كاتب الموضوع :
زارا
المنتدى :
الارشيف
الخطوه الخامسة عشر...[SIZE]
( خطوات على شوك..تدمي..)
مال أبوها يحادث شيخة الجالسة بجانبه بصوتٍ خافت .. و تعبير من الحنان الدافئ يعلو وجهه ،، فيما أحنت شيخة رأسها للأرض .. ترتدي بنطالا واسعا .. و فانلة طويلة تكاد تصل لركبيتها بأكمام طويلة ..
لم يكن الحديث الهامس يصلها .. فانتقلت عيناها لأمها التي كانت مشغولة بتقطيبة صغيرة في الإشارة لشعر حامد الذي يصل لياقة ثوبه بضيق .. و علمت في الحال أن تأمره بقصّه فيما يومئ حامد برأسه لها مجاريا خطبتها المعتادة بهدوء .. فهو لا يرى شعره بالطول المبالغ فيه ..
عينها تتعلق الآن بأحمد الذي استرخى في جلسته .. مباعدا بين ساقيه و مادا إياها للأمام .. يعيد رأسه للخلف و هو ينظر للسقف بشرود ..
مدت قدمها بخفّة لتضرب بطرفها قدمه الممدودة فينتفض ثم ينظر إليها ..
ابتسمت بهدوء .. و هو يقطب جبينه .. ثم تزحزحت قليلا تقترب منه ..
- علومه بو شهاب ..
رفع حاجبه ببرود ..
- علوم الخير .. من شوي شايفنج و مخبرتنيه قصة حياتج .. !
لكزته روضة بابتسامة ..
- انزين نتخبر ليش زعلان ..؟
- هب زعلان .. تخبري ع راحتج ..
- علومه هزّاع .. من العيد ما شفناه ..
- فنعمة .. بينفجر .. بتشوفينه و بتشبعين منه يوم بتعرسين .. لاصق عندكم في البيت ..
ابتسمت روضة بخجل ..
- أحلى ما في السالفة انيه بشوفك تقريبا كل يوم ..
رفع أحمد حاجبا ..
- قالوا لج ما عنديه شغله ..؟! بعدين انتي بتعرسين و بتنسيناا .. يقولج البنات عليهن منكر .. يوم الوحدة تعرس .. تسير بيت ريلها و تقول هذا بيتيه .. و هذاك بيت أبوية ..! يعني بيتج لي انتي فيه أكثر من عشرين سنة .. استوى بيت أبوج .. !!
ضحكت روضة بصوتٍ خافت ..
- سنة الحياة شوه بتقول .. و لو ها لي مزعلنك .. فالك طيب .. بيتم هذا بيتيه .. و هذاك بيت سيف ريلي ..
ضيق أحمد عينيه عليها ..
- صدق ما تخيلين .. حشمي أخوج يالس .. و تقولين ريلج .. عده ما استوى حبيبتي .. في أي لحظة أكنسل الموضوع أنا ..
رفعت روضة رأسها بغرور ..
- احلف و الله ..!
نفخ صدره ..
- عيل .. أنا مسويله واسطة الإرهابي .. و الا ما وافقوا أهلي .. حتى هب عسب سواد عيونه .. خفت يستهدفنا ..
مطت روضة شفتيها بعدم رضى ..
- ترى ما تعيبنيه هالتعليقات .. وايد بايخة ..
- حلفي و الله .. اذا هو عادي عنده و هب زعلان من السالفة .. انتي شلج ..؟ بس أنا الحين أهيئج نفسيا .. انتي ما تعرفين هاللحية وراها تبعات .. و لا ترمسينيه عنه المطوع هاليومين .. حاقد عليه ..
- هههههههههههه .. تستاهلون .. بعدين تعال بتخبرك .. ليكون رابطينك بذيل هزاع .. أخوه و هو حر فيه .. ما قال لك لا تسافر يا حمود لقطر ..؟!
نظر لها أحمد بغل ..
- حلفي انتي بس .. اولا أنا ماروم أسير مكان بلا هزّاع .. هذا شقيق الروح ..
- ههههههههههههههههههههههههههههه .. شقيق الروح ..؟ منوه حفّظك اياها ..؟
تشدّق أحمد ..
- سمعتها في المسلسل بس لا تخبرين حد .. – ثم ظربها بخفة على كتفها – لا تضحكين .. انا أييبها و أييب لي يابوها بعد ..
- ههههههههه انزين صدقت .. هو قال لهزاع لا تروح .. و انته ضحيت عشانه ..؟
مطت أحمد شفتيه ..
- لا الصراحة بغيت أسوي حركة نذالة و أسير بلا هزاع .. بس غيث درى ان هزاع هب مسافر .. و أصدر أمر بحظر التجوال خارج الحدود .. عنبوه رياييل بلحانا .. و عدهم يتأمرون علينا .. تعالوا و روحوا ..
- لمصلحتكم يا خوية ..
- فكيييينا زين .. مصلحتنا أونه .. شايفتنيه أشرب من مرضعة .. و الا ظاهر من الروضة .. لكن هاي خصلة شينة في العايلة .. كل واحد يتعنطز ع لي أصغر عنه ..
- دكتاتوريين ..؟
- شوي .. و أولهم بو لحيّة .. صاك على خوانه صكّة ..
- شرا ما غيث صاك عليكم .. يبونكم تظهرون رياييل ..
مسح أحمد على لحيته ..
- ليش ادافعين عنه الحين ..
- امنوه ..؟
- بن لادن ريلج ..
- أحمدووووه .. اصطلب .. (يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن) *،
- حي .. أثر عليج المطوع .. بالله رويض بس يوم بتسوين ليلة حمرا ع قولتهم و تحطين شموع .. طالعي في اليدار لي عدّاله .. – ثم وضع يده مفرودة أمام ذقنه و هو يحركها طلوعا و نزولا – بتشوفين اللحية داقة يابس ..
احمر وجه روضة بقوة ..
- ما عندك سالفة .. بعدين اللحية بياض ويه الريّال .. اخس ريّال أشوفه واحد يالدها و مافي الويه شعره ..
ربّت أحمد على لحيته بخفة ..
- الحمد الله هب طايح من عينج .. طلعتي داخله على طمع .. تبين لحية الريّال ..!
رفعت روضة حاجبا واثقا و هي تقول بخفوت ..
- سيف ريال ينشرى بفلوس ..
مد أحمد يده يقرصها بقوة ..
- حشمي يا مسودة الويه .. لا أنا نويت خلاص أكنسلها السالفة ..
ابتسمت روضة بهدوء ..
- حبيبي طلع الموضوع من ايدك .. مالك رمسة عقب أبوية .. و بعدين الحين طلعت اعتراضاتك .. ما بقى شي و ينتقلون قوم عميه ..
- مستعيلة على رزقج ..!! بس صدقتي .. ما خاب منطوقج .. سيف ريال ينشرى بفلوس .. ما عليج من رمستيه .. تراها امزوح .. و هو يدري بها .. يسدج انه ريال يخاف ربه في هله .. بيحشمج و لا بياذيج .. و بتظمنين ان عينه ما بتزيغ منيه و الا مناك .. هيه صح ..تعالي متى بينتقلون بني حمد ..؟
- ههه حلوة بني حمد .. يوم توفي أمهم الاربعين ... الحين يرتبون عمارهم .. و سامان البيت .. يعني أول ما تخلّص سيده بيشلون عمارهم .. و بييون هنيه .. أصلا غيث ما فيه صبر .. يبا يرد بسرعة ..
ضحك أحمد بخفة ..
- مالومه الصراحة ..
* * * * *
في لحظة واحدة .. توقف الزمن ،،
الإحساس ..
حتى الهواء من حولها .. لما يعد يصل لرئتيها ..
صرخات تتفجر احتبست في حلقها حين هوت يده الثقيلة تجر شعرها عبر الغطاء جرا ..
جذوره تقتلع تحت قسوة تلك اليد التي دفعتها لداخل البيت بعنف ..
لم تصرخ ..!
لم تستطع حتى التنفس و الألم يندفع في رأسها .. و هي تقاد كالبهيمة ..
نفس الموقف يتكرر في أقل من شهرين ..
تجر للمجلس .. فيما تكافح التقدم إليه بذعر رهيب ..
تحاول التملص من بين يديه ..
لقد سمعها .. سمعها .. لن يعاملها هكذا لمجرد خروجها من البيت في مثل هذه الساعة ..
راحت تتخبط و هو يخطو بسرعة نحو باب مجلس بيتهم المفتوح .. تحاول يدها عبثا إبعاد قبضته عن رأسها و يدها الأخرى تسعى بجنون لتغطية وجهها ..
لكن أنى لها ذلك ..؟ غطائها يسقط على كتفيها و هي تتجاوز عتبة المجلس ..
تأوهاتها و توسلها الخافت لم يلقى صدى لديه ..
- آآآآي .. عورتنيييييييييييه .. ودرنيه .. ودرنيه .. لحظة بس .. بفهمك .. و الله بفهمك .. لحظة .. آآآي ..
قذفها بقوة .. لتصطدم بالجدار المقابل و تسقط أرضا .. شعرت بأضلعها تسحق من قوة الصدمة ..
قبل أن تلتفت بسرعة .. ترتجف بشدّة .. و هي تلتقط غطائها بجنون .. تحاول ستر شعرها ..
و لكن يداها شلّت و عيناها تتسعان بفزع هائل .. حين التقط – العقال – يفرده ..
كان لا يزال بإزاره و الفانلة البيضاء .. شعره الكث تشعث بقوة .. ووجه الأسمر الصلب قسا و قد لمعت عيناه بغضب مجنون ..
راحت تهز رأسها بشهقات مفزوعة و هي تنكمش على الأرض ..
- لا .. لا .. لا ...
لكنه هوى به عليها .. يجلدها ..
مرة .. و مرتين ..
راح الألم يلسع كل جزء من جسدها يلامسه العقال بحرقة ..
و هي تتلوى .. بألم .. و تدفن وجهها بيديها لحمايته ..
- لااااا .. آآآآآآآآآه .. دخييييييييلك .. حراااااام .. و الله ما يخصنيه .. ما يخصنييييييييييه .. لحظة .. بفهمك ..
بكت بشدّة تتوسل رحمته .. و إحدى الجلدات تصيب يدها التي تحمي وجهها بقوة ..
- لاااا .. آآآآه.. بقولك .. و الله بقولك ..
.
.
لم يكن جلدها بالعقال يهدّئ شيئا من النار التي التهبت في صدره .. ما يريده حقا هو قتلها ..
تمزيقها بوحشية .. و دفنها .. ليطوي تلك الكلمات التي سمعها للتو ..
هذه الفتاة عار عليهم .. عليه أن يدفن كلماتها معها ..
أن ينهال بالتراب على تلك القصة القذرة ..
كل ما أراده الآن .. و يده تجلدها بالعقال .. بكل قوّته ..
هو إحاطة عنقها بقبضتيه .. ليهشمه ..
يريد أن يزهق انفاسها .. ان يمزق روحها .. أن يكتم شهقاتها الباكية .. و صوتها المتلوع الصارخ ..
- لاااااااااااااا .. هوووو .. هوووو الكللللب .. و الله ما سوييييييييت شي .. و الله .. و الله .. ما يخصنييييه .. آآآآآه .. الحيواااااااااااااان .. و الله ماليه دخل .. غصبا عنيه ..
راح صوتها يخفت و هي تلتصق بالأرض ساجدة.. فيما تتتابع ضرباته على ظهرها .. و صوتها الباكي اليائس .. يمزق مسمعه ..
- ما يخصنيييه .. ما يخصنييييه .. هو ظربنيييه .. غصب عنيييه و الله .. الكلللللب .. الكلللللب ..
راحت يده ترتجف و قد توقف فجأة .. و الجمود يكسو أطرافه ..
الكلــــب ..؟!
وجهها في الأرض ..
لم يعد بمقدوره التنفس بالانتظام بعد ضربها ..
فيما لا يزال في روحها ذرّات من قوة ..
بقي القليل .. لتزحف باستماتة .. يد واهنة تلتقط غطائها الذي سقط أرضا ..
لتعيده على رأسها بنحيب مفزع .. و تعيده على وجهها ..
مزّق جلدها بالعقال للتو ..! و لا زالت تخشى أن ينكشف غطاء وجهها ..
عادت لوضعية السجود .. وجهها المغطى يلتصق بالأرض ..
و صوت عويلها المخيف أعاده لتلك الليلة ..
نفس ذاك الحطام .. لكنه أمامه الليلة ..
صوت ميّت .. خافت .. مرتعش .. صدر من بقايا تلك الروح المتكومة أمامه ..
- ياااا رب أمووووت .. ياااا رب .. خذ روحيه ..ابااا أرتااااح .. ارحمنيه يا رب .. ارحمنيييه ..
.
.
كفى ..
فلتتوقف الأنفاس .. لم تعد تريد هذه الحياة التي ترتد في رئتيها ..
لماذا توقف عن ضربها ..؟
لماذا ..؟
لا تكترث الآن .. فليقتلها ..
بدا لها الموت راحة لذيذة .. شيئا بعيد المنال ..
