كاتب الموضوع :
زارا
المنتدى :
الارشيف
و انبلج صبح ذاك اليوم مزدحما بما يحمل ..!
.
.
.
.
.
.
.
.
انعكس الضوء بقوة عن سطح الماسات البيضاء التي رصّعت العقد الجميل المتحرّك في يد ابنتها ،،
و نقلت هي بصرها ما بينه و بين طقمين آخرين توسطا الطاولة الصغيرة أمامها ،،
و روضة تقول بحبور ..
- حافظ عليج يا أم حامد .. ذوقج طررر .. عاد هالطقم غاوي .. بشله لي ..
غمزت لأمها بمرح ..
- هدية العرس .. شرايج ..؟
قطبت أم حامد بهدوء..
- خلي عنج ..أطقمج ماشي شرواهن .. أحلى عن هاييل ..
التصقت روضة بأمها و هي ترفع العقد امامها تقول بدلال ..
- لا و الله ان هذا اروحه يسوى أطقميه كلهن .. بعدين انتي سرتي وياية تتخيرين الأطقم .. ليش يوم المعني حرمة ولدج بدعتي و انا خذتيليه حيا الله كلام ..
نظرت لها أمها شزرا ..
- الحين هاييلاك حيا الله كلام ..؟
ابتسمت روضة و هي تقول بغنج ..
- هيه .. حيا الله كلام .. طاعي بس الزين ..
و رفعت العقد عاليا ..
- بس شوه نقول ..؟ الزين للزين .. تستاهل المها ..
هزّت أم حامد رأسها دون أن تتكلم ..
لم يكن استسلاما .. بل كان قبول ..
الاستسلام أن ترخي همم المقاومة .. و تأتي الأمر على مضض .. فيما الرفض لا زال يتصدر احساسك ..
القبول هو القناعة التامة بأن الله شاء و قدّر ,, و أن هذا هو الحال .. و الحمد لله على كل حال .. شيء يبدأ بقناعة .. و ينتهي برضا ..
رفضت ثم ماذا ..؟!
لا تنكرها أنها غاضبة لعدة أسباب ..
أولها هو التفكير بحياة ابنها القادمة .. و أي حالٍ ستكون عليه ..؟!
كيف لأحمد المنطلق .. المتحرك المزعج ..
ذاك الفوضوي .. المتفجر حيوية ..
أحمد .. ابنها الذي لطالما استفز ضحكاتها ..
كيف لذلك العابث مجنون الأحاسيس .. أن يتزوج كتلة الهدوء الصامتة تلك ..؟!
كيف له أن يتحد و سكونها ..
هي ذاتها لا تكاد تشعر بها أحيانا ..!
تجلس لوقتٍ طويل في زاوية دون أن تبدي رد فعلٍ ما ..
كيف لها أن تتزوج أحمد ..؟ تحبه .. لتملأ حياته ..؟
كيف لها أن تشبعه كلماتٍ لا تلفظها ..؟!
سيكون هناك فجوة بينهما تتسع مع مرور الوقت ..
ليفر أحمد من السقوط فيها .. مخلفا وراءه .. إمرأة سيكسرها هجره دون شك ..!
هذا غير خشيتها الأزلية من أن يورث هذا الزواج إبنها أطفالا معاقين ..
رغم هذا هي ابتلعت كل خاطر أسود لأجله ..
هو الذي اختار .. و عليها أن تحترم اختياره ..
و أن تقبله ..
كثيرا ما سيحتاجها في حياته القادمة ..
و كما استقبلت زوجة حامد بذراعين مفتوحتين ..
لن تعجز عن تشريع أبواب قلبها لتلك القادمة الجديدة لاحتوائها ..
لكن خشية قد وقعت في قلبها ..
ترتقب ما قد تحمله الأيام القادمة ..!
* * * * *
- انتي ما قلتي ان المها قالت ما تبى حفلة ملكة ..؟!
أعادت ظهرها للوراء مسترخية في مقعدها المتحرك الذي استقر حول طاولة المطبخ .. و هي تطالع حور التي تحرّكت بخفّة في المكان تعدّ الغداء بهدوء ،،
تلك التي كانت تهيم في أراضٍ بعيدة من توتّر و ارتباك ..
التفتت لها مؤيدة كلامها .. بهدوء ..
- بلى قالت .. بس ما بيسوونها سكاتي .. عشى خفيف .. يتيمعون فيه بني سيف .. و رمسنا خالوه و ودوم يحضرن بعد .. يملكون اليماعة و يتوكلون ..
أسندت ميعاد ذقنها بيدها و هي تتساءل ..
- انزين ليش مستعيلين كذيه .. كان اتريوا الين عقب عرس حامد و سيف .. خلاف ملكوا .. وايد قدموها ..
هزت حور كتفيها و هي تحمل طبقا من الأرز الذي تصاعد منه البخار نحو الطاولة ..
- تتخبرينيه عن ولد خوج ..؟ اتقولين بطير البنية .. يعني لو اتريوو الين عقب العرس .. يمكن تغير البنية رايها .. و نسوي حفلة ملكة .. و نفرح بها شرات خواتا .. المها هب قاصرة عنهن ..
ابتسمت ميعاد ابتسامة صغيرة ..
- لا حشى هب قاصرة .. لكن شكله أحمد متحمس شويه .. يا الله .. الله يوفقهم و يتمم لهم ع خير .. أحمد ريال طيب و المها تستاهل ..
هزت حور رأسها بشرود حزين ..
الكثير يؤيدون هذا الارتباط .. و هي لا تنفيه ..
فقط تؤرقها خشية ..
من أن يكون ذاك القادم من أراضي الحلم بالنسبة لأختها ..
لا يختلف كثيرا عن اخاه ..
فيحيل حياتها الوردية لكابوس لا ينتهي ..!
شعرت بغصة ضخمة تتكئ مستقرة في سبل التنفس و هي تتحرك لجلب السلطة ..
عليها أن تبتلع قسوته ..
أن تنسى كل ما خلّف فيها من حطام .. لأجل تلك الروح الصغيرة التي تنبض الآن في أحشائها ..
و أخفضت ناظرها لمعدتها المسطحة التي اشتد عليها ازار المطبخ الذي ترتدي ..
قريبا جدا ستتكور لتصرخ مبشّرة بذاك الزائر القادم ..
مخلوق سيقلب كل المعادلات ..
أشد ما يرعبها الآن هو رد فعله المنتظر ..
حين تجاوزت صدمتها باكتشافها لأمر حملها .. و استطاعت تجنيد كل سلبية في مشاعرها اتجاه القبول .. و التفاؤل بما قدّر الرب ..
أصبح يؤرقها التفكير بما قد يشعر به هو اتجاه طفل تحمله انتهازيّة مستغلة في نظره ..
تراه سيؤاخذ هذا الطفل بذنبٍ ظن أنها ارتكبته ..؟!
و ارتعش الطبق في يديها .. و كآبة فظيعة تجتاحها ..
شعرت بان الأدمع تطرق أبواب الجفن .. بغيّة الانحدار ..
لذلك سحبت نفسا عميقا متهدجا ..
قبل أن تنتفض روحها من صوت ميعاد الذي اتى ناعما هادئا ..
ميعاد التي غدت أكثر من بلسمٍ عطر ..
نسمة باردة تهب على روحها لتخفف من القهر المحرق الذي يخلّفه ابن أخيها في أيام هذه الطفلة ..!
- حور فديتج .. رب ما شر ..؟!
رفعت وجهها و هي تطرد آخر أفاليل الوجع الذي غيبته بعيدا عن متناول نظراتها المتمعنة ..
و تنحت بصعوبة شديدة .. ابتسامة ذابلة .. مرهقة ..
- و لا شر فديتج .. بس .. مادري ..!! احس الايام تمر بسرعة ..
.
.
يقين تملّك ميعاد بأن حكاية الوجع الذي يسكن مآقيها .. لها عذر مختلف عن هذا الذي سردت ..
لكنها لم تشأ التطفل على أحزانها ..
فإن شاءت حورالبوح ستعلم حتما بأنها مستعدة لاحتواء تفاصيل أحزانها الخفية ..
ابتسمت بهدوء في وجهه ..
- لنها صدق تمر بسرعة ..
نعم تمر بسرعة كبيرة ..
أ و لم ينقضي ما يقارب الشهر و النصف و لا زالت هي مضجعة على الاهمال ..
تلتحف نسيانهم .. و تتوسد الانتظار ..
ترتقب اما افاقة قلب تمادى في اغفاءته .. تاركا اياها تتخبط في المجهول ..
أو عطف أقاربٍ تباطأ في اقباله ..
أقارب لم يكن لهم ردٌّ على وجودها .. سوى رفض صامت ..
و ابتلعت كآبتها .
مسبقا كان جهلهم بوجودها هو عذرٌ بين لابعادها .. حتى عن مشاركتهم أفراحهم ..
الآن عذرهم هو نكران تلك الكبيرة لها ..!
ميعاد .. لن تحضري .. لن تظهري ..
ليس الا لأنك حربة سترتكز في صميم تلك العجوز الهشة ..
فتقلتها ..!
و ارتخت أجفانها الناعمة .. تستعيد تلك التجاعيد في ذهنها ..
تلك التي امتلأت أحافيرها بهمومٍ لا نتتهي ..
