على صدره الآن يقبع رأسها ..
يتأمل عينيها السوداوين المستديرتين.. و هدبها الطويل ..الذي يلامس خدّها ..
يا الله .. كم هو طويل هذا الهدب ..
مقلتيها تلمعان و الجفن الثقيل يخفي نقاء السواد الخالص مراتٍ عدة ..
شفتي الناقة الكبيرتين المكتنزتين .. راحت تحتك بشقها .. في الثوب القوي الذي يرتديه ..
و حلاوة راحت تتوسع على ثغره ببسمة محبّة ..
الأتربة المنعشة .. تغمر أصابع قدمه ..
لتبث نشوة مختلفة .. اختلطت برائحة القش الجاف التي ابتل .. و التربة المتعطشة التي ارتشفت ما اندلق من مياه ..
صوت أبواق سيارة بعيدة .. و حنين الإبل من حوله ..
عمّه علي يترنم بصوتٍ شجي - بشلّة - تعبق كلماتها برائحة غبار يسكن كل ما هو قديم ..
يبعد شعرات كثّة بعثرتها الريح على جبينه .. و وبر الناقة يحتك بوجهه الصغير ..
يدس أنفه ليحكّه في رقبتها .. و يده تمسح عليها بحب ..
بعينه يرى زوج أخته و قد شمّر عن ساعديه القويين .. يلف عمامته بشكلٍ محكم .. و قد ألقى بطربوش ثوبه للخلف .. و هو يلتقط طرف الثوب كاشفا عن طرف إزاره ..
يدنو من الناقة .. و بيده وعاء حديدي كبير .. سيحلبها بعد قليل ..
عرف ذلك ..!
لذلك ابتعد عن الناقة التي يحتضنها ببطء .. يضربها بخفّه على بطنها .. يفرقع بجانب لسانه بصوتٍ مسموع و يصيح بصوته الذي يغلّظه متعمدا ..
- الشمااااااااااااااا .. الشمااااااااااااااااا ..
ما ن ابتعدت حتى انطلق نحو غيث الذي وقف على قدمٍ واحدة و هو يثني ركبة القدم أخرى و يضع الوعاء عليّها يثبّته بكوعيه .. و كفيّه تحلبان الناقة بمهارة .. تتعاقب سيول اللبن الرفيعة و هي تتدفق ليحتضنها الوعاء ..
دون أن يرفع رأسه عمّا يفعل .. شعر بوجود نايف قربه .. فيسأله بصوته الجهوري ..
- بتحلبها ..؟
رفرفت عينيه بشيء من الارتباك يلقي نحوه نظرة سريعة دون أن تتوقف يداه .. و هو يصيح به الآن ..
- تعال احلب ..
تردد نايف مكانه ..
نظرة متوترة ألقاها حيث يجلس جدّه و عمه علي .. و عمه سعيد .. و حارب .. أحمد .. هزاع ..
كانوا مشغولين بحديث ما ..
يضحك أحمد بقوة .. و حارب يقول شيئا ما لجدّه ..
زلزلته زجرة من غيث .. يأمره بصرامة ..
- تعال ..
بخطى مرتبكة .. يدنو منه .. ليراقب كيف يضغط و يجذب بسرعة كبيرة ..
و غيث يقول له ..
- اتشوف كيف ..؟؟ اضغط لعيها .. و اسحبها تحت شويّه .. لا تسحبها قو .. كذيه .. كذيه .. كذيه .. اتشوف ..؟؟ تعال بيود الطاسة و انته احلبها ..
رد نايف بقلق ..
- ما اعرف لها ..
ألقى عليه غيث نظرة واحدة ..
- لا تعرف .. بسرعة تعال ..
و أمسك الطاسة بيد قبل أن يجذب نايف بيدٍ أخرى .. قربها ..
- لا تخاف و تخوفها .. جرب ..
مد أنامله المرتعشة .. ليلامس حلمات ثدي الناقة بخوفٍ امتزج بالتقزز الذي أثاره ملمسها اللين ..
ارتجف و غيث يقول بصرامة ..
- احلب ..
ضغط .. و جذب .. هذا هو كل ما في الموضوع ..
سينجح ..
أصابعه الصغيرة .. ترتجف و هو يعتصرها ثم يجذبها بخفة للأسفل ..
اندفع الهواء لفمه مع انطلاق خط أبيض نحو الطاسة .. ليزجره غيث ..
- بسرعة ..
الأول .. و الثاني ..
ضغط .. و جذب ..
و خيوط من اللبن تتابع نحو الطاسة .. التي راحت تمتلئ ببطء ..
يشعر بابتسامة زوج أخته دون أن يراها و هو يقول ..
- بعدي و الله .. و تقول ما تروم لها .. لي يشوفك يقول يحلب من سنين ..
شعر بالفخر من الإطراء الذي تلقاه .. و راحت أنامله تتحرك بشكل أسرع الآن ..
رويدا .. رويدا .. راح اندفاع اللبن يخف .. قبل أن ينقطع ..
مد غيث إحدى يديه الممسكة بالوعاء .. ليلامس ثدي الناقة قبل أن يقول ..
- بس .. بس .. خلاص ..
تنهد نايف .. و هو يبتعد و يديه مرفوعتين للأمام ..
نظر لملامح غيث السمراء .. و عينيه تضيقان عليه .. ابتسم له بفخر .. و مد يده بالوعاء ..
- امسك .. انته لي حلبت اليوم .. وده اهناك .. خلهم يغتبقون منه ..
لم يغسل يده ..!
لكنه لم يكترث .. بفرح غريب .. حمل الوعاء الثقيل الممتلئ بعناية .. و هو يسير ببطء إلى جانب غيث .. يتقدمان من المنصّة الإسمنت المرتفعة .. التي صُبّت في وسط - العزبة - جوار بيت الشعر و مقطورة الرعاة الخشبية ..
يعتليها بعناية .. كي لا تقفز قطرة واحدة من اللبن خارج الوعاء ..
أشار غيث لمنتصف الجلسة حيث وضعت القهوة و التمر .. بيده آمرا ..
- حطه هنيه ..
قفز حارب من مكانه ليلتقط من الصحن وعاءً حديديا صغير .. و كوبا بلاستيكيا ..
و غسلها بالماء جيّدا ..
جلس نايف بجانب غيث الذي اتخذ الوسادة بينه و بين جده متكأً مشتركا ..صب حارب اللّبن و مدّه نحو جده .. و غيث يقول بصوته العميق ..
- لي حلب غبوقكم اليوم نايف ..
و ربّت على ظهر نايف الذي ابتسم له بشيءٍ من الفخر..
التقط الجد الوعاء المتوسط من يد حارب .. و يعتدل في جلسته قبل أن يطلق نظره مقيّمه نحو نايف .. و يقول مشجّعا بهدوء ..
- نايف راعي البوش الحين .. يحبنه أكثر عنيه ..
تدخل أحمد و هو يقول ممازحا ..
- طلعت أخير عنّا .. هزاع ما قد حلب الا في الثنوية ..!
اتسعت عيني هزاع بانكار ..
- تخسي ..!! من الإعدادية ..
لكن حارب أيّد كلام أحمد بهدوء ..
- يوم دخلت الثنوية .. انا كنت في الإعدادية .. و علمونا رباعة ..
ضحك أحمد بنصر ..
- أحيدك أنا يومها .. ما نسيت يوم تبا تتركب و تيود الطاسة و تحلب اروحك .. كيف طيّحتها و طيّرت الحليب ..
رفع هزّاع حاجبه بانكار ..
- ماحيد هالسالفة .. متى استوت ..؟
- يوم خلاك عميه تبات عند الراعي ..
ابتسم سعيد لآبنه و هو يؤيد قصة أحمد..
- صادق بو شهاب .. ريال طوليه .. و ما تعرف ترفع طاسة بركبتك ..
