كاتب الموضوع :
زارا
المنتدى :
الارشيف
.
.
مر وقت طويل ،،
لحظاتٍ امتدت لدهور .. قبل أن يتوقّف بهم الذهول .. و محرك السيارة أمام باب بيت غيث الجديد ..
طوال الطريق الذي قطعوه حاولت بجهدٍ لملمة بعثرة أفكارها التي راحت تخرط عقلها دون رحمة ..
في ليلة أشبه بحلقةٍ متصلة من الجنون .. لم تجرؤ على التحرّك .. حتى و الصمت يجثم على أنفاسهم ..
هدوء غيث ..
و استنكار أحمد للموضوع ..
و صدمتها الجليّة ..
للحظة شعرت بأن الرحلة لم تنتهِ .. أو تمنت ذلك على الأقل ..
لم تكن مستعدة بعد للمواجهة التي تنتظرها ..
و كأنما شعر غيث بخشيتها تلك .. تكلّم بصوته البارد المتكبّر ..
- محد له خص في البنيّة .. لحد ايي صوبها و لا يرمسها .. كل لي اباه منج اتشوفين لو هي محتاية شي .. و تيلسين وياها الين أرد من المستشفى .. أنا ما اعرف شوه حالتاا الحينه .. خلج وياها ..
أومأت حور برأسها صمتا ..
لا تعلم بما يفترض عليها أن ترد .. جر كرسيّه للأعلى سامحا لها أن تصل للباب .. و اعتدل جالسا .. فتحت الباب لتترجل ببطء شديد ..
استوقفها صوت غيث الذي أنزل زجاج نافذته يناديها بخشونة..
- حور ..
ارتعد قلبها و هي تلتفت نحوه بقوة .. تشعر بأنه يسلط نظراته لعينيها رغم الغطاء الثقيل الذي تضعه ..
نظر لها باقتضاب .. قبل أن يقول بصوتٍ غريب .. كان أكثر هدوءا ..
- ما وصيج عليها ..
أومأت مجددا .. و كأن الخرس أصابها فجأة قبل أن ترتفع نافذته فجأة حاجزا بينهما لينهي الأمر ..
- سلاااام عليج العروس ..
قفزت في الهواء بذعر مجفلة من غلظة الصوت الذي انبثق من خلفها .. قبل أن تستدير بذعر ..
لتواجهها ضحكة هزاع العميقة و هو يقذف مفتاح سيارة غيث في الهواء بيد .. و يدٌ أخرى يرفعها للأعلى تمسك بثوبٍ أبيض طويل يخص غيث ..
- سمحيليه روعتج ..؟!
همست باضطراب و هي تملس طرف غطاءها ..
- و عليك السلام و الرحمه .. لاااا عادي ..
- شحالج ..
ابتلعت ريقها ..
حالها ..
لا تعلم حقا بأي حالٍ هي الآن ..
مشتتة .. مبعثرة ..
تتخبط في دوامة ..!
- الحمد لله ..
رفع يده محييا و هو يمد يده ليفتح الباب الذي ترجّلت منه للتو ..
- يا الله عيل .. نترخص ..
رفعت أصابعا ضئيلة لثانية و هي تهمس ..
- يحفظكم ربيه ..
أوصد الباب خلف هزاع لينطلق أحمد بسيارته موليا الأدبار لوقوفها الذابل هناك ..
تراقب آخر خيوط الضوء الخلفي للسيارة تختفي في المنعطف خلف باب السور الضخم ..
نظرت للعتبات الموصلة لباب البيت الذي يفترض به أن يكون بيتها ..
واتتها رغبة هستيرية في الضحك حين استعادت ذاكرتها ظنها بأنها لن تعود له هذه الليلة ..
و أنها ستهجره قبل دخولها إليه ..
رفعت غطاء وجهها تتبين تفاصيله ..
ثم دفعت قدميها دفعا .. و خيوطٌ من خوفٍ بلا سبب تحبك شراعا من عدم الثقة داخلها تنفخه ريح مشاعرها المضطربة هذه الليلة..
ما ان رقت درجتين حتى استوقفها الظل الذي سدّ النور الخارج من الباب المفتوح .. و الصوت الهادئ يناديها ..
- حور ..!
رفعت عينيها بلهفة تلتقط ملامح عفرا ..
شعور دافئ بالألفة اجتاح شرايينها و هي ترتقي العتبات المتبقية بثباتٍ أكبر .. لتبلغ عفرا التي فتحت ذراعيها على وسعها تحتضن حور بشدة ..
تشبّثت حور بطول عفرا ..
تستنشق رائحتها بلهفة .. و غير تصديق ..
شعرت بأنها انفصلت لسنوات عن أهلها ..
و الشعور بالأمان ..
كانت المرة الأولى في حياتها التي تضطر فيها للإبتعاد عنهم ..
شوق جامح بزغ بين كل المشاعر الأخرى و هي تشد على جسدها .. و عفرا تقول بصوتٍ متأثر ..
- فديتج و الله يا الغالية .. فدييييت روحج .. حووور تولهنااا عليج .. الحمد الله ع السلامة ..
