كاتب الموضوع :
زارا
المنتدى :
الارشيف
الخطـــــــــــــــوة الثانيـــــــــــــــــــة عشـــــــــــــــــــر◄
║خطوات أسمع صوت شيء تهشم تحتها ..!║
- القهوة ما بتخليك ترقد ..
قالها مايد لأبوه بهدوء .. لكن سلطان لم يعبأ به ارتشف فنجانه باستمتاع قبل أن يمده لأم مايد مرة أخرى لتملأه الأخيرة ببساطة .. و هي تتابع حديثها لسلطان الذي استرخى على المتكأ و جلس بجانبه عبيد الذي تعلقت عيناه بجهاز الحاسوب المتنقل .. و ذهنه مشغول بما تقول أمه ،،
- يوم الخميس إن شا الله .. هو ولد غاية بنت محمد ..
ابتسم عبيد بهدوء و هو يقول لأمه بلطف ..
- اماااه فديتج الريال ينسبونه لأبوه هب لأمه ..
عقدت الأم جبينها و هي تنظر له من خلف البرقع بعينٍ ناقدة ..
- بلاها الأم ..؟ ما تبون تنسبون لها ..؟ لو هب بنت عرب ما خذها الريال و ياب عيال .. و ربتهم .. عدها هي لي تربي الرياييل و الا الابو شدراه .. لاهي يراكض يمين و يسار .. و الحريم يتعبل به و بعياله .. يحملن و يربن .. و يربن و يكبرن .. و أحين ما تبون تنسبون الا لبوكم .. شوه سوا ابوكم ..
اعتدل سلطان في جلسته و هو يقول مستنكرا ..
- أنا راعي معدِّية .. شوه سويت ؟؟! ما سويت شي ..! انتي لي اشتغلتي و يبتي .. انتي لي عيشتي عيال و كسيتيهم .. انتي لي دخلتيهم المدارس!!!!!.. اسميه صادق لي قال الحريم ما فيهن يماله .. امررررة انتن لو الواحد يركض ركيض لرضاكن و يراعيكن ليل و نهار .. ما بين في عينكن ..
لوحت أم مايد بيدها منكرة ذلك ..
- يبت ربيتين و حاسبتنا فيهن .. أول الواحد ما يسوي شي الا و حرمته تعاونه .. تحيد يا سلطان يوم عدنا في الغريبة و انت كل شهر مشرّق و مغرّب .. عيالك امنوه لي أكلهم و شرّبهم .. محد لهم الا أنا .. عيل يوم بيقولون مايد و الا عبيد .. شعنه بن سلطان .. لو ع الفلوس و العيشة أخير يغيرون .. المفروض يقال لهم عيال عذيجة ..
ضحك مايد و هو يلتفت لعبيد الذي يتابع النقاش بابتسامة ..
- يا خوك فتحت لهم باب ما بيصخّون ..
ضحك عبيد و هو يعيد عينه للجهاز ..
- تخيّل يزقرونيه في الجامعة عند الشباب .. عبيد عذيجة .. هههههههه .. قسم بالله فضيحة ..
- عبوووود يااا مسود الويه ..
كانت تلك كلمة أمه التي ألجمته و هو يلتفت لها و يشد نفسه ..
- يااااااااااا لبيييييييييييييييييه يا أم عبيد بن عذيجة .. يا شيختهم و تاج روسهم .. امررة باكر بحول الجنسية يغيرون اسميه في لايواز و يخلونه عبيد بن عذيجه ..
لوحت بيدها غاضبة ..
- لا تيلس تقردنيه .. هب عايبنك اسميه .. و فضيحة ..
أشر عبيد لنفسه منكرا ..
- أفاا .. منوه قال ..؟ أنا ..؟ منوه لي ما يعرف و لا عنده ذوق ما يبا يسمي عذيجة .. أسميييه ما يعرف من الزين شي .. عذيجة .. عذيجة يعني لي متفردة بالزين و الوصوف عن العرب يميع ،،
حرّك سلطان فنجان القهوة و هو يترنم قائلا ..
- عذيجة لو تدريـن مابـي مـن العـوق .. ولــو تعلمـيـن ابـحـالـة المستـهـامـي
يوم الخلـي نايـم وخالـي مـن الشـوق .. جـفـنـي عـلـيـه الـنــوم آزم حــرامــي
الدّمـع كالمـرزاب يدفـق مـن الـمـوق .. جـنّـي رضـيــعٍ فـــي بـدايــة فـطـامـي
أو كـالأسـيـر الـلّــي مـقـيّـد مــوثــوق .. او كالغريـج اللـي وسـط مـوج طامـي *
ضحك مايد بقوة ..
- ابويه فديت خشمك .. القصيدة ما تقول عذيجة لو تدرين مابي من العوق .. تقول فيها يا شوق لو تدرين ما بي من العوق ..
عقد أبوه جبينه ..
- شدرّاك ..
- أحيدك لول تقول يا شوق .. كيف غدت عذيجة الحين ..؟ هاي هب قصيدة الحصباة ..؟ هي .. انا متأكد .. حافظنها .. الحين قدام أمايا بتغير القصيدة .. أمااه شفيه يطرب لطاري شوق .. نحن ما نسمي شوق .. طاعي من وين لافي عليها هالشوق .. كاد ربج تكون من هاللبنانيات و الا ........
نهره سلطان و عينه على زوجته التي بدا أنها تنفث لهبا من الغضب ..
- مايد يا الهرم .. لا تخرب بيني و بين أمك يا صبي ..
رفعت عذيجة حاجبها و هي تنتزع فنجان القهوة بقوة من يد زوجها .. و تقول بنقمة ..
- شعنه تسكت الصبي .. خله يقول .. و الا متروع ..
- متروع من شوه يا حرمة .. أنا ما أتروع الا من ربي لي خلقنيه ..
- الله يعلم ..
- هيه الله يعلم .. بعد شوه .. بدسها شوق لو يبتاا .. بروغ المستأجرين و بحطها في الكراج .. و الا شعنه الكراج .. بحطها في حجرة وديمة بنتج .. عمتاا و أولى بها ..
ضربت عذيجة صدرها بحسرة ..
- وااا لعقتيه يا سلطاااان كانك صااادق .. - ثم نظرت له بشراسة - انته شيبة مخرف .. محد منهن تباك لا شوق و لا عوق ..
- عوذ بالله من العوق .. منوه لي قال شيبه .. عدنيه سباب .. و بييبها شوق و بتشوفين ..
ضحك مايد و عبيد و الأخير يقول ..
- أمييييه لا تصدقينه يباج تعصبين ..
لوحت أمه بيدها غاضبة و هي تتذمر بكلمات و أبوهم لا يلقي بالا لها .. يرتشف قهوته باستمتاع ..
هذه الجلسة الهادئة .. التي لا تخلو من مناوشاتٍ عدّة .. لها لذّة مختلفة .. لا يضاهيها شيء مطلقا ..
* * * * *
نظرة أخيرة على المرآة المعلقة لجدار مغسلة الحمام الخاص بالمجلس الذي يسكنه .. رنت على باله صورة مرآة غرفته الضخمة .. ابتسم بسخرية .. حجم جناحه هناك قد يفوق مساحة هذا البيت كلّه .. عدّل - غترته - الحمراء على رأسه و تأكد من استواء - العقال - ثم ألقى نظرة على ساعته ..
الثامنة و النصف ..
عليه الذهاب الآن .. تحرك متجها نحو الباب الخارجي .. بخطواته الواسعة .. و ذهنه يستعيد وجهها المتصلب ..
و صوتها الجاف .. ما الأمر .. أ تتدلل كما تفعل النساء ..؟ هه .. فلتفعل ما تريد .. لا يهمه .. كل ما يبغيه أن تكون اكثر من راضيّة حتى يحصل عليها .. الغريب هو ذاك الضيق الذي يكتنف صدره مذ لمس جفاءها في تلك اللحظات .. شعور بالاستياء جعله راغبا في الدخول و جرّها للخارج كي يسألها سبب هذا البرود الكريه ..
خرج من الباب و هو يضغط على زر فتح الأبواب الأوتاماتيكي من بعيد لتومض أنوار السيارة معلنة الاستجابة .. خطوتين و هو يدنو من سيارته قبل أن يتجمد في مكانه ..
الضجّة المعتادة لهذه الحارة الضيقة ببيوتها المتقاربة .. أبواق السيارات و أصوات حركتها القادمة من الشارع العام القريب .. صرخات الاطفال من شتى الأماكن .. و أنفاس الليل الخريفي الذي راح يدحرج أمامه وريقاتٍ يابسة تساقطت من شجرة عجوز .. انحنت بتعب أمام البيت المجاور ..
كل هذا .. لم يمنع ذاك الصوت من التسلل لأذنه .. أرهف السمع أكثر .. و عيناه تتحركان بسرعة في الشارع أمامه .. شعور بارد سرى على طول ظهره الذي تصلّب في وقفته .. وقشعريره تدفقت في جسده ..
صوت ونين خافت امتزج ببكاء ضعيف كان يصله بوضوح .. استدار حول نفسه ليلقي نظرة إلى الخلف ..
فورا سقطت نظرته على الزقاق الداكن .. و ظلال جسد تكوم فيه .. ضيّق عينيه ..