* * * * *
ألصقت جبينها بزجاج النافذة الباردة .. و تنفست بعمق ..
السماء الداكنة .. تبتلع كل نور للقمر .. و النجوم ..
لا شيء سوى غيومٍ تنذر بغيثٍ مقبل ..!
غيث سيروي البقاع هذه ..
ليندي الأرض ..
و ينهي القحل الذي يسكن أجسادا كثيرة ..
ليذكّرهم برحمة من رب العالمين ..
رحمة تنتظرها هي الأخرى ..
بصبر امتد لسنوات ..
و آن له أن ينال ..
.
.
أن تسمع ..
أن تضج أذنيها بشيءٍ غير مألوف ..
أن تخترق السكون .. و الهدوء ..
لتعرف غيره ..
فتفهم لما سمي كذلك ..
و ترى كيف تتجاوز الأصوات التي لم تعرفها يوما أفواههم ..
لتدرك كيف تهتز حنجرتها بأزيز خفيف كلما تكلمت ..
.
.
يا الله ..!
ستميل أحدهن لتهمس شيئا في أذنها ..
لتضحك هي كما ترى الكثيرات يفعل ..
لكنها ستضحك بصدقٍ مختلف هذه المرّة ..
ستضحك بقوة ..
و ستصغي لصوت ضحكتها كيف سيكون ..!
و ستسمع الأحاديث .. دون أن ترهق عينيها ..
ستسدل جفنيها لتستمتع .. و تسمع ..
ستصيخ السمع حتى لصوت الريح لو كان للريح صوت ..
و لحفيف الأشجار ..
و ستستيقظ كل صباح لتسمع صوت العصافير العذبة التي لطالما قرأت عنها ..
ستشبع صراخا ..
و ستنزعج ..
لا .. لا ..
لن تنزعج ..
هذه نعمة الرب ..
كيف لها أن تخمد الأصوات فتعيد روحها مجددا لأراضي السكون البائسة هذه ..!
.
.
ضمّت كفيها لصدرها ..
و بقوة ذاك الأمل الذي يكبر .. فتضيق عليه أضلعها ..
بكل ما أوتيت من إحساس .. و إيمان ..
أطبقت جفنيها بشدّة ..
و هي تحتبس في صدرها تنهيدة ..
و أمنية ..
لتهمس دون أن تسمع همستها تلك ..
- ياااا آآآب .. يااا آآب ..
.
.
يا رب .. خذ بيد هذا الحلم ..
لمرة واحدة ..
و أخيرة ..
يا سميع ،،
* * * * *
نظرة سريعة للساعة التي تشير للثامنة و النصف صباحا ..
تأخر على شركته التي يصلها في السابعة إلا ربعا ..
كان قد استغرق في النوم بعد أن قضى الليل في إنهاء أعمال مؤجلة ..
فانتقال عائلة عمه حمد لبيت جده أخذت الكثير من اهتمامه و وقته ..
مشكلة عفرا كذلك .. سلبت اهتمامه بما يهمّه بحق ..
شركته التي أنشأ .. و ستؤول له قريبا ما إن يضع يده على حور ..
ما ان قفز وجهها في مخيّلته .. حتى عاد تفكيره لكلمات ميعاد المعترضة ..
أظهرتها بشكلٍ ضعيف .. و أنه يتهجم عليها بمشاعره لمجرد أنه لا أحد يقف وراءها ..!
حمل حقيبة أوراقه .. ليخرج من جناحه الذي يحتل في بيت أبيه .. ليقطع الممر على عجل ..
ما إن بلغ أقصى السلّم العريض حتى فوجئ بشيخة تندفع من أقصى الممر المقابل ..
توقفت فور رؤيته .. و نظرة صدمة مازجت خوفا ميّزه في عينيها .. و هو يقول ..
- ما سرحتي ..
ترددت قبل أن تجيب بصوتٍ قلق و هي تسلّم عليه ..
- الحين سايرة .. شحالك ..
- حالـ ..
و صمت فجأة و هو يضيق عينيه اللتان وقعتا على العباءة مشقوقة الطرفين السفليين حتى منتصف الساق ..
فيما ضمّت هي رجليها قلقا من أن يكشف ذلك ..
رفع عينيه اللتان استحالتا قطعتي جليد و هو يجذب حقيبتها من على كتفها بشيء ٍ من القوّة ..
ذهلت لما فعل دون أن تفهم ما حاجتها للحقيبة ..
لكن سرعان ما استوعب و هو يقذفها بقوّة للبعيد ..
لتتبعها بنظراتها المذعورة .. قبل أن تعيد عينيها ببطء خافت لوجهه ..
فتجده ينظر إليها بشيء من القسوة و صوته يأمرها بخفوت منذر بالشر ..
- سيري هاتيها ..
كان يشير لحقيبتها التي ألقى للتو .. و قد منع إغلاقها المحكم انزلاق الكتب ..
بلعت ريقها و هي تستدير رويدا ..
تتحرك نحو حقيبتها و هي تغمض عينيها بيأس ..
سيرى البنطال .. سيراه ..!!
و سيقتلها على ذلك ..
قفزت بقوة من مكانها و عيناها تتسعان رعبا .. مع صوته الغاضب الذي رعد في الطابق العلوي كلّه ..
- شيخووووووه ..
تحمدت في مكانها دون أن تجرؤ على القيام بحركة واحدة .. شقي العباءة التي ترتدي .. و التي لبست تحتها بنطالا خشنا بلون الزيتون أثارته .. قد تحركا مع خطواتها ليفضحا أمرها ..!
و الدليل على ذلك قبضته الخشنة التي التفت على ذراعها لتديرها نحوها .. و هو يهمس بغضب بارد ..
- فصخي عباتج ..
جحظت عيناها بقوة .. لطلبه هذا ..
و قلبها بخفق رعبا بجنون ..
لا لن تفعل و لو كان في ذلك موتها .. فسيقتلها غيث على كل حال إن رأى بنطالها و القميص الذي تنوي الذهاب به إلى الجامعة ..!
هزّها بعنف ..
و هي تلتفت له بعينين كسيرتين ..
- بسير أبدلها .. الحين ..
لكن غيث لم يمهلها الوقت .. أمسك كتف العباءة بشيءٍ من القسوة .. ليجذبه بعنف ..
ناويا تمزيقه ..
قسوة القماش لم تطعه في المرة الأولى مما زاد غضبه و هو يشدّها بقسوة .. شعرت شيخة بالرعب و هي ترى أن سيمزقها الآن .. فقد بدأ القماش يهترئ بين أنامله القاسية ..
لذلك توسلته خوفا أن يمزقها هي الأخرى ..
- بفصخها ..
و انحنت بسرعة لتخلع العباءة .. كاشفة عن القميص عاري الذراعين .. الذي يصل لركبتيها .. و البنطال الواسع الذي ترتدي ..
لم تجرؤ على رفع رأسها و النظر في عينيه .. و غطاءها قد انزلق كاشفا عن شعرها المقصوص ..
شعرت بأنها تجرّدت أمام أخيها الأكبر الآن ..
كل ما كانت تخفيه عنه ظهر ..
شعرها المقصوص .. ملابسها الخشنة ..
انتفضت مع صوت القماش الذي تمزّق فجأة يعلمها بأن غيث أحال عباءتها تلك إلى أشلاء ..
و راحت ترتعش حين مسحت يده الكبيرة على رأسها ببطء مخيف .. قبل أن تنقبض على مؤخرة رأسها .. و هي تكاد تقتلع شعرها بقسوة ..
لتعض شفتيها كاتمة أي تأوه قد يغيظه ..
حين همس هو بقسوة ..
- متى قصيتي شعرج ..؟؟
حمدت ربّها مئات المرّات بأن طول شعرها قد بلغ نهاية رقبتها بعد أن كان قصيرا للغاية ..
ردت و هي ترتجف ..