لا زلن يقفن بالباب ..
في فرجةٍ من ضوء تطل على الظلام الدامس في الخارج ..
تهدّج صوت حور ..
هي الكبيرة لم تعد كذلك ..
لم تعد سوى طفلة تاهت عن دروب أهلها .. لتعود لتجدهم حين غرة .. فتبكي ضياعها ذاك ..
- و أنا أكثر .. فقدتكم عفاري .. فقدت حسكم حوليه و حواليه .. و الله ان حياتيه و لا شي بلاكم ..
و ابتعدت عنها قليلا .. تلتهم بلهفة ملامحها التي فارقتها مذ أقل من أسبوعين .. تتأملها بحبٍ طافح ..
- انتي اروحج هنيه .. و الا حد وياج .. وين البنات ..؟؟ مهاوي و نورة و دانة ..؟؟ نايف و مزنة و هنودة أكيد راقدين .. صح ..؟ هم ما يعرفون انيه برد ..؟ ما خبرتيهم ..؟؟
كان الشوق ما يتحدث الآن ..
حنين جارف يجتاحها لمرأى تلك الوجوه الحبيبة ..
حتى و عفرا تخيّبها بهزة كتفيها و نبرتها الحذرة ..
- كانوا كلهم هنيه .. لكن من اتصل غيث و قالهم ايردون البيت العود ردوا .. كلهم تموا يرقبونج حور .. حور فديتج شحالج .. و شوه مسوية .. ربج بخير .. مرتاحة حواري ..
كان سؤالها غريبا .. مع حديثهم في بداية الأمسية على الهاتف .. و الأغرب هو مكان وقوفهم هنا ..
وضعت حور يدا حانية على كتف عفرا .. قبل أن تقول بحب ..
- أنا بخير فديتج .. الحمد الله .. خلينا نحدر داخل بدل الوقفة هنيه ..
ترددت عفرا بشكلٍ فاضح .. قبل أن ترفع عينيها لحور ..
- حور .. يمكن ما تدرين .. بس البيت فيه .....
قاطعتها حور بتربيته هادئة .. و هي تشعر بأن شيئا من الإستقرار راح يشق طريقه إليها ..
هي هنا الآن .. بين أحبتها ..
ستجد نفسها حتما دون جهد ..
- خبرنيه غيث فديتج .. هي شوه اتسوي الحينه ..؟
نظرت عفرا لما وراء ظهرها .. قبل أن تقول بصوتٍ هادئ ..
- صاخة .. و ما ترد على حد .. انتي ما تعرفين اننا بالموت يبناها هنيه .. حتى الحجرة لي عدال المكتب لي قال غيث أرتبها لها .. ما طاعت ترتاح فيها .. متيبسة في نص الصالة .. و ما تتحرك .. و لا تسوي لحد منا سالفة ..
وضعت حور يدها على قلبها .. قبل أن ترفع عينين مترقبتين ناحية الباب .. و صوتها يخفت ..
- خلينا نحدر .. ابا أشوفها ..
أومأت عفرا بهدوء قبل أن تتنحى جانبا تاركة المجال لحور كي تدخل أولا ..
بخطىً حذرة .. راحت حور ترسم لها مسارا للداخل و عينيها تنبشان الصالة بحثا عن المرأة المقصودة ..
لكن كان أول ما اصطدمت به عينيها هو الكرسي ذو الدواليب الذي يحتضن جسد إمرأة قابعة في الطرف الأقصى من الردهة مقابل الباب مباشرة ..
ارتفع خافقها بجنون و هي تتأمل الكرسي .. قبل أن تنظر لعفرا التي وقفت جوارها بهدوء ..
و الأولى تهمس بصدمة ..
- مشلولة ..!!!!
لم تجبها عفرا .. اكتفت بتكتيف ذراعيها و عيناها تراقبان انتكاس رأس المرأة البعيدة .. قبل أن تطالع حور بهدوء ..
- وايد كانت تسأل عن غيث ..
أعادت حور عينيها للجسد الساكن قبل أن تهمس بصوتٍ غريب .. و قلبها ينقبض ..
- و غيث يوصينيه عليها ..!
* * * * *
شمخ ببصره ناحية الخطوات التي تعالت في رأس الممر الذي يشغلونه ..
ليقف على قدميه فور تعرّفه الجسد الفارع الذي راح يقطع الممر بخطواتٍ واسعة .. متعجّلة ..
و الشابين اللذان يتبعانه بهدوء ..
الظلام الذي اكتسح سحنته كان باديا و جليا من البعيد ..
حتى و هو يدنو منهم .. وقف مطر بدوره .. و اقتربت الخطوات بحامد الذي كان يجلس جوار أم نايف المنزوية بطفلها النائم ..
عيناه تستوعبان الرجل القادم ..
تنبشان وجهه لتغرقان في عينيه العميقتين ..
و هو يقصده رأسا ليسلّم عليه ..
أمعن النظر في مآقيه الواسعة ..
واثقا .. بأنها العينين الوحيدتين اللتان لن يملؤها الخذلان .. و لا الإستنكار ..