أم تراها أمنية قريبة ..؟
لما لا يخنقها .. لن يكلفه ذاك جهدا ..
لن تقاوم .. تقسم أنها لن تفعل .. و لكن فليفعلها ..
لينهي سلسلة الألم هذه ..
لم يعد في جوفها شتات روح قد تحتمل اشراقة شمس جديدة ..!
- صارخت .. محد سمعنيه .. محد سمعنيه .. ليش..؟ شوه سويت انا ..؟ يكفي .. ما روم أتحمل .. خلاااااص .. اذبحنيه .. اذبحنيه ..
راحت الدموع تنزلق مع كلماتها المتوسّلة .. قبل أن يشيح هو بوجهه عنها ..
في لحظة واحدة .. وجدت نفسها وحيدة في المجلس ..
تكورت على الأرض .. تنشج ..
راح بكائها المرير يعلو على أنفسها ..
هي هنا .. على الأرض .. تنتظر موتا .. يبدو أنه يعاندها ..
لن يأتِ ..!
.
.
ذاك الهواء البارد راح يزيد الحرقة التي راحت تتصاعد في جوفه ..
صور مُرّة تعاد الآن أمام ناظريه ..
فتاتها الذي جمعه ذات يوم في نفس المكان الذي أنصت لاعترافها الليلة فيه ..
بكاءها ذاك .. و صرخاتها .. استغاثاتها .. مقاومتها .. و ضرباتها ..
كل ذلك راح يدور أمام عينيه الآن بجنون ..
لم يكن له ان يتخيل و في أسوأ أحلامه طرا أن يكون هذا السبب ..!
لطالما شك في أن هناك خطبا غير تلك القصة التافهة الغير قابلة للتصديق ..
تلك الحكاية الوهمية التي ألقتها على مسامعه زوجته العتيدة ..
أ كانت تعلم ..؟ هل أخفت الموضوع .. ؟ اللعينة ..
ألم رهيب يكتنف صدره .. هو من وجدها .. هو أول من اصطدم ببقاياها ..
بعد فعلة ذاك الحقير مباشرة ..
كيف ..؟ كيف تجرأ ..؟
كيف انتهك عرضهم .. و تحت أنفه !
أين كان هو ..؟
الجنون الذي يتصاعد في ذهنه راح يتفجر داخله في غضب اعمى من جديد ..
راحت قبضته تلكم الجدار الصلب أمامه بجنون ..
يتجاهل الألم الذي سرى في مفاصل أصابعه .. لكمة و اثنتين .. و ثلاث ..
قبل أن يشعر بجلده يتمزق تحت قسوة الجدار ..
فيلصق جبينه عليه بوهن .. و هو يلهث بمرارة ..
رغبة عارمة تكتنفه يريد أن يقتل شخصا ما ..
يريد أن ينهي حياة .. أن يمزق روحا ..
لا يهم روح من كانت ..
عادت نظرته المقهورة نحو باب المجلس ..
حيث تركها للتو ..صوت بكاءها يعود مرة أخرى لذهنه ..
أراد العودة .. ليمزق العقال مجددا على جسدها ..
بأي ذنب ..؟
و لأي سبب ..؟
لا يهم ذلك .. أراد أن يطفئ لهيبه المحرق ..
عيناه تحرقانه ..
و هو يصر على أسنانه حتى كادت تتخلخل ..
رغم ذلك أبت قدماه التحرك ..!
و رغبة أخرى تصارع ثورته ..
لم يرد العودة ليعاقبها على ما لم يكن لها ذنب فيه ..
لكن .. سكوتها .. تسترها ..
كان ذلك خطأ لا يغتفر ..
.
.
لحظات طويلة ..
ممتدة ..
مرّت و هو يستند على الجدار يكبح جماح غيظه .. قهره .. غضبه الأسود ..
قبل أن يلتفت لباب المجلس مجددا ..
يسحب نفسا عميقا ..
لا زال يحتاج لبعض الأجوبة ..!
لذلك دفع الخطوات نحو الباب الموارب خلفه ..
تمتد يده لتدفعه ببطء .. فينزاح جانبا ..
كاشفا خلفه ضيق المجلس الذي انزوت هي في زاويته البعيدة ..
تحتضن نفسها على الأرض ..
و قد أسدلت غطائها الكبير على شعرها و وجهها ..
تنتفض بقوة .. و صوت نحيبها المتقطع يصله بوضوح .. ترك مكانه بهدوء ليجلس على السرير ..
للحظات ظل يترنم بشهقاتها تلك .. بوجع ..؟ ربمـــا ..!
لكنّه قال بصوتٍ أجش انتزعها من غمرة بكاءها ..
- عفــــرا ،،
كتمت أنينها باستماتة مذعورة .. فيما يقول هو بصوتٍ خرج قاسيا رغم هدوءه ..
- قولي الحين .. شوه لي صار ..؟
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
أسند مرفقيه على ركبتيه و هو يدفن وجهه بين راحتي يده .. جالسا على السرير .. يخفي عينيه عن منظرها ..
كل تلك الكلمات التي تناثرت من بين شفتيها للتو لتنغرس في صميمه ..
في كرامته .. في رجولته ..
أما كان يجدر به أن يكون هنا لحمايتها ..؟ ألم يترك بيت جده خوفا على هذه العائلة .. و لحمايتها ..
ماذا فعل اذا ..؟ ما الذي فعله باستثناء تلك اللعبة الغبية التي راح يمارسها على زوجة لن يُعجزه إجبارها على الزواج ..
بكائها ذاك لم يعد سوى شهقاتٍ متهدجة .. تهز جسدها المستند على الجدار .. لا يتبين وجهها من خلف الغطاء ..
متقين بأنه لم يعد خلف هذا الستار سوى تمزُّق ،،
سوى شبح..
ذاك الحقد الرابض في صدره.. يسعى لتحطيمها بشكل ما ..
و لكنه يتريث ..
عقله راح يدور بجنون .. يعمل في ذاك الصمت الثقيل الذي لا يخرقه سوى بكائها ..
شيء في داخله راح يتصاعد مع كل أنين يصدر عنها ..يريد أن يخنقها ليتوقف صوتها عن تعذيبه أكثر ..
دفق من الكراهية .. الحقد .. القهر ..
يسري بقوة في عروقه .. راح يهدّ ترابطه ..
من ..؟
من هو المسئول هنا عمّا حدث ..؟
قالت أنه أجبرها على ذلك .. و مظهرها في تلك الليلة لا يدل على غير ذلك ..
يصدقها ..
لماذا هذه الثقة ..؟
و من أين مصدرها ..؟
لا يهم .. يعلم أنها طاهرة .. و أنها انتهكت قسرا ..
هذه الشهقات التي انزلقت من كومة المرارة هناك ..
راحت تمزّق أعصابه بوحشية ..
كأنما تعيّره بما فعل ..
.
.
كان صوته أجشا.. بدا جليّا أنه يكبت رغبات مريرة في صدره .. يكبح غضبا أهوج يربض بين أنفاسه ..
- بس خلاص .. صخي ..
لكنها لم تستطع السيطرة على شهقاتها المتتابعة .. ظل صوتها ينفلت نشيجا مرهقا من بين شفتيها ..
شيئا أثاره أكثر فأكثر ..
لن يفيدها أن يحطّم وجهها الآن أبــدا .. عليها أن تتوخى الحذر حتى يهدأ ..
بدا صوته أكثر غضبا و هو يزمجر ..
- بااااااااس أقووولج .. صخي .. ما اباا أسمع نصخج ..
شهقت بقوة تبتلع بكائها وجسدها يرتجف كالورقة الخريفية المتراقصة ..
حتما ستدهس تحت الأقدام ..
ستتفتت .. و تتناثر ..
لتذروها الريح بعيدا ..
حيث لا أذى ..
ما الذي أوقفه عن قتلها ..؟ لا زالت تلك الرغبة تنبض بقوة ..
متأكد بأن لا ذنب لها .. كل ما ترى عينيه يشير لذلك .. كل ما سمع بأذنيه ..
تلك الليلة الغريبة ..
يعلم أنه لا ذنب لها .. و لكن ذلك لا يخمد نيرانه ..
هي وصمة .. وكفى ..
كيف و لماذا .. و ذنب من .. لا يهم ..
عليه فقط أن يهدأ .. أن يهدأ ..
عليه أن يستخدم عقله ..
الانفعال لن يفعل شيئا سوى تعقيد الأمور و فضحها ..
أغمض عينيه بقوة يسحب نفسا عميقا .. لبرهة فقط شعر بالإختناق وكتلة ثقيلة شائكة .. من كلماتٍ لا تروى ..
تسد حلقه .. قبل أن يخرجها بحشرجة .. وعينيه الحمراوين تلمعان بشيء يكبحه في جوفه ..
- أبا أعرف .. حد يدري ..؟ حور تدري ..؟
تمنى لو أنها تجيب بنعم .. تمنى ذلك بشدة ..
أراد فقط أن ينهض من مكانه ليقتحم بيتهم ثم يجرها من شعرها كما فعل بأختها قبل قليل ..
كم سيسره أن يمزّقها على استغفاله بهذه الحماقة ..
لكن صوتها المتقطع رغم خفوته حمل إجابة واضحة ..
- لااا ..
صرخ بها حاقدا ..
- لا تكذبين ..!
بكت مجددا .. و في صوتها الهامس نبرة يائسة .. أثقلت على روحه ..
- و .. و الله .. ما تعرف .. محد .. محد يعرف .. ما خبرت حد .. و الله ماخبرت حد ..
اعتصرت قبضة من الأسى فؤاده .. و هي تتابع بانكسار مؤلم ..
- كنت خاا .. خايفة .. خفت .. مادريت أخبر منوه ...؟
قال بمرارة راحت تنفث قهره ملوحة في فمه ..
- كان خبرتينيه .. ليش ما خبرتينيه ..؟
لم تجبه .. ترتج أركان جسدها مع كل شهقة تخنقها ..
.
.
تخبره ..؟!
من هو لتفعل ذلك ..؟
ليس سوى غريب يشاركهم السكن بحجّة لم ينجح في تحقيقها ..
أما كان له أن يحميهم ..
إمتداد حمايته لم يبلغها إذا ..
كان يجلس الآن متصلبا .. عبر الغطاء لا تتبين سوى وجه إسودّ من الغضب ..
و عينان بدتا تنفثان لهبا ..
شعرت بالوهن .. إن فكر في اللحظة التالية في قتلها لن ترفع إصبعا واحدة لتقاومه ..
لربما يمنحها هدّية عظيمة و يقوم بذلك متعجلا ..
كم ستشعر بالراحة بعدها ..
أي شيء يمكنه أن يصلها بعد الموت ..؟
لا شيء إلا جزاء من رب العالمين ..
هذا الرجل انتزع تلك التفاصيل القذرة من بين أسنانها .. يعلم كل شيء ..
هذا الغريب الذي لا يعني لها شيئا يدرك حجم مصيبتها و الفضيحة التي كانت تخفي ..
الخطب الذي خجلت و خشيت من إخبار أختها الأقرب لها .. غدى أمرا معروفا له ..
أغمضت عينيها بيأس شديد .. أي ذلٍّ قد يفوق هذا ..؟!
انتفض جسدها المتورم من الضرب و صوته الخشن يقول بقسوة ..
- ما فكرتي تقولين لحد ..؟
- كـ .. كنت بخبر حور ..
ثم أجهشت مجددا بالبكاء ..
- بس ما رمت ..
صرخ فجأة بقوة أجفلتها ..
- لا تصيحين .. و ردي عليه ..
ضغطت بيدها على فمها و الدموع تبلل غطاءها ..
فيما هب هو ينقل قدميه في المجلس الضيق ..
بدا كالليث الحبيس و هو يدور بيأس في المكان .. ابعاد يده عنها ..
و عدم التهجم عليها مجددا توجب منه قدرا كبيرا من ضبط النفس .. و ها هي النيران تلتهم صبره مجددا ..
- اسمعي .. و اسمعينيه عدل .. الرمسة لي بقولها مابا عيدها .. الموضوع مابا حد يدريبه .. و الله .. ثم الله .. لوأدري انج رمستي به بينج و بين عمرج .. ينه الذبح ما يسدنيه منج .. تسمعين ..؟
صرخ بالجملة الأخيرة بغضب مجنون ..و هي تومئ برأسها مع انفلات شهقة متلوعة ..
ها هي السيطرة ستولي بعد قليل .. أغمض عينيه بشدة .. كابحا رغبة مميتة في اقتلاع شعرها من جذوره .. و ركلها حتى تموت ..
همس بقوة ..
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ..
عاد ليجلس على طرف فراشه..و عينيه ترتكز عليها وهي تكتم أنفاسها و لكن ذلك لم يوقف ارتعاش الجسد و إحساسها ..!
فطر قلبه مظهرها .. شيء في تجردها هذا من الحياة أعاده لأيام أجبر فيها مرارا على ابتلاع أوجاعه .. و آلامه ..
على المعاناة بصمت تحت وطأة الخوف ..
لم أرسل القدر هذه الفتاة إلى طريقه ..؟ كل ما فيها راح يستفز مواطنا خفيّة من الروح ..