- مااا .. مــ .. اا .. قصــ .. يــتــ..ـتــه .. هاا ي .. راا ..عيـ..يـة الصاا لوون .. بالغلــط ..
ثم تهدج صوتها و هي تقسم كذبا ..
- و الله بالغلط .. و الله بالغلط ..
لكن لطمة هزت على جانب رأسها .. جعلت الرؤية تسود أمام عينيها المهتزتين للحظات و صوت غيث يصم أذنيها ..
- ذلفي و بدلي هالصروال و البسي عباة ستيرة .. لادفنج هنيه .. - ثم صرخ بجنون - يا الله ..
لم تصدّق بأنه اكتفى بهذا الفعل .. راحت تجري كالمجنونة .. عائدة لغرفتها .. غير مصدّقة بأنه أعتقها ..
أوصدت الباب خلفها و هي تسند ظهرها عليه ..
لن تذهب للجامعة ..
لن تفعل ..
ليس لديها القوة حتى على التنفس ..
فقد أوغل غيث في كشف ما كان يجهل ..!و هذا ما أرعبها ..
سيقتلها إن علم أي تصرفاتٍ تستهويها و تثير جنون أمها ..!
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
يرتقي الدرجات الرخامية لمبنى شركته ..
و قد استطاع أن يهدأ أكثر .. كيف لم يلاحظ لباس شيخة من قبل ....؟؟
كيف لم ينتبه ..
أم أنها المرة الأولى التي ترتدي فيها مثل هذه الثياب ..؟؟
انتشله صوت هاتفه بنبئه بوصول رسالة ما ..
أخرجه على عجل ليفتحها ..
لتقفز ابتسامة غريبة تناقض بقايا الغضب الذي كان يكابده للتو ..
و هو يرى رقم حور يتصدّر الرسالة الموجزة التي أرسلتها لتعلمه بأنها ستذهب برفقة المها إلى المستشفى ..
للقيام بفحوصاتٍ مهمة لها ..
كانت قد إعتادت طريقة الإستئذان هذه ..
التوت شفته بتسلية و هو يفكّر بانه سيعلّمها طريقة أخرى .. بدل الإختباء وراء الكلمات ..
كان سيسعد بسماع صوتها متعلثما .. و هي تطلب منه الخروج ..
اشتاق لوجهها .. يرغب برؤيتها ..
و قد كانت آخر مرة يلتقيها فيها ليلة انكسارها بحقيقة أبيها التي كانت تجهلها ..
رنّت كلمات ميعاد مجددا في أذنيه و هي تستنكر جرأته ..
ميعاد ..!
من العدم بزغت فكرة لا تصدّق ..
مجنونة .. و متهوّرة .. لكنها ستسعدها ..
لم يكن قط بالرجل الذي ينساق وراء قرارات اللحظة ..
لكن هذه الفكرة الجامحة .. دارت لدقائق طويلة ..
قبل أن يرفع هاتفه بابتسامة حنونة .. و هو يختار رقمها ..
انتظر للحظات طويلة قبل أن يجيبه صوتها الكسول و هي ترد ..
- غريبة مودر شركاتك و أعمالك و متصل بيه ..
ابتسم بخفّة .. و هو يومئ لأحد العاملين بشيءٍ من الكبر ..
- أباج تزهبين عمرج لو تبين تشوفين حرمتيه ..!
* * * * *
انزلقت الأبواب الزجاجيّة ببطء ،،
تنزاح بهدوء .. و كأنما تفتح فرجة من أمل أمام عينيها ..
سكون تدفق مع نفحات الهواء الباردة .. المقبلة من الداخل ..
يلتف حولها .. يتسلل عبر أذنيها إلى روحها ..
لم تعد تستمع إلا لإيقاع قلبها الذي راح يدوي بعنف ..
خفقات الهدب الذي ينحني ببطء .. مراتٍ عدّة .. و هي تتوقف مكانها دون أن تندفع للأمام خطوة ..
أولئك الذين راحوا يتحركون حولها برتابة .. غابوا عن نطاق الرؤية ..
و عيناها تتعلقان بنهاية الممر ..
إمرأة تتجاوزها .. و طبيب يندفع إلى البعيد ..
عاملٌ ما يجرّ سيريرا متنقلا ليحجب عنها الرؤية الباهتة لبرهة ..
و طفلة تمسك بقطعة حلوى ..
تنظر إليها بعينين فضوليتين .. متأملة دواليب الكرسي المتوقفة ..
و كأنما تتسائل عن السبب الذي دفعها للوقوف هنا ..
بدل الهرولة للأمام ....؟!
أصوات مختلطة .. و ضوضاء لا تسمعها ..
كل ذلك إختفى ..
لم يعد أمامها سوى الرؤية الرماديّة لنهاية الممر حيث يقبع الإنتظار ..
ليس عليها سوى أن تنزلق بالخطوات إلى هناك ،،
لتقطع الترقب الطويل .. الصبر .. و الحرمـان الذي غلّف أيامها لسنوات ..!
ستصل لبقعة الإنتظار .. لتشاركها ثوانٍ مسروقة من أيامها ..
ستقبل نظراتها جبينها .. و ستمسح بعينيها وجهها العذب ..
و ستصغي بلهفه إلى همسها ..
ستشاركها للحظتين فقط .. أنفاس تلك الغرفة ..
و ستشدّ نفسا دافئا .. يعبق بوجودها .. له رائحة اللقاء ..
لتسترقه قبل أن يملأ رئتها ..
ستجمع براحتها حفنة من الإحساس بقربها ..
و ستودعها جوفها .. لتخبّئها هناك ..
تحت أكوام المرارة .. و الحرمان ..
ستغرسها بقوة .. وسط ركام الوحدة .. و اليأس ..
يبدو الأمر كحلم .. أدركه النهار فلم يجد جدوى من الرحيل ..
و ها هو باقٍ .. تعيش تفاصيله البيضاء اللذيذة ..
صوت أختها يأتيها من البعيد ..
من غياهب حاضرها الذي تنفصل عنه .. لترتشف لذّة لحظات الحنين هذه حتى الثمالة ..!
صوتها الناعم كان يتقاطر بَرَدا .. ليذكّر ميعاد مراتٍ و مرات .. أي شظايا قلبٍ ستدوس عليها أختها لتجلبها إلى هنا ..
مندفعة وراء تحقيق أمنية يائسة لها ..
لأجل ماذا .. لالتحام نظراتٍ فقط .. لن يروي ظمأ السنوات التي عاشتها وحيدة ..!
.
.
- نتحرك ..؟
هو أمرٌ أكثر منه سؤالا ..
لذلك تومئ هي بلهفة كسيرة .. و خولة تدفع كرسيّها ..
دواليبه السوداء .. ترسم خطوات لقاءٍ على هذه الأرض الغريبة ..
تطوي المسافة الفاصلة بينها .. و بين حلم ..
حتما ستبلغه .. !
يتقلّص بُعد التحقيق رويدا رويدا ..و ترخي جفنيها هي لبرهة قبل البلوغ ..
و هي تحتضن كفيّها .. و بين الراحتين تزرع دمعة ..
هدوء غير مفهوم راح يعصف بروحها .. و هي تلتهم كل إحساسٍ يعيث داخلها جنونا ..
و تباطئت خطوات عجزها البارد .. أمام حاجز الإنتظار ..
لتشعر بدفئ خولة يميل عليها .. و صوتها الحنون يخترق مسامعها بقلق ..
- نحدر ..
تلك الموافقة لم تستطع حتى الهمس بها .. تحرّك رأسها شوقٍ ممزق ..
لتعود خولة ..
و تعبر حدود أمنية .. تخترق الأرض الخيالية التي لطالما إحتضنتها مخيّلتها ..
لتبلغ الإنتظار ..
لا .. لم يعد هذا الإنتظار .. فسيعيلها الإنتظار ان ابتلعها الآن ..