و لم يفعل قدومها الا زيادة همها هم ..!
لو تعلم تلك العجوز كم تشوّقت هي للقياها ..
علها تجد في حجرها حفنة حنانٍ تغنيها ..!
شهر و نصف ،،
و لا زال ذاك العزيز مسجى على فراشٍ من غيبة ..!
شهر و نصف ،،
و لا زال والدها يتظاهر بانها ليست هنا ..
و ابتلعت ريقها و ابتسامتها تذوي ..
- انزين حور .. لو ترومين تخلين المها اتيي العصر عسب أبارك لها .. اتعرفين .. لني ما بحضر و كـ ..
و أطبقت العبرة على خناقها .. فرسمت ابتسامة مرتجفة في وجه حور التي أقبلت بصحن الدجاج اتجاهها ..
وضعته على الطاولة بهدوء ..
و الحزن ينسل بعيدا عن تفكيرها و هي تقرأ ملامح البؤس في وجه ميعاد ..
ابتسمت لها برقّة و هي تضع يدها على كتفها ..
- لا ما بخليها اتيي العصر .. عقب العشا .. كلنا بنحول هنيه .. أنا و المها و البنات .. بنشوف لو رويض بتم عدنا بعد .. بنكمل الحفلة هنيه .. رقص و طماشة .. عسب بالمرة تشوفين كشختاا ..
اهتزت عروش الحزن في مآقي ميعاد أمام هذه الفكرة .. و صوتها يخرج مبحوحا ..
- ليش العشا هب عشا عادي ..؟
هزت حور رأسها تعود للثلاجة و تلتقط طبق السلطة ..
- هيه عشى عادي .. لكن بنكشخ .. و بنرقص .. و بنخترش .. لو المها ما تبى حفلة .. نحن نبى نفرح بها .. و لو بينا على الأقل .. تبين روب ..؟
عبست ميعاد و حور نجحت في الهائها عن التفكير الأسود الذي اعتادت على الانخراط به ..
- لا ما حب الروب ..
- بحط عليه فلفل أحمر و ملح .. يطلع يمي ..
ابتسمت ميعاد فجأة من هذا التعبير الذي يناقض شرودا كئيبا كان يلازم حور اليوم ..
أسعدها أن تستدرج حور بعيدا عن أي مزاجٍ مظلم ..
- هاتيه بنجرب ..
كانت كل واحدة تحمل في جعبتها همّا يثقل عاتقها ..
رغم ذلك تسعى في تخفيف حمل الأخرى ..
بعد ان أنهت حور تحضر - الروب - وضعته على الطاولة و جلست على الكرسي الملاصق لميعاد تناولها ملعقة و هي تقول ..
- ذوقي ..
التقطت ميعاد الملعقة رغم أنها لم تكن تحب اللبن الرائب كثيرا ..
الا أنها لم تشأ أن تكسر لحظات سهو حور عن تفكير تغيم له ملامحها الصافية ..
فغمست الملعقة بخفة في اللبن .. ثم دستها في فمها ..
لعقت شفتها بطرف لسانها و هي تقول مفكرة ..
- not bad ..
ابتسمت حور بدورها ..
- روح يا العنقريزي .. نوت باد ..
لكزتها ميعاد برقة ..
- عيل شوه اتحريني كرتون ما أفتهم .. لا ابوية .. انا قد سافرت وايد في خاري ..
ضحكت حور بقوة ..
- لا الحين بقول .. روح يا الهندي .. سافرت وايد في خاري ..!! كيف تعربين هالجملة ..
ابتسمت ميعاد ..
- قصدي وايد سافرت .. كنت أسير كندا لن عنديه مراجعات ويا دكتور اهناك .. حتى مرة سافرت ويا غيث ..
- أرواحكم ..
- لا خولة ختيه كانت ويانا .. وكـ ...
ثم بترت عبارتها حين غامت عيني حور لثانية .. فتدرك ميعاد الغلطة الفادحة التي ارتكبتها توا ..
فتسارع بإصلاحها .. و تدس في أذن حور كذبةٌ تلهيها ..
- و كان نهيان خوية سابقنا هو استقبلنا في المطار ..
و انطفأت كتلة اللهب التي انفجرت منذ ثانية لتلتهم أحشاء حور .. حين رأت بعين الخيال .. اخت ميعاد التي وصفنها أخواتها بمجسم الانوثة المكتمل .. تسرح و تمرح أمام عيني زوجها ..
إمرأة بذاك الوصف .. لها أن تفتن الصخر ..
فما بالها برجلٍ حار الدماء كغيث ..!!
توقفت قليلا أمام مشاعرها الكريهة ..
سحقا ..
هذه تبعات اعترافها لوديمة ..
المشاعر التي دفنت في طيات صدرها مسبقا ..
راحت تتمرد للظهور الآن .. ما ان اعترفت بوجودها ..
ابتلعت ريقها .. و خبث احاسيسها .. و اغتصبت ابتسامة مضطربة أمام عيني ميعاد ..
أيخيل إليها ..؟! أم أن ميعاد تقرأ صراع مشاعرها ..
بعثرت نظرها على الطاولة تقول ..
- نورة كانت تحب دوم تحط فلفل و ملح ع الروب .. يطلع طعمه حلو .. أصلا لو تشوفين أكلها .. كله فلفل .. لو هم يسوونه عصير عادي عندها تشربه ..
- من وين عرق الهنود .. ؟
ضحكت حور بخفة .. منحية كل شيءٍ آخر بعيدا عن متناول التفكير ..
- من فارس الأحلام ..
قطبت ميعاد فرحة بتغير مزاج حور السريع ..
دون أن تدري بالجمر اللاذع تحت أكوام الرماد ..
- أي فارس ..
- شاروخان ..
رمشت ميعاد بعينيها ..
- منوه ..؟
أجابت حور بسرعة تهز كتفيها ..
- ممثل هندي واحد ..
ضحكت ميعاد ..
- ممثل هندي واحد ..؟ الحينه منوه لي نقوله روووح يالهندي ..
ضحكت حور بخفة و هي ترى انعكاس بريق راحة هادئة في مآقي ميعاد ..
راحة تمنت رؤيتها طويلا ..
و هي تسطع بقوة ،، معلنا سلاما قد تعقده ميعاد مع روحها و لو للحظات ..
* * * * *
ارتعاشة يده ،،
نظراته المرتبكة التي راح يبعثرها في أرجاء المكان ،،
حتى ثبات جلسته الذي راح يجد فيه صعوبة و هو يشعر بأنه على وشك القفز في كل لحظة تمر به ،،
تختلج نبضاته مع كل ثانية بطيئة تزحف في هذه الليلة ،،
و شعور بعدم التصديق يزاوله بعنف ..
أ و يعقل بأنه بات وشيكا من ذاك الحلم الذي أسره لأشهر ..
أي حلم ..!
أصبح واقعا بحتا .. وشك على نيله ..
و خفق فؤاده بعنف و ابتسامة خالصة كبيرة ترتسم بفرح على وجهه ،،
غير آبه بأي أحد قد يلتقط سعادته الصريحة ..
- عدال عاد .. طاحت ظروسك ..
لكن ابتسامته لم تتززح هو يقول بفرح..
- جب ..
- أفاا ..!
قابله أحمد بابتسامة لا تهتز ..
مشاعره رغم كل الاضطراب الذي يتملكه كانت ترفرف بين أضلعه ..
- عيل .. تفسد لحظاتيه الذهبية بالطنازة ..؟
ظهر تعبير ألم مصطنع على وجه هزاع و هو يقول ..
- هييييه يا أحمدووووه ..!! هذي أولها .. باكر عادي تنسى لي بينيه و بينك ..
الابتسامة الملتصقة بوجه أحمد زادت اتساعا ..
- هب صعبة الصراحة .. حد يقبّل في هالاشكال ..
نظر له هزاع بغل ..
- عنلاتك يا الهرم هالاشكال تسوالك ..
ثم أردف بنبرة جرح ..
- بتردك الايام يا مغرور يا مدلل ..
استدار له أحمد بضحكة فرح حقيقية .. و هو يلف ذراعه على كتفي هزاع ..
- ثرها الا رمسة يا بو سلطان .. و انا اروم أصبر عنك ..؟ فديت هالشنبات اللي كنها شنبات قطو ..!
.
.
.
.
لا يدري لما خرجت نبرته ساخرة بعض الشيء و هو يقول ..
- مالهم سنة ..! و راحن ثلاث .. عطهم شهرين .. هب بعيدة يقزرون نورة و دانة بعد ..
رفع مايد حاجبه و هو يرد عليه ..
- و ليش زعلان ..؟ بنات عمهم و هم الأولى .. و العرس قسمة و نصيب ..
زفر عبيد بهدوء ..
- ما قلنا شي .. بس سنين و محد أهل لهم الا نحن .. و في سنة طلعوا هم الأولى بهن ..؟!
التفت مايد اتجاهه بحذر ..
- عبيد ..شي فخاطرك ..؟ ارمس ..
هز عبيد كتفيه دون اكتراث ..
- لا ابوية .. ماشي فخاطريه .. بس كذيه رمسة ..
و تساءل مايد في داخله ان كانت حقا مجرد – رمسة - ..!
.
.
.
.
يمسح بيده الكبيرة على فكه المربع يتحسس خشونة لحيته السوداء ..