أشياءً جاهد على مر سنين عمره الطويلة في طمسها ..
في انتزاعها من الذاكرة ..
كان صوته عميقا .. يحمل ثقلا كبيرا يجثم الآن على صدره ..
نظر للأرض متجنبا النظر إليها ..
- الموضوع أنا بحله .. انا بحله .. كل شي لازم يتصلح ..
و لكن كيف ..؟
هذا حتما ما سيفكر فيه لاحقا ..
* * * * *
دفعت كرسيها ذو العجلات بقوة خارج الغرفة حين راحت أصواتهما تتعالى بقوة لتصلها ..
لكن ما إن بلغت الممر حتى فُتح باب غرفة أخيها الأكبر بشيء من العنف .. لتخرج أختها الكبرى منها مندفعة ،،
كان شعرها البني اللامع قد ارتخى في عقدة ناعمة على قمّة رأسها ،، ليحتضن رقة ملامحها التي انكمشت بألم واضح فيما راحت عبراتها تتدفق بلا توقف ..
اتسعت عينا ميعاد لرؤية أختها تبكي .. فارتجف صوتها و خولة تشيح بوجهها متوجهه لغرفتها ..
- خولـــــــة ..؟
- خولة ..!
كانت تلك صرخة نهيان الصادرة من الغرفة التي خرجت منها خولة للتو .. قبل أن تغلق الاخيرة بابها بقوة .. ثم يصدر تكّة ناتجة عن دوران المفتاح فيه ..
دفعت كرسيها تتقدم من باب غرفة الجلوس المفتوح .. لتتوقف أمامه ناظرة لنهيان الذي أخفض غترته على وجهه باستياء أخافها ..
- نهيـــان ..؟
أزاح نهيان الغترة ليكشف وجهه المتجهم .. عاقدا حاجبيه ..
- ميعاد ..؟
دفعت كرسيها بقوة نحوه و صوتها يرتجف بقلق ..
- بلاكم .. شوه مستوي ..؟
امتعق لونه لبرهة قبل أن يشيح بوجهه متجاهلا عينيها ..
- و لا شي .. ما رقدتي ..؟
قالت بتوتر تتجاهل سؤاله ..
- نهيااان شوه السالفة خبرنيه .. ليش خولة تصيح .. حد استوابه شي من خوانكم .. حد قال شي ..؟
- قلت لج و لا شي .. لا تخافين .. سيري رقدي ..
نظرت له ميعاد بلوم ساخط ..
- ماباا .. و مابا اتحرك من هنيه الا يوم تخبرنيه .. لا تخبّي عليّه .. ارمس ..
نظر لها مطوّلا قبل ان يزفر بقوة .. محملا أنفاسه شيئا من ثقل همّه ذاك ..
- اليوم واحد من الربع في الدوام كان يرمس عن موضوع .. يعني عن الزواج و كذيه .. و تكلموا عن زواج المتعة ..كيف انه بنية الطلاق .. و شكّيت في ..
صمت و هو يعتصر غترته بيده و ميعاد تنتظر أن يقول شيئا .. ثم تحثّه باصرار ..
- شكيت فشوه ..؟
نظر لمواطئ قدميه يقول بصوتٍ متألم ..
- اتصلت بمطوع و خبرته ظروف زواج أختج .. و انها هي و ريلها بيتطلقون أول ما يرتبون أمورج ..
اتعست عيناها صدمة .. و هو يتابع بشيء من الألم ..
- قال إن الزواج باطل ما دام بنيّة الطلاق .. حتى و لو لم يكتب هالشرط في العقد ..
شحب وجه ميعاد بقوّة و هي تهمس بصوتٍ متقطع ..
- بـ اا .. باطــ .. باطل ..؟؟
اومأ نهيان برأسه أسفا و هو يقول بصوتٍ متألم ..
- الزواج لازم يكون زواج طبيعي .. او يطلّقها .. و يخليها تشوف نصيبها .. خولة هب صغيرة .. لي بعمرها .. عندها درزن عيال .. نحن طاوعناها و طاوعنا غيث عشانج يا ميعاد .. بس الحين خلاص .. العلاقة غلط .. و الزواج باطل .. أنا برمس غيث و أشوف شوه رايه .. و الين ما يقرر .. تنسى انه حرمته .. العقد لي بينهم ما يعني شي ..
ارتعشت دمعة في مقلتها و هي تعجز حتى عن النطق ..
زواج باطل ..؟
باطل ..؟! باطل ..؟!
أين ألقت بأختها ..؟
لم تتخيل و لو مرة أن ....
يا إلهي ..
و كأنما تلك الفاجعة المؤجلة أقبلت تهرول على قدمين ..
ستدوس حتما كل أمل لأختها مع زوجها ..
كل حلم سخيف رسمته لن يصبح إلا غبارا ..!
خياران تعلم أن غيث لن يتردد كثيرا في الجزم بينهما ..
فهو لم يكن الا مضطرا للزواج منها .. و لن يضريه أبدا أن ينحيها جانبا إن أصبح الموضوع أكثر تطلّبا ..!
يديها المرتجفتين راحت تدير عجلات الكرسي للخلف ..
تخرج من الغرفة لتتقدم نحو باب أختها .. تلك الشهقات الباكية تنسل من تحت الباب و ميعاد ترفع يدها بألم لتقرعه ..
هي السبب .. هي السبب ..
ما كان لغيث أن يتزوجها لولا أنه مضطر لزيارتهم كثيرا .. حتى في غياب نهيّان ..
دوما كانت خولة تشعر بالخجل من زيارته .. تظل حبيسة غرفتها لساعات ما زال هنا ..
و كان يشعر إبن أخيها الذي أخذ يتردد عليهم بعد فترة طويلة من معرفته بوجودها بالحرج ..
و يحس بالضيق من احتمال أن يعيق حركتها في البيت .. او التواجد فيه و أخوها ليس هنا ..
حتى أتى أمر السفر ذاك ..
ذاك الموعد الذي حدده طبيبها الكندي للكشف على ساقيها بغيّة فحصها .. خوفا من أي عطب سيصيب تلك العضلتين الواهنتين
ساقيها اللتان لا تتجاوزان ساقي طفل في سمكها .. رغم طولها الطبيعي ..
لطالما شبّهتها في صغرها بعودي معكرونة مسلوقين ..
و كم كان يؤلمها مرآها ..
لم يكن الأمل يختبئ في مكان ما لتنتظر أن يخرج مفصحا عن نفسه ..
تعلم أنها عاجزة .. تماما ..
لا تستطيع الوقوف .. و لا المشي .. لن تركض كالأطفال .. و لن ترقص كالفتيات ..
لن تتباهى بمشيتها أو ما ترتدي ..
ليس لها حتى أن تمني نفسها بأحلامٍ كسيحة .. كل شيء في حياتها يتربع على هذا الكرسي .. لا تحركه إلا عجلات ..
و كان السعي إلى آخر العالم لمجرد الإطمئنان على ساقين نحيلتين .. لا فائدة منهما مجرد اهدار للمال و الوقت ..
لكن أباها لم يكترث ..
أصر على ذهابها .. و لم يكن سفرها إلا بعد شهرين من عمليّته الخطيرة تلك ..
ثم ماذا ..؟ من كان سيرافقها غيره ..
ابن أخيها الأكبر ..
ذاك المتعجرف الذي ظهر ذات يوم على باب بيتهم يطالب برؤية ابنة جدّه ..
لا تنسى قسوة تلك النظرة التي راح يسلّطها بكراهية نحوها .. متأملا جلوسها الصامت ..
حين راح ينفث حقده و صدمته .. و اعتراضه المتأخر .. كلماتٍ وقحة .. دفعت شجارا كلاميا ليشتعل بينه و بين نهيان الذي سرعان ما رافقه لخارج البيت طالبا منه عدم القدوم إلى هنا مجددا ..
تلك النظرة الكريهة على وجهه و هو يخرج .. أعلمتها بأنه لن يعود إلى هنا ..
و كم كانت مخطئة ..
لقد عاد ..
كثيرا .. ما فعل ذلك ..
بعدها بيومين فقط .. أتى نهيان للبيت يصطحب ذاك الرجل معه ..
هل اعتذر أبدا عن قسوته ..؟
هذا ما لا تعرفه ..!
في تلك المرة كان جافا ..و لكنه أكثر هدوءا ..جلس لمدة ساعتين ينظر اليها بصمت ..
و كأنما يدفع عينيه للاعتياد على مرآها ..
مر وقت طويل .. طويل للغاية .. قبل أن تجد نفسها على وفاق معه ..
و لم يكن ليجد مشكلة في السفر معها حينها .. لولا استحالة مرافقة أختها الكبرى لها مع غياب محرمها ..
ثم رمى هو الحل في وجوههم .. سرد اقتراحه ذاك بنفس البرود الذي يشرب به قهوة الصباح ..
طلب من أختها الزواج مقيدا الأمر بينهم بكرسيها هي ..!
و أعطاها الحريّة في أن تتجاهله .. و أن تغطي وجهها عنه ..
و تعامله كغريب ..
تتذكر الآن هياج نهيان و رفضه الشديد .. إعتراضها هي ..
و لكن خولة لها كلمة أخرى ..
أصرّت على المضي في الأمر ..
لم يكن لديها أدنى فكرة أين سيرمي بها هذا الزواج ..
و الآن ..؟!
باطل ..؟!
تبـــــا ..
ذلك سيسحق مشاعر أختها ..
رفعت يدها تقرع الباب مرات عديدة ..
و صوت خولة المبحوح يرتفع بحدّة ..
- ماريد أرمس حد .. خلونيه اروحيه ..
ضمت ميعاد قبضتها .. و دمعتين متمردتين تتطفلان على وجنتيها و هي تناجي بتعاسة ..
- خولة .. بطلي الباب برمسج شوي ..
لكن الصرخة تلك أصرت على ما تريد ..
- ماااااااااااااااااريـد .. ماريد أرمس حد .. مااااريد ..!
* * * * *
بعيدا ..
بعيداعن كل شيء ..
أوقف سيارته في أقرب مكان يمكن لها أن تجتازه عبر هذه الكثبان ..
ليترجل وحيدا عنها ..
يسير ببطء و قدميه تنغرس بين ذرّات الرمال الباردة ..
خيوط النور ترتعش بردا على حدود الكون ..
و الهواء يعبق برائحة الحياة ..
الحياة التي يمقتها في هذه اللحظة ..
لا يريد أن يشتم رائحتها النافذة مع نسائم الفجر الباردة التي اخترقت رئتيه الساخنتين ..
ليتمرد إنتعاش يومٍ جديد على تلك الكآبة التي ارتسمت بخطوط عريضة على جبينه ..
الريح الباردة .. تحرك ثوبه الثقيل .. تعبث بشعره الكث الطليق ..
تتحدى شموخ ذاك الأنف الذي رفعه و هو يصعد تل الرمال الصفراء ..
ليجلس على قمّته العالية ..
يشخص ببصره للسماء للحظات طويلة ..
السماء الداكنة ..
لم تمزق ستار ظلماتها سهام الفجر بعد ..
لكنها قد نالت من أفق دامي ..
صوت خوار .. صياح ديك .. و غثاء يأتي من البعيد .. البعيد ..
و تلك نجمة الصباح معلّقة لتزيّن السماء الزرقاء القاتمة ..
كيف تنظر الأمر من هذا العلو يا ترى ..؟
أتراه بالصغر الذي يراها به الآن ..؟
.
.
منهك ..
منهك ..
منهك ..
يخلع حذاءيه الفاخرين ببطء .. ليدس قدميه بين ذرات الرمال الباردة ..
لو كان للجنون معنى .. فهو ما يحدث الآن بين أضلعه ..
يتنازعه قهر .. و غضب ..
يمزقه ذنب عظيم ..
و يقتله ذاك الهدوء الذي ينتابه الآن ..
هذا الصمت الذي لا يفضح فوضى ما يشعر به ..
أحاسيسه و أفكاره المتخبّطة ..
فكرة واضحة تجلّت أمامه ..
وصورة ضبابية ليده الثقيلة و هي تهوي - بالعقال - على جسدها الضعيف ..
صيحاتها المتوسلة وهي تمزّق روحه ..
قبضة من تربة يعتصرها في يده ..
و ألم غريب راحت يسري في داخله ..
شيء من الحزن يتسلل ببطء لروحه ..
حين ضج سمعه بكلماتها اليائسة ..
(( يارب أموت .. يا رب ارحمنيه ))
تفكيره الآن بما قد تكون مرت به ..
خوفها .. حزنها .. وجعها ..
تلك اللحظات المريرة التي أعاد تمثيلها بالأمس ..
تستنجد به ..
وتتوسله أن تشرح ..
لم يكن بحاجة أن تشرح له .. حتى مع علمه بأنها ليست مذنبه ..
أراد شيئا يطفئ غليانه ..
غيرته التي لم ينفس عنها سوى على جلدها ..
ضغط براحتيه على عينيه ..
ذاك الحثالة سيجده ..
و سيندم على ما فعل ..
لن يكفيه تمزيقه إربا بأسنانه ..
عندها سيبرد هذا الغضب قليلا ..