ماذا ..؟ حيوان ..؟ يستحيل ذلك .. سمكنه أن يميز خطوط ذاك الجسد البشري .. لبرهة أبت قدماه التقدم .. لا يدري لما منعه شعور ما من اكتشاف من يختفي في الزقاق .. نحى تلك الرغبة التافهة جانبا .. و هو يتقدم ببطء نحو مصدر الونين ..
كان الزقاق أمامه ضيّقا للغاية .. يفصل بيتين متجاورين و يصل بين هذه الحارة و الحارة الأخرى .. أضواء البيوت الخافتة تلقي ظلالا من الضوء عليه ..
هاهو يدنو الآن يقترب من فوهة الزقاق .. و عيناه تضيقان في محاولة تبيّن هذا المخلوق المكون .. ما ان أصبحت تفصله بينهم خطوات .. حتى اتسعت عيناه بصدمة .. كانت شابة تجلس بطريقة ملتوية غريبة و هي تضم نفسها بقوة .. تشعث شعرها الطويل حول جسدها الذي راح يرتجف بشدّة .. و صوت أنينها أصبح مسموعا حين اقترب .. اقشعر بدنه لنواحها الغريب .. بدت متوجعة .. أو ممزقة لا يدري ..
شعر بقدماه تتصلب على بعد ألم منها .. كأنها تئن و هي تصرّ على أسنانها ..
فخرج بكائها مفجعا .. الغريب أن الثوب بدا له مألوفا .. و هذا الطول الذي تبين رغم وضعية القعود المخيفة التي اتخذتها في التواء .. يعقد جبينه محاولا تعرفها ..
لكن وجهها كان يختفي تحت ستار شعرها المبعثر الثقيل ..
هناك شكٌّ أخافه .. ماذا لو كانت هذه إحداهن ..! قد أمضى أشهرا هنا .. خالطهن بما يكفي لتعرفهن في أي مكان ..
هل يعقل ..؟ لا .. لا يمكـ ...
حاجبيه معقودين و صوته بدا متشككا و هو يسأل من مكانه الذي وقف فيه ..
- نــــــــورة ..؟
انتفض جسد الشابة بقوة .. و كأنما لم تشعر بدنوه الا للتو .. لترفع رأسها نحوه و تطلق عويلا قبض قلبه بقوة ..
اتسعت عيناه و هو يرى تلك الظلال الداكنة التي انسكبت على وجهها ..
هذا الوجه حتما لإحداهن .. لا يمكن أن تكون أكثر شبها من زوجته ..
وجد يده تنتزع - الغترة - بقوة من على رأسه دون أن يبالي بالعقال الذي سقط أرضا .. يفردها في حركة واحدة ليلقيها على رأسها و وجهها .. لا زال عوزيلها العالي يشق الهواء ..
لحظات فقط و سيجتمع أهالي هذه الحارة ليروا هذا المنظر.. لن ينتظر حتى يحدث هذا .. تأكد من تغطيتها و هو يجثو نحوها ..
- نورة ..؟ نورة .. نشي .. خلينا نحدر البيت ..
لكنها لم تفعل .. كل ما فعلته هو أن تعوي بأعلى صوتها و تتلوي بقوة تحت ناظريه حتى كادت الغترة أن تسقط عنها ..تصيح بكلماتٍ مبعثرة غير مفهومة و هي تهوي بيدها في كل اتجاه و كأنما تريد النيل منه .. تلتقط حفنة من التراب لترميها في وجهه القريب ..
- يااااااا الكلللللللللب .. حيواااااااااااااااااااااان .. لاااااااااااااااااااا ياااااااااا كلللللللللللللللب .. لاااااااااااااااا تلمسنييييييي .. لاااااااا دخيييييييلك .. حرااااااااااااااااام ..
أعمت عيناه التربة .. كما أعمت ذهنه الصرخات .. لم يستطع التفكير بأي سبب قد يدفع ابنة عمه للجلوس بلا غطاء و البكاء بهذا الشكل المفزع في الزقاق .. سمع أصواتا تأتي من - حوش - البيت المجاور .. و علم أنها لحظات فقط قبل أن يتجمهر الناس حولهما .. لم يعد أمامه سوى جرها بقوة .. و لكنها كانت عنيفة .. تلتصق بالأرض رافضة الحراك .. قبل أن يلتقطها و يرفعها بين ذراعيه في حركة سريعة .. ليقطع الزقاق و يدلف باب البيت القريب .. و يغلقه خلفه بركله من قدمه .. سارع يقطع الممر الفاصل بين المجلس و الحوش ..
تتلوى بين ذراعيه بعنف .. قبضتها ترتطم بصدره و وجهه قبل أن يتجاوز الباب ينزلها أرضا ..
هذه الفتاة ليست في وعيها ..!!
أشاح بوجهه عنها .. صرخاتها و عويلها المتتالي تلك الكلمات المبعثرة التي بلا معنى .. لم يفهم شيء ..تقدم نحو باب الصالة ليقف على بعد خطوات قبل أن ليهتف مناديا بقلق ..
- حووووووووور ..
الحقيقة أن قلبه كان يخفق بعنف .. و شعور بالاستياء يجتاحه .. و هو ينتظر ظهورها .. صرخات أختها تأتي من خلفه و هي تجثو على الأرض .. لحظيتن مرت دون ظهورها .. لحظتين أفقدته صبره ليصرخ بغضب ..
- حوووووووووور ..
و على آخر صرخته خرجت مندفعة من الباب .. و هي ترفع غطاءها على شعرها بخوف .. لم تتفوه بكلمة و عيناها تصطدمان بجسده العريض الواقف أمام باب الصالة مباشرة .. قبل أن تسأله عن الخطب كشف صمته عن ذاك الصوت المريع ...
.
.
للبرهة فقط ظنت أنها تتوهم الصوت و عينيها تتسعان بغباء محاولة ربط الصوت مع أي شيء قد يصدر عنه .. هذا قبل أن يتنحى بجسده العريض جانبا .. كاشفا عن تلك الملقاة أرضا على وجهها .. و نحيبها المكتوم لا ينقطع .. تيبست في مكانها لبرهة و هي تتأمل الثوب المعروف لعفرا .. و قد غطت شعرها و وجهها بغترة حمراء .. و بدت أطراف شعرها الطويل تتناثر حولها .. وضعت يدها على فمها .. قبل أن تجري نحوها دون أن تبالي بضخامة غيث الذي دفعته جانبا بفزع .. قبل أن تبلغها .. و هي تصيح ..
- عفرااا .. عفرااا .. بسم الله عليج .. عفرااا .. بلاااااج
قلبها الجزع راح يخفق بجنون .. عفرا تتشبث بها و وتيرة بكاءها تزداد بجنون .. راحت الدموع تملأمقلتها .. و هي تلتفت لغيث صارخة ..
- شفيهاااا ..؟؟؟!!! شوه سويييت بها ..؟؟!
اتسعت عيناه بصدمة .. قبل أن يصر على أسنانه بقوة و هو يكبح غيضه ..
- ما سويت بها شي .. لقيتهاا بلا شيلة تصيح في السكة ..
تدلى فك حور المذهولة .. و غيث يتجاوزها خارجا من الحوش متوجها للمجلس .. ليترك لها مجالا كي تتصرف مع أختها و بكاءها المجنون ..!
في اللحظة التي خرج غيث فيها من الحوش .. انتزعت حور الغترة و أبعدتها عن وجه عفرا .. قبل أن تطلق صرخة قصيرة مذعورة ..
- نووووووورااااااااااااااااه .. داااااااااااااااااااااااانة ..
كان الدم يغطي وجه عفرا .. فمها .. أنفها .. لونه الأحمر القاني اختلط بدموعها الغزيرة و صوت بكاءها المخيف تردد في أذن حور التي كانت تضمها بقوة حين تشبثت بها عفرا و هي تبكي بصوت عالي ..
- الكلللللللب .. الكلللللللللب .. ليييييييييييييييييش .. يا حيوااااااااااااااااااااان ..
خرجت نورة و دانة معا و الخوف جلي على وجوههن .. نورة تضع يدها على صدرها ..
- بسم الله بلاج انتي و ريلج تصارخون ..؟
صاحت بها حور و دموعها تبلل خدها على منظر أختها المفجع ..
- ذلفي هاتي ماي بسرعااااااااااااااااه ..
تقدمت نورة للأمام مأخوذة بما ترى و وجهها يسود بصدمة ..
- عــ .. عفاار..ي ..
صاحت حور بقوة ..
- هااااااااااتي مااااااااااااااااي ..
أخرجتها حور من صدمتها لتستدير راكضة للمطبخ .. دانة المتجمدة و يدها تشد على صدرها بفزع .. قبل أن تتعثر بخطواتها للأمام .. و تمسك بيد عفرا ..
- عفرا .. حبيبي .. عفاري .. شوه بلاهاا حور .. شوه استوى عليها ..
انهمرت دموع حور و صوت بكاء عفرا يخف وتيرته بيأس مرير و الأولى تهمس بخوف ..
- ماا دري .. ماا دري ..! يا ربييي .. عفاري .. بس حبيبتي ..
وضعت دانة يدها على فمها و هي تقول بألم محاولة منع نفسها عن البكاء ..