جسده الضخم يتكئ مائلا بجانب جده .. و قد بدا جليا بأنه يبعد أميالا عن هذا المجلس ..
أكثر ما أثاره هو أنه اتى مساء أمس ليجدها منغمسة في عالم الأحلام و كأنها لم تشأ أن تقابله بعد انكسارها نهارا ..
ليفاجأ اليوم باستيقاظها مبكرا و نزولها لميعاد على غير عادتها في انتظاره لتحضير ثيابه التي سيرتدي ..
فأيقن بأنها تندس خلف عمته ..
ما الذي أذاب الثلج يا ترى ..؟
أي وجعٍ ألم بها لتنهار أمامه بعيدا عن تظاهرها الهزيل بالقوة ..؟!
استعاد صفاء وجهها المحمر ،،
و دموع مختلفة تتشبث بأهدابها .. فتنحني تحت ثقلها ..
و اعتصر شيء ما قلبه بقوة .. حين أيقن باحساس خبيث أنه موجوع لوجعها ..
ذاك الضعف الأحمق المعتاد الذي يزاوله كلما قابل ضعفها ..
و لا يعرف له تفسيرا ..!
* * * * *
الوجوه التي تملأ الصالة استحالت بلا ملامح ..
شعور غريب داهمها بأن شيئا في داخلها انتهى ..
هناك نقطة وضعت على سطر .. ثم ثُقِبَت ..
لتسكب سوادا غطّى كل شيءٍ آخر ..
اتكأت روحها على طرفٍ تناظر الفرحة المتراقصة على وجوههم ،،
الاهتمام ..
الهدوء ..
أحاسيس بدت عالما بعيدا غريبا عنها في تلك اللحظة ..
و في تلك اللحظة فقط توقّفت عن التشبّث اليائس بهزال القشّة ..
و لم تعد تتخبط بجنون مذعور مقاومة عباب طوفان الوجع الذي جرفها ..
شيئا فشيئا راحت مشاعرها ترتخي باستسلام بارد ..
و أخذت روحها تثقل ..
تغوص ببطء لقعر الألم الراكد ..
يقين سكنها في تلك اللحظات بأن هذه نهاية ..
و أنها تلفظ أنفاس الأمل الأخيرة .. حين راح الحزن يغرقها و يجرّها لقاع اليأس ..
و تهادت شيئا فشيئا ..
لتستقر أخيرا في العمق ..
بطمأنينة أخيرة مفجعة ..
متيقنة بأن لا يدا قد تمتد من العدم لتنبش أوجاعها و تنتشلها ..
منهية هذا الاحتضار الأبدي الصامت ..
- اللي ماخذ عقلج ..!
رفعت عينيها ببطء مميت اتجاه الوجه الذي أشرف عليها من علو ،،
تثني عفرا قدها الناعم لتجلس جوارها .. بهدوء ..
- شحالـــــج عوشة ..
هه .. حالها ..؟!
و تمطت المسافة بينهما ..
عن أي حال ستتكلم ..؟
الخرائب المهجورة في داخلها ..؟!
أم الخير الذي ستدعي أنه يعشعش في نواحيها ..؟!
خرج صوتها من قُمع ..
- بخيـــــــر ..
شعرت بقوّة نظرة عفرا الهادئة تخترق عظامها .. و هي تكرر ..
- متأكدة ..؟ شكلج تعبانة ..!
حتما تشير للوجه المتقشّف ,,
لم تعبث بفرشاة ألوانها الليلة في لوحة ربّانية .. بدت أنقى بعيدا عن كتل المساحيق الثقيلة الخانقة ..
- هب تعبانة ..
كان للكلمة أن تكون مثبطة بهذا البرود ،، الا أنها لم تردع هدوء عفرا و هي تقول ..
- من زمـــان عنج ،، قطعتينا ..
حتى السخرية ..!!
حتى السخرية حرفتها الأزلية لم تستطع ليَّ شفتيها المتخشبتين ...!
لذلك خرج الكلمات ميتة بلا احساس من بين شفتيها ..
- كنت .. مشغولة ..!
بل غارقة حتى أذنيها في وهم اختلقته مخيلتها ..
لترتطم الصور في داخلها بواقعٍ أجوف ..
فتفر الاخيلة ..
يا الله ..!
تلك المرأة عاثت في روحها خرابا برسالتها ..
لتجد أخيرا أن كل ذلك كان دون داعٍ فالمرأة لم تكن تقصد ..
لكن ماذا تقول ..؟!
( رُب رميةٍ من غير رامٍ )
ثقبت تلك الحربة روحها للأبد ..
و نزفت أحاسيسها حتى جفّت ..!
المضحك المبكي .. هو صورة ذاك الحر ..
الشخص الذي لطالما احترمت .. وجدت أنها احتقرته فور مقابلتها له ..
غريب كيف تغيّرنا الأحرف ..
حقا لا يعلم المرء أي روحٍ تسكن وراء كل قلمٍ مجهول ..
امرأة .. رجل .. طفلة ربما ..!
ماهية حياتهم ..
و أحلامهم .. و أوجاعهم التي يتوسدون ..!
حين فقط ترى انعكاس أرواحهم في أحرف ..
و الأحرف بعيدة كل البعد عن المظاهر التي يعشق الناس ..!
و تساءلت في داخلها عن عدد الناس الذين يتخفّون وراء ألقابٍ فضفاضة ..
تستر الندوب التي تركتها الحياة على أرواحهم ..!
.
.
.
.
- ما خبرتيه ..؟!
همست وديمة بذلك سرا .. لتبتلع حور ريقها بتوتر ..
- لا بعدنيه ..
زفرت وديمة باستياء ..
- متى بتخبرينه ..
فشعرت أختها بأنها تواجه ضغطا ما ..
- خلااص وديمة .. متى ما شفت الوقت مناسب خبّرته ..
ثم رفعت عينيها و صوتها لتلك التي عبرت توا من أمامها ..
- دانـــــــة ..!
التفتت دانة اتجاهها و عينيها تتسع بخفة ..
آخر ما توقعته ان تكلّمها حور ..
- يا لبيه ..
أورقت شتلة حنان في قلب حور اتجاه أختها .. و هي تهز رأسها بهدوء ..
- تعالي شوي ..
اقتربت تلك بحذر .. و قلبها يخفق بعنف ..
كم اشتاقت هذ الكبيرة ..
و كم يوجعها ان تكون هي سبب ألمها يوما ..!
قالت باتزانٍ هو الأبعد عن شخصها المجنون ..
- آمري ..
نظرت حور بقوة لعينيها ..
تعرف أي ذنبٍ يتملكها ..
لكن ما استجد الآن جعلها تنظر لهذا الخلاف .. كشيءٍ لا يستحق ..
هناك ما هو أعظم لتستهلك التفكير فيه .. أمام شقاق بينهما .. ستسعى لمداواته فيلتئم ..
بحاجة هي إلى جمع أحبتها حولها الآن ..
- عفرا تقول انج ما بتسيرين ويانا صوب ميعاد عقب العشا .. ليش ..؟
ذهلت دانة و هي تنظر لها ..
لأنها على نزاعٍ معها .. و لن تدخل بيتها دون أن تصلح الأمر ..
هل اختارت حور التظاهر بأن شيئا لم يكن ..؟!
طالعتها دانة لثوانٍ طوال .. لتلتقط طيف بسمة خفيفة تغزو شفتي حور ..
فتقول هي بنبرة متهدجة ..
- لن ما عند أمي سالفة ..
ربتت حور على كتفها بخفة ..
- لاا حبيبتي .. أمج عندها سالفة .. لكن انتي ما تنعطين ويه .. و بتسيرين غصبن عنج ..
أومأت دانة برأسها عاجزة عن النطق ..
و وديمة تنقل بصرها بينهما بهدوء .. تحركت دانة مبتعدة و حور تتنهد ..
ما ان فصلت بينهم خطوتين .. حتى ارتدت دانة بسرعة على عقبيها .. لتضم حور بعنف .. و تقبّل خدها هامسة بصدقٍ دامعٍ ..
- و الله أحبج .. أنا آسفة .. آسفة حور ..
و اجتاح حور حزن عميق تأصل في أوردتها ..
هي التي لم تعرف يوما سوى أن تكون المسؤولة .. الكبيرة .. المحبة لهن ..
لا تسعفها القسوة في تجاهل هذا الطوفان من العذوبة ..
مطرٌ هم .. يروون بأحاسيسهم حياتها القاحلة ..
كيف كان لأيامها أن تزهر دون وجودهم ..؟!
* * * * *
أصابعه التي راح يعتصرها بتوتر .. تفرقع بقوّة و هو يوشك على تحطيمها ..
الاضطراب الذي راح يحبسه طوال الوقت راح يتصاعد في جوفه الآن ..
يندفع رأسا لحلقه و يكاد يخنقه ..
ازدرد لعابه بقوة يجلي حنجرته .. و ينظر ليده ..
تبا ..
لم يشعر قط بهذا التوتر قبلا الا ان كانوا في بداية سباق ..
ما خطب أنفاسه تتعسر عليه .. و تنفلت من الرئتين قبل أن تقبضها ..
زفر بقوة ..
كان قد رآها قبلا ..
لا يتذكر تفاصيل ذاك الطيف البعيد .. لكنه يملك إحساس باقٍ خلفته تلك اللحظة الغريبة ..