لن تعذبانه بالعتب الصامت .. و اللوم الأخرس .. لن تغرسا بذور الندم في جوفه بالخيبة التي ستبزغ فيها ..
وحده الألم الفاضح الذي كان يشاركه به .. و القلق عليها ..
طالع وجهه الخشن الذي لم يعد يفصل بينهما ..
هذا الرجل لن يحمّله الهم أكثر ..
يفهمه .. و يعلم أي عسرٍ يكابد هذه اللحظة ..
تقدّم منه يقبّل أنفه باحترامٍ جلي ..
و خطوط التعب الجليّة على وجهه تحكي ليلة شنيعة مرّ بها ..
الصوت الرجولي الأجش .. ملأ أذني الجد .. و رأسه ..
- السلام عليكم و رحمة الله ..
ليرد سلامه بصوتٍ هادئ .. اخفى الإنكسار الحقيقي في داخله ..
- و عليكم السلام و الرحمه .. مرحبا ابوية ..
تبادل السلام مع حامد و مطر على عجل .. ليتقدّم نحو أم نايف و يسلّم عليها قبل أن يلتفت نحوهم بهدوء ..
متجاهلا أي مقدمات .. و تبادل لأخبار ..
متجاوزا كل رسمية قد يتخذها في سؤالهم عن الوضع و كيفيته ..
متسائلا ..
- وين أميه نورة ..؟!
لأنه لا يريد أن يشرحوا له .. أو يعلموه عمّا حل بها ..
يحتاج أن يلتقيها ليقرأ خطوط الشقاء التي نقشت على وجهها الحبيب ..
فيعلم أي حكاية مؤلمة عاشت الليلة .. و كادت تلقى بنهايتها الحتف الداني ..!
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
ممددة ،،
على سرير وجع ،،
ساكنة ،،
تختبئ خلف غياهب النوم ..
لا تقوى مواجهة كل ما يقبع هنا من ألم ..!
يتكئ هو بمرفقيه على بياض ملاءة سريرها و هو يسند ذقنه على انعقاد كفيّه ..
عينين متعبتين .. لا زالت ترتدي ستارا هزيلا من قوّة تتزعزع أمام سكون تجاعيدها ..
و هي تغرق بصمتٍ في ظلمةٍ بعيدة عن متناول اليقظة ..
يمسح بنظراته متلهّفا تعاريج الزمان حول عينيها .. و شقوق الأيام في خديّها ..
و وهن العمر الذي نُقش حول فمها ..
يتتبع سُبل العروق التي تنفر من نحول يديها الصغيرة ..
قبل أن يمسكها بين كفيّه الكبيرتين .. ليمرّغ أنفه في راحتها ..
يستنشقها ..
يتنفّسها ..
بشغفٍ يرتشف الدفء الذي يسكن هذه اليد دوما ..
و الحنان الذي تغرس في طرقاته .. و الحب الذي توزّعه في أيامه ،،
راح يشد على يدها الضئيلة بين كفّيه ..
ليشعر كم هي ضعيفة .. كم هي مستنزفة ..
و متعبة ..
شعورٌ مرٌّ بالهزيمة غزا روحه ،، و كأنه يتجرعه نيابة عنها ..
أي لطمةٍ تلقّت على خدِّ صبرها الليلة ..؟!
أي خيبةٍ صفعت تضحية سنوات .. و صرخت بها مؤنّبة ..؟!
أي سخرية ..!!
تلك الأحزان التي تدسّها في نواحي قلبها الكبير حتى ازدحم ..
تبعدها عن عيني رفيقها الذي كان قد حرمها حقّا في حياة ..
و انتزع من بين يديها ابنا ليرميه في غياهب الهجران ..
و يتناسى انكسارها في أحضان امرأةٍ أخرى ..
غير مبالٍ بالحطام الذي استحالت بعد رحيل فلذة كبدها ..!
جبروتٌ هوى على هشاشة بنيانٍ راحت تبنيه بالدمع .. بالأنين .. بالوجع ..
و الإنتظار ..
ليهشّم ذاك العمران الهزيل ..
فيتركه خرائب تسود روحها المتشققة ..
يدنو من رأسها الذي يستره سواد غطاءه .. مخفيا بياض غبار السنين الذي يكسو شعرها ..
فيقبّله .. و تتغلغل روحه رائحة - المخمريّة - الزكيّة التي تضع ..
ذات الرائحة التي عرفها منذ طفولته ..
ذات الألفة التي تلفّ خوفه القديم .. لتحتويه أمنا .. و سلاما في أحضانها ..
تهدهده ،،
و تُعلِمه أنه بإمكانه أن يغمض عينه لينام ..
تلك الأصابع المجعّدة فارقتها مسبحتها بعد أن تهاوت بانكسارٍ أمام فاجعة خذلان رفيق روحها ..
ذاتها التي أفلتت الصبر .. و الأمل .. و الحياة مع حبيبات المسبحة لتتبعثر على أرضيّةٍ من ألم ..
تلك الأصابع الذي تلقّفت فزعه .. ضعفه .. ذاتها التي لملمت تمرّده .. و الجنون ..