هو الوصول بعد عناء ..
فلتوهم نفسها بأن تلك ملت انتظارها .. و ها هي قد عادت ..
أ هناك أجمل من وهم يشبعنا إحساسا يقينا جوع واقعنا الذي لا يلتهم إلا كل فرحة تسكننا ..؟!
دفعت أناملها المرتجفة الغطاء عن وجهها .. تنحي السواد جانبا .. لرؤية ملوّنة .. مفعمة بالحياة ..
عدد من النساء قد تفرقن على الكراسي .. فيما تلتصق عينيها للحظة بالجدار المقابل .. و تردد مفاجئ منعها من التفتيش بعينيها في الزوايا عن وجه مألوف .. ستعرفه إن رأته ..
ألا يمتد خيطٌ من الدم ليربطهما .. ألا تجمعهما أيامٍ رمادية .. و ليالٍ باردة ..
توسدت فيها أحلامها بقربهن .. و التحفت فيها بأمنياتها الطفوليّة ..
و شعور كاذب تتجرعه .. و تجتره من روحها .. بأنها تعيش دفء لحظاتها معهم ..
ثم انكسرت الرؤيّة ..
لتنبش كل ملامح أمامها بجوع دهر من الشوق .. مزّقتها ثوانيه ببطء مجحف ..
قبل أن تتركها على قارعة الأيام مرميّة .. تنزف أملها .. و حلاوة أيامها التي لم يشاركوها إياها ..
يثخنها الألم جراحا لا تلتئم ..
أين هي ..؟؟
تلك التقاسيم العزيزة .. التي لم تعرفها يوما ..!
أين هي ..؟؟
.
.
زاوية دانية .. احتضنت جسد الفتاة التي رأت للمرة الأولى ..
الحدقتين الواسعتين ،، بعمق الضياع الذي بعثرها لسنوات ٍ طوال ..
و ملامحٌ دقيقة ساهمة في الفراغ .. تقضم شفتها الوردية .. لتظهر غمازة حلوة على جانب أحد خديّها ..
جفنيها الشاسعين يضيقان بنظرة إلى البعيد ..
تخترق الجدار الصلب أمامها .. و تتجاوز تلك الشوارع .. و أسقف البيوت .. و أراضٍ مترامية ..
تصل للبعيد .. لبقعة من الشعور لم يبلغها أحدٌ قبلها ..
نقاء البلّور راح ينعكس على ملامحها الهادئة ..
تنظر إليها هي مشدوهة .. لا بد أنها هي .. !!
رفعت رأسها نحو أختها التي تجمدت خلفها .. لتقتلع همسة واحدة من بين أضلعها ..
- هي .. لي عند الفراغ ..
و كأنما جلست هناك .. كي تتيح لها مجالا .. لتتطفل بعجزها .. و تحشره بين المقاعد قربها ..
لم تلتفت لخولة .. و لم تكن تعلم أي شعور سيخالجها لمرأى أنثى الصفاء الحالمة تلك ..
الفرجة بين المقاعد سنحت لها دس كرسيها .. لتجلس إلى جوارها تماما .. و تحتل خولة المقعد المجاور لها ..
هالة النقاء تلك تجاور يمناها و على جانبها الأيسر تقبع خولة بهدوء ..
فيما تسلّم بصوتٍ خافت .. خشيت أن يعلو الحلم .. فتفيق على جفاء خيالاتها ..
ردّت السلام فتاة تجاورها .. و بضعة نساء ..
و تلهّفت أذنها لالتقاط صوتٍ واحدٍ يطفئ حنين سنوات ..!
لكنها لم ترد ..!
لم تجب سلامها ..
طمست شعورا خبيثا بالألم في زاوية بعيدة من الروح .. لن يفسد عليها لحظاتها الحلوة هذه ..!
راحت تمضغ السكوت للحظاتٍ بطيئة .. مرّت دهورا عليها .. فشاب الأمل .. و تجعّدت أشواقها ..
واستحال الحنين كهولة متعبة ..
لتجد أنها قاب قوسينٍ أو أدنى من احتضار ..
و أنها تستنشق رائحة التراب المبتل الذي سيهال على رفات إحساسها بعد هينه ..
لذلك بصقت الصمت كراهية ..
و كلماتٌ مرتعشة تنساب من بين شفتيها ..
- مرحبا ..
عيناها تتشبثان برقّة تلك الملامح .. تنتظر لمحة تجاوبٍ واحد ..
لكن الخيبة كانت كالحجر يسقط في أسفل جوفها ..
و تلك الشاردة .. لا تجيب ..!
تحني جسدها نحوها ..
و تقبض نبضاتها الولهى عن فعلٍ أحمق .. و إندفاع يشتاق لإحتضانها و البكاء ..!
صوتها المبحوح .. جرح حنجرتها بقسوة .. و هي تكلّمها للمرة الأولى بأحرفٍ متعثرة .. فيما يرتعش بريق دمعة في مقلتها الحانية ..
- المستشفيات ..!! دايم يبطون .. و انتم نحن نرقبهم .. في الإنتظار ..
لم تجبها .. و لا بخفقة هدب واحدة ..!
تنكمش روحها بخوف طفلة الآن .. و هي تتدارك بصوتٍ مسموع أكثر .. تدّعي التطفل الذي يملأ غرف الإنتظار في كل مكان .. فيما قرع فؤادها يخفت .. يخفت ..
يكاد ينطفئ ..!
- رب ماشر ختيه ..؟ شعندج في الطواري ..؟
.
.
.
.
- ما تسمعج ..!
اخترقت الأحرف كالسهام أذنيها .. لتنتزع عينيها عن الوجه الصموت .. و العينين الساهمتين بشرود ..
و تلتفت للفتاة القابعة بجانبها بعدم فهم .. لتلتصق عينيها بالوجه الصافي .. و الإبتسامة الهادئة ..
و العينان ..!
هذه العينين رأتهما في مكانٍ ما ..!
و بابتسامة صغيرة أردفت الفتاة ..
- هي صمخا ..
و انفجر النبض بعنف داخلها
و ارتعشت أهدابها .. و هي تتساءل بذهول ,,
- صمخا ..؟
نظرت مجددا للملامح الساكنة و قد علاها الإهتمام الآن .. و هي تنقل بصرها بين الفتاة الهادئة .. و ميعاد ..
قبل أن يبهت لون ميعاد ..
أيعقل أن تكون هي ..؟؟
أكان يريد أن يفاجئها .. أوهمها بلقاء واحدة .. لتجدهن اثنتين ..
تعرفها .. هذه الصمّاء ..
ابنة أخيها التي لطالما فكّرت بها ..
تلك الغارقة في السكون .. !!
ظنّت أنها حور ..! لكنّها ليست هي ..
اذا كانت هذه المها ..
فهذه هي ..؟!
سحبت نفسا عميقا .. تبتلعه بقوة .. ليدفع عبرة تسد مخارج الكلمات للهبوط في قعر روحها ..
و صوتها المبحوح يتساءل بحبٍ لم تستطع استدراجه ..
- هاي أختج ..؟
أومأت الفتاة ببساطة ..و هي ترد عليها ..
- هيه ..
كادت ميعاد أن تنفجر ضاحكة باكية ..
تصرخ فرحا و أسى معا ..
حين رأت المها .. أغرقتها الهالة الساحرة التي تحيطها فظنتها حور على الفور ..
لكنّها مخطئة .. هذا الهدوء .. و البساطة التي سكنها الوقار و الإهتمام المؤدب .. هي حور ..
.
.
غيث يا أحمق ..
تبا لك ..
لقاء واحدة سيسحق فؤادي وجعا بانتهاءه ..
ما الذي دهاك لتضاعف ألمي باثنتين ..
تزرع في روحي شتلتين من أمل ..
لتقتلعها بعد هينه ..!
.
.