حفنة من شعور دست بعناية في جوفه .. و لم يقوى حتى هذه اللحظة من نفضها ..!
عدّل من وضع غترته للمرة المليون .. و تفكيره الأهم ينصب على نقطة واحدة ..
بدت ثقب أسود تضخم ملايين المرات ليلتهم كل ثقة كان يملكها اتجاه الموضوع ..
كيف ..؟!
كيف سيتصرف فور دخولها ..؟!
طوفان الأحاسيس الجارف الذي يموج في داخله ..؟
كيف له أن يوصله لشواطئ أحاسيسها .. ؟
الدفء الذي يغمره حال تفكيره بها كيف له أن يغدقه عليها بلا كلمات ..؟!
الأحرف الذي كان يستخف بها .. يهمّشها ..
لا يراها سوى ضجيجا قد يفسد رقّة ما يشعر به ..
لم تبدو تافهة في هذه اللحظة .. بل أصبحت فجأة الجسر الذي يحتاجه ليجتاز الهوة التي تفصله عنها ..
و لم يساعده تفكيره ذلك البتة ..!
هدر قلبه كمحرّك على وشك الانفجار حين رأى الباب الموارب يفتح على اتساعه ..
ابتلع نفسين ضخمين يغرس شيئا من الثبات في نفسه التي تزعزعت تحت وطأة الترقب ..
و عينه تتعلق بالقادم في شوق محرق شابه شيء من القلق ..
أطل رأس من خلف الباب ،، ليقول الوجه الحلو الذي طالعه من خلفه ..
- بلاك عفدت ..؟ هونك .. استريح لو سمحت ما نبا نروع البنية تقول ملغوث عليها ..
طالع روضة بغل .. آخر ما ينقصه هو أن يزيد أحد اضطرابه ..
كيف عليه أن يتلقف تلك الرقة و الطهارة .. دون أن يفزعها ..
فيبعثرها ..؟!
زفر بقهر و هو يجلس ..
- حلفي انتي و هالكشة يا فتون علف .. جب يلا .. هاتو حرمتيه ..
ضحكت روضة بحلاوة و هي تهز شعرها الذي اجتهدت في تجعيده ..
- فتون علف حرمتك يا الهرم .. بعدين شوه حرمتيه هاي ..؟؟ ما تعيبنيه هالنبرة أنا .. لي يسمعك يقول بتسريها الحينه ..
قدم غترته و هو ينسى شيئا من توتره .. مضيقا عينيه ..
- حرمتيه غصبن عنج .. و لو أسريها الحينه ما حد له شي عنديه ..
اتسعت عينا روضة ..
- وين هالرمسة من غيث .. لو يسمعك كان صدق حرّمك تشبر هالبيت الين ما تعرس ..
ازداد توتر أحمد و هو يتذكّر تزمت غيث الذي لم يكن في محلّه . و هو يشير له بالدخول خمس دقائق فقط ..
- أنا مادري منوه مسلطنه عليه هذا الأخو .. و بعدين خلصونيه هب بعيدة يطب علينا الحينه .. و يروغنيه و انا ما قد شفتاا .. رويض يا بعدي .. أناا طالبنج .. خلصونيه ترى الخمس دقايق خطفن ..
ضحكت روضة برقة .. و هي تقول بنعومة مواسية اضطرابه الفاضح ..
- اصبر فديتك . الحينه يسوون لها حملة اقناع .. و زفة عائلية الين هالباب .. البنية صدق متروعة من الموضوع ..
ثم علت أصوات من خلفها جذبت اهتمامها لتدير رأسها عبر الباب للخلف .. تطالع الاتجاه الذي لا تطاله أنظار أحمد ..
قبل أن تلتفت له بسرعة مبتسمة ..
- أبشرك وصل الموكب ..
هب أحمد مجددا على قدميه بلهفة ..
- رويض .. يرحم أهلج .. لا تحدر أمة لا اله الا الله وياها ..
طالعته شزرا ..
- احلف انته .. لا ابوية .. أنا ما بصك الباب دون حد ..
ثم ابتسمت بشيءٍ من الشماتة ..
- لا تخاف محد بيحدر وياها غير أمها .. و حور و عفرا و نورة و دانة و هند و مزنة ..
احتقن وجه أحمد بقهر ..
- عنلاتج .. لو حادر عليهم في الصالة هب أحسن ..؟ كان يبتوا أميه نورة وياكم بعد .. سوّد الله هالضريسات لي تتبسمين بها ..
اختفت ابتسامة روضة بسرعة ..
- بسم الله عليّه .. يا الهرم لا تدعي على ضريساتي و عرسي عقب اسبوع .. و بعدين لازم بيحدرون ويا بنتهم .. يخافون لا تتخبل يوم تشوفها و تنحرف ..
مع دنوّ الأصوات التي لم يعد يفصلها عن الباب سوى خطوات ..
ارتعشت يده التي جاهدت لترتيب الغترة .. و مسح بها على لحيته المهذبة بارتباك فاضح ..
و تحشرجت أنفاسه و مصراعي الباب ينزلقان من خلف روضة كاشفين عن فرجة ..
سينسل الحلم عبرها بعد ثوانٍ فقط ..!
.
.
.
.
و من خلف السكون كانت شفافية روحها تشرف عليهم ..
و كما لو أنها تستكين وراء عازلٍ من زجاج .. تتابع بعينينها الواسعتين الذاهلتين ..ضجيج فرحة كانت تصرخ بها أعينهم ..
و صخب سعادة تلوي ملامحهم ..
و ابتسامات ضخمة رحن شقيقاتها يهلن عليها سواد الأغطية قبل دخولهن المجلس ..
الا هي ..
لم يسدل على وجهها السواد سترا ..
و لم تندس تحت طيات الأغطية تعففا ..
ليشعرها ذلك بأنها ناقصة بشكل رهيب .. مجردة ..
و تتضاءل روحها المرهفة .. لتذوب خجلا ،،
فيقبّل الزهر خديها الناعمين ..
و ينحني ثقل أهدابها المظلة مرتجفا ،، ليناقض سوادها صفاء وجنتيها الثلجيتين ..
تقضم شفتها القرمزية بحرج ،،
و خطاها تتعثر .. فلا تقوى القدمين على المسير ..
تتوقف مرتعشة اليدين ..
ينبض خافقها و الهدب .. احتجاجا مذعورا ،،
و خوف متأخر يداهمها ..
هل أخطأت حين راحت تلعب دور غيرها ..؟!
أيحق لمن مثلها أن تحلم ..؟ أن تتزوج .. ؟
هل ظلمت أحمد بموافقتها ..؟!
أما كان من الأفضل أن ترفض لتجنّبه فشل تجربة بدا في تلك اللحظات واقعا لا محالة ..؟!
وثب الخوف من العدم ليمسك بخناق الفرحة الخجول ..
و يجرجرها بعيدا عن متناول قلبها الصغير ..
مخلفا توترا لا يطاق .. و ذعرا راح يتسرب لنفسها ..
عينيها الكبيرتين اللامعتين تفتّشان من خلف الأغطية عن دعمٍ ما .. لتلتقط عيني أمها من خلف - البرقع - الذي لا يفارق وجهها ..
تنقّب في عمقها عن حقيقة تلك الحياة التي أقبلت عليها ..
أ هي أهلٌ لها ..؟!
أ تطاولت على طبيعتها حين فكّرت بأن لها الحق بأن تكون كالبقية ..
لها نصيب من الحلم .. و الفرحة .. و الحب ..
لتقرأ مطولات ألم لا تفارق عيني تلك الحبيبة القريبة ..
ألم لم يفارقها منذ فقدها الأكبر ..
ألم تسربلت به العينين المخلصتين يوم رحيله .. و لم تخلعه ..
حتى بدا أزليا .. موجودا منذ بدء الخليقة ..
بربّها ..
هل لها أن تعلمها أي مسالك كُتب لقلبها أن يمشيها ..؟
ما الذي جمعها بذاك الكبير ..
حب صامت تجاوز حدود الاعاقة .. و منحها الحلم .. و الاحساس .. و الحق بعيش حياةٍ حقيقية ..؟!
أم أن الأمر لم يعدو كونه .. احتراما و تبجيلا تقليديا لرجلٍ ربما لم يَكُنْ يَكِنُّ لها سوى شفقة ..؟!
أتعستها هذه المخاوف في تلك الثانية الحاسمة ..
و كأن شيطانا كريها لم يشأ أن تنزلق لمستقر الحلم دون وساوس ..
فراح يناكش رقّة تفكيرها ..
و سذاجة طهارة تلك الروح العذبة ..
و سجدت الأهداب في انحناءة أخيرة تبتهل الثبات .. حين رأت باب المجلس الداخلي ينزلق ببطء فتتبين من وراءه وجه روضة الباسم ..
.
.
يا رب هب لي من عندك رحمة تغشاني .. و تجمعني به ..
ربي أسألك ألفة تلفّني و اياه ..
و أعوذ باسمك من وساوس الخبيث ..
.
.
كانت أسنانها البيضاء الصغيرة تنغرس في شفتها الندية من فرط التوتر ..
اناملها الرقيقة تتلقف جانب الفستان .. خشية أن تتعثر بها الخطى ..
.
.
لا تدري بأنه لا يعرقل الخطى فستان ..