سيسلط عليه جحيم ما يخالجه الآن ..
و سينتزع من عينيه سوء فعلته تلك ..
أما عنها ..
ماذا عنها ..؟ ما الذي سيفعله ..
هذا ما يحتاج للتفكير فيه ..
لكنه سيجد حلا لهذه المعضلة ..
سيعلم كيف عليه أن يحل الموضوع بهدوء تام ..
الأهم هنا هو التكتم ..
فكرة أن يعلم جده أو أعمامه .. أو أي حد بالموضوع .. لم ترق له ..
هناك الكثير من التبعات التي ستلحق بها ..
الكثير من الأذى الذي يمكن تجنبه ..
الحذر يجب توخيه الآن ..
حين يحين الوقت ..
سيفجّر غضبه كلّه ..
.
.
كل هذا لم يزح الضغط الهائل الذي ترزح تحته روحه ..
و هو يرفع رأسه مستنشقا الهواء ..
و يدفن قدميه أكثر بين الرمال ..
كم سيستمتع باقتلاع عيني ذاك الحقير ..
صر على أسنانه بشراسة حاقدة ..
سيمزّقه ..
* * * * *
اتسعت عينا مزنة و هي تفرد أصابعها و تثنيها مرارا ثم تنظر للأعلى بتفكير عميق قبل أن تميل رأسها أخيرا لحور ..
- يعني باقي عشر أيام .. صح حور ..
هزت حور رأسها مشغولة بالكي الذي بين يديها ..
- صح حبيبتي ..
هبت مزنة واقفة و اقتربت من حور تجلس بجانبها تماما ..
- و بنشل ثيابنا ويانا ..
- هيه ..
تساءلت الطفلة مجددا ..
- و البطانيات ..
عقدت حور جبينها تثني ثوب نايف الأسود .. الذي كان غيث قد اشتراه مع جموعة أخرى كبيرة من الثياب ..
ذاك القرب و التفهم الذي يغدقه على أخيها يخلّف إحساسا دافئا في قلبها ...
- لا حبيبتي عندهم بطانيات ..
- بيعطونا بطانيات نرقد عليها ..
اخفت حور ابتسامة ..
- هيه بيعطونا ..
- و الثياب بيعطونا ..
تنهدت حور مجددا ..
- لا بنشل ثيابنا ويانا ..
- انزين وين برقد انا عندكن و الا عند امايا ..
طوت حور الثوب الاخير تجيبها بحزم ..
- مزون فديتج هاك اليوم يصير خير .. بعدنا فبيتنا الحين ..
اسندت خدها بيدها الصغيرة و هي تقول بابتسامة ..
- حور بيتهم كبير ..
أطفات حور المكواة و اسندتها على الجدار.. قبل أن تجيب نورة التي تستلقي تحت التلفاز مباشرة و ترفع قدما على طاولة التلفاز ..
- أذيتيناا انتي .. عنبوه هب شايفة خير ..
نهرتها حور حين رأت انكماش أختها الصغرى ..
- مالج حاية فيها .. و نزلي ريلج ..
أنزلت نورة قدمها و هي تهدد ..
- بعد شوي بتسيرين تسوين الريوق .. بنشوف كيف بتستقوي هالياهل ..
الآن بدا الخوف على وجه مزنة و حور تصر أسنانها بغيظ ..
- نورة اصطلبي .. ما في فوادج رحمه .. عنبوه دوم و انتي ملعوزة هالمسكينة ..
التفتت نورة نحوها تشهق بمبالغة ..
- مسكيييييييييييينة ..؟ إلااا سكييينة .. ما تعرفينها هاي أم الدويس .. ما يضيع لها حق ..
وقفت مزنة خلف حور و هي تقول بتحدي ضعيف ..
- انتي أم الدويس ..
- هيه أنا أم الدويس .. بييبه داسي و انتي راقدة و بحش ريولج .. و خلاف بذبحج كذيه ..
و كشّرت بشراسة و هي تمرر يدها عرضا على عنقها .. لتصيح حور بضيق ..
- نوووروووه .. افففففف منج .. كبري عقلج ..
- ماروم الصراحة .. هو ينمو بروحه .. مزنة منوه هالشيبة لي واقف وراج ..
و تظاهرت بالخوف مع تصلب مزنة الحذر ..
- يماااااه طالعووو ريوله .. ريول حماااار ..!
أطلقت مزنة صرخة خوف مروعة و هي تبتعد قبل أن تتلفت حولها .. و هي تلهث باكية ..
- كذااابة .. نورة كذااابة .. حووور قوليلها تخوفنيه ..
قبل أن تقول حور شيئا تنهدت نورة و هي تعود للاستلقاء و رفع قدمها على الطاولة ..
- أنا هب كذابة .. كان وراج سيده .. و شفته يأشر يقول بييج يوم ترقدين .. أوووف ما شفتي ريوله كيف .. كانها ريولج مزنووه .. قصدي كانها ريول حماار .. طبعا انتي انسانه هب حماارة .. الا اذا انتي حمارة و انا مادري .. انتي حمارة ..؟؟
تقدمت حور لتنزل قدمها بقوة من على الطاولة و هي تنهرها مع ارتفاع صوت بكاء مزنة ..
- أقسم بالله يا نورة .. لو ما تودرين حركات النذالة هاي يا تندمين .. أذيتي البنية .. أذيتينا .. اففف .. خلينيه أسمع صوتها .. و الله لداويج ..
رفعت نورة حاجبا و عيناها تتعلقان بالتلفاز ..
- ما تلاحظين آنسة حور انج عصبية هالايام حبتين ..؟؟ اذا متضايقة من شي لا تفكين حرتج فيّه ..!
أغمضت حور عينيها تهدئ من نفسها ..
- يا صبر أيوب .. متى حطيت حرتيه فيج آنسة نورة ..؟
أجابت نورة بسرعة ..
- ما حطيتي حرتج .. بس انتي على وشك فعل ذلك ..
صفقت بيدها بحماس ..
- سلااااامي بس على وشك .. مادري كيف طلعت وياي .. المهم .. بعدين حنانج على ناس .. أشوفج تراعين و ادارين عفرا .. و لو بيدج يبتي سعفة و يلستي تهوينها .. و نحن النا السب و الهزاب .. تقولين عيال البطة السوداا .. ما تسويلنا سالفة ..
شهقت حور بقوة ..
- أنا ما سويلج سالفة .. و منوه لي عاطنج اجازة اسبوع من شغل البيت عشان امتحاناتج يا الشيخة .. انا أستاهل .. لو فينيه الخير كان خليتج اتشلين دورج في المطبخ غصب .. لنج هب ويه يماله ..
- انزين هاي عفرا من شهر ما تسوي شي ..
- عفرا تعبانة .. تعرفين انها أمس ما رامت تنش من مكانها .. و تشتكي من ظهرها و بطنها ..
عادت صورة عفرا بيدها المتورمة و الكدمة الزرقاء على جانب وجهها أمام عيني نورة ..
كانت قد سقطت بالأمس في الحمام بقوة على يدها لتنال ضربة أخرى على وجهها ..
أما آن لحوادث هذه الحبيبة أن تنقضي ..!
- أدري و الله أدري .. بس أغاار أنا .. عطيني حنان ..
رفعت حور حاجبها ..
- و كيف أعطيج حنان ان شا الله ..
قالت نورة بابتسامة واسعة ..
- ابتسامة .. ضمة .. كلمة و لا جبر خاطر ..
قطبت حور ..
- انقلعي زين .. يوم بملك عليج ذكرينيه بس ..
ضحكت نورة و هي تتنهد ..
- لو أنا عفرا .. كان عطيتينيه حنان .. بس شوه نقول ..
لوحت حور بيدها ..
- خلي عنج .. يوم انج فاضية نشي شوفي لج شغله ..
رمشت بأهدابها في براءة ..
- عنديه امتحان علم نفس .. لا تنسين انيه ثنوية عامة ..
- عندج امتحان علم نفس يام ثنوية عامة و يالسة هنيه ..؟
التفتت نورة للتلفاز ..
- هيه أغير جوو .. لو أنا عفرا كان خليتينيه أغير جوو ..
و ضحكت بصوتٍ مرح ..
- شكليه بعلق عليها ..
ثم استقامت في جلستها بسرعة و حور تتوجه للمطبخ ..
- لو أنا عفرا كان عطست ..
و عطست بقوة .. لتعقب العطسة بمدة طويلة متعمدة ..
- تشووووووووووو هووووووووووووو ..
ثم حكت أنفها ..
- لو أنا عفرا كان قلت الحمد الله .. وين مزنة .. أخخ .. شردت .. ما عليه اليايات أكثر ..
ثم وقفت لتطفئ التلفاز و تتوجه لغرفتهن ..
أمام مقبض الباب مباشرة توقفت يدها عن المسير ..
ببطء .. ببطء ..
راحت تتصاعد ..
تتضخم ..
ثم ،،
تبخّرت تلك الابتسامة المرحة و عبرة كالشوك تسد حلقها ..
ثقل هبط على قلبها .. و هي تزيح كل شيء جانبا .. و صورة وجه أختها تطفو أمامها في الفراغ ..
ما الأمر ..؟
أين رونق الحياة ..
بريق من الإحساس ..
لماذا لا ترى في مقلتيها إلا انعكاس الإنطفاء ..؟
كيف أصبحت فجأة مجرد طيف باهت .. يعمل على أوراق الدراسة بلا كلل ..
يحصر وقته في صمتٍ بين دروس تعزله عن العالم ..
ذاك البهتان لا يعجبها .. تكره خطوط يأس بلا معنى تحفر في أيام اختها ..
في كلماتها ..
في ضحكاتها الباردة ..
ابتسامة أصبح لها رنين صدئ ..
لا تحمل للفرحة صوت ..
ما الأمر ..
أصبح هذا يزهق أرواحهم جميعا هنا ..
يقتلهم مرارة على حالها ..
صدقا أختي .. ما الذي فعلها .. او من فعلها ..
من دثركِ تحت أتربة أحزانٍ مجهولة ..
.
.
ليش قلبج يا بعد عمري حزين والله مب لايق عليج هذا الزعل
يا حلاتج يوم انتي تضحكين.. افتحي قلبج وقولي وش حصل؟
من تجرأ من قطف هالياسمين؟ من حرمه الزين قبل لا يكتمل؟
منهو ارخص قيمة الغالي الثمين؟ ويدري انه في عيوني له محل
ومن يقول الورد ما يقطر حنين؟ ومن يقول اته وسط قلبي ذبل؟
.
.
ما نطقت بشي وانا ميت حزين.. والدمع من فوق وجناتي همل
قمت اشاهق ما ابي نوحي يبين .. كني خيل باعلى صرخاته صهل
.
.
في بعض الاوقات اقعد مستكين بس افكر لين يذبحني الملل
بالفعل قطفوا زهور الياسمين
قطفوا الزهرة قبل لا تكتمل **
* * * * *
عينيه القاسيتين كانت تجول في وجهيهما .. و جسده الكبير يستريح على الأريكة التي يألفها ..
هذا المنزل بشكل ما منزله ..
فيه فرد مهم من العائلة ..
و زوجته ..!
هه ..
أين هي هذه الليلة ..؟
إعتاد أن تهرول بلهفة كي تستقبله و تفتح الباب .. لا يرى لها أثرا الآن ..
رفض شرب القهوة .
و اكتفى باعتكاف الصمت .. عيناه تبحث عن إجابة ما لهذا الاستدعاء الغريب .. و لهذا التوسل الصامت في عيني ميعاد ..
و للتوتر الغريب الذي اكتسح جسد أخيها ..
لكن مهلا ..
ليس هو من سيسأل هنا .. سينتظر .. لا يهم كم من الوقت .. لكنهم سيتكلمون ..
و كأنما شعر نهيّان بما يفكر فيه استعجل بالقول و هو يفرك لحيته ..
- أكيد مستعيب ليش متصلبك يا بو سيف ..
رفع حاجبا .. و هو يهمهم بعدم اهتمام ..
- هممم ..؟
بدا أن هذه الاستجابة الباردة غير مشجّعة البتة ..
لكن نهيان تابع بصلابة أكبر ..
- الموضوع وايد مهم و ما كان ينفع إننا نرمس فيه بالتيلفون ..
هذه مقدمات تضجره .. لذلك التوت شفتيه بابتسامة باردة ..
- ارمس يا نهيان .. شعندك ..؟
صمت خيّم بعد هذه الكلمتين .. قطع أي طريقة للتمهيد .. لذلك مرت لحظات طويلة قبل أن يرفع نهيان عينيه ببطء ..
- يا غيث أنا اتصلت بمطوع اليوم .. و سألته عن حكم الزواج بنيّة الطلاق .. و قال إنه باطل ..!
تعلقت عينا الإثنين بوجهه الجامد الذي لم يبدو عليه أثرا واحدا لأي تأثر .. قبل أن يقول بهدوء ..
- انزين ..؟
قطب نهيان قبل أن يشرح ..
- زواجك بخولة كان بنية الطلاق .. يعني أول ما ترتبون أمور ميعاد كل واحد بيروح فطريقه ..
أعاد الكلمة بابتسامة كريهة ..