أرخت أهدابها بتلذذ .. و هي تصيخ السمع لذاك الصوت الذي تستدرجه بسؤال ..
- رب ما شر ..؟
ابتسمت حور بحلاوة لها ..
و لمع شبه ما في عينيها بصورة قديمة تحتفظ بها ميعاد لوالدها ..
صوتها المبحوح .. كان جذابا .. للغاية ..
خاصة لأذنين تعطّشت سنواتٍ لسماعه ..!
- و لا شر يا الغالية .. بس يايين نشل نتايج فحوصات ..
هزّت ميعاد رأسها .. تبتلع جرعة عملاقة من الهواء لردع عبرة تخنقها و هي تقول بابتسامة منكسرة .. مشبعة بالحنين ..
- هيه .. الله يشفيها ..
لمعت عيني حور بامتنان ..
- آمين ..
أعادت حور ترتيب غطائها بشيءٍ من الأدب ..
و قبل أن تجد الوقت لرد أسئلة هذه الغريبة من باب المجاملة على الأقل .. تناهى لها صوتٌ يدوي من مكبرٍ غريب مناديا بالإسم الذي انغرس في صميم ميعاد ..
معلنا نهاية اللقاء ..
- المها حمد سيف الـ ......
التفتت لهن بلهفة لم تستطع اخفائها ..
و هي تقول بارتياع طفلة .. بدا غريبا على حور ..
- بتسيرون ..
نهضت حور و هي تربت على كتف المها التي نهضت بدورها و هي تنظر للفتاة ذاك العينين البنيتين الدافئتين ..
- هيه .. دورنا الحين .. السموحة منج .. فداعة الله ..
قالتها و لم تنتظر رد ميعاد التي تكسّرت الأحرف على طرف شفتيها بمرارة حين استدارن الإثنتين راحليتن ..
- الله يحفظكن ،،
.
.
و تركنها ..
فقط نداءٌ واحد ..
أعلن إنتهاء هذه اللمحة من عائلتها ..
استطاعت سرقة نظرتين يتيمتين لوجهين ..!
أطرقت أهدابها و هي تعتصر يد خولة التي أمسكت بأناملها ..
مطلقة العنان لعبراتها الساخنة بالرحيل أيضا ..!
* * * * *
تأملت حور وجه الطبيب المسن من خلف غطاءها الأسود بلهفة .. لا تقل عن تلك التي راح رأس المها يتحرك بها مرات ..
فيما يلصق هو عويناته الزجاجية بالورق .. مدققا .. و ينكمش ما بين حاجبيه ..
- هااا دكتور .. بشر ..؟؟
رفع نظره نحو حور لبرهة .. قبل أن يطلق ابتسامة صغيرة ..
- أبشر بإيه يا مدام ..؟؟
تعلقت عينيها بوجهه و هي تقول بصوتٍ قلق ..
- كل شي تمام ..؟؟
اومأ برأسه و هو يعود للخلف بمقعده ..
- آآه .. كل حاجة زي الفل .. المها كويسة .. و ما فيش حاجة بتئلئ عليها ..
و أردف و هو يعود لتقليب الأوراق ..
- بس نحنا حنعمل لها مواعيد توازب عليها عشان نتجنب أي إهمال ممكن يحصل .. و الا التهابات .. انا شايف في الفايل بتاعها التهاب حصل لها من كدا سنة .. بس مش عاوزينو يرجع لها تاني ..؟
و راح يشخبط بقلمه على الأوراق .. دون توقف ..
تنتظر حور منه أن يتم كلماته ..
لكنه لم يفعل ..
أمالت برأسها و هي تقول بتوتر ..
- و شوه بعد ..؟
يجيبها دون أن يرفع رأسه ..
- بس كدا يا ستي .. ما فيش غيروو ..؟
نظرت له حور بدهشة ..
- لا .. أنا قصدي .. عن السمع يعني العلاج .. اذا فـ ..
و هنا صمتت ..
لم يتكلم الطبيب عن شيء .. و إن كان هناك أمل .. لأخبرها به ..
ترددت ..
شعور بأنها تقف على شفير حفرة من خيبة .. أخافها ..
فيما نظر لها الطبيب يحثّها ..
- فيه حاجة تانية عاوزة تعرفي عنها ..؟!
فركت يديها ..
تنظر للمها قليلا ..
تلك المستكينة بصمت .. رأسها المغطّى متوجه ناحية الطبيب دون حركة ..
و يديها النحيلتين قد ابيضّت و هي تشد عليهما ..
نظرت للطبيب .. و هي تكاد تقفز لتقبّل رأسه و ترجوه أن لا يحطم الأمل الضئيل الذي زرعته كلمات نشوى فيهن ..
صوتها يرتعش .. و هي تسأله ببطء .. و كأنما تؤجّل إجابته ..
- دكتور نحن نبا نشوف إذا الطب يمكن يحصّل علاج للمها .. يعني يساعدها ع السمع .. و الا تركيب جهاز و الا أي شي .. يخلي سمعها طبيعي تقريبا ..
رفع الرجل رأسه نحوها ..
نظر إليها بطريقة لم تفهمها .. قبل أن يغلق الملف أمامه و يريح يديه عليه .. و هو يقول ..
- ليه ..؟؟ حضرتك مش عارفة طبيعة حالة أختك ..؟؟
- أعرف .. بس .. يعني قلنا الطب تطور و يمكن ....
لكن الرجل قاطعها بلطف ..
- معليش يا مدام .. الطب تطور آه .. بس حالة المها حمد صعبة .. و صعبة أوي .. الصمم جاي بالوراسة .. و حالة معروفة .. يعني لو كان الزرع حيفيد كنا عملناه ليها و هي صغيّرة .. والا ركبنا أي جهاز يساعدها .. لكن الموضوع مش مسألة تردد و الا تفكير .. أي حاجة كانت حتساعدها كنا عملناها أبل كدا .. دي ليها مراجعات كتيرة و هي صغيّرة .. بس واضح انو ما فيش أمل خالص ..
شحب وجهها .. و هي تشعر بقلبها يهوى في جوفها .. لتهمس بصدمة ..
- ما شي أمل ..؟؟
نظر لها الطبيب يجيب بقوة ..
- لأ ازاي ..؟؟ دا الأمل موجود مدام ربنا سبحانه و تعالى لطيف بعباده المسلمين نفكد الأمل ازاي .. يا مدام الطب كل يوم بيتطور .. و تطلع حاجات و حاجات كتير .. أمراض كنا نشوفها قاتلة و بدون علاج .. ديلوئتي بتروح مع قرص اسبرين .. و خصوصا الإعاقات الحسيّة .. كل يوم بيطلع دكتور مع اكتشاف حاجة جديدة ..
سحب نفسا .. و صوته يصل حور التي تشبّثت عيناها بأختها ..
- مش عاوزك تفقدي الأمل .. لكل داءٍ دواء .. دايما تشبسي بأي بادرة من التفاؤل يمكن يكون فيها علاج لأختك .. مع كدا .. أنا أأول ما تعتمديش كتير .. و تضيّعي وأتها .. خليها تتعايش مع إعاقتها حاليا حتى يقضي الله أمرا .. تبني نفسها .. و مستقبلها .. الوقوف و اليأس .. مش كويس لحالتها خالص ..!!
.
.
.
.
.
لم تكن بحاجة لأذن كي تفهم ما يحصل هنا ..!
يكفيها عينين يائستين تلتهم كل إيماءة منهما .. لتدرك ما يدور ,,
ذهنها راح يترجم تلويحات الطبيب اليائسة ..
و انتكاسة رأس حور ..
لبرهة واحدة .. وهي تنتظر في صمتها هذا ..
شعرت بأمل أملا ما بين كفيّها ..
تتشبث به بأناملها ..
لكن قدرا أبا إلا أن ينازعها إياه ..
فراح يشدّه من جهة .. و هي تمسكه من أخرى ..