لتلقّمه الحبّ قوتا .. و اللين عيشا رطبا ناقض قسوة جدّه في انشاءه ..
تلك الحبيبة التي لم يكن له مأوىً حتى اليوم سوى حضنها ..
كاد يفقدها للا شيء ..
لمجرّد أنه استطاع تحطيم قلب إمرأة ارتأت في جرحها طعنةً موفّقةً له ..
لماذا عليها أن تتأذى ..
لم يكن ليمانع لو أن الضربة وجّهت له ..
لو أنه تجرّع الموت مرّات على أن يخدشوا شيئا من روحها ..
أرخى جفنيه الثقيلين بتعب ..
و خشونة ملامحه تلتوي بألمٍ يعتصر فؤاده بقوّة ..
فيما ينال الإرهاق من جسده و الروح ..
و يتضارب ألم ذراعه المصابة مع انفتاق جرح خداع امرأةٍ لم يلتئم بعد ..
لم يكن قد تعافى من خداع واحدةٍ ليطعن بحيلة أخرى ..
.
.
I've been a rock, been a shoulder
Helped hurting hearts get over
A good love that's gone wrong
Yeah, I'm the one who said "be strong"
I've been the friend you can count on
Stayed up late, listened all night long
But for just this once in my life
I need to be the one who cries
.
.
لا يملك حيلة أمام ضعف هذه الحبيبة ..
لا يملك سوى الألم .. و غضبه المكبوت ..
و نارٌ تحرقه دون أن ينفثها على الغير ..
شعر بأنه منهك ،،
منهك للغاية ..
غير قادرٍ على أن يواجه لوم عينيها ..
و لا وجعها المقبل ..!
كل ما أراده أن يبتعد قليلا عن كل هذا ..
ليندسّ في زاويةٍ بعيدة ليلقي كل العتاد التي تثقل أحاسيسه ..
قسوته و الإجحاف ..
غضبه .. و البرود ..
فينفجر ..
و لا يبلغ صدى ذلك أحد ..!
.
.
Somebody save me
Somebody take my hand and
Lead me where there's
No tears, no pain
One time for a change
Somebody hold me
Tell me everything's gonna be okay
I'm asking, begging please
Somebody save me
.
.
يعتصر كفها الصغيرة غير مباليٍ بالسائل القرمزيّ الذي لوّث بياض ثوبه ..
و لطّخ نقاءه ،، بساديّة مفزعة ..
يتجاهل الألم في ذراعه و هو يدفن وجهه في طهارة لون الملاءة التي تدثّرها ..
و يتفاقم الوهن في روحه .. و هو يزفر ببطء ..
و للحظة واحدة ..
تمنى لو أنه ذات الطفل الخائف الذي اندسّ في حجرها لترعرعه ..
ذاك الطفل المشاكس الذي كان يتعبها ..
ليتغنّى فقط برقّة عتابها .. و قلقها الدائم ..
و خشيتها عليه ..
يا الله كم تعني له ..
هي الحياة ذاتها ..
لو أن مكروها أصابها لتقطّعت أنفاسه أمام عتبة الرحيل هذه فلا يتجاوزها ..!
بدا و كأن الأمور كلّها تعانده .. تحاربه ..
و تتعمّد أذيته ..
و لا حيلة له في تداركها ..
و للمرة الأولى شعر بالعجز يجتاحه ..
أمام ضعفها .. و انكسارها ..
أمام بقايا هذا الحطام ..
لم يملك سوى الضياع بدوره ..!
.
.
I'm feeling lost, need to be found
I can feel my soul, it's reaching out
Lord, I could use a little help
No, I can't do this by myself
.
.
Somebody save me
Somebody take my hand and
Lead me where there's
No tears, no pain
One time for a change
Somebody hold me
Tell me everything's gonna be okay
I'm asking, begging please
Somebody save me
* * * * *
عبر النافذة المفتوحة لسيارة الأجرة ،، كان هواء آخر الليل يضرب وجهها المكشوف ،، محملا برائحة الكربون العالقة به من بقايا إزدحام النهار ..
جزيئات الهواء الثقيلة التي راحت تزحف لرئتيها بتثاقل لا تنعشها ..
بل تشعرها بالإختناق ..
و هي تشعر بالنفس منها ينفلت قبل بلوغه عمق رئتيها ..
ثقيلة نبضاتها .. و شيء يجثم على صدرها .. فيما تطوي السيارة العتيقة الشوارع القديمة ببطء ..
آخر الليل الساكن كان هادئا ..
لكن هدوءه لم يكن رحمة ..
لم يكن سوى إنصاتا ممعنا للصراخ الذي يتفجّر داخلها ..
يملأ رأسها .. و يصم روحها ..
ينطلق حادا .. ليشقّ أحاسيسها .. يمزقها ..
و ينهش روحها التي تتلوى على جمر عذابٍ صامت .. لا تفصح عنه ملامحها الساكنة ..
ضخمة هي دمعة تختنق بها .. لم تستطع مقلتها أن تلدها ..