- انزين ..؟
شعر نهيان بأنه يستفزّه .. ضيق كبير راح يمد أوصاله بين أضلعه ..
أخذ نفسا عميقا و علة وشك شرح أهم نقطة ..
و أكثر جزء يضايقه في الموضوع .. شعر بأنه أمام ملامح غيث المتهكمة قد يرخص بأخته بشكل ما .. لذلك قال بقوة .. ليخرج صوته غاضبا بشكل ما ..
- الزواج باطل .. يعني لازم نصلّح الوضع ..
ضيّق غيث عينيه .. متجاهلا نظرة ميعاد الصامتة .. كأنها ستضغط عليه بشكل ما ..
- و كيف تبا تصلح الوضع ان شا الله ..
إنه لا يسهل الأمر أبدا ..!
أغمض نهيان عينيه لثانية قبل أن يفتحها و يقول بهدوء ..
- يعني لازم يكون الزواج طبيعي .. بنيّة شرعية .. في الارتباط و مواصلة الحياة ويا بعض ..
سحب نفسا عميقا مع اتساع ابتسامة غيث الماكرة .. قبل أن يستطرد ..
- و الا تطلق ..
أصدرت ميعاد صوتا متقطعا . قبل أن يسود الصمت ..
تعلّقت عينا الإثنين بوجه غيث .. الذي انحنى للأمام يسند كوعيه للركبتين و يعقد انامله بنظرة متكبّرة ..
.
.
تجنب متعمدا النظر لوجه عمته .. لن تؤثر فيه هذه المرة .. لن تفعل ..
تزوج تلك المرأة من أجلها ..
جميلة .. بل فائقة الجمال لا ينكر ..
لكنه لا يريدها .. يعلم كم هي متلهفة للحصول عليه ..
و لا يبالي بذلك البتة ..
لا تهمه ..
و هذه الخدعة الرخيصة التي يحاول أخاها من خلالها أن يحشره في الزاوية لن تنجح أبدا ..
لذلك تجنب النظر لميعاد و هو يرفع رأسه ليقطع السكون الذي جثم عليهم مطوّلا .. و يقول ببساطة ..
- خلاص .. و لا يهمّك ..
ثم هب واقفا و عينا ميعاد تسترخيان لبرهة .. فيما تلين ملامح نهيّان .. ليقول هو ببرود ..
- ورقة أختك بتوصلها باكر ..
شهقة ميعاد المصدومة .. و شحوب نهيان أكدت له أنهما كانا على ثقة بأنه سيضطر للزواج بها ..
لكنه لم يكن ليفعل ..
لديه إمرأة واحدة ..
لا تضاهي أختهم في شيء ..
لكنها تكفيه ..
و ليس بحاجة لغيرها ..
لذلك استدار بهدوء حين شعر بثقل دموع ميعاد .. و الخيبة التي علت وجه نهيّان تؤنّبه ..
ترك مكانا هنا ..
سيجد صعوبةً في العودة إليه لاحقا ..
.
.
أطرق الهدب وجعا .. لتنزلق تلك العبرتين الدافئتين على وجنتها ..
لم تلتفت لأخيها ..
لا داعٍ لذلك .. فلا ينقصها أن يمزقها اللوم على محيّاه ..
كل لديها فتات ..
القليل .. القليل من الأمل ..
بأنه سيكون شهما .. و لم يتخلى عن أختها بهذه البساطة ..
حتى و لو كان هو من فرض تلك الحدود سابقا ..
شعرت بأن رجولته قد تمنعه من تركها ..
رغم تجاهله إياها .. رغم نفوره ..
خيط من رجاء انقطع الآن بلا مبالاته ..
كيف لخولة أن تواجه الأمر ..
كيف ..؟
و كيف لها هي أن تعيش مع الذنب الذي راح يخنقها ..
يكتم أنفاسها ..
رحماك يا ربي ..!
.
.
.
.
عينيها تخترقان النافذة الزجاجية و هي تراقبه بحب ..
ظهره العريض يوليها إياه و هو يمشي بتلك الطريقة الواثقة ..
يقطع الطريق لسيارته المتوقفة أمام البيت ..
قلبها يخفق بعمق .. ما يحمل هذه الليلة ..
هل أخبروه ..؟؟
تضخم الخوف مجددا في صدرها .. و اللوعة ..
توسلت ربها أن نهيان تراجع و لم يخبره بالأمر ..
و تعلقت عيناها بلهفة تلقي نظرة أخيرة على ملامحه التي بدت غامضة إثر المسافة و الظلام ..
حين راحت السيارة تتراجع في الطريق الداخلي لخارج المنزل بسرعة .. ارتعش فؤادها وجعا ..
و هي تخنق دموعها باستماتة ..
شيء ما أنبأها بأنها تراه للمرة الأخيرة ..!
لذلك تلامس بأناملها الناعمة برودة الزجاج و هي تغمض عينيها ببطء ..
آذنه لدمعة باردة أن تنزلق على خدّها الصافي ..
هل علم بالأمر ..؟
ما الذي سيقدم عليه ..؟
سيتركها ..؟
هل سيفعل ..؟
.
.
ليه أحـــس إني وأنا اشوفــك حزين
وقــلبــي الـلـيـلــه بــهـــمــي ممتـلــي
كانهـــا الفــرقى طلبـــتك حـــاجتين
لا تـــعــلــــمنــي ولا تـــكـــذب عـلــيّ
خـلنــي مــا بـــين شكــي والــيقيــن
الــسـكــوت رضـــــاي عنــك وزعلــي
بــاكــر الـلــي خـــافــيٍ لازم يبيــن
والــوعــــد بـلقــى مكـــانك بــه خلــي
وانتظــــــر لــي ليلــة او لـــيلتيـــن
لين مـا يـقـفـــي الـسحــاب وينجلـــي
ولا طويت اليـــاس بـذرف دمعتين
للـهــوى الــغــــالــي وبـا وادع هـلـــي
صاحبي بمـــــوت من كثر الحنيـن
خــلـنــي بــخـــتـــار لــحظـــة مقتلـــي .. **
.
.
انتفضت مع طرقات الباب الذي انتشلتها لتمد أصابعها الطويلة مرتجفة و تمسح دمعتها تلك ..
قبل أن تبتلع حزنها و تجلي صوتها الرقيق ..
- امنوه ..؟
أجابها صوت نهيّان الأجش ..
- أنــــا ..
خطت بسرعة نحو الباب تفتح لأخيها .. انتفض قلبها ذعرا من تلك النظرة المتجهمة على وجه أخيها الصامت ..
حدّق فيها لبضع ثوانٍ مؤلمة ..
قبل أن تنزلق الكلمات من شفتيها ..
يائسة .. يائسة .. يائسة ..
- خبرتوه ..؟
انتظرت بأسى قبل أن يومئ نهيان برأسها .. و بريق الحزن في عينيه ..
لم تسأله هذه المرة ..
وحده غرس ذاك النصل في روحها ..
- يقول ورقتج بتوصلج باكر ..
.
.
انفجر قلبها ..
شظايا تبعثرت في جوفها آلاف القطع ..
لتشد على الباب بقوة حين راحت قدميها تعجزان عن الوقوف ..
و تعتصر جفنيها باستماتة ..
تمنع طوفانا من الدموع كان على استعداد للنزف لحظة الرحيل ..
لم يفكر حتى في الأمر ..
آثار زهق الأمل ببساطة و تحطيمها ..
.
.
إلهي ..
لا تريد أن تنفجر الآن .. لا تريد أن تتهاوى الروح في لحظة الذل هذه ..
لا ترغب في أن يركع الإحساس متوسلا بقاءه ،،
هي أبوابٌ للرحيل شرِّعت ..
هي مواكب للمضي تنتظر ..
تنتظـــــر ،،
تنتظــــــــر ..
و موطن في الروح استفحل فيه حبه ..أراد أن يُقتَطع منها ..
ليلتصق بظله الذاوي الذي استدار دون أن تراها ..
يهديها التفاتة ظهر أقفا .. عازما الإبتعاد ..
.
.
يمنحها أمنية كاذبة ..
و دمعة ..
و رحيل ..!
* * * * *
( و بهذا فكل إرتفاع للدخل لا يعني سوى إتساع ابتسامة التاجر الجشعة .. و ثقل جيبه .. هل يزداد مدخول الفرد هنا .. أم ان المقصود ليس إلا ازدياد ارباح المنتج .. و كيف للمستهلك سد حاجاته مع تزياد الاسعار الذي راح يلتهم الاخضر و الاحمر من العملات النقدية .. تلك البيضة الذي قد يحتاجها الطفل لاكمال هرمه الغذائي
.. او ليس من الاجدر استبدالها بدجاجة تسكن السطح ليضمن الواحد منا على الاقل ان الدجاجة لن ترفع انفها مطالبة بزيادة في الحَب مع كل فلس يضاف لتحفيزنا .. ام ان الدجاجة اصبحت حكرا على التجارات الداخلية ايضا .. اذ لن يضري نساء – الفريج – ان يخفضن نصف القيمة و تقديم عروض خاصة على كل بيضة تباع بين الجيران .. كيف لنا مقاومة طوفان ارتفاع الاسعار يا ترى .. لن ترك اعمالنا بلا شك لمقاطعة المنتجات و زرع ما نحتاجه في - حوش - البيت هذا ان استطاع اطفالنا مقاومة اقتلاعها .. حتما سياتي الوقت الذي نجد فيه ان كيس - الصمون - ليس سوى رفاهية لا تحتملها الميزانية .. هل سنجد حينها فنون زوجات الجيل الجديد في صنع - الخبز رقاق - نافعة ..!! )
.
.
- ساخر ..!!
قالتها بابتسامة و حاجب مرفوع .. قبل ان تلتقط كوب القهوة لترتشف منه جرعة كبيرة .. القت نظرة لا مبالية على ساعة يدها .. قبل ان تتسع عينيها بدهشة .. تجاوزت الساعة فرصة الغداء .. التفتت للمكتب الخالي جوراها .. كانت زميلتها قد تركته بصمت ..
الحقيقة انها لم تبني علاقة طيبة مع هذه الزميلة التي تشاركها الغرفة اطلاقا ..
بل رفضت ان تتدنى للتفكير حتى في التبادل مع تلك العجوز صاحبة النظرة المنتقدة .. رغم يقينها بانها لا تتجاوز الخامسة و الثلاثين الا انها بدت في الستين بحجابها الثقيل و ذاك الوجه الجاف .. و تعاملها الرسمي الكئيب .. لن تنسى عوشة قط نظرتها المتمعنة و لمعان الاحتقار في مقلتيها حين التقتها للمرة الاولى .. تلك البلهاء .. لا تعلم ان بامكان عوشة ان تشتريها و تشتري كل هذا المكان بنفوذ عائلتها ..
هه .. تلك الغبية ..
رغم هذا كله لا تنكر انها تسبب لها ازعاجا كافيا مذ حلت مقيمة في هذا المكتب ..
استطاعت استبدال مكتبها بواحد جديد و جهاز الحاسوب القديم بواحد أكثر حداثة ..
تشعر بتفوق مع ابراز كل تلك المزايا التي تمتلكها و يقدمها المال بسهولة ..
ربتت على سطح المكتب باناملها البيضاء الناعمة في رضا ..
لن تنكر ان جمالها يلعب دورا خلاقا هنا .. فرغم هذه العباءة المغلقة ،، و شعرها الذي تدسه بعناية تحت غطائها ..
إلا أن ملامحها الفاتنة لا تخطئها النظرات الملهوفة ..
تلك العجوز الشمطاء تكره نظرة الموظفين المعجبة لعوشة ..
خصوصا ..
أوه او كان عليها ان تفكر فيه ..
ها هو المغفل الوسيم اتى يهرول على عجل .. و نفس النظرة الجائعة تبرق في عينيه .. ليستند على حافة الباب بجسده الضخم ..
- مساء الورد ..
قالها بصوت تعمد ان يكون خشنا .. فيما تنهدت عوشة ..
المغفل .. انه قد يبدو كالذبابة امام غيث ..
لكنها اجباته بنعومة و هي تهب من على مقعدها في احترام كاذب تخفض اهدابها الطويلة في خجل مصطنع ..
- مساء النور .. هلا استاذ فلاح ..
ارتكزت عيناه النهمتين على تفاصيل وجهها المكشوف .. و قد ساعدت عباءتها السوداء و غطائها الداكن ذو النقش الوردي في ايضاح اللون الزاهي الذي صبغت به وجهها ايضا .. قبل ان يقول ببطء ..
- هلا بج زود .. شحالج انسة عوشة ..
- يسرك الحال استاذ .. احم .. شحالك ..
بدت ابتسامته جشعة بشكل ما .. اشعرتها بالقرف ..
- بخير يعلج الخير .. حصة وينها ..
القت نظرة اشمئزاز على المكتب الخالي بجانبها ..
- ظهرت تتغدا ..
- و انتي ..
- انا شوه ..
- ما بتتغدين ..
كانت تهدئ نفسها بصبر .. لازال بامكانها احتمال ثقل ظله قليلا .. لا تنكر انها تستمتع بهذا الاعجاب .. و لكن ان حاول ان يتمادى معها .. ستكون سعيدة بان تريه حجمه ..