لا يعرقل الخطى سوى قدر ..!
.
.
أصبحت الأنفاس تتعسر على رئتيها ..
و هي تبتلعها ضخمة .. توشك على خنقها ..
هل تسرّعت ..؟
هل ..؟!
أ هو الفارس المرتقب الذي انتظرت في أحلامها ..؟1
أحلامها التي كانت تركنها خجلة على رفٍّ من التجاهل و الإهمال ..
أمنياتها البيضاء .. و التفاصيل الصغيرة ..
تحزمها في صناديق من عجز ..
لتودعها النسيان ..
لطالما فكّرت بأنه ليس عليها أن توجع قلبها في انتظار ما لا يأتِ ..
فمن مثلها ..
تقضي أعواما في محطات الحياة ..
تنتظر قطاراتٍ محملة لا تفد إلا بما يخص الآخرين ..
هي وحدها تكل قدماها ..
و تذبل أنفاسها انتظارا ..
تطالع الوجوه الباسمة و كل منها حصل على هديّته ..
وحدها التي لا يحمل لها القطار أي هديّة ..
فتتضاءل مع مرور الوقت في صمتها الأبدي ..
لكن القطار لم يرحل هذه المرّة دون هبة يحملها لها ..
ذاك المسافر الذي وطأ أراضيها الساكنة ..
ما الذي يحمله لها في حقائبه.. ؟!
.
.
و اختلجت أحاسيسه ،،
راحت النبضات تطرق أضلعه بقوّة ..
و كأنما يوشك قلبه على ثقب صلابة صدره ليثب إليها ..
احساس بالنشوة راح يتعاظم في صدره .. حتى ازهق أنفاسه ..
فوجد أنه عاجز عن التنفس لثوانٍ ..
خطر له في الثانية التي تنحت روضة فيها جانبا لتكشف ذاك الضياء من خلفها .
أن الشمس لو أشرقت من ورائها .. لاخترقت ذاك الكيان الصغير النقي ،،
لتعكس بريق نقائها في المكان ..
في لحظة لم يعد هناك سواهما ..
هو ..
و أنثى البياض هذه ..
أسطورة نقاء تهامس القدماء استحالة وجودها ..
سرمدية الكون تسكن مآقيها ..
و اغفاءة الغسق لوّنت خديها ..
فيما انسابت هي بعذوبة .. تتهادى ببطء ..
طوفانا من الشفافية يجتاحه ،، ليحمله بعيدا عن الواقع ..
يقذفه على شواطئ حلمٌ بدا خياليا ..
وحده و اياها ..
يرسمان آثار قدميهما على أرض البهجة الضبابية ..
.
.
وين يا ملح ..؟!
لي سنة ..
لا و الله أكثر ..! .. أنثر احساسي .. حنين ..
و أكتم أنفاسي أخاف الشوق يطلع ..
في رجــا .. ( إنك تجين ) ..!
للي بعدك قام يصرخ :
آه .. آه .. آآآآآآآآه ..
للي بعدك ضاع بعضه ..
و بعضه الباقي ..
نســـــاه ..!*****
.
.
تتهدج أنفاسه مع اقترابها ،،
و ترتعش كفيه بربكة لم يخفها ..
ابتسامة مهزوزة قاتلت ببسالة على شفتيه لجزءٍ من الثانية .. قبل أن تنهار توترا ..
و المسافة تتقلص بينهما ..
و تلك الأمنية المستحيلة تنزلق رويدا لمتناول التحقيق ..
تقترب ..
و تقترب ...
و تـ .. ـقــ .. ـتـ .. ر .. ـب ..
و ثقلت أجفانه .. ليوصد عينيه على تلك الصورة التي استقرت أخيرا في داخله ..
و شعورٌ حادٌ بالفرح ينغرس في روحه ،،،
احساس قويّ كاسح تركه مذهولا ..
هذه الفتاة التي أسرته صمتا ..
لم يعرفها بما يكفي لتغرقه حبا ..
رغم ذلك ها هو يشلّ أمام طهارتها ..
أمام هالة النور التي راحت تعمي بصيرة ..
تلفّه معها حين لم يعد يفصلها عنه سوى خطوة .. و نفس أطلقه ليلفح أحاسيسها العطرية ..
ها هي تقف أمامه الآن ..
له أن يمد انامله السمراء ليلامس نعومة أحاسيسها ..
أن يحوي بين كفيّه بقايا عطرها الزهري الهادئ ..
يتنشقه ..
ليحييه ..!
له أن يحتضن في مآقيه طهارة روحه ..
للأبد ..
لأبـــــــد ..
.
.
- أحمد ..؟!
كان ذاك صوت روضة التي تنبّهه حين طال وقوفه دون رد فعل إزاء وصولها ..
ليفتح عينيه .. فتولد فيها تلك النظرة الحانية المحبة ..
ألها أن تنظر لعينيه فقط ..
لن يكون عندها للأحرف أي قيمة ..
ابتسامة دافئة ارتسمت على شفتيه ببطء ..
ما الذي تريده روضة ..؟ ما المطلوب منه ..؟
أن يمسك يديها .. و يقبل جبين النور ذاك ..
لن يجرؤ ..!
قد يدنس مساحات الطهر المنفردة في تفاصيلها ..
شعر بانه ليس أهلا للمسّها حتى باصبع ..
بدت نقيّة ،،
صغيرة للغاية .. بيضاء ،،
و حبيبة بشكلٍ لا يصدق ..!
أيعقل أن تنغمس روحه في لجّة حبّها و هو الذي لا يعرفها ..؟!
و تبعا لما يسأله قلبه .. متجاهلا وجوهٌ تملأ جوّه .. لا يرى منها إلا هي ..
وجد أنه يمدّ يده بهدوء .. يلتقط كفّ النور ذاك .. ليلثمه بحلم ..
ثم يودعه الهواء ليحمله بعيد ..
يقين كان يتملكه .. بأنه لن يحصل عليها حتى يستحقها ..
لن يمتلك هذه الطهارة حتى يثبت أنه أهل لها بلا كلمات ..
.
.
الخوف الذي كان يعتصر معدتها بعنفٍ مهلك وصل ذروته حين وقفت قباله ..
تقف بتخشّبٍ مذعور .. ترتقب أن يقدم على ما لم يسبقه عليه أحد ..
أن يكون أول رجلٍ يمسها .. يقتحم كونها بأي لمسه قد يقدم عليها ..
لكن يده الكبيرة امتدت لتخطف كفّها ..
تحتضنها بدفءٍ ارتعشت له أوصالها ..
و ضاع أي احساس .. حين حملها برفق ليلثمها ..
انتفض قلبها بقوة .. و نبضاته تتسارع ..
كانت لمسته أشبه بنفحة هواءٍ دافئة داعبت يدها ..
قبل أن يرخيها ببطء ..
لتشمخ هي بعينيها .. دون شعور ..
توقّف قلبها و هيتقرأ نظرة الاحساس العميق التي تسكن عينيه و هو ينظر لها بابتسامة ..
ملامحه حملت ملايين الكلمات و التعابير بدون صوت ..
صمتها الأبدي الذي تسكن .. أصبح فجأة يلفها و اياه ..
و هي تشعر بروحه تقتحم سكونها و تسكنه ..
.
.
.
.
- أول مرة في حياتيه أشوف ريال يحب ايد حرمته ..! أحسهم يشوفون هالحركة تقليل من قيمتهم ..!
قالتها نورة بهمس لحور التي كانت عينيها تنبش ملامح أحمد .. تنقب فيها عن أي أذية مستقبلية قد تمس أختها ..
شعورها بالرهبة لم يتزحزح .. حتى و هي تقرأ دفق الاحساس الصادق في عينيه ..
همست حور بدورها في رد بارد ..
- من كثر الرياييل لي تشوفينهم ويا حريمهم ..؟!
ابتسمت نورة من تحت غطاءها ..
- لا .. ما قد شفت الا انتي و ريلج .. و لي يشوفكم أعوذ بالله .. هو الرعب بعينه .. و انتي كانج تصرفين عليه فلوس ..!!
قطبت حور بشدة .. و صدمة حقيقية تتملكها ..
أ كانت خلافاتهم واضحة للعيان ..
اضطربت أنفاسها و هي تقول بثقة زائفة ..
- حلفي اخت نورة ..؟! و ان شا الله تبينا نعبر عن مشاعرنا صبح و ليل قدام عيونج .. ؟
ضحكت نورة بخفة .. ترد بخبث ..
- لا دخيلج .. عاد ما اتخيل غيث يسوي شي من هالحركات الرومنسية .. بس خبرينيه .. هو قد حب ايدج ..؟
و أوجعتها هذه النغزة ..
ابتسامة ساخرة لوت شفتها التي ارتعشت بألم ..
لا تذكر ان كان قبلها مرة في عصر خداعه .. لكنّها التوت على يد قسوته مراتٍ لا تحصى ..
- ما يخصج يا قليلة الأدب ..
اقتربت نورة منها بهمسٍ ممازح ..
- ثقفينها .. نستفيد لا عرسنا باكر ..
لا أذاقك الله مر ما أتجرع !
- لا عرستي تعالي .. بنثقفج ..
و رفعت هاتفها مع علوّ رنينه ..
لتعقد جبينها بخفة ..
و كأنه شعر بأنها تذكره ..