تجرّ الأمل و هي تشعر به ينسلّ منها إلى البعيد ..
ينزلق من بين يديها و من روحها .. فيما تغرز أظافرها يأسا .. تحاول استبقاءه قبل الرحيل ..
لكن قسوة جذب الأقدار لأملها الصغير ذاك ..
دفعتها للسقوط ..
و ها هي خالية اليدين ..
تهوي من علو تلك القمّة التي كانت قد بلغتها للحظات من خيال ..
حيث ظنت به أنها قد تسمع كما لم تفعل قبلا ..
لتفهم معنى الصوت .. و الضجيج ..
لتترنم بتكبيرات تضج من أفواه الحجيج ..
لتنصت إلى همسة ..
و تصغي إلى ضحكة ..
لتعيش فتاة صحيحة كما لم تكن قبلا ..
لكن لا ..
ها هي جاثية على أرض الواقع ..
و قد انتزع القدر حلمها الصغير بإيماءتين آسفتين فقط ..
و تلويحة ..!
.
.
.
مؤلمة ..
أمنية وحيدة ..
لم تكن بالكثير يوما ..
واحدة صغيرة كانت قد رفعت لسنواتٍ على رفًّ بالً من الروح ..
استعدتها ذات وهم ..
لتجد أنها غير صالحة للاستخدام ..
أفسدها الزمان ..
و قدر لم يتغير بعد ..!
* * * * *
يدها المرتعشة .. ترتّب وضع القهوة و الشاي ،، و الصحون في الصينية العريضة ..
قلبها المهشّم ينبض بيأس .. كعادته كلما شعرت بوجوده هنا ..!
فكرت بأن الألم مضاعف هذه المرّة .. فالمرأة التي يريد .. كانت دوما مجرد طيف .. لها أن تتخيّل أي سبب دفعه للتعلق بها ..!
أما الآن .. فقد أصبحت صورة حيّة .. نابضة ..
شابة يافعة .. هادئة ..
لا تتميز بالكثير ..
بل إن جمالها لا يقارن بحسن خولة ..!
خولة المرأة الناضجة .. مكتملة الأنوثة ..
بمشاعرها الدافئة ..
و تعلّقها اليائس برجولته التي فضّلت فتاة عشرينية عليها ..
بالأمس تآكل فؤادها غيره .. و هي تتأمل قسمات الفتاة العاديّة ..
تبحث عن شيء التفت لهة و تجاهلها هي لأجله ..
ما الذي دفعه للزواج بها ..
و نكران خولة التي لطالما كانت أمامها .. بمشارعها المتجسّدة .. و لهفتها الجليّة له ..!
لم تكترث يوما بصدّه .. و لا تجاهله .. لطالما كانت تأمل بأن يلتفت لها يوما ..
قاومت جفاف أيامها .. و برودة وجوده .. و هي واثقة بأنه سيراها يوما .. اكثر من مجرد زواج اتخذه لأسباب واهية .. أقنعت هي نفسها بها ..
لعندها ستزهر الحياة إحساسا و حبّا ..
لكن ذلك اليوم لم يأتي ..
و أمام أول مفترق طرق .. فضّل تركها و الرحيل ..
حين راحت عيناها تلتقط حركات الفتاة البسيطة .. و حلاوة ابتسامتها تلك .. و طبيعتها الهادئة ..
أغرقتها الحيرة ..
لمَ لم يلتفت لها يوما .. هي أجمل بمرات من تلك الفتاة .. و هي أكبر سنّا .. و أكثر تقبلا لمشاعره ..
لم يفهمها يوما ..!
كانت مجرد وسيلة للعناية بعمّته .. و أخذ راحته كما أشار عمر لا غير .
و عند أول عقبه رمى بها جانبا .. حين شعر بأنه دانٍ من ارتباط حقيقي لا يريده ..
لم تعنِ له شيئا ..
مجرد - خادمة- لابنتهم .. تقوم برعايتها ..
لم تتضايق أو تشكو يوما ..
و لكنها تفكّر الآن بأن كلام عمر هو الحق بعينه .. إلى متى ستظل ميعاد مجهولة ..؟
مخفيّة ..
و كأنها عارٌ يدسونه عن أعين الناس ..
بلغت السادسة و العشرين و عائلتها تجهل وجودها على قيد الحياة حتى ..
إلى متى سيستمرون بإلقاء أوزار سرّهم على ظهر نهيّان و ميعاد ..
لم يخفى عليها فرح ميعاد .. و تلهفها اليائس حين تمكنت بالأمس من رؤية بنات أخيها ..
بدا و كأن أحدهم وهبها الحياة بكاملها ..
و كأن أحدهم إنتزع روحها بفراقهن ..
كم هم انانيون ..
لا يدركون إلى أي مدى تتعذب ميعاد بابتعادها عن عائلتها .. و عيشها على هامش الحياة ..
متى ما أرادوا قضوا معها بضع لحظاتٍ في الخفاء ..
حتى اللقاء السريع الذي كان بالأمس ..
لم تستطع فيه أن تخبرهن عن حقيقتها .. و من تكون ..
لم تقدر على الصراخ أو التصريح بهويتها ..
و بأنها منهن .. و أنهن منها ..!
حملت الصينية بشيءٍ من الغيظ بعد أن تأكدت من وضع - برقعها - ..
و هي تبتلع كل اعتراضاتها الصامتة .. من يستطيع الوقوف في أوجههم .. قد تظن ميعاد أنهم ضاقوا بها ذرعا ..
سيكره نهيان أي اشارة لثقل وجودها في بيت أخيها ..!
.
.
خرجت من الباب الأمامي نحو المجلس الخارجي الصغير الذي نادرا ما يستعمل ..
الآن هذه هي حدوده منذ طلاقها .. لا يصل إلى عتبة الباب الرئيسي للبيت أبدا ..
ينتظر هنا كأي غريب .. حتى تخرج له ميعاد ..
ستضع الآن هذه الصينية عند الباب .. قبل أن تقرعه بخفة .. و ترحل ..
لن تخطف نظرة واحدة .. و لن تغامر بالدخول ..
كي لا يتمزق قلبها ..
لا تسمح بقايا كرامتها بذلك ..
كانت قد وصلت عند الباب و على وشك الإنحناء لترك الصينية و الرحيل ..
لكن قلبها انتفض بقوة .. و صوته الرجولي الأجش يطلق ضحكة خشنة .. قبل أن يقول ..
- يعني ما شفتي ظرسها الذهب ..؟
صوت ضحكة ميعاد الخفيفة تنزلق خلف كلماته ..
- لا ما بطلت ثمها و ضحكت ..
- عيبتج ..؟
كان صوته ثقيلا على قلبها و هو يتكلم عن زوجته .. علمت أنها هي المقصودة .. حتى بل أن تقول ميعاد ..
- عيبتنيه ..؟؟ يا الله .. لو تدري كيف يودت عمريه .. أول ما شفت المها .. تحريتاا هي حور .. ليش ما قلتليه انهن الثنتين اهناك ..
قال ببساطة ..
- مادري .. ركزت على حور ..نسيت سالفة المها ..
تنهدت ميعاد بقوة ..
- و الله حسيت انيه فجأة بصيح .. و الا بلوي عليهن .. و خفت و أنا ارمسهن .. قلت يمكن يسون ليه طاف .. خفت أكثر و أنا أرمس المها .. و هي حتى ما صدت صوبيه .. و لا ردت عليّه .. لكن يوم قالت ليه حور .. انها ما تسمع .. انصدمت .. عرفت انها هاي المها .. محد من بنات حمد صمخا الا هي .. و الله إن فواديه كان بينفجر .. و أنا أطالعهن .. و أرمسهن .. وديه انيه أنتبه لكل شي .. حركاتهن .. و أصواتهن .. و حتى نظراتهن ..
.
.