عالقة خلف نظرة زجاجية فارغة ..
تتأمل الظلام في الخارج عبر النافذة ..
ذات الظلام الذي ينتشر في روحها الآن ..
و حكاية لا تصدق تسرد سر قدومها وحيدة إلى هنا الليلة ..
لما هي هنا ..؟! و ما الذي تفعله بعيدا عن موطنها ..؟
و انبسطت الصورة أمام عينيها الخاويتين ..
بشعة ..
تجسّد كل الخذلان الذي حملته توسلات ميعاد الأخيرة ..
و خطوط رسومها تنحني أمام ميلان ظهر تلك العجوز التي جرّت أذيال الوجع بخطواتٍ متكسّرة و هي تترك المكان ببؤسٍ صامت ..
صورة إطارها لم يكن سوى صفعة سيتلقفها نهيان على غفلة .. تصرخ بوجهه .. و تعيّره .. الخذلان الذي رمته أخته في وجهه ..!
صدمة ستبزغ مع أشعة فجر موطنه .. لتخنق صباحه ذاك .. و تلطّخه سوادا يغزو ذاكرته لأمد غير قريب ..
الأمر هو أن ذاك الذي كانت و لا زالت به تهتم .. سيتأكد من شكوكه ..
و سيستقر يقينا بأنها لم تبذل يوما لأختها إلى لتحصل عليه ..!
- خولة ..؟؟
أغمضت عيناها بيأس ..
و الصراخ يتصاعد .. يتصاعد .. يملأ رأسها .. و هي تجيل عينيها الفاتحتين الكئيبتين بجمود يصلّب أوصالها ناقض الثورة التي تضج بها أوردتها .. حتى كادت تفجرها ..
لكن الصوت الذي زحف على شفتيها الباردتين بهمهمة .. لم يبح بجنون خوالجها ..
- هممم ..؟
- وصلنـــــا ..
قالها عمر و هو يرفع رأسه بإشارة للبناية التي توقفا أمامها ..
لتتبع نظرته بشيءٍ من الذهول ..
غير مصدّقة ..!
لم تشعر بشيء ..
و كأنها هجرت ميعاد منذ ثوانٍ في وسع تلك الردهة ..
وحيدة ..
محطّمة ..
تنزف على أرضٍ لم تشرع أبوابها يوما لتحوي وجودها ..
احتقنت رئتها بأنفاسها الحبيسة و عينيها تستوعب العمارة القديمة المألوفة ..
بدت بشيخوختها .. و جدرانها المتقشّرة ..
كعجز عجوزٍ فقأت عينيها بخيانة شريكها هذه الليلة ..!!
خيوط الفجر الزاحفة في الأفق الداكن .. أعلمتها بأن النهار يسارع ليقشع ستار الليل عن خداعها المستتر ..
الصباح متأهب ليفضحها في أعين أولئك الذي تأملوا أن يكون عيثها الفساد البارحة كابوسا ليس إلا ..!
عضت على شفةٍ من وجع .. و هي تترجل أمام تلك البناية المتهاوية ..
تغمرها بنظراتٍ متوجّعة .. و هي تستوعب أنها تصل للمرة الأولى إلى هنا .. بلا ميعاد ..
لا صرير إطاراتها يخدش المسامع .. و لا هدوء صوتها يملأ الجو رغم الضجيج ..
لا عينا تشابه عينها .. و لا قلبا قريبا من قلبها يشاركها الوصول إلى أمٍ عرفوها طوال سنوات ..
يجرهم الحنين و حب التغيير دوما لقرع أبوابها ..
متخاذلة هي خطواتٍ راحت تجرها على غربة هذه الأرض ..
تاركة عمر خلفها يعالج أمر الحقائب و السائق .. و هي ترقى على عتبات سلّم من ألم حارق ..
يرتفع بها .. ليتعاظم فيها ..
تتجاوز أبوابا .. و أبواب ..
تنشد فرجة تعلم أنها لن تضيق بها ..
ها هي تقف ببابٍ موصد ..
ككل الأبواب المنتشرة في داخلها ..
تسند كفا مرتجفة .. و تحني ظهرا ينكسر أمام عتبة انفجار ..
و هي تغرس إصبعا على زر جرس الباب لينطلق صراخه و يشق السكون ..
صوت الخطوات القادمة لم يتأخر ..
أعلمها بأن تلك الحبيبة كانت في انتظارهم .. و أنها لم تتجاهل قدومهم المتأخر مذ أبلغوها ..
و خشيت ..
خشيت جدا من أسئلة ستثقل مآقيها بعد لحظة ..!
صوت القفل و هو ينفتح .. شابه انفلات عقدة مرارة في صدرها .. و هي تنكس عينيها .. تفر بنظراتها ..
لا تجرؤ ..
لا تجرؤ ..
باب الشقة يتزحزح بترحابٍ كاشفا جسد الحبيبة التي ملأت الباب بامتلاء جسدها و هي تشرّع ذراعين مرحبتين على اتساعها ..
تناشدها أن تلقي بهمومها على ذاك الصدر الحنون ..