- حوووور .. في ويهها دم .. يمكن طاحت ..؟
ضمتها حور أكثر و هي تسمعها تئن بشيء ما ..
- مادري .. - ثم صاحت بقوة - نوووووراااااااااه ..
مع صرختها خرجت نورة تحمل كوبا كبيرا به ماء لتدنو به من حور التي تحاول جاهدة تهدئة عفرا .. عفرا التي تدفن وجهها الملطخ بالدماء في صدر حور التي كانت تهزّها بصبرو عبراتها لا تتوقف ..
- بس فديتج .. بس .. عفاري .. تعوذي من ابليس .. بسم الله .. شوه استوا عليج ..؟!
و أبعدتها قليلا تلتقط كوب الماء لتدنيه من شفتها .. لكن عفرالم تشرب الماء .. كانت تنشج بصوت يائس غريب مع ظهور مزنة و هند اللتان وقفن بباب الصالة و نايف الذي اندفع من الداخل نحوهن .. عفرا تخفي وجهها في صدر حور ..و صوت متقطع مفزع يصدر عنها و هي تقول بنوح ..
- أ .. أأنااا .. أصااارخ .. و انتوو ما تسمعووووني .. ليييييييش .. ما سمعتووووني .. آآآآآآآآآآه ..
.
.
كانت تشعر بيدي حور تضمها بشدة الآن .. و ألم رهيب راح يعتصر رأسها .. و روحها .. تريد أن تبكي حتى تموت ..
حتى تفنى .. لقد كُسِرَ كل شيء .. كل شيء ..
اليأس ينتشر في دمها و هي تشعر بأن صوتها يخمد .. و أطرافها ترتخي .. رأسها يسند بثقل على صدر أختها .. و كلماتها الذي يفترض بان تهدئها .. تذبحها ..
كيف لهم أن يتحلّقوا حولها هكذا و قد نحر شرفها للتو .. بعثرت أنوثتها .. كل ما قد يحمله المستقبل من لونٍ وردّي استحال لظلمة أفزعتها .. وبرد ارتعشت له أوصالها .. الآن .. و هي تبكي هنا بلا حيله ..
تسقط أوجاعها دمعا بمرارة و يأس .. بدت أيامها القادمة خاوية .. و بلا معنى ..
كل شيء ذهب أدراج الرياح ..
لا حيلة بيدها سوى أن تبكي نفسها .. و كل أسود قادم في أيامها ..
شعرت بحرقة في جوفها .. أطلقتها بنواح ممزق .. و هي ترتخي ..
إذا ما لم يكن هذا هو الموت ..؟! فكيف بالأمر إذا ..؟!
.
.
.
ليه تضميني لصدرك ..؟
ليه بس لوثتي طهرك ..؟
شلّي ايدك عن كياني ..
ودي لوحدي أعاني ..
بعد هالليلة خلاص ..
ماني من يرفع الراس ..
ماني من به شد ظهرك ..
أنا طفلة ..
انسرق لون البراءة من دمي ..
و عافت الضحكات رسمة مبسمي ..
دمعي ينحدر ألماس ..
أصيح بعالي الأنفاس ..
دنسني حقير الساس ..
.
.
منهو انتي ..؟
روح تسكِّت ونتي بصوت هادي ..
خارج المأساة تسكن ..
شايفة هالوضع عادي ..!
وين كنتي ..؟!
حين داسو على حلمي بالقدم ..
هدموه .. و بعثروه .. و احرقوا كل اللي باقي ..
بلا ندم ..
على حالي ..
يوم أنا بحرقة أنادي ..
ما عرفتي ..؟
انكسر فيني أمل ..
وطّوا راسي في الرمل ..
معاد ينشي الروح مني ..
غير حسرة استبدت في فوادي ..
و عين يسكنها سهادي ..
بعثرت أحلامي غلطة ..
و شتتني .. ضيعتني ..
كل ذرة من شموخي ..
أصبحت تسكن في وادي ..!
ما سمعتي ..؟
بعضهم قالوا علي إني نكرة ..!!
إني وصخة ..
إني ما أسوى حتى نظرة ..!
و سدت الحلق عبرة ..
الكل لي أصبح معادي ..
و أنا تذبحني حسرة ..
وينهم يومي أنادي ..؟
ليه ما فزعوا لي مرّة ..؟
يوم لطخ طيب ذكري بالسوادي ..؟
ما فهمتي ..؟
شلّي ايدك عن كياني ..
ودي لوحدي أعاني ..
ودي أنسى هاللي صار ..
أبا أتخذ هذا القرار ..
و أحققه بكل بعنادي ..
ودي أرحل عن زماني ..
بحمل على ظهري عار ..
و في دمعتي حرقة و نار ..
و إذا فعلي هو أناني ..
ما يهم ..
أبا أنتفض من هالدمار ..
أجمع حطام حلمي
و الأماني ..
و أبني بيت ..
أسكن بوسطه لحالي ..
حتى لو لونه رمادي ..
خلوا حزني يغدي دار ..
موجعي شبك النوافذ .. و الألم أصبح جدار ..
مدمعي شربة شفاهي .. و الجرح لي باب جار ..
خلو مأساتي الوسادة ..
و حلمي الميت مهادي ..
.
.
ليه تضميني لصدرك ..؟
ليه بس لوثتي طهرك ..؟
شلّي ايدك عن كياني ..
ودي لوحدي أعاني ..
بعد هالليلة خلاص ..
ماني من يرفع الراس ..
ماني من به شد ظهرك ..
أنا طفلة ..
انسرق لون البراءة من دمي ..
و عافت الضحكات رسمة مبسمي ..
دمعي ينحدر ألماس ..
أصيح بعالي الأنفاس ..
دنسني حقير الساس ..**
* * * * *
- هالصريخ من بيت بو نايف ..؟
قالتها أمها و هي تتكئ بتعب على مخدتها الثقيلة .. حين رأت جبين ابنتها بنعقد في قلق قبل أن تجيب بتوتر ..
- هيه و الله .. هذا صوت حور .. بلاهن ..؟
همست أمها بتعب ..
- تزاقر على خواتاا .. يمكن بعيدة عنهن ..
لم تجبها فاطمة و جبينها لا يزال معقودا .. قبل أن تنهض من مكانها بسرعة و هي تستأذن أمها ..
- أنا بفر حصا ع دريشة مطبخهم أشوف شوه السالفة ..
لوحت أمها بيدها ..
- سيري وايقي في الميلس اول شوفي خوج راقد هناك.. الهرم من ظهر أمس ما شفناه .. مادري متى بينصلح حاله ..
لوحت فاطمة بيدها يائسة ..
- ما بينصلح حاله هالتعبان .. الله يكفينا شرّه بس و بلاويه ..
ثم تركت غرفة امها متوجهة للمجلس الذي يقع عند الباب الخارجي مباشرة ..
فكرت بانه لا داعي لهذا القلق الذي راح يكتنف صدرها على حور .. بدايةً كانت صيحة رجل مفزعة تنادي باسمها .. ثم صوتها تصيح بأخواتها و كانها تستغيث ..!
رأت نافذة المجلس المظلمة .. لا بد أنه هنا عديم النفع ..!
دفعت الباب بقوة لا مبالية .. و أضاءت الأنوار .. أول شيء ادركته أن جهاز التكييف لا يعمل .. أدارت عينها في المجلس الصغير .. بسرعة .. خالٍ ..
لكن ..
عادت تنظر لذاك الشيء الملقى أرضا .. لتتسع عيناها بشدّة .. دنت منه ببطء .. لتمد يدها و تلتقطه من الأرض ..
كان غطاء الصلاة الخاص بعفرا مرميا هنا .. نظر حولها مجددا .. قبل أن تصطدم عيناها مجددا بقطع مشبك كبير انكسر الى نصفين ..
تقف مكانها و هي تنقل النظر بين الغطاء و المشبك ..
لا شيء .. لا شيء أبدا قد يخطر لها و يفسر وجودها هنا ..! ما الذي قـ ....
التفتت بقوة حين شعرت بحركة عند الباب .. تقبضت يداها على الغطاء بقوة حين رأته يقف أمامها .. و قد بدا الاضطراب على وجهه لبرهة .. لم تستوعب ما الذي يفعله أخاها هنا ..
- سالم ..؟
لم يرد عليها .. ضيّق عيناه على ما تمسك بيدها قبل ان يرفعها لوجهها الحذر و هي تقول ..
- متى ييت ..؟
توترت شفتيه قبل أن يقول بقسوة ..
- تونيه .. شوه تسوين في الميلس ..؟
رفعت حاجبها بهدوء و ترد ..
- أدور عليك ..
أشاح بوجهه عنها و هو يقول ..
- ذلفي سوي قهوة بييني ريال الحين ..
لم تتحرك من مكانها .. هناك وميض في ذهنها راح يدور ببطء .. لا تعرف لما تريد الوقوف هنا حتى توضح أمر ما ..
ما هو ..؟!
لا علم لها ..! فقط .. ماذا يفعل غطاء عفرا و مشبكها المكسور في مجلسهم يا ترى ..؟!
لما هذا التعبير الذي كسا وجه أخيها للمرة الأولى تراه .. شيء يشبه الارتباك ..؟!