أغمضت عيناها بأسى ..
لم تخطئ الحنين و الألم القاتل في صوت أختها .
شعرت بشيء من القهر يسري داخلها ..
و غيث يقول بهدوء ..
- بتشوفينهن مرة ثانية .. و بتعيشين وياهن .. و بتملين منهن حتى ..
لكن نبرة ميعاد هي التي فجّرت دوامات الأسئلة في داخلها ..
- متى ..
ليقول صوته بشيء من المماطلة ..
- قريب .. قريب ..
لم تشعر سوى بقدميها تتجاوزان عتبة الباب .. حاملة بين يديها الصينية العريضة ..
تقتحم المجلس الصغير لترتفع عليها عيني ميعاد المذهولتين ..
و نظراته الكسولة و هو يجلس مسترخيا ..
لم تجبر لسانها على السلام .. لأن أسنانها تقبض على كلمتين فإن فتحت فاهها انفلتت ..
وقف ببطء احتراما لدخولها ..
هذه اللمحة أشعرتها بغربة لم تخالجها من قبل .. هذا الرجل لا يمت لها بصلة .. تختفي خلف برقعها عنه ..
هذا البرقع الذي كانت ترتديه خجلا حتى أمام جدّه الذي كان يوما زوج امّها .. لكنها فضّلت الإختفاء خلفه بإستحياء ..
أما حين تزوجته .. اقتلعته بقوة .. لتفرض قوة جمالها .. متأملة التأثير عليه ..
بحّت حنجرتها بالكلمتين اللتان لم تطيقا الإحتباس في فمها و هي تقول له بهدوء ..
- قريب متى ..؟
رفع حاجبه و هو ينظر لميعاد .. متجاهلا النظر إليها ..
- شوه ..؟
لا بد أنه ذهل .. لم تسلّم عليه و لم تبدِ أي لمحة أدب أو ترحيب بوجوده ..
ما الذي توقعه .. بعد أن هجرها حين أصبحت خارج نطاق منفعته .. و ثقلا يرمى عليه ..!
شيء من القوة راح يتسلل إليها و هي تعيد السؤال ..
- تقول قريب .. بس متى ..؟ هاي ستة و عشرين سنة خطفن على ميعاد و ما لقيتوا الفرصة .. شوه ترقبون ستة و عشرين سنة ثانية ..؟
هل بدت وقحة ..؟!
ربما .. لكنها لم تعد تبالي ..
إذا كان تذللها لم يلفت نظره يوما .. فليرى القوة إذا علها تستهويه ..؟
ثم انه قد فاض بها إهمالهم .. و إلقائهم مسؤولية ميعاد على أكتاف نهيان ..
يحرمونها من قضاء حياتها الطبيعية وسط عائلتها .. يسكتون جوعها و الحنين ببضع كلماتٍ يابسة ..
سنوات وحدة .. فقدت خلالها الفرصة في رؤية أخيها الذي فقدت ..
من يعلم متى تحرم من رؤية أحدٍ آخر للأبد ..؟
لكن ابتسامته الملتوية اعتلت شفتيه بتكبر ..
- و شوه عليج انتي ..؟ لو نخليها الين ما تموت ..؟
ثم سأل بنبرة كريهة ..
- مضيقة عليج المكان ..؟
ردّت بشيء من القهر ..
- عمرها ميعاد ما ضيّقت علينا البيت بيتها مثل ما هو بيتنا .. بس شوه عذركم داسينها .. هب بنت حرام .. و لا فضيحة .. سنين خاشينها و دوم بتعدلون الوضع .. وينه الوضع ما تعدل ..
رفع حاجبه .. و ملامحه السمراء تتصلب .. و هو يمسح على شاربه .. و ذقنه بسخرية ..
- و يوم انها سنين عندكم .. ما اتذكرتي اننا خاشينها الا يوم انقضت حايتج ..؟
.
.
ظنّت انها أخطأت السمع ..
أو أنه لم يعني شيئا بكلماته ..
فتحت فمها بصدمة ..
و كلماته تنغرس نصلا في روحها .. تمزّقها ..
و تنحر فؤادها الذي انتفض كطيرٍ ذبيح ..
نازف ..
تسمع همسة ميعاد المعترضة المصدومة ..
- غيث ..!!!!
.
.
سمع ميعاد و هي تستنجده بخفوت ..
لكنّه لم يبالي ..
محاولتهم السابقة الرخيصة لإشهار زواجه بها لم تعجبه .. و لم يكترث أبدا لتركها ..
أما اعتراضها على وجود عمته لمجرد أنها لم تعد زوجته فهذا ما أثار أحقاده عليها ..
لذلك نسي المكان الذي يقف فيه .. و أن هذه لامرأة لم تعد له ..
هناك مئات الحواجز انتصبت بينهما بالإنفصال .. لكنه ركلها عن طريقه و صوته البارد فرقع في المجلس ..
- أشوف يوم ما خذتي من وراها شي تذكرتي اننا ملزومين بها ..
صمت لبرهة و هو يراها تكابد دمعة واهنة .. ليقول بقسوة أكبر ..
- شرايج أردج .. يمكن تخف مسؤوليتهاا عليج ..؟!
صرخت ميعاد بارتياع ..
- غيييييث .. شوه هالرمسة .. احترم نفسك ..
رفع غيث حاجبه و هو ينظر لخولة التي كانت تقف في منتصف المجلس .. تقدم ببطء نحو الباب حتى بلغه ..
توقف أمام الباب بهامته العريضة قبل أن يلتفت لهن ..
ميعاد التي التوت ملامحها بغضب مازج ألمها الذي أعقب كلماته ..
و خولة التي تدير له ظهرها الآن .. و قد انحنى رأسها ..
هي التي حشرت نفسها في هذا الموقف الرخيص ..
ما كان لها أن تتدخل أو تتطاول فيما لا يعنيها ..!
سيخرج من هنا قبل أن يهشّمها أكثر مما فعل .. لا تهمه .. و لن يكترث إن قتلها بكلماته الليلة ..!
- احترموني عسب أحترمكم .. هاي هب سلومناا .. نرادد الحريم في ميالسهن .. لكن من دق الباب ياه اليواب .. ختج مالها حاية امبينا .. لو شي فخاطرها تقوله .. و لا تيلس تتعلث بج ..
لكن خولة التفتت له الآن بعنبن بدا من خلف البرقع كالزجاج المهشم ..
قسوته حطّمتها ..
هذا الرجل لا يهتم لأمر أحد .. مجرد من الإنسانية التي لا يعرف لها معنى ..!
.
.
- إظهر من بيتنا ..
قالتها بأحرف حادة .. جرحت بها قلبها الذي تمنت اقتلاعه من جوفها هذه المرة ..
تشعر بنبضاتها الممزقة على وشك الخمود ..
و روحها تتناثر أشلاءً ممزقة .. تترامى في كل زاوية ..
لما كان عليه أن يذلّها هكذا ..!!
لماذا ..!
رفعت نظرها إليه ..
ترتعش و تكاد ركبتاها أن تتهاوى .. لم تعد تقوى الوقوف .. و قوة زائفة تهتز على وجهها ..
تتزعزع ..
جسده القوي يميل على الباب .. واثقا .. ساخرا ..
- تبينيه أظهر ..؟!
يرتجف صوتها و هي تتدارك قلبها الأحمق .. قد يفضحها ..
و هي ترفع بصرها بشموخ منكسر .. و سبابتها المتخاذلة تشير نحو الباب ..!
- هيه إظهر ..
ما زال البرود يسكن عينيه .. يجتاح جسدها المرتعد .. و هي تريد أن تغمض عينيها للحظات فقط ..
لكنه سيدرك كم هي ضعيفة ..
و سيسعده ذلك ..
لا ..
لن يغلبها ..
عادت تنظر لوجهه الجامد اللا مبالي .. تبحث في قسمات وجهه المتصلب عن صدى لإحساسها الأخرق ..