اوه كم سيرضيها ذلك .. لذلك تخلت بهدوء عن خجلها الخادع و هي ترفع حاجبا ..
- لا .. اسوي ريجيم ..
حدج جسدها الملفوف بالعباءة بنظرة متمهلة قبل ان يعلق بخبث ..
- ما شا الله .. ما يحتاي ..
نفسا عميقا .. و نظرة محتقرة متكبرة .. قبل ان تقول و هي تنظر له بتعالي ..
- استاذ فلاح .. عندك شغل هنيه ..
ابتسامته الخبيثة لم ترق لها ..
لم ترق لها البتة ..
- مشغولة ..
ردت بوقاحة ..
- عطلتنا ..
ضحك بملئ فمه ..
- عطلتج .. عن شوه .. انتي ما عندج شغلة احين الا متابعة مقالات الكتاب الكبار عدنا ..
صرت على اسنانها بغيظ .. تكره ان يذكرها احد بذلك .. بدت و كانها تافهة بلا قيمة ..
- ما عليه اسمحليه استاذ .. لكن المقالات مالت الكتاب الكبار لي - و ضغطت على الاحرف بحلاوة زائفة - عندكم و اتابعهن اهم عن سوالفك الفاضية ..
فجاة اختفت ابتسامته الكريهة ليتصلب جسده الضخم و انتصب ليبدو اكثر طولا ..
- سوالفيه فاضية .. ما شوفج اشتكيتي قبل ..
و راح يمرر عيناه عليها من القمة الى القاع .. شعرت بشكل ما ببؤس غريب ..
لماذا حشرها في زاوية رخيصة بتلك النظرة المحتقرة .. جلست على كرسيها بهدوء .. و اشاحت بنظرها للجهاز امامها ..
تستطيع ردعه برد لاذع .. و لكنها احجمت عن ذلك ..
تكره ان تكتسبه عدوا لها .. و هو من الادارة .. هذا التافه .. الحثالة ..
لن يستطيع ان يجمع ربع ما يملك والدها و لو سعى لذلك طوال عمره ..
تعلم ان خلف هذه الثياب الفاخرة .. و المظهر المنهدم فقر مدقع ..
راحت تصدر صوتا عصبيا باظافرا على سطح الطاولة .. فيما يحدق هو فيها دون ان يرفع عينيه ..
فجاة شعرت بانها ستقفز لتقتلع تلك الكرتين النهمتين من مقلتين .. السافل ..
لكنها نظرت نحوه بادب لتقول بهدوء مستفز ..
- استاذ فلاح .. المكتب مكتبك .. لو عندك شي لا تخلينيه اشغلك ..
مرت لحظة متوترة قبل ان يرميها بابتسامة غريبة كرهتها .. و يستدير تاركا اياها لوحدها .. لتسحب نفسا مجنونا ..
تبا له .. تبا له ..
يخيفها كما يفعل الكثيرون باهتمامهم المتحذلق ..
لا تبالي و ان ابدى الملايين اعجابهم ..
اللعنة ..
لا تكترث ..
لا تريد سوى رجل واحد ..
رجل لا يتقن سوى تركها في منتصف الشوق ..
تنهدت ببطء .. الأحمق .. حتما سيأتي اليوم الذي يتلهف هو الآخر لها ..
تشاغلت بما يلمع في الشاشة من كلمات ..قبل ان تتلفظ بالإسم مرة أخرى ببطء ..
- قلم حر .. آمممم ..
ضيّقت عينيها بحدّة ..
غمار الكلمات الذي تخوضه مع هذا القلم مجنون ..
لا شيء تخرج به كالمتعة التي تخلّفه مقالاته الجريئة..!
* * * * *
هوت قبضته على المكتب بقوة و هو يصيح بصوتٍ رددت صداه الجدران لامرتفعه بغضب ..
- كيف ما لقيتوووه ..!!!!!
فرك بطي يديه بتوتر و هو يتجنب النظر لوجه رئيسه الذي احمرت عيناه بغيظ ..
- ما قلت ما لقيناه .. بس نحن مراقبين المكان من اسبوعين و الريال ما ظهر صوب هذاك البيت ..! تيلفونه بطاقة مدفوعة ما انروم نراقب فاتورته ..
- و رقم لوحة السيارة ..؟
- ندورها .. بس يبالنا شوي وقت .. طال عمرك انته قلت انك ما تبا حد يحس انك تباه .. و نحن متكتمين على الموضوع .. بس لو تعطيناا وقت شوية ..
صاح غيث بقهر ..
- وقت .. كم من الوقت تبون .. من اسبوعين و انتو ادورونه و الين الحين ما لقيتوووه ..
صمت بطي دون أن يرد عليه .. خشي ثورة غيث الذي راح يدور في المكتب بجنون ..
ذاك الحثالة لا يزال طليق ..
هاربا ..
هل يعلم بأنه قد اكتشف الموضوع ..
أ لذلك لاذ بالفرار و لم يستطع ايجاده حتى الآن ..؟
شعر بشيء شيطاني يتلوى داخله ..
سيجده .. حتما سيفعل ..
و حين ينال من تلك الحشرة ..
سيسحقه ببطء ..
سيرى كيف يكون الموت مجرد أمنية ..
حين يواجه مصيرا أسوأ من الموت ..!
* * * * *
تدير عينين ضجرتين في أرجاء المقهى الجامعي .. و هي تسترخي في مقعدها الخشبي .. قبل أن تعود لتستقر على شاشة هاتفها التي أضائت معلنة عن مكالمة صامته .. فتلتقط هاتفها فورا ..
- هااا هدوي .. مساعة يالسة أرقبج .. هيه في الكوفي ..
أغلقت الهاتف دون كلمة أخرى .. أحسنت فعلا بالإحتفاظ بتلك الفتاة كرفيقة ..
فلولاها لوجدت نفسها تتخبط وحيدة .. تكره أن ترى تلك - الحمدان - أنها بلا أصدقاء دونها ..!
شخصت بصرها نحو باب المقهى الذي دُفع للتو ترتقب دخول هدى .. لكن عيناها تجمدت على تلك المجموعة التي دلفت للتو ..
هه .. ماذا ..هل تجسدت أفكارها يا ترى ..؟
لم تخطئ عيناها التقاء تلك النظرات الكريهة التي سلّطت على وجهها مباشرة ..
و لا ذاك الوجه الذي كشّر أمامها باحتقار ..
جمدت ملامحها بلا مبالاة واضحة و هي ترفع حاجبا متحديا .. قبل أن تتقدم حمدة مع المجموعة التي تحيط بها و تجلس على طاولة ليست ببعيدة منها ..
لحظات فقط لتجد شيخة نفسها تبذل جهدها لتجاهل وجودهم .. فقد أخذن يضحك بصوتٍ عالٍ حين راحت حمدة تلقي بتعليقاتٍ خبيثة و عيناها لا تفارقان شيخة .. تحاول شغل ذهنها بأي شي .. لتصم أذنيها عن وقاحة حمدة و تنسى تلك النظرات الفضولية و المشمئزة التي توزعت بين طاولتها و طاولة حمدة ..
لن يفيدها حقا أن تنقض على تلك الفتاة و برفقتها ما يقارب العشر فتيات ..!
كانت يداها قد تقبّضت بقسوة .. و تصر أسنانها .. تأخرت هدى .. تأخرت كثيرا ..!
صوت حمدة راح يدفع صور شتى لذهنها .. تلك الرؤى المشوّهة ..
أمام عينيها الغائمتين الآن .. أوجــه ممطوطة .. و أصوات شتى تتداخل في ذهنها .. ضحكات .. و همس قبيح يدنو من أذنها ..
قهقهات مزعجة تمتزج بذاك الصخب الذي اعترى روحها ..
حين راحت الأنفاس تتصارع في صدرها ..
و قبضتها تشتد ..
نبضات قلبها راحت تضج في أذنيها .. تصمّها عمّا حولها ..
فيما يرتخي جفنيها ببطء ..
ببطء ..
تلك الظلال الثقيلة تكسو كل شيء أمـامها ..
تجثم على روحها ..
تثقل عليها .. و قد بدا أن كل شيء راح يتحرك ببطء ..
ببطء ..
- شيخة ..؟؟!!
انتفضت و قد انتشلها الصوت المتساءل من ذاك المستنقع الذي كانت تغرق فيه منذ لحظات ..
لتجحظ عيناها في حملقه غريبة ..
قبل أن يعود الصوت ليتساءل مجددا من خلفها ..
-شيخة علي ..؟ شيخة علي سيف ..؟؟
أدارت رأسها ببطء اتجاه مصدر الاستفهام .. وهن غريب اعترى روحها و هي ترى ذاك الوجه الغريب .. استطاعت بأن تخرج صوتها الغليظ أجشا ..
- نعم ..؟
قالتها و هي تنظر للفتاة الواقفة خلفها .. جالت ببصرها على جسد الغريبة السمين ..
من هذه ..؟ احدى صديقات حمدة ..؟
التفتت نحو طاولة الأخيرة باحتقار مرّ .. قبل أن تقول الفتاة بصوت طفلة مبتهج و ابتسامتها تتسع لتنتفخ أوداجها بسرور ..
- و الله شكيييت انيه غلطانة ..!!!
ثم انحنت تسلم على شيخة بسرعة .. فيما بدا العجب يخالط الضيق على وجهها ..
- شيخووووه .. تغيرتي .. لو ما سمعت اسمج في المحاظرة اليوم .. ما عرفتج .. قصيتي شعرج يا الهبلة ..
كانت كلماتها واضحة .. متضايقة ..
- منوه انتي ..؟
اتسعت عينا الفتاة قبل أن تضحك مجددا ..
- كلوديا شيفر .. أفاا .. ما عرفتينيه .. بس ما لومج .. شكل الريجيم عطى مفعوله ..
و أطلقت ضحكة مبتهجة اخرى .. واحدة رنّانة دفعت الكراهية لوجه حمدة التي كانت شيخة تختلس النظر اليها ...
- شيخوووه .. ما عرفتينيه ..؟
ضاقت ذرعا بهذه الفتاة ما خطبها .. من هي ..؟
- لاااا ..
- صدق هوش و ما تبين في عيونكن يماله .. خاصتن انتي يا أم مديحة ..
تلعثمت شيخة بحيرة ..
- أم .. مديـ ..
قبل أن تتسع عينيها بدهشة كبيرة و هي تتساءل بعدم تصديق ..
- أسماا ..؟ أسماا خميس ..؟؟
ضحكت الفتاة بانتصار ..
- و الله ما تين الا بالسب ..
لم تكن تنظر شيخة أو تهتم بوجه حمدة التي راحت تراقب المنظر من بعيد بتعبير مبهم ..
كل ما يهمها هو ..
حقا ..
من أين أتت هذه الفتاة بعد تلك السنوات ..!!
* * * * *
تدفق السائل الأبيض من فوهة الإبريق ليملأ الكوب .. يتصاعد البخار منه و نورة تمرره لحور التي كانت تجلس بجانب عفرا على فراشها .. و هي تهز كتفيها ..
- من ناحية زعلانة .. فأنا زعلانة .. و وايد زعلانة .. بس هب لا زم أصيح عسب يعرفون الناس انيه حزينة يوم بفارق بيتنا ..!
ثم التقطت قطعة خبزٍ ساخنة و هي تقضمها .. ثم تنتفض بتمثيل ..
- بناات و الله البرد موت هالمرة ..!!
هزت دانة رأسها موافقة و هي تحتضن كوبها بين راحتي يدها لتدفئها ثم تضعه على رجلها ..
- آآآه .. و الله صدق برد .. يقولون شبه الجزيرة العربية بينزل فيها ثلج عقب عشر سنين ..! بس هالمرة البرد خايس .. أول نستانس يوم نشب الضوو ..
ارتشفت رشفة من كوبها بشيء من الألم ..
- الله يرحمك يا بويه .. وايد أشياء تغيرت ..!!
قالت حور ببرود .. و هي تراقب المها التي راحت تخط بقلم على كتاب كبير بين يديها ..
- بعدج ما شفتي شي .. وايد أشياء بتتغير ..
ابتسمت نورة بهدوء ..
- قصدج يوم بننتقل ..؟
التفتت حور لعفرا و كأنها تسألها رأيها ..
- و الانتقال شي هين ..؟ كل شي بيتغير .. بيتنا .. و الناس لي حولنا .. طريقة حياتنا .. كل شي ..
ردت عفرا بهدوء .. و نظرة جامدة ترتسم على وجهها الشاحب ..
- و لو اتغير كل شي .. ما يهم .. أهم شي يحافظ الانسان على نفسه .. و ما يتغير لن الظروف لي حوله تغيرت ..
اتسعت عينا دانة باهتمام ..
- لا حبيبتي .. التغيير مطلوب لو كان القصد منه التأقلم مع ظروف حياتنا المطلوبة ..
عقدت عفرا جبينها بتعب ..