- انتي بتتحركين و الا شوه ..؟؟؟؟
ضرخ بها فجأة لتنتفض في مكانها بذعر .. قبل أن تندفع بسرعة .. تتجاوزه لتتوجه خلف البيت مباشرة ..
.
.
وضعت الغطاء و المشبك جانبا .. و التقطت بعض الحجارة لترميها على نافذة مطبخهم ..
مرة ..
مرتين ..
راحت ترمي الحجارة واحدة تلو الأخرى دون فائدة ..
لا أحد يجيب ..
حين يأست تركت الحصى الأخيرة تسقط من يدها التي ارتفعت لتضغط على قلبها بقوة ..
ضيق مقيت اعتصر قلبها و عيناها تتأملان الغطاء مجددا ..
ما الذي حدث يا ترى ..؟!
* * * * *
في اللحظة التي أوقف سيارته في الباحة الأمامية العملاقة للمنزل الكبير بجانب جمع السيارات الغفير .. علم أنهم في انتظاره .. الجميع هنا .. و تأخر هو عن تأخيره المعتاد .. هاتفيه المتحركين لا يكفّان عن الرنين .. و هو جالس بتصلب في مقعده .. قبضته تعتصر المقود المكسود بالجلد الدافئ .. و هو يسحب أنفاسا عميقة متعاقبة ..
منظرها .. بكاءها .. و تلك الكلمات المبعثرة .. تعاد مرارا في ذهنه ..
انكسارها ذاك و بكاءها .. أعاده لما يعيشه حين تغفو الشمس .. و يسدل الليل أجفانه .. حين ينأى كل واحد ممن حوله بعيدا .. ليجد نفسه وحيدا ..
يغالب كل ما يغزو ظلمات ذاته .. و مرقده .. أغمض عينيه بهدوء و هو يعيد رأسه للخلف ..
صور متقطعه .. بلا ألوان .. تغشى ناظريه ..
صيحات مفزعة .. و ضجّة ... و إحساس يألفه .. ذاك الهواء الذي لا يصل لرئتيه ..
راح يعب الهواء بقوة .. و ضيق غريب يكتسح صدره .. لطالما انتشله من سواد تلك الرؤى إختناق ..!
عاد هاتفه يهتز بجنون مرّة أخرى .. ألقى نظرة غير عابئة به .. قبل أن يستوقه الرقم الذي تألق على شاشته ..
هذا هو الشخص الوحيد الذي لن يتجاهله ..
أبدا ..
التقط الهاتف يرد عليه بحركة سريعة ..
- مرحبا ..
صوته القوي الهادئ يتدفق من سماعة لأذنيه .. يسري في عروقه ممتزجا باحساس مريح بالأمان و الطمأنينة رغم كلماته المختصرة ..
- وين انته ..؟
أغمض عينيه و هو يزفر مطولا قبل أن يرد بهدوء ..
- عند الباب ..
صمت ساد لبرهة قبل أن يأتي الصوت أكثر خشونة بقلق ..
- رب ما شر ..
ابتسامة غريبة اعتلت شفتيه .. للحظة شعر بأنه عاد طفلا في كنف ذاك الكبير .. يفزعه .. و يقلق عليه ..
- و لا شر .. الحين حادر ..
أنهى المكالمة دون أي كلمة أخرى .. و دون أي مجال للعودة إلى تخبط الأفكار .. فتح باب سيارته يترجل منها .. ما ان أغلقها .. حتى رفع حاجبه ببرود عندما وقعت عيناه على السيارة التي دلفت البوابة الكبيرة للتو ..
يبدو أنه ليس الوحيد المتاخر هنا ..!
انتظر أن يركنها في مكان قريب قبل أن يترجل راكبها .. و يتوقف أمام الباب لبرهة .. يصفق باب السيارة و يغلقها .. ثم يتوجه نحو غيث يخطوات واسعة ..
- السلام عليكم ..
رد غيث بصوتٍ ثلجي ..
- و عليكم السلام و الرحمه .. تو الناس ..
سلّم عليه بحرارة قبل أن يقول ..
- من المغرب و أنا هنيه رديت البيت أييب أوراق و أيي .. شحالك ..
تنهد غيث و هو يرخي عضلاته المشدودة .. لا يدري لما تمنى أن يكون حامد متخلفا كعادته .. ليستمتع بتأديبه فيفرغ شيئا من هذه الطاقة السلبية التي راحت تتوزع في أطرافه ..
- الحمد الله .. انته شحالك .. علوم الدوام ..
تقدما يمشيان سويا باتجاه المجالس التي تقع منفصله عن المنزل الرئيسي .. و حامد يلعب بمفاتيح سيارته مجيبا بهدوء ..
- يسرك الحال ،، كل شي طيب .. شهرين و بيردون فهد للادارة التنفيذية ..
عقد غيث جبينه و هو يقول باحتقار عميق ..
- ما يستاهل يرد .. لو منهم خليته مفرور في المخازن الين ما يموت ..
هز حامد كتفيه بلا مبالاة ..
- عميه أحمد ما بيطيع يخليه اهناك .. و لو انه وقف وياك يوم بغا يضيّع الهرم المناقصة ربك ستر .. المهم يوم بيرد .. أرد الدائرة القانونية .. و الا أتم في التنفيذ ..؟؟!
تنهد غيث ..و الضيق ذاك لا يتزحزح ثقله عن صدره ..
- أباك تيي عنديه .. بس فنفس الوقت أبا العين على فهد لا يتدخل شرا المرة لي طافت و يخرب عليّه .. ما عليه .. عقب شهرين .. يصير خير ..
كانا قد بلغا المجالس .. راح حامد يمرر يده على غترته متأكدا من وضعها .. تنهد غيث و هو يتذكر غترته التي تركها على عفرا و ارتدى غيرها ..
قطع ممر قصير يتفرق لمجموعة من الحمامات و يقود طريق آخر منه لأربعة مجالس ضخمة .. اقتربا من أدناها بصمت .. دلفا من باب المجلس الذي فتح على اتساعه لتجتاحهم موجة من الأصوات الرجولية الغليظة و الاحاديث المتفرّقة .. ليسلم غيث بصوتٍ جهوري استدارت له رؤوس الحاضري ن..
- السلام عليكم و الرحمه ..
كان المجلس مكتظا بالرجال .. فالعشاء الذي يعدّه جدّه بمناسبة انتهائهم من مشروع ما لم يتذكره ذهنه المزدحم ما هيته ..
الأصوات الغفيرة التي ردّت السلام و راحت ترحب به زادت من صداعه و عينه تتعلق لثانية بعين جدّه الذي نظر له مباشرة من صدر المجلس بعين ثاقبة و كأنما يريد اختراق غياهب روحه ليستشف الشيء الذي زعزع ثباته و لو قليلا ..
تحرك غيث بهدوء يسلّم على الحضور واحدا تلو الآخر .. فيما تجاوز حامد من رآهم و توجه للذين لم يلتقيهم بعد ..
معضم هؤلاء لا يعرفهم رغم التقاءه بهم في عدّة مناسبات .. يسلم عليهم واحدا تلو الآخر .. وجوه متتالية عدة لم يستوقفه أيٌّ منها .. سوى .......
الصوت الأثير الذي تسلل لأذنه و هو يسلم بعمى على ذاك الرجل ..
- حييّه بو سيف ..
انتصبت عينا غيث عليه و هو يبتسم بدهشة ..
- و به حي .. مرحب ..
و سلّم عليه بحرارة ..
- قلت ما بتيي ..؟؟!!
ردّ نهيان ابتسامته بهدوء ..
- تعشيت ويا الأهل و ترخصت منهم .. يسلمون عليك ..
شد غيث على يده ..
- الله يسلمك و يسلمهم .. سلّمت على بويه سيف ..؟!
هز نهيان رأسه ..
- هو لي قرب بيه .. يتخبر عنهم ..
كلمات مختصرة قبل أن يفلته غيث و يواصل الدوران على الموجودين .. ما أن بلغ فهد الذي توسط بو غيث و سيف .. حتى شد على كفّه و هو يسلم .. شعر بأنه على وشك أن يسحقها .. و نظرة فهد الباردة تخفي حقدا دفينا ..
لا يرتاح له .. و لا يحبه ..
أفلته .. ليسلم على البقية .. و لم تخفى عليه نظرة سيف المستاءة و هو يتأملهما .. لطالما سعى سيف جاهدا للاصلاح بينهما .. لكن يستحيل ذلك .. كيف له أن يدفعهما لتقبل أحدهما الآخر .. أو ايثار السلام ...؟!
احتضنت يد جده كفّه القوية يده و هو يشد عليها .. شعر بوخزة في صدره .. شعر بامتنان عميق و نظرة جده المتفحصة تمسح تعابيره ببطء ،،
قلق عليه ،،
دوما سيعود ذاك الطفل الذي كبر في كفنه .. و الذي زرع في داخله كل مبادئه .. قيمه .. سيعه الحثيث لرزقه ..
الرجل الوحيد الذي ارتشف من راحتيه معاني القوة ..و القسوة و الجفاء ..
هذا الكبير هو الذي ربّاه .. و ضمّه تحت جانحه .. أعاد له الأمان حين ضيّعه في غفلة عن الآخرين ..