حتما لن تجد شيئا ..
هو .. هو
لم يتغير ..
و لن يفعل ..
شدت يدها و إصبعها يجد طريقه للثبات ..
و تكابد دمعة تسعى للفرار ..
- إظهر من بيتيه .. إظهر من حياتيه ..
نظرة طويلة قارصة .. رماها عليها .. قبل أن يدير لها ظهره و يترك المكان ..
و لم تكن تحتاج إلى هذا ..
لتهوي من علوّها على الأرض بآهة محرقة إنفلتت من حلقها ..
كانت إهانته لمشاعرها آخر ما تحتاجه ..
لكن كسرها ..
كسرها ..!
و أجاد إذلالها الأخير ..! شعرت بكرسيّ ميعاد يتوقف جوارها قبل أن ينزلق جسد أختها من عليه فتقع أرضا ..
لتجر نفسها نحوها ..
و هي تتردد بصوتٍ متألم ..
- خولة .. خولة فدييييييتج .. ما عليج منه .. و الله ما يستاهلج .. و لا يسوى ظفرج .. خولة حبيبتي .. لا تصيييحييييييين ..!!
.
.
لكن الدموع تفجّرن ينابيعا ساخنة من محاجر عينيها ..
لتغسل جروحها الدامية التي خلّفها ..
ذراعي ميعاد اللتان التفتا حول جسدها لم تقيها البرد الذي جمّد أوصالها و هي تستعيد كلماته ..
و انتفض قلبها انتفاضة أخيرة ..
قبل أن تطلق عويلا ممزقا .. أفزع أختها التي بدأت بالبكاء ..
- خولة .. ردي عليّه فديتج .. لا تسوين كذيه بعمرج .. ما يستاهل ..
.
.
لن تعلم أي خزي .. و وجع تقاسيه هي الآن ..
مرارة موقفه ستتجرعها ذلا طوال حياتها ..
.
.
طعنة هنــا ..
و كفى ..
آن لها أن تنحي قلب الحجر ذاك من أيامها ..!
* * * * *
تجلس على طرف الفراش ..
عينيها تنظران للفراغ أمامها ..
تتيه فيه ..
الفراغ الذي يسود أيامها ..
و لا تتركه إلا بوجودها مع أحبتها ..
كان وقع الخبر عليها مريرا ..!
الغريب أنها عايشت الأمر لسنواتٍ و لم تكترث ..
كانت تحظى بأمنية صامته من حينٍ لآخر ..
لكن أحدا لم يعلم بها غيرها ..
سرعان ما كانت تدسّها في أقاصي نفسها ..
خشية أن تتمرد لتفصح عن نفسها يوما ..!
لكن حين قُدم لها الحق في أن تأمل .. و ترجو على طبق من ذهب ..
حين وجدت أن ذاك الحلم لن يشملها وحدها ..
و أن سيكون قريبا و دنيا ..
و كبيرا ..
كبيرا جدا ليحتويها ..
تجرّعت كيف يكون التعلّق بخيطٍ من وهم ..
سرعان ما انقطع ..
لتجد أنها كانت معلّقة في الفراغ ..
أوجعتها الخيبة ..
و شعرت بأنه الأمل لا يحق لها الآن ..
عاشت سنواتٍ و هي تحلم بأملٍ ما ..
لكن الآن ..
أصبح الأمل محرما عليها ..
.
.
لا تناديني تراني ما أسمعك ..
لو تبيني بس أشر باصبعك ،،
خل عنك هالصراخ ..
لو تصيح لين الصباح ..
ما أسمعك ..
أنا تراني ما أسمعك ..
.
.
وش تقول ..؟
حسك قصير و ما يطول ..!
انت تهمس ..؟
و الا كلماتك بعيدة ..
لحظتين و على وصول ..؟
طيب اسكت لحظتين ..
أبا أنتظر هالكلمتين ..
حتى لو أبطت شهور ..
جايز ما تقوى العبور ..
و أخلفت وعد الحضور ..
و ساد صمت .. !
عادي ترى ..
ما به جديد قد طرى ..
صمت ..؟!
سنين و أعوامٍ تدور ..
و أنا ساكنة صمت القبور ..
في الطفولة ..
ما سمعت قبل أرقد حكاية ..
و الا ترنيمة سلام .. تعتبر عندي هواية ..
كنت أنام ..
أعيش أنا لحظة سكون ..
قبل تغفا بي العيون ..
نومي دنـــا ..
لا حكاية و لا غنى ،،
وش لي بذاك العنا ..؟!
و في مراهقتي الخجولة ..
قالوا عن أخبار البنات ..
أحلامهن الخافية ..
و الأمنيات ..
ضحكات عذرى هامسة ..
و كلمات ذيك الأغنيات ..
و همسات سر ..
و كان ودي بسر واحد ..
تهمس به العذرا خجولة ..
و الا محبوبٍ بعيد ..
ساق لإحساسي رسوله ..
لكن الهمس البعيد ..
ما وصل سمعي أبد ..
لو كانت العذرا تعيد ..
كل ساعة همسة بسرٍّ جديد ..
ما يوصل لسمعي أبد ..
ما بفهم لكلمة أحد ..
ارفعوا الأصوات مرّة ..
أذني صمّا ..
حاجز بيني .. و بين أحبابي يحول ..
ما أسمح لشكوى أحد .. أعيش في هدأة لحد ..
وين قطرات المطر ..
و إلا دقات السمر ..
وين تكبيرة مآذن .. تدعي حيّا ع الفلاح ..
وين ترنيمة حمام .. تطرب أذني في الصباح ..
وين الضجيج ..؟
و لبيك اللهم ترقى ..
عاليّة ..
من فوج أفواه الحجيج ..
.
.
وش تقول ..؟
حسك قصير و ما يطول ..!
انت تهمس ..؟
و الا كلماتك بعيدة ..
لحظتين و على وصول ..؟
بس طالت ما لفت ..
آه .. ويلي ..
نسيت أقول ..
سمعي عذول ..
لو بتظرب بالطبول ..
ما أسمعك ..
أنا تراني ما أسمعك ..! **
.
.
امتدت أناملٌ من العدم لتمسك بيدها ..
رفعت بصرها لتلقط ملامح حور الهادئة ..
و هي تنظر إليها بقلق ..
.
.
لكنها لم تقلق ..
لم يعد شيء يقلقها الآن ..
هي صمّاء ..
و لن تسمع أبدا ..
الأمر ليس بالجديد ..
لكنها ركضت وراء سراب .. بظمأ ..
لتصدم بقحولة مكانه ..
لم يضنها سوى التعب و اللهاث ..
و هذا ما سيزول بعد برهة ..
تاركا ظمأ لم يروى ..
و لن يفعل ..!
ابتسامة صغيرة ..
حمّلتها صبر سنوات .. و احتضار أمل ..
و ارتعاش دمعة يائسة ..
ستهوي بعد لحظة ..
و تتركها ..
خواء ذاك الذي يعتريها الآن ..!
يمزّقها ..
لكنّها ستعتاده ..
ابتسامة مشجّعة تنبت على شفتي حور ..
و هي تقطب ..
تحثّها على شيء لم تفهمه ..
على الحلم ربما ..؟!
لا .. لن تعود لهذا .. فالاستيقاظ بعد لذّته مهلكة ..
على الصبر ربما ..؟
أوه ..
تحمل الكثير منه في داخلها ..
شيء سيبقيها مكتفية إلى أن تطويها التربة في رحيلها الأخير ..
فلا يعلم أحدٌ أي إنكسار أدركها ذات خيبة ..!
* * * * *
* نزف إحساسٍ طاهر ،، في ذمّة الله / بقلمي ،، و دعواتكم للأخت هديل رحمها الله ،،
** لا تناديني تراني ما أسمعك / من بوح قلمي ..
|