تحثّها أن تطلق العنان لمكنوناتٍ ضاقت بها أضلعها ..
فتخاذلت أعينٌ تتسلق الحنان لتبلغه في مآقيها .. و قد لوّحت السعادة وجه خالتها السمين بابتسامة كبيرة ..
سعيدة .. مبتهجة ..
انتصبت كالرمح في عمق أوجاع خولة التي عجزت عن الحراك .. عن الكلام ..
عن ارتشاف الحنان من بين أكف هذه المرأة و هي لا تستحقه ..
لا تستحق سوى النبذ و ما مثله ..!
صوتٌ آخر .. يلتقط خيطا من حنين .. ليجر مع شدّه صورا معلّقة في داخلها .. فيعرضها أمام بؤس عينيها التي اكتشفت فجأة أنها تنغمس تحت كثافة الدموع ..
فأصبح كل ما ترى مالحا ..
مريرا ..
كمذاق عبراتها المتأخرة ..
كطعم الندم المتأخر .. و الذنب الذي لا يجدي ..
فيغدو سخيفا .. و تافها ..
و حقيرا بشكلٍ لا يصدّق ..!
- خولة .. يا حببتي .. تعالي ..! تعالي فحضن خالتك ..
و تهاوت هامتها ..
و انهارت أبراجٌ من جمودٍ شيّدتها لليلة في داخلها ..
و انهدّت أسوار البرود التي تغلّف مشاعرها ..
سدٌّ من تصلّب في صدرها ثُقب ،، ليتشقق ببطء ..
قبل أن ينفجر بعنفٍ ..
فيتدفق سيلٌ من الألم ..
يغزو روحها ..
يجتاحها ..
يغرق مدائن الإحساس داخلها ..
يقلتها ..
فيما ترتطم ركبتيها بالأرض مع الأنين المتكسّر الذي تساقط من بين شفتيها .. و هي تسكب دمعا يبللها ..
يعطن جروحها بملوحة مذاقه ..
نواحٌ شق سكون الفجر .. و ذراعي خالتها المذعورتين تتلقفان سقوطها المفاجئ ..
و لا تلملمان انهيارها ..
فادح ما ارتكبته ..
و ها هي تدرك ذلك للتو فقط ..!!
* * * * *
لم تعد خطواته تحتمل ثقله ..
كان يجر جسده الضخم جرّا يقطع المساحة الفاصلة بين سيّارته و بيته ..
بلغ الانهاك منه مبلغا .. أصبح التفكير معه متعسّرا ..
أهدر طاقته .. و ما دونها ..
ابتدأ أمسيته و كل فكره يرتكز على كيفية لجم جماح طفلةٍ يأويها بيته ..
لتنتهي ببعثره .. تلقي بكل جزءٍ من قلبه في مكانٍ مختلف ..
ما بين سقوط أمّه .. و هجر عمّته .. و صراع بلا نتيجة .. بلا معنى مع زوجته ..
ممزق ما بين رغبتهم في حمايتهم و تجنيبهم الأذى ..
و شعوره البغيض بالمسؤولية اتجاه ما حصل ..
هناك الكثير من الأسئلة تحتاج لإجابة ..
هل لميعاد علاقة بمجيئها الليلة .. ام أنها أخذت على حين غرّة ..؟
نهيان .. أين هو ..؟ أيعقل أن يكون خلف كل هذا ..؟ لما لا يرد على هاتفه ..؟ ألم يفتقد أخته ..؟
الغريب أنه على ثقة بأن نهيان يفضّل دس أخته بين جدران بيته للأبد على أن يأخذوها منه ..
ليس نهيان بالرجل الذي قد يرسل أخته كي ترمي أختها على أبواب توصد في وجهها ..
كان ليقف في وجوههم جميعا ليثبت لها حقا ..
و لا يتخذ هذا الأسلوب الدنيء ..
أين هو إذا ..؟!
هل أصيب بمكروه و اضطرت خولة الى احضار ميعاد للبيت ..؟
لا ..
تلك الحقيرة لن تنتظر سببا لتهدم أسقفهم على رؤوسهم .. لم ترد سوى التسبب بالأذية لهم .. جراء زواجه بغيرها ..
يعرف كم هي متعلقة به .. و كم تتلهف لفتات قد يلقيه في دروبها ..
لكن ما دور ميعاد في كل هذا ..؟!
مشتت ما بين جدته .. و تلك الضعيفة التي تأوي في بيته الآن بضياعها ..
أتعسه أن يكون ممزقا بين أحبته .. يهمل أحدهم ليعتني بآخر ..
خطواته المتثاقلة أوصلته لعتبة البيت الذي شهد خداعه للمرة الأولى ..
ليجد أنه آخر مكانٍ قد يتمنى أن يأوي إليه بعد أحداث الليلة ..
السكون الذي يلفّ المكان ذكّره بصمت المقابر .. لا يدري لمَ ..
يدفع الباب الخشبي الضخم ليدلف إلى ردهة بيته ..
فتنبثق رائحة الأثاث الجديدة التي تخالط الأصباغ ..
لتمنحه شعورا مألوفا للمكان الذي سكنه لأسبوعين ..