بعدها تعلم أن يدرج كل طيف لمشاعرٍ واهية في طيّات نفسه .. خفيّة عن أي يدٍ قد تمد لتقتلعها من جذورها ..
أي لين قد يؤدي لدهسه تحت الأقدام ،، أدرك أن لا أمان له .. عليه أن لا يري الآخرين أنه قابل للكسر ..
.
.
هذه المشاعر المتضاربة ..
دفق من الأحاسيس المضطربة .. الغابرة ..
التي يستيقظ كل صباح فيدثرها في نفسه .. يجد فرجا كي ينفس عنها ..
هذا الضيق الذي يكتنف صدره ..
ما الذي دفع بزخم كل هذا للمقدمة ..؟!
بكاء تلك الشابة ..؟! انكسارها أمام عينيه ..
لوعتها التي لمسها في عويلها .. نبش فزع عايشه ذات عمر ..؟!
هز رأسه لجدّه بابتسامة واثقة .. و هو يغلّف أحاسيس عينيه ببرود ..
ليس عليه أن ينثر كل غباءه هنا .. حين يختلي بنفسه سيجد تفسيرا لكل هذا ..
كل ما في الأمر أنه شعر بحاجة ماسة تحثّه على رؤية جدته ..
يريد أن يرفل لثانية في عطاء تلك الأم ..
يعلم أنه سيجد الاستقرار بعدها في تلك الليلة ..
* * * * *
كان يقف أمامه مباشرة .. يعلم أن أبناء هذا الرجل يهابونه .. يطيعونه .. و لا يمكن لأحدهم أن يخرج عن أمره ..
فعلها أحدهم ذات يوم .. و نفي لمرابع الهجران .. حتى رحل ..
وجهه القوي .. نظراته الثاقبة .. تلك الحيوية التي تتدفق من عينيه لا يتمتع بها من هم يصغرونه جيلا .. رغم ذلك لم يرهبه ذلك .. كلن يهاب جده و يحترمه .. و لكن حين تكون ممسكا بحقٍّ بين يديك .. تريد ايضاحه .. لا شيء أبدا قد يجبرك على التراجع .. لذلك لم يكن ينتظر سوى سؤال جده الصارم و هو يقول ..
- رب ما شر يا بو هناد .. شوه الموضوع لي تبانيه فيه ؟؟
ثم رفع عينه للساعة المعلقة على الجدار .. عقاربها تجاوزت الثانية عشر بعد منتصف الليل .. كان العشاء قد انتهى .. و ذهب المدعوون منذ ما يقارب الساعتين فلم يتبقى سوى أفراد العائلة منهم من مضى لبيته و منهم من دخل لرؤية أم علي و وجد هو فرصة للحديث مع جده جانبا ..
أزاح سيف غترته عن رأسه و هو هو يحك لحيته بيده الأخرى قبل أن يقول بهدوءه المريح ..
- و لا شر يا بويه .. أبا أرمسك في شي .. و أنبهك عليه ..
استرخى الجد و عيناه تتأملان هيئة سيف المسالمة ..
- لي هو ..؟
سحب نفسا عميقا قبل أن ينظر لجده و يقول بصوت وقور ..
- ما تلاحظ يا بويه انك تبد غيث على عيالك و على باقي عيال عيالك ..؟
صمت ساد المكان لأنفاس .. و سيف ينظر لجدّه الذي راح يرد نظرته بقوة لم تزعزع ثبات ذاك .. قبل ان يرفع الجد حاجبه ببرود ..
- غيثر أنا لي مربنه .. عادنه ولديه هب ولد ولديه .. و غيث أكبركم .. و عونيه ..
هز سيف رأسه بثبات دون أن يتراجع ..
- كل هذا على العين و الراس .. لكن اتم مفرق امبينا .. تبد غيث علينا .. و تميزه .. و هالشي ما ايوز بارك الله فيك ..
لم يرف للجد جفن و هو يعقد ذراعيه ..و يقول ببرود ..
- شوه لي ما ايوز ..؟
قال سيف بقوة ..
- ما يوز تفرق بين عيالك ..الرسول عليه الصلاة و السلام نهى عن هالشي .. واحد من صحابة الرسول هو النعمان بن بشير رضي الله عنهما يقول : تصدق علي أبي ببعض ماله . فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أفعلت بولدك هذا كلهم ؟ ) قال : لا . قال ( اتقوا الله واعدلوا في أولادكم ) . فرجع أبي . فرد تلك الصدقة ***..!!
عقد جبينه و هو ينحني للأمام و يمد راحتيه و كأنما يفرد الفكرة أمامه و صوته لا زال هادئا ..
- و انته يا بويه الله يهديك .. تفرق امبينا و معطي غيث الخيط و المخيط ،، التمييز لي انته تسويه و محاباة غيث من بدنا ما تسوي الا البغظ .. الشيطان بيدخل بيننا و نحن نشوفك تخصه عنا ..! الشيطان لي دخل بين يوسف و أخوانه .. و فرق امبينهم .. يوم ربي يقص قصتهم في كتابه العزيز .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ،، بسم الله الرحمن الرحيم : ( إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عُصبةٌ إن أبانا لفي ضلال مبين )****
تنهد بسماحة ..
- يا بويه بارك الله فيك .. لي تسويه هب زين .. اعدل .. اعدل .. لا تعطي حد و تقصر عن حد .. الشيطان و الحقد بينفرنا من بعض .. الغيرة و الحسد بتدخل بينناا ..
ثم صمت ..
لحظات مرّت ثقيلة .. و تعابير الجد المتجمدة لا تفصح عن شيء .. لا يدري لما راود سيف شعور بانه نطح جدار ..
شرعان ما تأكد من ذلك حين تلفظ جدّه برده البارد ..
- بس هذا لي عندك ..؟!
راحت الخيبة تجرفه بعيدا قبل أن يسمع رأي جده .. على يقين بأن كلماته لم تجد صدى ..
- الدين نصيحة .. بغيت أنصحك .. لا تكون سبب بيناا ..
- لا تعلمني الدين يا ولد ..
زمجر جده بتلك الكلمات و عيناه تلمعان بقسوة .. قبل أن يردف بقوة ..
- تبانيه أعطيك لي اعطيه غيث ..؟ ودّر الشرطة و اشتغل ويا هلك ..
لماذا فسّر نصيحته على أنها مطالبة .. قال سيف بعتب هادئ ..
- يزاك الله خير يا بوي .. لو بغيت شي أدريبك ما تقصر .. و أنا ما أرمس عن عمريه .. انت تدري شوه قصدي ..
رفع الجد حاجبه .. و أذن صمّاء يلقيها لسيف ..
- لااا ما أعرف قصدك .. عندك شي قوله .. لا تيلس تلف و تدور .. غيث لي فيكم كلكم .. ريّال و راص ع عمره .. يستاهل لي ييه يوم انه يسعى لخيرنا .. محد منكم سوى لي يسويه .. انته شارد الشرطة .. و المعثرين حامد و فهد ما منهم خير .. يهّال ما منهم خير .. يوم انكم بتسوون لي يسويه غيث و بتشقون للحلال شراته .. بنبدكم عليه .. لا تيي تعلمنيه و تأمرنيه شوه أسوي و منوه أعطي .. الحلال .. حلالي .. و أعطيه لي ابا .. كان حد منكم عنده غير هالرمسة يقولها ..
- ياا بويـ ...
- سيف ..! عندك غير هالسالفة ..؟
- اسمـ ..
- عندك غيرها ارمس .. ما عندك غيرها توكل على الله .. الساعة طافت الوحدة .. و أنا برقد .. أنا سارح من غبشة باكر ..
هب سيف من مكانه .. و هز رأسه بأسى .. توقع ان يلقى كلامه صدى على الأقل .. لكن .....
لكنه لن ييأس .. سيظلّ خلف جدّه حتى يترك هذه التفرقة التي لم تسبب سوى أحقاد بين أبناءه ..
لذلك دنى منه باحترام لينحني على رأسه و يقبله ..
ثم يقول بهدوء ..
- الله يهديك ..!
* * * * *
لحظات مرّت و هي تناظر شاشة الهاتف أمامها .. اسمه يتألق عليها بغطرسة ..
كحضوره .. رغم تلك الوداعة التي تألفها ..
كالقوة التي تنبثق منه لترغمها على أن تكون دوما ضعيفة أمامه ..
شعرت برغبة قوية في تجاهله .. لكنه واصل الرنين باصرار .. حتى خشيت أن تستيقظ أختها على صوته .. رفعته بسرعة .. و هي ترد .. تلصق السماعة بأذنها .. ليتدفق صوته العميق إليها ..
- شوه راقدة ..؟!
أغمضت عيناها .. رغم كل ذاك الخوف الذي يسكنها في هذه اللحظة .. القلق ..
و الألم على حال هذه الحبيبة التي تستلقي هنا بهدوء ملائكي بعد تلك العاصفة التي أفجعتهم ..!
استطاع بكلمتين فقط أن يلقي بها في دوامة من الاضطراب ..
لا يبدأ بالسلام .. و لا السؤال عن الحال ..
لا تسمع الـ ألو المعتادة من كل الناس ..