سحبت نفسا مرتجفا لترد بهمس مهزوز ..
- هـــــــــلا ..
صمت مطبق لثانيتين يمتد كالدهر في داخلها .. قبل أن يجتاحها صوته الرجولي الخشن .. يتساءل بجفاءٍ معتاد ..
- أحمد عده داخل ..؟
لتغمض عينيها برهة ..
كيف لها أن تجد سبيلا لاخباره بذاك الخبر ..؟!
و كل ثانية تزيد خوفها من مغبة ما تحمل ..!
ابتلعت ريقها ..
- هيه ..
أمرها ببرود ..
- عطيه التيلفون ..
زمت شفتيها بضيق ..
لماذا لا يتصل بأخيه ..على هاتفه ..
أو حتى على روضة ..
تقدمت خطوتين بحرج نحو أحمد الذي لا يزال يطالع المها بعينين مشدوهتين ..
- آحم .. بو شهاب ..
التفت لها بسرعة ..
- لبيه ..
مدت له الهاتف ,,
- لبيت حاي .. خوك ع التيلفون ..
وضع أحمد يده على رأسه .. و حاجبيه ينعقدان .. كان قد أغلق هاتفه كي لا يصل غيث اليه ..!
- و اللييييل ..!! ما رمتي تلهينه خمس دقايق ..!!
نظرت له بعدم فهم من خلف غطائها فيما التقط هو الهاتف على مضض .. ليضعه على أذنه بتعبير يفضح احباطه ..
- مرحبا بو سيف ..
تدفق صوت أخيه الصارم يقول بغلظة ..
- أنا ما قلت لك خمس دقايق ..؟
احتقن وجه أحمد و هو يتلفت حوله .. ثم همس بضيق ..
- خمس دقايق ..؟ العرب يبالهم ساعة الين ما ايون ..
لكن غيث لم يبالي بذلك .. ليقول بتسلّطه المعتاد ..
- اظهر الحينه صوبنا .. بيتعشون الرياييل ..
كاد أن يطلب منه أن يتعشون دونه ..
لكنه تخيّل ردة فعله على طلبٍ مثل هذا ..
سيصل إليه في ثانيتين .. ليجرّه خارج المكان ..
ابتلع ريقه بضيق ..
- خلااص يا الله .. دقيقة و ظاهر لكم ..
* * * * *
أ و ليس هو عالمها ..؟!
هذا الكبير ،،
كان قلبه يتسع لكونٍ بأكمله ،،
عيناها تسرقان نظراتٍ موجوعة لوجهه الحبيب ،
الشيب الذي ابهت شبابه المنسحب ..
يديه السمراوان القويتين اللتان قبضتا مقود السيارة بتحكّم ..
لو أنها قريبة منه بما يكفي ..
قريبة بمعنى القرب المفهوم ..
بعيدا عن طلباتها المجابة .. بعيدا عن الدلال الفارغ ..
بعيدا عن كل ما يظنه من فراغ يملأ رأسها الجميل ..
و راحت جيوش من الدموع تبدأ الزحف ،، تنبثق من قلبٍ مهترئ ،، أتلفته لحظات ضياعٍ ممتدة ..
تسري في عروقها ،،
لتبلغ أجفانها .. فتنهمر سهامها وجعا لا يحتمل ..
ها هي تغزو الرؤية ..
تتمرد ..
سئمت القمع ..
ستحتل مواطئها ..
حتى الأنفاس التي تسارعت تنفلت من بين شفتيها ..
استحالت شهقات حارة .. راحت تنفض جسدها نفضا ..
لتصرخ اطارات السيارة بوجعٍ يشابه وجعها .. حين انحرف بها والدها إلى جانب الطريق يوقفها ..
و هو يقول جزعا ..
- بسم الله عليج .. عوشة .. بلاج ابويه .. شي يعورج ..؟
ما ان استقر المحرك ساكنا .. حتى استدار لها يتلقفها بين ذراعيه القويتين و يحتوي حزنها الهائل ..
و غرست هي رأسها في صدره الفسيح .. لتفر عن الفراغ الذي يملأها .. فتسدّه بالأمان الذي تلتمسه لديه ..
هذا الرجل لا تملك سواه ..
هو الكون بأسره .. و لا شيء آخر ..
لما عليها أن تكترث للدنيا ..؟
هنا فقط .. ستجد كل البدايات و النهايات ..
هنا فقط .. تستطيع أن تستهلك تفاصيل القبح القابع في أعماقها ..
و تدفنه ..
لتنساه ..!
* * * * *
- شوه أقولك يا ريال .. ما تقول غير أبوها .. شوه يخصه هو .. بيته و الا بيته .. ايلس دقيقة و الا عشر .. أنا حر يا خي .. البنية قدها حرمتيه .. عنبوه حتى مبروك ما لحقت أقولها ..
كان أحمد يتذمر بصوتٍ خافت .. و هو يراقب عرض منكبي أخيه الأكبر الذي كان يحادث حامد متوجهان لمواقف السيارات قبل أن يفترقا .. مواصلا غيث الطريق لبيته فيما توجه حامد لسيارته ..
ليبتسم هزاع ..
- انزين شفتاا .. و بعدين .. شوه بتسوي ..؟ بتيلس تتمقل فيها .. سوالف أكيد ما بتسولف ..
نظر له أحمد شزرا ..
- هيه بتمقل .. حرمتيه و انا حر .. و ليش ما سولف ماليه رب ..؟
هز هزاع كتفيه ببساطة ..
- لا بس هي ما تسمع ..
شعر أحمد بضيق يكتنفه ..
- حتى و لو .. ما شي سوالف الا بالهذرة ..
ثم عاد يشتكي لهزاع الذي راح يلعب بمفاتيح سيارته .. متوجهان ناحية المواقف ..
- و يايبينها الحرس الوطني .. حشى .. شوه باكل بنتهم أنا .. أعوذ بالله .. لكن أنا أستاهل لي معيل بالملكة .. لو مالك شرات العالم ..كان ليه حقوق .. لكنيه في رجا غيث و ابوه سيف .. و كل واحد أعسر من الثاني ..
ضحك هزاع بقوة ..
- بلاك يالس تتحرطم شرا الحريم .. اممممف عليك .. و أنا أقول أحمدوه استوى ريال و خطب ..
نظر له أحمد بطرف عينه ..
- ريال من يابتنيه أميه ..
ثم عاد ينظر لغيث الذي كان يصل بيته الآن ..ثم همس بغيظ ..
- خمس دقايق هاا ..؟ و الله أردها ..
ابتسم هزاع و هو ينظر له ..
- شوه بتسوي يا عنتر زمانك ..
نظر أحمد له بتصميم ..
- بتشوف شوه بسوي ..
.
.
.
.
.
.
- جب جب .. أصلا أنا كنت مسويتنها حركة .. شوه دراكن انتن ..
قالتها دانة بغيظ .. وسط قهقهات شقيقاتها و ميعاد و روضة الملتفات حول طاولة المطبخ يحتسين الشاي..
و نورة تقول بمكر ..
- و الله حلوة كانت الحركة .. كل اللي في المحل ضحكوا عليها ..
مدت دانة شفتيها بسخط ..
- أصلا مهب من الذوق الواحد يضحك على خوه المسلم اذا طاح ..
ثم طالعت نورة بغيظ ..
- بعدين انتي ويا هالويه المنفخ مبطلة ثمج و تضحكين .. حليمة بولند ..
احتقن وجه نورة بقوة .. و كأنما أرغمت على ابتلاع ضحكتها ..
- حليمة بولند أمج ..
اتسعت عينا دانة ..
- أمي أمج يا السبالة .. لا تسبين .. و ليش تضحكين .. امنوه مرّة طاح عند باب الميلس قدام غيث ..؟
انكرت نورة بقوة ..
- منوه ..؟
ضحكت عفرا و روضة و حور مع استعادتهن لتلك الذكرى فيما استمرت المها تراقب التعابير المتفجرة سعادة بهدوء محاولة التقاط شيءٍ من حديثهن مرّة ..
و غارقة في لجة أفكارها .. و ملامحه مرّات ..
كيف لها أن تتكئ على هذه الطاولة ببساطة ..
فيما يهز روحه عنف ملايين الأحاسيس المجنونة ..
دانة تلتفت لميعاد المبتسمة تقول بحماس ..
- مرة كانت تمطر يوم كنا فبيتنا القديم .. و حليمة بولند تبا توقف راعي الغاز .. و مادري كيف السالفة استوت الين ما يت الأخت تبا تشرد و اتخرطفت قدام غيث .. و تم هو يضحك عليها ..
ضحكت ميعاد مع روضة و حور و عفرا .. و دانة تغيظ نورة ..
- لو هالوزن موجود يومها .. كان طحتي على خدودج و لا استوا بج شي ..
- ما برد عليج يا اليابسة .. الواحد يطالعج ما يعرف لج ويه من قفا ..
تجاهلتها دانة ناظرة لحور ..
- أقول تلاحقي ختج .. اليوم بالموت حدرت من باب البيت تمينا أنا و عفاري و مهوي ندزها يوم نشبت فيه ..
ردت نورة بذات النبرة المشاكسة ..
- أقول ما عندج عود أسنان ..؟ عطيه دندن تطلع حبة العيش من تقويمها ..و يوم تخلص .. شليها بكبرها و طلعي بها لي بين ظروسج ..