لم يحتج للبحث عنها .. أو حتى التفتيش بعينيه ..
ما ان تجاوز المدخل حتى سقطت أنظارها على دواليب كرسيّها الثابتة ..
و جسدها الضئيل يتكوّر في أحضانه الحديدية ..
على بعد أريكتين جلست حور بظهرٍ متصلّب قبل أن ترفع عينيها مترقّبة لتلتقي جمود وقفته المتعبة .. فتقف على قدميها ببطءٍ قبل أن تجر نظراتها نحو الفتاة العاجزة مرّة أخرى .. و قد بدا أن الأخيرة تسكن عوالم أخرى غير هذه التي يقبعون بها ..!
الضياع الذي يسكن ملامحها .. أعلمه أنها بعيدة كل البعد عن هنا ..
أنها تصارع ذاتها بالصمت الذي تمارسه الآن ..
راح يقطع الصالة بخطواته الواسعة .. و قوة غريبة تنبثق من العدم لمرأى ضعف هذه العزيزة التي شعرت بطيفه يحوم حولها فرفعت رأسها بلهفة ..
ما ان سقطت عيناها عليه حتى أخذت ترتعش بقوة ..
يديها تتمسكان بالمقعد الذي يحتويها .. و هر ترفع رأسها متأملة هامته الطويلة المقبلة نحوها ..
ها هو آتٍ لها ..
لم يدر ظهره و يتجاهلها ..
لم يلمها .. و يطعنها بعينيه ..
لم يحمّلها ذنبا ليس لها ..
أن ترى وجهه المألوف الحبيب .. وسط زخم الوجوه المبهمة .. المجهولة .. الكارهة ..
كان أقصى ما تتمنى ..
نظرة الحنان في مآقيه و الدفء الذي راح يلفّ فؤادها لمرأى الصدق الصرف فيها كان المنتهى بكل ما للكلمة من معنى ..
لم يعد شيءٌ آخر يعلّقها الآن في الفراغ الذي كان يجثم على روحها ..
بلغتها خطواته .. و كان هذا يكفيها ..
ذاك الألم .. الهجران .. و الصدمة ..
كل المرارة التي تحتقن بها روحها .. و كل الوجع .. و النفور و الرفض الذي تحمّلته راح يتصاعد في صدرها و هو يجثو أمامها ليتفجّر ينابيعا سخيّة من مآقيها .. راحت تسقي جفاف وجنتيها الشاحبتين .. و هي تدفع بنفسها في حضنه .. تجهش بكل الحزن القاتل الذي يكاد يفتك بها ..
شهقاتها تتعالى و ذراعيه القويتين تلتفان حول نحول جسدها .. فيما يرفع يدا ليدفن رأسها في تجويف كتفه ..
راحت تجمع شظاياها بين يديه .. تزرعها داخله ..
ينفجر الألم من عينيها .. من فمها .. من رئتيها .. و قد فاقها ..
و أصبحت غير قادرة على احتوائه ..
يديها تعتصران ثوبه و هي تصيح بنواحٍ ممزق ..
- غيييييييييييث .. غييييييييييييييييييث .. ويييييييييينك .. لااااااااااااا تخلييييييييييييييينيه .. دخييييييييلك .. و الله .. و الله .. ما كنت أدري بشي .. و الله .. غيييييييييث أحلف لك بربي .. ماليييييييه خص في لي استوى .. ما كنت أدري ان هذااااا بيتكم .. ما بغيييييييييت شي يستوي بأمك .. و لاااا بغيت أأذيييييهااا .. و الله ما دريييييت انه بيتكم ..
دست رأسها في صدره الفسيح .. و هي تشد بيديها على ثوبه و كأنها تخشى أن يتركها فريسة للهجر فجأة كما فعل الآخرون ..
يده الكبيرة التي راحت تمسح على رأسها بحنان .. ينشد به طمأنتها .. انحنت لترفع رأسها عن صدره قليلا .. إلا أنها لم تشأ أن تترك الأمان الذي يغمرها الآن ..
هو هنا ..
لن يصيبها مكروه ..
و لن يتركها ..
لكن عليه أن يصدق أولا بأنها لم تكن تقصد الأذية .. ليست وراء كل ما حدث ..
لا تستحق هذا الحقد في أعينهم .. و لا يمكنها أن تواجه هذه الكراهية ..
رفعت رأسها بجنون نحوه .. تتطلع لوجهه المألوف .. تتوسله ان يصدقها .. بعينين انتفختا و احمرتا .. و شفتين مرتعشتين .. و وجه أغرقته الدموع ..
تتقطع كلماتها بين الشهقات التي تهز جسدها ..
- هاااااي خووووولة .. قاااالت .. قاااالت .. انه هذااا بيت ربيعتااا .. كنااا بنسيييير بيت ربيعتااا .. بس مااادري ليش يينااا اهنيييه .. غيييييث .. و الله انيه ما قلت شي .. هي .. هي .. غييييث أحلف لك بالله .. مااا يخصنيييييييه .. حتى .. حتى قلت لهم ان الرمسة كلها كذب .. بس هي يااابت أوراقيه .. و فرتاا .. و فرتنيييه ..