هكذا هو .. يقتحم سكونها .. ليضيّعها في مداره ..
حيث يكون محورا .. هو فقط .. و لا أحد آخر ..
لماذا يخترق الناس أحاسيسنا رغما عنا ..؟ لما لا تكون ملكا لنا فقط ما نريد أن نشعر به ..
ما يخصّنا ..
و ننفي من لا نريد إلى تلك الأراضي الباردة التي لا يسكنها سوى المهملون من مشاعرنا المتمردة ..
لكنهم يفعلونها .. ينبشون كل ما هو غير مفهوم .. كل ما نطمسه في أنفسنا خوفا منه ..
عندما لا ندرك معنى له ..
تبا لهم .. كم هم متطفلون ..
- حور ..؟
سحبت نفسا عميقا تحتجزه في صدرها .. قبل أن تجيبه بصوت مختنق ..
- هممم ..؟
صوته أتى خافتا الآن ..
- راقدة ..؟
أنَّى لها ذلك ..؟
أصبحت الأمور تتخبط داخلها الآن .. كل شيء يزدحم في ذهنها .. كل شيء و لا شيء ..
لا تعرف ما الذي عليه أن تفكر فيه أولا .. لا تعرف ما الذي يحدث لها ..
أين هي .. و من هي ..
ما هي هذه الطرقات التي تسلكها ..؟!
إلى أين تقودها ..؟!
البداية .. النهاية .. أصبح كل شيء مختلط عليها ..
تريد لحظة واحدة من السكون فقط ..
لترى أي مطاف قد بلغت قدماها دون وعي ..!
راقدة ..؟!
أين هو النوم .. لم تعرفه الليلة أجفانها ..!
زفرت ذاك النفس الحبيس و قد حمّلته أوزار همّها الذي لا تعرف له سببا محددا ..
- لا ..
- تعالي ..
كان هذا أمرا .. لم يطلب منها .. بل يقودها بكلماته .. بحثت عن برودها .. تتسلح به مجددا ..
تذكري .. نايف .. مايد .. عبيد .. غيث .. كلهم سواسية ..
تخيّلت مايد يقول هذه الكلمة .. هه .. لا .. مايد لا يفعلها بهذا التسلّط ..
كلمة واحدة وجدتها تنفلت من شفتيها بهدوء ..
- انزين ..
و أنهت المكالمة ..!
أسندت رأسها بيدها .. عيناها تتأملان وجه اختها الغارقة في النوم .. جانب وجهها الأيسر تلوّن بلونٍ أزرق خفيف زحف على جانب أنفها أيضا ..
ستصبح هذه الكدمة داكنة بشكل سيء في الصباح ،، هذا غير طرف شفتها المشقوق الذي تورم ..
استعادت سردها الباكية لتلك الحكاية المتخبطة .. لم تفهم من التفاصيل شيئا غير هذيانٍ غريب عن كلبٍ لحق بها في طريق عودتها من بيت أم سالم ..
أجبرها على تغيير طريقها لتعلق في شجرة قد نبتت في الزقاق .. و تقع على وجهها ..
لا تعلم أين ذهب الكلب .. أين غطاء رأسها .. كل ما شعرت به هو قدوم غيث الذي أخافها ..
ثم وصول حور ..
هل لكلب أن يثير كل هذا الفزع في نفسها ..؟ ذاك البكاء المجنون و تلك الصرخات ..
رغم تأكيد نايف على الكلب الذي لابد أن يكون ملكا لخالد الساكن في أقصى الشارع .. و أنه دائم الهرب ..
لا .. لا تعلم .. كلما استعادت منظر أختها و نشيجها الممزق ذاك ..
لقد ظنت لحظتها أنها تلفظ إحساسها الأخير ..!
ربما كانت عفرا أضعف نفسا مما اعتقدت .. بامكان كلب يلاحقها طريدة أن يثير الفزع في نفشها هي ..
هل عضّها ..؟ لا ..
كل ما في الأمر أنه لاحقها بقوة .. و أفزعها ..
شعرت بشفقة هائلة نحو اختها .. لم ترها قط بهذه الصورة الضعيفة ..
بلى ..
حدث ذلك .. حين فقدن والدهن ..
كان تسكب دموعها مرارة على رحيله ..
الحق أن وجعها الليلة بدا مخيفا و كأنما تودعه مرة أخرى ..!
التقطت خصلة من شعرها الناعم .. هذا الشعر الذي أورثته إياهن أمهن جميعا ..
لم يكنّ بالجمال الذي قد يدير رؤوس احد .. لا أحد منهن قد تتميز بملامح أنثوية جميلة كالمها ..
و لكن يعلمن أن الشعر المميز لأمهن أصبح تاجا لكل واحدة ..
مررت راحتها مرتين على شعر عفرا ..
بدت ضعيفة .. و منهكة .. بكت حتى نامت .. رفضت تناول العشاء ..
.
.
قبلة رقيقة لامست بها جبينها بحب ..
لا أريد أن يمسك سوء أختي ..
.
.
.
.
.
.
في اللحظة التي أطلت برأسها من الباب الذي يفصل الحوش بممر المجلس وقعت عيناها عليه .. يجلس بإزاره و الفانلة القطنية البيضاء .. على عتبة المجلس .. هناك .. حيث ابتدت للمواجع حكاية ..
شعر بوجودها .. دون أن يرفع رأسه الذي يتأمل الأرض بهدوء .. فرد يديه التي كان يعقدها أمامه .. و هو يربت إلى جانبه آمرا بهدوء ..
- تعالي ..
تقدمت منه بخطوات بطيئة .. لم يرفع رأسه نحوها .. بدا شاردا رغم وجودها .. جلست حيث أشار لها .. لا يفصل بينهما سوى انشين ..
و عالم ..
الكثير من السكون تخبّط هنا .. و هي تحني رأسها بوقار .. تخنق كل خقة بلا معنى .. و كل احساس يشتتها .. تفصل خفّة فؤادها عن عقلها الذي راح يركّز بقوة ..
يجلس بجانبها .. تشعر بدفء جسده الكبير يصلها في برودة هذا الليل ..
كل منهما منشغل بشيء ما ..
الاعتياد الذي لمسته في جلوسها قربه ..
وجهها المكشوف .. و شعرها المنزلق من تحت غطاءها المتراجع .. حلال لمسة قد يمد أنامله تلك ليحصل عليها ..
كل هذا .. لا شيء ..
هذا الرجل رغم إحسااسها القوي به .. رغم انجاذبها نحوه .. رغم لهفتها لكل ما قد يروي احساسها منه ..
مجرد غريب ..!
لا تعرف عنه شيئا ..
غير ألوان صورة باهتة هزيلة .. رسمتها بأحاديث أخته عنه ..
ماضيه .. حاضره .. من هو .. و بما يفكر ..
ما الذي يشعر به ..
و ما الذي يخالجه حين يلتقيها ..
إستفهامات مجنونة تدور .. و تدور .. و تدور ..
ستصيبها حتما بالجنون ..
أراحت وجهها بين كفيها غير مبالية به .. نست وجوده لبرهة و هي تزفر بحيرة ..
ليتها تعرف عنه أكثر من مجرد اسم .. و عقد يربطهما ..
.
.
كان صوته دافئا .. قريبا للغاية .. و هي تشعر بظل رأسه يقع على وجهها ..
- بلاج ..؟
رفعت عينها نحوه .. كان وجهه دانيا .. ترى حدّة ملامحه خشنة الوسامة .. خطوط فكه القاسية .. و عينه اللامعتين تتأملها عن قرب ..
لحيته المهذبة .. و حاجبيه المعقودين ..
أشاحت بوجهها بعيدا عن مرآه .. همست بصدق فاتر ..
- ما أدري ..!
صمت لبرهة قبل أن يسألها باهتمام ..
- عفرا وين ..؟
- راقدة ..
عقد جبينه باستياء بالغ ..
- شوه استوا بها ..؟ شوه لي وداها السكة بلا وقاه ..؟ ليش كانت تصيح ..؟
موضوع آمن .. رغم حساسيته .. تذكرت غترته التي احتفظت بها لتعيدها لاحقا .. رأى أختها بدون غطاء .. جلبها إلى داخل البيت .. كيف انقادت له عفرا يا ترى ..؟!
- سارت تودي سامان لبنت ييرانا .. و هي رادة لحقها كلب ولد عنتر .. ما تعرفه .. راعي البيت الازرق لي في أول الفريق .. عفدت في غافة في السكة لي ورا سكتنا .. و طاحت و هي تربع .. بس ..
- بس ..؟!
قالها بطريقة غريبة و هو يرفع حاجبه متأملا جانب وجهها الذي راحت تصرفه للأمام .. متجاهلة النظر اليه
.. ما خطبها ..؟! لما بدت له بعيدة ..!
الحكاية التي سردها للتو لم تكن مقنعة حتى و هي تؤكد ذلك بتصلب ..
- هيه ها لي صار ..
كان متشككا ..
- متاكدة ..؟!
أومأت برأسها مجيبة .. صمت لبرهة .. و عيناه لا تفارقانها .. كانت تعقد جبينها بشيء من الضيق .. و عيناها تصيقان بهدوء .. تزم شفتيها .. و هي تحك نقشا في ثوبها بأناملها .. كانت متوترة ..