التوت ملامح دانة باشمئزاز ..
- الله يلوع بكبدج .. لوعتي بكبدي ..
ضحكت عفرا بخفة ..
- لحقتي تتخيلي عمرج مدخلة راسج فثم حور ..
بدت القرف على وجه روضة بدورها و صوتها الناعم يقول ..
- أخييييه .. الله يخسكن انتن و هالسوالف .. عنبوه تونا متعشين ..
ثم التفتت لحور تسألها ..
- خواتج دوم كذيه ..
نظرت لها حور شزرا ..
- بتسوين عمرج ما تعودتي عليهن و تطبعتي بطباعهن ..
التفتت حور لميعاد ..
- أول ما تعرفنا على روضة كانت قمة .. في الرقة .. في الذوق .. خلااف خربنها هالمخبل غدت أدفش عنهن ..
لوحت روضة بيدها في دلال ..
- لا حبيبتي .. بعدين قمة فديتنيه ..
ابتسمت بخبث ..
- معلوم قمة .. يا حليب ناقات ..
انفجرن جميعا بالضحك و وجه روضة يحتقن بغيظ .. فيما ميعاد تلتفت بابتسامة نحو حور تنتظر شرحا على ذلك ..
غمزت حور بعينها لها و هي تقول ..
- أبوية سيف و عياله .. و عيال عياله .. ملتمين عند أميه نورة مرة .. و الأخت مسيرة علينا .. و تبا تسوي عمرها سنعة .. قامت تصب القهوة .. و يابوا لبن بوش محمي .. سألها هزاع شوه لي في الدلة .. قالت ..
ثم قلّدت صوت روضة الناعم ..
- حليب ناقات ..
ضحكن مرة أخرة بعنف و وجه روضة يتلوى غيظا .. فيما نورة تتابع السرد ..
- قام ابوية سيف عطاها في الويه .. يا الحضرية .. حليب ناقات ..؟؟ قولي لبن ابل و الا لبن بوش .. ناقات .. ؟! هههههههههه .. لا .. و المشكلة كان المطوع حاضر .. و تعالي دوري رويض .. من الفشلة بغت تنخش تحت الطاولة ..
قالت روضة بغل ..
- عنلاااتكن .. محد يزل يعني .. أنا كنت أفكر في ناقة .. و كنت بقول لبن ناقة .. و بعدين مادري كيف تكاثرت في مخي .. و طلعت ناقات .. و بعدين ابوية سيف الله يهديه .. قام يخشعنيه و يهدم صورته في عين ريليه ..
ابتسمت عفرا بهدوء ..
- الحين ريليه ..؟! وين لي ما خلت أمس سبة ما قالتاا .. مسرع ما نسيتي ..
مالت روضة بدلال تلتقط فنجانها ..
- بعد شوه أسوي .. الشيطان .. بعدين ما عليّه أنا .. قبل العرس بيوم .. بسوي بارتي .. و بخترش و بدق ع كيف كيفي .. و ليلة العرس بتصور .. ع كذيه سويت لي فراسي .. و لا عليه من حد ..
قالت ميعاد بهدوء ..
- يمكن يزعل سيف لو درى ..
هزت روضة كتفيها بلا مبالاة ..
- و ليش يزعل .. يوم بكون فبيته يسوي لي يبا .. الحينه شوره هب عليه ..
بدا عدم الرضا على وجه حور و هي تقول بهدوء ..
- كيف شوره هب عليج ..؟ مهب سيف ريلج ..؟
- ريلي يوم بكون فبيته ..
رغم أنها كانت آخر من قد يعطي النصائح .. لكن طريقة تحدث روضة بتلك النبرة لم تعجبها ..
قالت دانة بسرعة تغير الموضوع ..
- ما تلاحظون ان حور و ميعاد ما انييهن البيت الا و يلسنا في المطبخ ..؟
ضحكت نورة ..
- يحيدن عمارهن سيلانيات ..
ضحكت ميعاد بخفة ..
لم تشعر بالاهانة ..
بل بدفقٍ هائلٍ من الحب اتجاههن .. شيء راحت سخونته تحيي عروقها التي تصلبت جمودا لوقتٍ طويل ..
و امتنان خالص يتأصل في قلبها .. فيما هي تطالعهن بلهفة حقيقية ..
هذه الوجوه التي تمنت لقياها .. تلتف حولها .. ضاحكة .. مشاركة ..
تؤازر وحدتها ..
و تملأ غرف الظلام داخلها وهجا دافئا ..
كان هذا أكثر مما طلبت يوما ..!
- ميعاد .. ميعاد ..
التفتت بابتسامة لوجه دانة الحلو ،، التي رسمت ابتسامة كبيرة على وجهها لمع من خلفها جسر الاسنان الزهري ..
- الحين بما ان الوالدة كانت مصرية .. و أكيد عندج خلفية عن مصر البيت بيتك يوم سافرتي لها .. بنسألج أسئلة ذكاء .. عادي ..
هزت ميعاد كتفيها تنقل بصرها بين دانه .. و الوجوه المهتمة الأخرى ..
- عادي ..
اعتدلت دانة في مقعدها بحماس ..
- حلو .. السؤال الأول يقول .. شي يطفو على البحر بحرف الحاء .. شوه هو ..؟!
قطبت ميعاد ..
- حاء ..؟! مادري ..!! حذاء يمكن ..
- ههههههههه .. حلوة حذاء .. حصة عربي هي .. لا ابوية .. حاولي ..
فكّرت ميعاد مرة أخرى ..
- حاء .. حاء .. حشرة يمكن ..
- لا و الله .. حشرة تطفو على البحر شوه تسوي ..؟
ضحكت نورة و هي تصفق كف دانة ..
- تتخيل عمرها سمكة ..
قالت دانة بسرعة ..
- يا الله ميعاد .. عيزتي .. ؟
هزت ميعاد كتفيها ..
- هيه عيزت .. شوه ..؟
ابتسمت دانة ..
- حتة خشبة ..
ضحكت روضة . و ميعاد تبتسم ..
- لا و الله ..!
- هيه و الله .. انزين اسمعي .. حور ..؟
و نغزت حور التي كانت تنظر لفنجان الشاي بشرود كئيب ..
- الله يرحمه كان طيب كنا نحبه ..!
رفعت حور عينيها ترمش مرارا ..
- منوه ..؟
هزت دانة كتفيها بسرعة ..
- هذا اللي هو .. المهم .. ميعاد .. السؤال لثاني يقول .. شي يطفو على البحر بحرف الكاف .. ؟
- كتاب ..؟ لاا ..!! آآآمم .. كسرة خشبة يمكن ..
و ضحكت بهدوء .. و عفرا تقول ..
- كسرة خشبة ..؟ بأي لغة هاي ..؟
ضحكت ميعاد ..
- بتقولين لي .. مادري بها .. طلعت وياية كذيه .. ها الدانة .. عيزت أنا ..
ضحكت دانة بانتصار ..
- كمان حتة خشبة ..
اتسعت عينا ميعاد ..
- تستهبلين ..؟
- ههههههههههه لا و الله ..!! انزين السؤال الأخير .. اذا ما حليتيه تطلعين صدق .. صدق عمة النوري ..
ظربتها نورة بيدها الثقيلة على كتفها ..
- شقصدج ..
لتتأوه دانة ..
- يخرب بيتج .. هب ايد هاي طابوقة .. حسبي الله عليج .. كسرتي كتفي ..
- بعد تستهينين بذكائي .. و تشبهين ميعاد بي ..
اتسعت عينا ميعاد بصدمة ..
- ليش شوه بلاها ميعاد ..؟!
نظرت لها نورة بابتسامة ماكرة ..
- بعد .. حد ما يعرف انها كمان حتة خشبة ..
التفتت ميعاد بعزم لدانة ..
- عطيني السؤال الثالث ..
تثاءبت دانة بخبث ..
- و الله نودانة .. نخليها لباكر ..؟!
قالت ميعاد بقوة ..
- الحين ..
تنهدت دانة ..
- انزين .. شي يطفو على البحر بحرف الباء .. شوه هو ..؟
ضحكت روضة برقة ..
- يا هالبحر لي كل شي يطفو عليه ..
لكن ميعاد استحضرت اجابة سريعة هذه المرة .. و قد فهمت سؤال دانة عن مصر ..
- برضو حتة خشبة ..
لتضحك دانة و ميعاد تبتسم بانتصار فيما عينيها تبرق حماسة ..
- هههههههههه .. بعدي .. صفقولها ..
لكن التصفيق لم يأت حين ارتفع من الخارج صوتٌ رجولي ينادي بغلظة ..
- حوووووووووووووور ..
لتجفل حور بشدة .. فتتحرك يدها دون وعي تلطم كأس الشاي الموضوع أمامها فينسكب على الطاولة ..
استدارت الأعين اتجاه ارتباكها الجلي ..
فيما ابتلعت ريقها بصعوبة .. و هي تغتصب ابتسامة باهتة ..
- كنت سرحانة ..
وقفت عفرا بسرعة ..
- خليه انا بنظفه ..
هزت حور رأسها و جفاف ييبس حلقها ..
- بسير أشوف غيث شوه يبا ..
و خرج بخطى بطيئة .. تجر قدميها للخارج ..