- ما اختلفنا .. شرط انج ما تغيرين مبادئج و تسلخين نفسج عن كل شي كنتيه .. لنج تبين تتأقلمين مع الجو لي حولج .. يعني لو ما توافقت روحج مع الظروف بتغيرين ذاتج ..؟
هزت دانة كتفيها ببساطة ..
- يمكن .. هاي حور غيّرت ذاتها ..!
أخفضت حور الحليب الذي كانت تشرب منه ..
- متى غيرت ذاتي يا الهبله .. و اشدراج انيه غيّرت ذاتي أصلا ..؟
التقطت دانة خبزة و هي تأخذ نفسا عميقا قبل أن تقول بحذر ..
- أدري .. يعني انتي ما تحسين انج غيرتي ذاتج ..
شخرت حور ساخرة ..
- أقول دانة علمي .. تعرفين أصلا شوه غيرت ذاتي يعني ..؟
- يمكن لا .. بس انتي غيرتي وااايد من أفكارج و قناعاتج ..
عقت حور ذراعيها باستهزاء ..
- انزين يا فيلسوفة زمانج .. و كيف غيرت أفكاريه و قناعاتيه ..؟
أصبحت دانة أكثر دقة الآن ..
- تبينيه أقول ..
- قولي ,,
- و لا بتعصبين ..؟!
- شوه بتسبينيه ..؟
- لا ..
زفرت حور بضيق ..
- ارمسي زين ..
أجالت دانة نظرها فيمن حولها بفخر ..
- انتو شاهدين .. غصبتنيه أرمس .. - ثم رفعت حاجبها - و جنت على نفسها براقش .. اسمعي مدام .. حور .. في نقطة فاصلة في حياتنا .. توقفتي انتي عندها .. و ودرتي وايد أشياء .. و يوم تجاوزتيها كنتي غير .. يعني غير عن حور لي نعرفها ..
ضحكت نورة ..
- يا عيني .. شهالتعبير ..
- جب .. عدنيه ما خلصت .. انزين حور .. خلينا نعتبر موت أبوية النقطة .. قبل ما يموت .. كنتي مغصوبة على ريلج .. ما يعنيلج شي .. و ما تحبين طاريه .. أهل أبويه .. ضمير غايب .. ما نرمس عنهم .. ما ندري بهم ..
ثم ضغطت على مخارج الأحرف مع نظرة الإهتمام التي راحت تعلو وجوههن ..
- و ما يعنون لنا شي .. كنا وايد نضحك .. و وايد نلعب .. مع انه ابويه ما يحب هالشي .. عايشين حياتنا يعني ..
سألت عفرا بصوتٍ مبحوح ..
- و الحين ..؟
لوحت دانة بيدها ..
- لأ .. بعدنا ما وصلنا النقطة المهمة .. يوم توفى أبويه كل شي تغيّر .. أهل أبوية دخلو في السالفة .. في يوم و ليلة .. صاروا هم أهل الميت .. و العزا فبيتهم .. عيالهم يراعوناا .. و بنتهم تزورنا .. و أخيراا .. ريل بنتنا لي مالك عليها سنة و نص .. يظهر على الساحة و يسكن عدنا .. و يتقرب منا ..!! و فوق هذا كله يبونا نسكن وياهم الحين ..
حكت نورة ذقنها بتفكير و هي تقاطع دانة ..
- هيه و الله أنا حتى فكّرت .. و قلت لج دانة تحيدين ..؟؟ ليش ما يكون أبوية هو لي كان الحاجز لي بيناا و بينهم .. و عقب موته هالحاجز انهار ..
ثم هتفت بسرعة .. حين رأت التجهم و الغضب على وجه أخواتها باستثناء المها التي كانت لا تزال تنظر للكتاب الذي بين يديها بشرود ..
- حوووه لا تفهمنيه غلط .. أنا قصديه .. يمكن كانوا خايفين من أبوية .. و الا أبوية هو لي رافض قربهم .. بس ..!
استرخت حور في مكانها دون أن تفارق عينيها الضيقتين وجه دانة ..
- انزين آنسة دانة .. و كيف غيرت قناعاتي ..؟؟
رفعت دانة سبابتها و هي تقول بتحذير ..
- انتي قلتي ما بتزعلين ..
أومأت حور برأسها ..
- ما بزعل .. اتحفيناا .. دانة علمي ..
فردت دانة أصابعها تشير لها ..
- واااحد .. كنتي ما تدانين قوم يدي .. أهل أبوية تكرهينهم .. كم مرة رغتي ولدهم من البيت .. هذاك شسمه ..؟ مادري .. المهم .. و الحين ..؟؟ الحين بننتقل بيتهم .. بنودر بيتنا و بنعيش وياهم .. و انتي .. يعني ..
ترددت قبل أن تقول بسرعة ..
- عادي عندج حور ..!!!!!
رفعت حور حاجبها ببرود .. فيما استمرت نورة و عفرا في مراقبة هذا الحوار المثير للاهتمام ..
- و اثنين ..؟
- اثنين .. ما كنتي تحبين طاري ريلج .. لي ملك عليج و من سنة و شي ما شفناه .. فجأة غديتي تيلسين وياه .. ترمسينه .. تروحين له .. يعني ..مادري .. - ثم سألت بحذر - تحبينه ؟؟
إحمر وجه حور على الفور .. و صوتها يتحشرج ..
- ما يخصج .. خليج في تحليلج ..
لكن نورة هي من تكلّم الآن بحماس ..
- تونيه قلت لكن .. يمكن أبوية كان الحاجز .. يمكن هو ما خلى غيث يتصل بحور و الا يشوفها ..؟
أمسكت حور رأسها ..
- نورة دخيل أمج .. انتي و تحليلاتج الغبية .. لو ما يباه يتصلبيه و الا يشوفنيه .. ليش يوزني اياه غصب ..؟
صفقت نورة مجددا ..
- يمكن أبوية ندم .. و الا يبا يتحدى أبوه .. و الا ..
قاطعتها حور بغيظ ..
- و الا يمكن هذا لي فراسج قوطي صلصة هب مخ .. اففف ..
مطت نورة شفتيها تصب لها كوبا آخر من الحليب ..
- أنا أستاهل .. يوم انيه أحلل الكن الموضوع .. اشوفج مستانسة برمسة دانة ..
ربتت حور على صدرها بسرعة .. و هي تقول بغية اسكاتها ..
- انزين آسفين أخت نورة .. دانوووه .. خلصينيه .. تراج بتسيرين تودين كشرة المطبخ انتي و نورة ..
ارتخا كتفي دانة باحباط ..
- حووور .. الدنيا تمطر الحين ..
-لا .. لا .. وقف المطر عقب المغرب .. بسرعة .. و ثالثا ..؟؟؟؟؟؟؟
صمتت دانة لبرهه قبل أن تقول بتفكير ..
- ثالثا .. انتي تغيّرتي .. يعني أول تصارخين .. و تضحكين .. تلعبين .. و ترابعين في البيت .. مادري .. أحسج الحين هادية .. وااايد هادية .. هب حور لي نعرفها قبل ..!!
نظرت لوجه حور الجامد للحظات طويلة .. اعقب كلام دانة صمت بارد .. فيما شعرت حور بنظراتهن تتعلق بوجهها .. حتى المها الصامتة راحت تراقب الوضع الآن ..
أعادت حور كوبها للصحن أمامها ببطء شديد .. قبل أن تعتدل مرة أخرى .. أجالت بصرها فيهن .. ثم ركّزت نظرها على دانة ..
- أولا .. دوام الحال من المحال .. الشي لي مرينا به هب شويه .. أبويه فجأة يموت .. و أميه تعبانه .. و أنا أروحيه لازم أدبر حاية البيت و خوانيه .. و أراعي أمي المريضة .. أصعب فترة مرت بيه كانت هاييك الفترة .. حسيت انيه عاجزة .. و خايفة .. شكيت انيه يمكن ما أعرف أدبر عمريه .. و لا أدير البيت و لا أربي خوانيه .. منوه بيصرف علينا .. و المعاش بالموت يسد البيت ..؟ منوه بيتابع نايف يوم يكبر و بيغدي ريّال .. امنوه الرقيب عليكن .. منوه بيربيكن و بيوزكن ..؟ يوم توفّى أبويه .. طاح كل شي كان يشلّه على ظهره .. مسؤوليات و حمل ما كنا نقدره .. و لقيت عمريه لازم ألعب هالدور .. بس كيف ..؟ أنا اروحيه كنت خايفة ..
ابتلعت غصّتها و احساسها بالألم يأتي مع تلك الذكريات ..
- وايد خايفة .. غير الحقد لي حسيت به يوم العزا ما كان فبيتنا .. كرهت العالم .. و كرهت أهل أبوية .. حسيت انيه ما شوف الا سواد الدنيا .. الحزن .. الكره .. و مستقبل قداميه ما أعرف شوه يايب ليه وياه ..
عضت نورة على شفتيها بقوة .. و نظرتها الممزقة تحكي أي وجع خلّفته كلمات أختها ..
- فيه حد قاليه عقب موت ابويه الله يرحمه .. ان كرهي للغير ما بيفيدنيه .. لكن التسامح يمكن يجنبنيه المشاعر الخبيثة لي يمكن أحس ابها .. الرمسة هاي يوم انقالت ما عنتليه شي .. بس عقب فترة فكرت ابها .. يوم قوم ابوية تدخلوا فحياتنا .. كنت أبا أطردهم .. اباهم يبتعدون عنا .. و يتمون ناسينا .. بس مع الوقت عرفت انيه هب قدهم .. هم أعمامنا .. و أحق ابنا .. و أي ريال فيه نخوة ما بيخلي أهل أخوه بلا والي .. أول مرة حسيت بسلطة العم ..!!! بعدين .. رياييل .. و كبار .. و أهل خير .. ما يصعب عليهم شي ..
التفتت لدانة بابتسامة حزينة ..
- يعني الاستسلام حزتها ما كان الا تفكير سليم .. لو تميت أعاندهم شوه بيصير ..؟ بيينيه طراق يطير مخي .. و لي يبونه غصب بيصير ..! أنا مادري بظروفهم .. و لا بظروف القطاعة لي بينا و بينهم عسب كذيه شفت انه من الأفضل انيه أفهم كل شي حوليه قبل لا أحكم ع الأمور .. بيتمون أهلنا .. لو بينا و بينهم ثار .. أمايا تقول انها ما تعرف شوه السالفة .. مع انيه أشك انها يمكن تاخذ ريال بدون ما تعرف أسراره .. و أمايا عذيجة نفس الشي .. فيه شي صار.. و محد يبا يرمس عنه ..! بس أكيد بعرف شوه هو ..
ثم تساءلت بألم ..
- بعدين منوه قال ان موضوع انتقالنا عادي ..؟ أنا أعرف السالفة هاي من يوم سكن غيث عدنا .. كم .. سبع شهور ..؟ سبع شهور و أنا على نار .. هب رايمة أرمس .. و لا أخبركم ... تعرفين شوه يعني أخلي البيت لي عشت فيه .. كبرت فيه .. و تيتمت فيه ..؟ و أنا أدري انه حياتنا كلها بتتغير .. بس ساكته .. لا تحكمين على شي ما تعرفينه ..
أصبحت أكثر هدوء و هي تخفض بصرها .. تعقد أصابعها في حجرها ..
- أما عن مشاعري لريلي .. فأعتقد هالشي خاص فيني .. و ما برمس عنه .. يكفي أقولج انيه أعرفه الحين عدل .. و أعرف انه هب شرا ما كنت أتوقع ..
كانت نبرتها متحدية أكثر مما كانت تريد ... رأت انعكاس ذلك في وجه دانة الذي احتقن بلونٍ قاني .. و شيء يشبه عبرة احتبستها خلف حدود الجفن .. و صوتها يهمس ..
- حور .. ما كــان قصدي و الله .. أنـــا ..
قاطعتها حور بسرعة و هي تشعر بأنها قد أثقلت على نفس أختها .. لتخفض رأسها و هي ترفع عينيها لوجه دانة بنبرة لطيفة ..
- دندن فديتج .. أدري شوه كنتي تقصدين .. بس أنا كذيه بسرعة أتنرفز من هالسالفة ..!! ما عليكن منيه .. خبرنيه شوه شعوركن و نحن بنودر البيت و بنسير بيتهم ..؟؟؟
شيء يشبه الأمتنان الكسير غشى مقلتي دانة .. و نورة تجيب بسرعة لتغيير دفة الحديث ..
- قلنالج زعلانين .. بس بعد الحزن في القلب .. بس تدرن شوه ..؟ قولن شوه ..؟
أسندت حور خدّها بابتسامة غريبة .. و هي تتشاغل بكلمات أختها عن دفق غريب من الإحساس .. راح يمتد في داخلها ..
- شوه ..؟
- في جوانب وايد زينة لروحتنا اهناك ... وايد .. غير الحالة الإقتصادية .. فكرن .. هلنا ..! خوان أبوية .. عماميه .. و الشباب .. هذاك المطوع لي شفناه في المستشفى شكله طيب .. غريبة ..!! أحيد كل واحد عنده فلوس يصيع ..!!!
ضحكن عفرا و دانة معا .. و حور ترد باستياء ..
- وجه نظر بايخة ..
لوحت نورة بيدها لا مبالية ..