تخفي اضطرابها بقوة .. و كأنما لا تريد له أن يمس أي فوضى يعيثها في إحساسها .. لا يدري لما يجد متعة كبيرة في تشتيتها ..؟! في استفزاز مشاعرها و بعثرتها .. ؟! يريد أن يرى لمعانها الغائم .. و رعشة أهدابها .. حين يضيّعها في ما لا تعرف ..
شعرها المضموم تحت الغطاء لم يسيطر على غرتها الطويلة التي احتضنت وجهها بنعومة .. مد أصابعه بصمت يلتقطها .. قبل أن يدنيها من وجهها .. ليشمّها ببطء ..
لا يغفل عن اختلاج انفاسها ..!
.
.
خفق قلبها بقوة غريبة .. و هي تشعر بالهواء يتسرب من حولها ..يدها المرتجفة تنتزع غرتها من بين أصابعه لتدسها بسرعة وراء أذنها .. جذبت طرف - الشيلة - من مؤخرة قمة رأسها .. لتدسلها على شعرها كلّه .. لم تكد تفعل حتى التفت أصابعه المحكمة على رسغها تمنعها من ذلك .. تصلب أوصالها .. و هي تشعر بلمسته تحرق جلدها الرقيق .. و يدها تتوقف في الهواء فوق رأسها .. لم تحاول جذب يدها حتى .. انتظرته أن يتركها لكنه لم يفعل .. أنزل كفها الصغيرة ليحتضنها بين يديه الكبيرتين ..
مرت لحظات طويلة تكافح انتزاع يدها من يديه .. و قد هبط عليهن الصمت ثقيلا ..
تشعر بنظراته الثاقبة تخترق عظام وجهها الذي انتكس ببطء .. هذا الهدوء الذي راحت تعدّ فيه أنفاسها و أنفاسه يستفزّها .. هل شعر بشيء غريب ..؟!
حتما ..
سحبت نفسا عميقا لتتنهد بصوتٍ مسموع حين شعرت بانها محتاجة الصدار أي ضجة قد تقطع هذا السكون الكريه .. لما لا ينطق بشيء ما ..؟!
تذكرت بأنه طلب منها المجيء .. لذلك قالت بتوتر .. و يدها تنكمش بين قبضتيه .. فيما يمنعها من جرّها ..
- آحم .. شوه كنت تبا ..؟
لم يبدو أن أفكاره قد توّهته .. فقد أجابها بهدوء دون تردد ..
- أبا أشوف شعندج ..
- ما فهمت ..؟!
قالتها و هي تنظر اليه .. وجه الخالي من أي تعبير حيّرها .. لم ترى حتى انعكاس الدفء الذي اعتادته ..
- الليلة حسيتج هب طبيعية .. و كانج متضايقة و الا زعلانه .. هب حور لي أعرفها .. حتى الحين ..
رفع حاجبه متسائلا ..
- شفيج ..؟
ألجمها سؤاله المباشر .. لتشيح بوجهها بعيدا ..
- ما فينيه شي ..
- حور ..
كان غير مصدقا لما قالت .. جذبت يدها بهدوء .. و أفلتها دون كلمة .. قبل أن تقول بخفوت ..
- اسمع .. أحس انيه مندفعة شوي .. و أبا أخف الدوس .. الين أفهم كل شي ..
عقد جبينه .. كلامها مبهم .. لا تدري لمنا تفوهت بذلك .. لكن عليها حقّا أن تضعه في الصورة .. ألا تستغله ..؟!
ألم تشر وديمة أنها تستخدمه وسيلة لسد الثغرة العاطفية في روحها ..؟!
ضمّت ركبتيها تسند ذقنها عليها .. شعرت بان حجمها ضئيلا مقارنة بجسده الطويل .. ترددت لبرهة قبل أن تبلع ريقها ..
- يعني .. نحن ما تلاقينا الا من ست شهور .. و أحس انه .. انه .. يعني مادري .. بس انا ابا أفهم مشاعريه أبا أعرف بشوه أحس صوبك .. أول مرة .... أحس انـ ...
احمر وجهها و هي تنظر إلى كل شي إلا عينيه ..
- أحس انيه .. مرغوبة .. و انه حد يهتم فينيه .. انته ريّال .. و أكبر منيه .. عارف الدنيا و خابرها زين .. بس أنا .. أنا ..
تنهدت بضعف ..
- أحس انيه ضايعة .. و خايفة ..!
هبطت راحته الكبيرة على رأسها ..
- خايفة منيه ..؟
لم تنكر ..
- خايفة من كل شي ..
رفعت رأسها بغصّة ..
- من انته ..؟! انا ما أعرفك ..!! ما أعرف شي عنك غير اسمك .. لا شخصيتك .. و لا اسلوبك .. احساسك .. شوه لي يضحكك .. و متى تزعل .. ليش خطبتني ..؟! - و توقفت بحيرة هنا - و لا شي .. كيف تبانيه أعيش وياك و أنا أحسك غريب عني .. انت تشتتنيه .. و ما أفهم عمريه .. و لا بشوه أحس صوبك ..
أردفت بتعاسة و هي تنظر له بلوم ..
- غير هذا .. لا تنسى انه اليوم و الا باكر أمايا بتربي .. و بنودر بيت أبوية .. و بننتقل عندكم ..
لم يرد .. فقالت معترفة ..
- ما أنكر انيه يوم فكرت في الموضوع شفته في مصلحتنا .. نكون قريب من هلنا و عينهم و قلوبهم علينا .. بس انته ما تعرف .. أنا ما رمت أخبر غير أمايا و المها عن الموضوع .. مادري شوه أقول لخوانيه ..
تهكمت بوجع ..
- اسمعوا .. يوم بتربي أمايا بنشل قشارنا و بنسير قدا هل أبوية .. عرب ما نعرف منهم حد .. و ما يعرفوناا .. ما نعرف طباعهم .. و لا حياتهم .. ما نعرف غير انهم طردوا ابوناا ..
رفعت عيناها نحوه تسحب نفسا عميقا ..
- ليش طردوا أبوية ..؟!
تصلّب فكّه في صمت .. و هي تعيد السؤال بنبرة متوسلة ..
- أعرف انك تدري ليش .. خبرنيه ..
رد بجمود .. علّها ..
- ما أعرف ..
هزت كتفيها بسخرية ..
- هه .. لو انته ما تعرف .. منوه لي يعرف ..؟! أعماميه ما شفنا حد منهم شبّر بيتنا .. لا قبل موت أبوية .. و لا عقبه ..
برر بهدوء ..
- أمج في العدة .. و ما بغوا يحرجونها و الا يضايقونها الين ما تظهر منها لبيت أبوية سيف ..
عقدت يديها بحزن ..
- أستغرب منهم .. ما يحسون بشي صوب أبويه ..؟! ما زعلوا عليه يوم مات ..؟
عضت شفتها السفلى بقوة .. قبل ان تقول بهمس مخنوق و هي تشير لعتبة الباب التي يجلسان عليها ..
- تعرف انه مات هنيه ..؟! عند هالباب .. ! رقد و لا نش عقبها ..
.
.
نظر أسفله بصدمة .. تأمل الأرض و شعور غريب بالذنب يجتاحه .. و كأنما لهذا المكان قدسية مختلفة ..
دنس حرمة رحيل ذاك الرجل .. حين راح يمارس خداعه على ابنته فوق المكان الذي شهد آخر لحظاته ..!
كلماتها المتقطعة .. المبعثرة ..
للمرة الأولى تكشف عن جانب من روحها .. للمرة الأولى يراها بهذه الجرأة .. تطيح بالكلمات بمرارة ..
تنفث أوجاعها الصامتة ..
علم أنها تريد أن تنبش كل ما في داخله ليرضيها ما ستعرفه ..
تجهله الآن .. و تجهل ما جعله بهذه الصورة ..
فيما يكاد يقلبها هي بين يديه كتابا مفتوحا .. تعابيرها تفضح كل ما يخالجها ..
كان صوته عميقا و هو يسألها بهدوء ..
- يعني البرود و التطنيش بيخليج تفهمينيه ..؟
رفع عينه حين شعر بها تنهض من مكانها .. وقفت أمامه و هي تلملم أطراف روحها التي نشرتها للتو أمامه .. و هي ترفع رأسها في مواجهته ..
ذاك البرود الذي أثاره .. و رغبته في استرضاءها .. منحتها ثقة غريبة ..
أعادتها لجلد كانت تعرفه .. لتقول بقوة ..
- المشكلة انك انته ما فهمتنيه .. تصبح على خير ..
قالتها و راحت تحث الخطى بسرعة نحو باب الحوش و كأنما تخشى أن يوقفها ..
و لكنه لم ينوي ذلك أبدا ..
ثقل غريب هبط على نفسه ..
و هو يراقبها تمضي ..
لم يرد أن يتبعها و لا أن يوقفها ..
.
.
أبت كلماته المرهقة أن تجادل إحساسها ..
لقد ضيّع شيئا من ثباته في زخم إحساس هذه الليلة ..!
.
.
.
.
.
.
- عفرا ..؟!!