فيما تهز نورة كتفيها ..
- حشى هب صوت عليه نفض المسكينة .. شوه مركب هدرز ..
قرصتها روضة بغيظ ..
- لا تسبين خوية ..!
.
.
.
.
.
و أتت تمشي الهوينى ،،
تلك الخطوات ترتسم على فؤاده فضلا عن الأرض ،،
و احتقن قلبه بشده .. فيما جسدها الصغير يقطع الردهة اتجاهه حيث وقف مستندا على الباب الخارجي ..
متشحة بسواد ثوبٍ لف قدها الناحل برفق ،، فيما تتهادى أطراف شعرها الطويل حول وركيها بنعومة أسرته ..
الا أن شيئا من خوالج نفسه لم تظهر على محياه الخشن ..
و هي تبلغه ليبادرها السؤال على الفور ..
- حد هنيه ..؟
فينفلت صوتها الهش من شفتيها كخيوط ناعمة ..
لم يفته اعتصارها العنيف ليديها .. و أصابع مضطربة .. تملس كثافة شعرها الثقيل .. و تكافح خصلتين ما انفكتا تقبلان وجنتيها النديتين ..
- خواتيه ..
صوت يأتي من خلفه مناديا .. ليمد يده و ينحيها بعيدا عن الباب ..
- حدري .. هذا أحمد ..
ثم استدار لأخيه بنظرة صائحا بغلظة ..
- شوه ..؟
كان صوت أحمد الذي توقفت سيارته أمام باب البيت مباشرة يأتي واضحا ..
- تعال دز الموتر شوي الله لا يهينك .. مادري بس اظاهر ان البطارية قطعت ..!! أنا بحاول أشغل الموتر و انت دز ..
تحرك غيث على الفور اتجاه السيارة الواقفة .. فيما اتختذت هي موقعا خلف النافذة التي تجاور الباب تراقب مضيه بقلب مذعور ..
تشعر بأن ساعة الصفر تقترب ..
و تأملت ظهره العريض بوجل و هو يتوقف أمام نافذة أحمد يحدثه ..
توسلت الرب بإخلاص أن يسهل الأمر .. و أن يجعل فيه خيرا ..
فيما فكرة واحدة ترسخت داخلها ..
لو أنه رفض هذا الطفل .. فسيكون هذا آخر شيءٍ بينهما ..!
طالعته بخوفٍ عظيم و هو يدور وراء السيارة .. ليثبت يديه على مؤخرتها و يدفعها بقوة ..
فيما أحمد يرفع صوته مشجعا .. و المحرك يزأر قليلا .. ثم ينطفئ ..
لكن في لحظةٍ واحدة .. كان غيث يدفعها بهمّة حقيقية ..
و في اللحظة التالية .. أصبح ممدا على بطنه أرضا ..
السيارة تنطلق دون عائق بسرعة مجنونة ليجد أنه يدفع الهواء فقط ..
مركزا قوته على الفراغ .. فيسقط ..
أمام منظر جسده المديد الذي انبطح أرضا .. و سيارة أحمد تطلق الزمور ..
و هو يخرجها من البوابة الرئيسية .. لتمر بغيث سيارة أخرى و هو لا يزال على الأرض ..
تطلق الزمور بدورها و هزاع يلوح بيده ضاحكا من نافذتها ..
انفجرت ضحكة مجنونة من حلقها ..
و زوجها يتحامل على نفسه و هو يقف على قدميه .. ليلتقط هاتفه .. ثم يرفعه لأذنه ..
و عرفت فورا أنه سيتصل بأحمد ليصب سخطه عليه ..
لم تستطع تمالك ضحكاتها .. و هي تستعيد سقوطه المفاجئ أرضا ..
ضحكة أرغمتها على تناسي الخوف لثانيتين ..
رأته يقبل بخطواتٍ ثقيلة ..
فشدّت خيوط ضحكاتها تجذبها للأعماق بعيدا عن غضبه ..
و أخفضت عينيها أرضا تخبّئ ضحكتها المخنوقة مع دخوله للبيت و صوته الرجوليّ يجتاحها فيما هو يقول بقسوة لأحمد في الهاتف ..
- أقول جب يا الهرم .. دواك عنديه يوم أشوفك .. عنلااات هاللحية ..
ثم أغلق الهاتف و هو يلتفت لحور التي رفعت يدها تسد فمها باستماتة و ضحكة خبيثة توشك على الانفلات ..
لاحظ هو اهتزاز كتفيها و عرف أنها تقاوم ضحكاتها ..
فهدر قلبه بعنف ..
و خيل اليه أن عصورا قد مرت مذ رآها تضحك آخر مرة ..
و كأن زواجها به قد سلبها ابتسامتها الحلوة .. و أي حق لها في الفرحة ..
شعر بسخونة تتدفق في عروقه .. و هي تعض شفتها السفلى تبلع ضحكتها ..
فيما عينيها تبرقان بشكلٍ مميز أهلكه ..
خرج صوتها مبحوحا .. مواريا لابتسامتها .. و هي تدعي الهدوء ..
- آآحممم .. شوه كنت تبا ..؟
رفع حاجبا يطالعها من الأعلى قبل أن يلوي شفتيه القاسيتين بنبرة غريبة .. مست قلبها ..
- تضحكين ها ..؟
رمشت بعينيها .. كطفلة بوغتت تسرق حلوى ..!
ليمد يده و يدسها في كثافة شعرها الحالك .. و يبعثره في حركة سريعة .. جعلت قلبها يخفق بعنف ..
فيما تسكن عينيه نظرة قوية .. أرسلت الرعشة في عروقها .. و هو يومئ برأسه ..
- سوي لي درب بطلع فوق ..
و كأنه سرق روحها طالعته مبهوتة ..
- البنات في المطبخ ..
تخطاها متجها للدرج بخطواتٍ واسعة .. و هو يسألها ..
- شوه بطولين ..؟
جف حلقها .. و هي تهز رأسها بلا ..
- الحين بطلع ..
أدار ظهره لها .. و واصل طريق ،،
و في داخله تأصل امتنان عميق لأحمد ..
.
.
.
.
حين دخلت جناحهما بعد وقتٍ طويل .. كانت قد نسيت ضحكتها تلك ..!
راحت تضيع فيه لحظات المواجهة المحتومة ..
كانت تجر قدميها جرا .. و خوفها يتعاظم مع كل انشٍ تقطعه اتجاه الغرفة ..
أهي تخطو اتجاه النهاية .. ؟
كان قد تمدد في مكانه على السرير .. يطالع السقف بتفكير عميق ..
و هو شأن اعتادته منه مؤخرا .. خمنت أنه يعيد حسابات يومه و عمله خلال هذه اللحظات ..
لم يلتفت لها و هي تدخل .. و تتحرك بصمت في الغرفة ..
السكون الذي كان يسطو عليهما .. راح صداه يرتد صراخا مريعا في جوفها ..
و اضطرابها يتصاعد دون هوادة ..
تضيّع اللحظات في التأني في الاغتسال .. و استبدال ملابسها ..
و حين خرجت للغرفة لم يكن يضيء الغرفة خلا نور مصباح صغير على طاولة السرير ..
فزحفت مرتجفة و هي تطالع ذراعه الضخمة التي غطى بها وجهه ..
هل هو نائم ..؟!
يا رب ..!!
يا رب ..!
اندست بهدوء تحت الغطاء .. و ظمأ فضيع يقتحم حلقها ..
راحت تشد على يدها توقف ارتعاشتها و تلتمس دفء اللحاف الوثير بعيدا عن برودة الغرفة ..
هل هو نائم ..؟
يا الله ..
و أطفئت المصباح المجاور لتغرق الغرفة في الظلام ..
ثم قفزت مذعورة حين أتاها صوته آمرا ..
- ضبطي منبه تيلفونج ع الصلاة ..
وضعت راحتها على قلبها الذي راح يضرب بقوّة ..
الآن ..
راحت تشحذ شجاعتها للمواجهة .. و في الظلام استوت جالسة ..
تلتمس أصابعها المهزوزة زر المصباح لتضيئة ..
و ما ا انتشر نور المصباح الهزيل .. حتى اشتعل نور آخر في داخلها ..
شيء راح يتماسك في داخلها ..
ما أقسى أن يحدث ..؟!
أن يهجرها ..؟
فلتنته إذا من هذا الألم الفادح بسرعة .. لن تقدر على قضاء الليل في تفكير ،، تتقلب على الجمر ..
شعرت به يزيح ذراعه عن وجهه ..
و لم تحتج للنظر اليه لتدرك أنه يراقب جانب وجهها المتصلب .. الناظر للأمام ..
و هي تقول بصوتٍ أجوف .. اختزل في داخله ملايين الأحاسيس ..
و ملايين الضحكات .. و ملايين الدمعات ..
تشعر بأن نهاية ما .. أصبحت وشيكة ..
أقرب لها من نبضتين ستعقبان كلماتها ..
- أنـــــا حــــــــامل ..!
و انفلتت النبضتين ..
لترتقب المصير ،،
* * * * *
* خبرتوا / بن فطيس المري ،،
** لا يخيب الظن فيك / من بوح قلمي ..
*** سورة السجدة / آية رقم ( 16 )
**** سورة الزمر / آية رقم ( 9 )
***** يا ملح السنين / بركات الشمري ..
|