- المهم .. و الاثنين لي وياهم شكلهم كشيخين .. و راعين سوالف .. يا سلاااام .. تخيلن عيال عمنا ..!!!! الله يرحم أبوية ما غصبنا نحن بعد ..!!
الآن كانت عفرا هي من تنهرها باستنكار ..
- نوراااه .. استغفري ربج ..
- أستغفر الله .. انزين .. عميه سعيد و عميه مطر طيبين .. صح ما نعرف عميه أحمد .. و عميه علي .. بس أكيد طيبين .. يعني عيال عمي علي شيوخ .. روضة .. و غيث .. لو بنات عمنا الباقياات ..؟؟ كم عددهن ..؟؟؟
أجابت دانة بسرعة ..
- ثنتين ..
تنهدت نورة باحباط ..
- هيه صح بس ثنتين .. لو بنات عمنا هالثنتين .. يكونن شرا روضة .. تخيلن .. بيق فاملي .. الله .. أنا متفائلة خير .. أحس اننا يوم بنروح وايد أشياء بتتغير للاحسن ..! شوه لي أخير عن لمتنا بهلنا .. نعيش وياهم و يداروننا ..؟
ارتفعت شفة حور بنبرة غريبة ..
- هيه صح .. شوه لي أخير عن هالشي ..!
برودة غريبة راحت تلتهم إحساسها ببطء .. و دوامة أفكار تكاد تبتلع عقلها ..
ما الأمر ..؟
لم تكن تكذب فيما قالت .. و لم تدّعي شيئا ..!
لمَ إذن يحتضن خواء مؤلم فؤادها ..؟
سحبت نفسا عميقا تملأ به صدرها قبل أن تطلقه ببطء ..
و هي تشعر بزخم متدفق من المشاعر على وشك ان يُسكب و يغرقها ..
راحت تكافحه بشدة و هي تركز على ما حولها ..
هناك العديد .. العديد من الأشياء ستعيد النظر إليها لاحقا ..
ركّزت بقوة على ما كانت دانة تقوله و هي تنظر لها ..
- حور تحيدين العشر دراهم لي خذتيهن السنة لي طافت منيه ..؟
عقدت جبينها بشيء من الضياع ..
- أي عشر دراهم ...؟
أكدت دانة ما تقول ..
- العشر دراهم لي عطيتج اياهن يوم تعشينا هذا اليوم من المطعم و كل وحدة تدفع لعمرها و انتي ما كان عندج شي ..؟
رفعت حور حاجبا في شك ..
- ما حيد ..
راحت دانة تلح بإصرار ..
- أنا حيدهن .. عشرتيه !! .. كان عنديه عشر زيادة و سلفتج اياهن .. قبل حتى ما يموت أبوية الله يرحمه ..؟ يوم شلينا التلفزيون حجرتنا نشوف الفلم .. و رديناه عسب لا يدري ابوية ..؟ كان يوم الخميس حتى .. نورة تذكرين يوم الفلم الهندي ..؟
تدخّلت عفرا بهدوء ..
- السنة لي طافت .. و عشر ربية ..؟ الله يسامحها فيهن .. شوه بتطاليبن برد الدين الحين ..؟
تمطّت دانة بكسل ..
- هيه بطالب برد الدين .. و الا بشل من حسناتها يوم القيامة ..
اتسعت عينا حور ..
- أعوذ بالله .. بنعطيج عشر يا شحفان القطو ..!!
لكن دانة لوحت ..
- لا .. لا .. صدق .. تحيدينهن .. أمس حلمتهن ..
- حلمتي العشر ربية ..؟
- هيه و الله .. حلمت حور ردتهن ليه مية ربية ..
ضحكت نورة ..
- خيبة .. حتى في الحلم طماعة ..!! شوه بالفوايد ..؟
- لا صدق و الله .. حلمت حور عطتنيه امية ربية تقول هاي حقج بدال العشر لي خذتهن .. أنا أقول إن تفسيرهن إن حور بتعطينيه امية ربية هبة لوجه الله ..
و رسمت ابتسامة واسعة لمع من خلفها صف أسنانها الأبيض لترد حور ابتسامتها بخبث ..
- للأسف أنا ما أتعامل بالربا في الحياة الواقعية .. يعني لازم ترضين بالعشر لي بتييج .. و نشي انتي و نورة ودن الكشرة .. الساعة تسع الحين ..
مطت دانة شفتها باحباط .. و نورة تستعطف أختها الكبرى ..
- خليها باكر بنوديها قبل لا نسير المدرسة ..
صفقت حور يديها بحزم ..
- على هندي حبيبتي .. اعرفها حركاتكن هاي .. كم مرة وديتها أنا و المها بدالكن ..؟؟ يا الله انتي وياها أشوف .. تحركن .. و نورة .. المواعين هاي اغسليها لا تخلينها الين باكر في المطبخ ..
- أنا أستاهل لي متعنية و مسوية حليب و خبز رقاق .. ما تستاهلن ،،
- يوم اننا ما نستاهل ليش سويتيه ..؟ حد مطج من خشمج و غصبج ..
حملت نورة بعد مناوشات عدّة صحنها .. و توجهت هي و دانة للخارج ..
تلتقط حور هاتفها المتحرك و تلعب به في شرود و هي تسأل عفرا ..
- شوه تانسين الحين ..؟؟
ابتسمت عفرا بشحوب شديد .. و على وجهها النحيل آثار التعب و الألم ..
- أحسن .. الحمد لله .. وايد أحسن ..
كانت تعني ذلك .. تعنيه بحق ..
شيء بثقل الخوف أُسقِطَ عن كاهلها ..
تبا لذلك الذل .. و هذا الخجل .. و الإحراج المميت الذي يخالجها كلما فكّرت بأن أحد يعلم بما حدث لها ..
لا يهمها أن يشمئز هو منها .. أو يحتقرها ..
كل ما يشعل شمعة بين أضلعها ..
هو أن ذاك الكبير قد علم بالأمر ..
و أنها لم تعد لوحدها ..
غاضب هو .. و يكرهها الآن ..
و لكنه يعلم .. يدري بكل تفاصيل مواجعها الخفيّة ..
يدرك أبعاد تلك المأساة و سينتشلها من عمق يأسها حتما .. لن يتركها فريسة أقدارها وحيدة ..
أضاء هذا اليقين قبسا من أمل أدفأ فؤادها ..
فللمرة الأولى منذ وقت طويل ..
تضع رأسها المثقل على المخدة .. لتطبق جفنيها المتعبين .. و ترقد ليلا .. لم يعد أسودا كيومها ..
سيحل الموضوع .. قال انه سيحلّه ..
ليس لديها خيار سوى أن تثق به .. فإذا كان هناك ما تعرفه .. فهو أنه سيكون أحرص منها على التكتم و معالجة الأمر بصمت ..
هذا الوضع يقتله الآن بقدر ما يقتلها ..
و احساسها بانه يشاركها المأساة خفف قليلا من وطأة احزانها ..
نظرت لحور التي انشغلت بهاتفها .. لتسألها بهمس ..
- شوه تسوين ..؟
تنهدت حور و هي تلوح بالهاتف ..
- أطرش مسج لمايد .. القاطع .. تولهت عليه ..!كم خطف من يوم العيد ..؟ اسبوعين .. و ليتنيه شفته زين .. سلام ع الباب .. و شرد .. !!
.
.
.
.
ألقت نورة بالحجرة الصغيرة نحو الحاوية الحديدية الكبيرة قبل ان تطلق صوتا حادا ..
- ميااااااااااو .. مياااااااااااو ..
نظرت دانة للحاوية باهتمام ..
- الحمد الله ماشي قطاوة ..
تقدمن و كل منهن تحمل طرف السلّة المهملات الكبيرة الخاصة بالمطبخ .. ليدنينها من الحاوية فيلقين الكيس الأسود المصرور بعناية .. قبل أن يعدن أدراجهن للبيت .. فتقول نورة بهدوء ..
- على فكرة .. الرمسة لي قلتيها لحور ثقيلة .. و مالها داعي ..
رفعت دانة عينيها للسماء دون أن تراها نورة من خلف الغطاء ..
- أنا قلت بتفهمونيه غلط ..! و الله .. و الله مالومها و هب قاصدة شي .. و ما أنتقدها .. بس لاحظت هالشي و بغيت أشوف اذا كان عندها سبب خاص .. صدق ما تشوفينها انتي تغيرت ..؟ يعني وين العداوة لي قبلا .. وين الحقد و الكره ..
- تبينها اتم حاقدة ..؟
- لا .. و الله .. و مرتاحة لنها فكّرت بهالطريقة .. لنيه أشوف انه أحسن لنا نتعرف على هلنا .. يسد السنين لي راحن و نحن مقاطعينهم ..
همست نورة مع اقترابهن من باب البيت ..
- صخي .. هذا غيث معسكر عن باب الميلس ..
شهقت دانة بخفة ..
- يدخن الحمار .. يتحراه بيت أبوه ..!! اشوف حلت له اليلسة .. و ما خذ راحته ..
- جب .. سلمي و امشي بسرعة .. ما فيناا يهزبنا ع سالفة عميه مطر ..
ابتسمت دانة تخفض صوتها أكثر ..
- يا الخبلة السالفة من رمضان مستوية .. تلقينه الريال ناسي ..
ثم قلن معا عندما تجاوزن الباب الحديدي ..
- السلام عليكم ..
رفع رأسه نحوهن قبل أن يجيب بهدوء ..
- و عليكم السلام و الرحمه .. نبرته المتسلّطة بدت كريهة و هو يضيّق عينيه عليهن بقوة و يسأل بقوة ..
- من وين يايات ..؟؟
نظرت دانة بطرف عينها لنورة قبل أن تجيبه ..
- من عرس و الله .. بغينا نعزمك بس الدعوة لشخصين .. من وين يايات يعني .. ما تشوف - و رفعت سلة القمامة قليلا - سرنا نودي الكشرة ..
نظر لها غيث متسائلا بخشونة حين تعرف صوتها ..
- دانة ..؟
ردّت دانة بشيء من الفخر ..
- هيه نعم ..
- لمي ثمج و انطبي .. و مرة ثانية اصلبي عمرج يوم بترمسين ..
شعرت دانة باحراج بالغ و هي تلتزم الصمت قبل أن يسأل بنبرة فولاذية ..
- و انتي منوه ..؟ نورة ..؟
قالت نورة بنبرة ضعيفة و قد شعرت بأنها ستكون الضحية الثانية بشكل ما ..
- هيه ..
رفع حاجبه قبل أن يخرج صوته الرجولي العميق بشكل أرهبهن ..
- أنا ما لقيتكن من سالفة المستشفى .. بس و الله يا بنات حمد لو ما تحشمن عماركن انيه أنا لي بعلمكن السنع .. انتن ما تخيلن ..؟ اظربن ريال ..!! و ترادنه .. و الله لولا اننا في مستشفى ان كان داويتكن ..
شعرت نورة بالضيق و الحقد اتجاهه .. قبل أن تقول دانة بهدوء مصطنع تخفي خوفها منه ..
- اسمحلنا .. المرة الياية يوم ايي ريال غريب و ما نعرفه و يوخي على نورة يبا يوايهاا .. بنرد سلامه .. ترانا اخوة في الاسلام ..
حين رأت الغضب الأسود يلوح على وجه غيث استدركت بسرعة ..
- نحن ما كنا نعرف انه عمنا .. ريال و يبا يسلم على نورة .. يعني ردة فعل تلقائية ..
صر غيث على أسنانه و هو يقول بغيظ ..
- محد بيتعرض لج لو انتي حاشمة عمرج .. و ودرن الهياته ..
قالت نورة بحذر ..
- أي هياته ..
- شلي كشرتج .. و حدري انتي وياها .. يا الله أشوف ..
بدا و كأنهن أجبرن على ابتلاع كلماتهن .. قبل أن يحملن السلة تحت نظراته المهينة و يتوجهن للمكان و كل واحدة منهن تتميز غيظا ..
من يعتقد نفسه ..؟!
أيظن أنه له الحق في التحكم فيهن لمجـرد أنـ ..
- اييييه .. تعالن ..
توقفن مكانهن لبرهة قبل أن يتبادلن نظرة سريعة .. ثم يعدن أدراجهن نحوه في خطوات متعجلة ..
قبل أن يتفوه بشيء .. رفعت دانة راحته بهدوء و هي تقول بوقار ..
- لا تعتـــــذر ..
وافقتها نورة بلهفة ..
- خلاص سامحناك ..
.
.
لذقيقة كاملة جاهد بصبر و هو يضغط على أسنانه بقوة ..
يشعر بأنه سينفجر في وجه هاتين المجنونتين ..
هدأ رغبته الغريبة في الضحك و الصراخ عليهن معا ..
قبل أن يرفع رأسه بنفس عميق ..
- ذلفي انتي وياها داخل و خلن حور تطلع ليه .. اباها ..
* * * * *
* الحجرات / آية 11 ..
** من فطف هالياسمين / لطارق المحياس ..
*** لا تعلمني / للبدر ..
التعديل الأخير تم بواسطة زارا ; 26-04-08 الساعة 05:14 PM
|