بكت بشدّة و هي تستعيد تلك اللحظة القاتلة .. و ضربت صدرها بألم حقيقي .. و يدها الأخرى تمسك بذراع غيث المجروحة بقوّة تشتد عليها ..
ليغمض هو عينيه بصبرٍ يشهد انكسارها دون أن يكترث لألمه ..
- فرتنييييييييه .. غييييييييث .. خوووولة فرتنييييييييه .. ساااااااارت و خلتنييييييه هنيييييه .. زقرتهااا بعالي صوووووتي .. راااااحت ياااااا غييييث .. حتى .. حتى .. حتى أبووووية سيف .. عطااااانيه ظهره ..!! لو شفته .. ما طالع في ويهيييي .. باغظنييييه .. بس و الله ما سوييييت شي .. ما ييت بكيفي .. ابويييية صد عنيييه .. ما يباااااانيه .. كنت بقوووله .. بقوووله أنااا ما سويييت شي .. ما ييت هنه بكيييفي .. بس راااح هو بعد ..
و انهارت أمام نظرته المتألمة على حالها ..
- أنااا ذبحت أمك .. أمك ماااااااتت بسبتيه .. لو ما درت انيه موجودة ما كان استوى بها شي .. آآآآآآآآه ليتني ماااا انولدت .. ليتني ما عرفت الدنيا .. غييييييييث صدقنيييييييه .. أنااا مابااا شي .. مااابااا غير انك تصدقنييييييه .. غيث لا اتخلييينيه .. لااا اتفرنيييه انته بعد .. مااالي غيرك .. محد يباني كلهم عايفينيه ..
و لم تعد كلماتها مسموعة و هو يخنق بكائها على صدره .. و يشد عليها بقوة ..
يحتضن ألمها .. و أشلائها بين ذراعيه بتعب .. و هو يمسح على رأسها بهدوء .. صوته الخافت كان يخترق انهيارها ..
لينبلج إلى أعماقها ..
يوغل في أخاديد روحها المشروخة .. ثقة أبدية .. و أمانا لا ينضب ..
- أووصصصص .. بسسس .. ميعاااااد .. ميعااااد .. خلااااص فدييييتج .. أنااا هنييييه .. ما بخلييييج .. ميعاااد .. أنا أدري انه مالج ايد في لي استوى .. و أميه نورة بخير .. و ما استوى بها شي .. لاااا تخافيين .. أنا عندج الحينه .. محد بيروم يأذيج .. خلااااص غناااتيه ..
لكن ميعاد كانت أحوج ما يكون إلى البكاء على كتفٍ تعلم أن أدمعها لن تثقله ..
لها أن تنهار إن كان هذا الجبل الراسخ من سيسندها ..
راحت تتشبث به بكل قوّة و هو يهدهدها كالطفلة ..
موجوعا لوجعها ..
و مجروحا لجرحها ..
و في داخله توعّد بأن يسحق خولة بيديه ..
تلك اللعينة لن تفلت من بين براثنه ..
سيجعلها تتجرع الدموع التي سقتها الأقربون إليه كؤوسا ..
ويلٌ لها ..
لن يدّخر نصلا ليغرسه في صميمها ..
.
.
.
.
لم تشعر بأنها تبكي حتى انتشر البلل في خديها ..
كفٌ مرتعشة متعجّلة راحت تصد الدموع .. و تكفكفها عن وجهها ..
و هي تشهد انهيار هذه المرأة .. و غيث يلملم حطامها بصبر ..
تذكّرت النظرات الحيرى الملهوفة التي طالعتها بها هذه المرأة فور دخولها .. قبل أن تتطلع للوراء و كأنها ترتقب شخصا آخر ..
فتشخص أبصارها مطولا حتى ذلّتها الخيبة .. و أطرقت عيناها خذلانا مرّا ..
لتشاطرها السكون الذي خلّفته عفرا برحيلها .. و هن يرتقبن ذات الرجل .. و عودته ..
أوشكت الليلة على أن تقسم بأن لا تعاسة قد تفوق تعاستها ..
لكن لا تظن بانها بلغت هذا الحد من الوحدة و الهجر ..
إكتراث غيث بها .. و الدفء المنتشر في صوته .. مس قلّبها ..
أعادها لوقتٍ كانت تستشرق بشمس حنانه هذه ..
فتدفئها بدورها ..
أثّر بها صدق الإخلاص في صوته .. و الأمان الذي راح يغمرها به ..
الألفاظ الصبورة التي راح يهدّئ بها عمته .. راح تنتشر في المساحات الفارغة داخلها ..
لتجد أنها تلتمس الثبات بدورها ..
فيما تنظر لظهره العريض الذي يوليها اياه ..
تمنّت لثانية ..أن تسترق يوما من جهلها السابق بمقاصد زواجه بها ..
لتعود تلك المغفّلة الغارقة ..
و يعود هو لزرعها في قائمة أحبته ..
و لو كان نفاقا ..!
* * * * *
|