انتفضت في مكانها بقوة .. قبل أن ترفع عينيها الحمراوين في اتجاه شقيقتها .. كانت تقف بباب الصالة .. لا زالت ترتدي ملابسها و غطاء الرأس .. و عينيها المستفهمتين تنشدها إجابة على سؤالها الذي سرعان ما ترجم بكلمات .. و هي تدنو منها بحنان ..
- وين سايرة حبيبتي ..؟!
شعرت بعزائمها تنفلت .. و شتات القوى الخائرة التي جاهدت للملمتها تتبعثر مجددا .. و الدموع تندفع في عينيها .. تقاتل كي تبدو قوية بما فيه الكفاية و صوتها المختنق يجيب بخفوت ..
- أبا أسير أتسبح ..
مدت حور يدها تمسح على شعر اختها .. بدت محطمة .. بشكل مفجع .. أوجعتها نظرتها المتألمة ..
كل هذا لمواجهتها كلب ..؟! شيء في تلك الحكاية بدا لها غير منطقي لا تعلم لما ..!!
- حبيبتي تسبحي باكر .. ارقدي الحين انتي تعبانة ..
شدت شفتيها بقوة و هي تشعر بأنها ستنفجر بالبكاء حالا .. أرادت دفع حور بعيدا عنها .. شعرت بعينيها المتخاذلتين تغرقان بالدمع المر .. و هي تهمس بصوت متقطع ..
- ماا .. أنا .. ماا صليـ .. صليت العشاا .. أبا أتسبح .. و أصلي ..
وضعت حور أناملها على شفتيها ..
- انزين أسوي لج حليب و الا عيشة .. انتي ما تعشيتي ..
هزت رأسها رفضا .. و دمعة حارة تتجاوز حدود الهدب لتسقط على وجهها المحمر المحتقن ألما .. و هي تهمس بصوت أبح بفعل البكاء ..
- ماباا عشا .. بصلي بس ..
هزت حور رأسها موافقة و هي تقترب منها .. لفت ذراعيها حول جسد عفرا الطويلة تحتضنها بحنان .. لتبث شعور بالأمان في نفس أختها المهشمة .. راحت العبرات تتدفق تباعا و حور تدنو منها لتطبع قبلة عميقة في صدغها و هي تهمس بقوة ..
- خلاص فديتج .. انا برقبج هنيه ..
.
.
ليت حدود الكون تنتهي هنا ..
في هذا السلام .. و هذا الأمان .. هنا البداية .. النهاية ..
المستقبل .. و الحاضر .. كل شي .. و لا شيء غير ذلك ..
لا ألم .. و روح تحترق ..
لم يبقى سوى رماد سكن جوفها البائس ..
حق في الحياة سلب منها في هذه الليلة
و قد حكم على الأمل .. الحلم .. بإعدام بطيء تحت وطأة كل ما سيقبل عليها ..
.
.
أشاحت عفرا بوجهها .. و هي تقاوم رغبة في دفعها عنها .. لم ترد لأنفاس أختها المحبة .. الطاهرة .. أن تختلط ببقايا لهاث ذاك القذر ..
شعرت بقدميها الثقيلتين تكادا تتهاويان .. و النواح أصبح دانيا .. مجرد لمسة أخرى من أناملها العطوف .. و ستنهار من علوّها ..
لترتطم بالأرض حيث هي كرامتها الآن .. و ستتبعثر شظايا لا تُجمع ،،
جرّت جسدها جرّا دون أن ترد على حور التي وقفت تطالعها بأسى .. لتدلف حمامهم الضيّق و توصد الباب خلفها ..
أمنية وحيدة سكنتها في تلك الثانية التي تلت صوت تكة الباب المغلق ..
أرادت أن تختفي هنا إلى الأبد ..
أن يوصد هذا الباب بينها و بين العالم لا يفتح ..
أن يفقدوها .. يضيّعوها ..
أن لا يجدوها .. و أن ينسوها ..
ستمضي ما تبقى من لوعة تنتظرها هنا ..
أسندت رأسها على باب الحمام الخشبي .. دمع حار راح يغرق وجنتيها ..
يحرقها .. و أنفاسها تلفح الباب حين راح صدرها يعلو و يهبط بتشنج ..
.
.
كيف لثقل الدموع أن يحني رؤوسنا ..
حين نبكي لوعةً على ما مضى .. ما لن يعود ..
حين نعجز عن التظاهر بأننا أقوياء .. و أننا سننسى و نعوَّض ..
حين لا نرى الألم سوى قدرا سيكتب لنا ما تبقى من عمر ..!
.
.
بكامل ثيابها تحت الماء الساخن الذي تدفق من الدش على رأسها ،،
ينفث الماء أنفاسه بخارا .. و كأنما يزفر .. من حرِّ ما تحمل تلك الشابة في قلبها .. تجلس على ركبتيها ..
يديها تعتصران صدر قميص البيجاما .. الماء يسكب على جسدها .. تشعر بسخونتهتخترق ملابسها ..
ترتطم بخدها لتخالط ملوحة الدمع الذي لا يتوقف ..
و شهقاتها المكتومة التي أخذت تنفلت من شفتيها المضمومتين بمرارة .. تهزها ..
رأسها ينحني ..
لم تبالي لما يقال عن البكاء في الحمام .. تريد لدموعها أن تطهّر روحها من فعلة ذاك النجس ..
تشعر بونينها يخرج من غياهب روحها المحترقة .. من بين أشلائها الممزقة ..
صوت عويل منخفض طويل خرج من بين أنفاسها ..
لقد قتلت الليلة ..
لما عليهم أن يراعوها .. فليخرجوا و يشيّعوا روحها ..
ليعلنوا الحداد على كل طهارة زهقت بين يديه ..
صاحت بهم .. و استنجدت .. لم يسمعها أحد ..
أين فاطمة .. أين الجيران .. أين إخوتها ..
أين كانوا حين انتكست أيامها .. أحلامها .. وكل شيء جميل ،،
حين أدار الفرح ظهره معلنا الرحيل ..
عندما قبّلت الطهارة جبينها معتذرة ..و هي تنتهك ..
و مضت للأبد ..
.
.
الماء يغسلها .. يسري ببطء ليبللها .. و يغرقها ..
ليته يصل للروح .. ليغسل اليأس .. و الوجع .. ليغسل شقاءها ..
رفعت رأسها للسناء .. عيناها قد أسدلت أهدابها .. حين راحت دموعها تتدفق من أجفانها المطبقة ..
قطرات تهوي من الأعلى .. ترتطم بوجهها ..و هي تنشج باكية ..
تبكي ..
تجهش بالموت هنا لوحدها ..
لا يعلم بذاك الفراغ الرهيب الذي خلّفه رماد إحساسها ..
لا يعلم أحد بموتها البطيء هنا ..
لا أحد .. لا أحد سواه ..
لذلك راح صوتها ينشج متوسلا و هي تصرخ بقوة ..
كلمتين ارتدت في جوفها لتترنم الأضلع متوسلة بها ..
حين غدت مرارة العبرات تتسلل بهدوء لفمها المفتوح بونين متصل ،،
.
.
- ياااا رب ... يااا رب ..
* * * * *
- آحم .. آآآ .. اسمع غيث .. أبا أقولك ياخي .. تراهن طلبن ولي أمري أمس عسب سالفة ما تستاهل .. يعني الصف كله كان يتطنز على المعلمة .. بس مادري بلاها هاي ما تطيقني ..؟! عسب كذيه اختارتني و حطت السالفة عليه ..
قالتها دانة و هي تفرك يديها بشيء من التوتر لغيث الذي استرخى على أريكة و بجانبه - دلة - قهوة ،، و يده تمسك بفنجان منها ،، كان مرتاحا للغاية .. لباسه الأنيق الفخم .. ثوبه ذو القماش القاسي الذي أظهر عرض منكبيه .. و غترته المناشة .. نظرة متهكمة لا تخفى عليها و هو يجيل بصره في المكان .. للحظة بدا أنه في غير مكانه .. أو أنه مالك المكان و لا يرضيه ما يرى ..!!
رفع حاجبه بسخرية ..
- صدق و الله ..؟
ردت دانة بسرعة و هي تلوح بيدها ..
- هيه و الله .. بس أبا انبهك لشي .. الحين البنية يوم اييبن ولي أمرها .. ايخر لولي و التالي .. يظهر كل سجلّها المدرسي .. من ربيعتاا في الروضة لي نشعت شعرها .. الين كرتون العصير لي فرته امس .. يعني لو ثقّلن في الشكاوي و ظرب الامثال .. لا تصدق .. مرات يبالغن .. و مرات ......
قطعت كلامها حين قال بقسوة ..
- أقسم بالله انكن هب ويه حشمة و لا ويه دراسة .. المفروض يحطولكن تربية خاصة هنيه .. الحمارة لي ما تبا تدرس اشعنه كل يوم داقة بالويه و ياية المدرسة .. قرّن في بيوتكن ..
- انزين ليش تسب ..؟
رفع حاجبه مستنكرا .. تأخذ الأمور ببساطة شديدة ..! أردفت بهدوء و هي تتحرك بحرية في مكتب المدرسة ..
- أنا أحب المدرسة .. و نسبتيه ما تقل عن خمس و ثمانين .. كل سنة يكرمونيه .. و هذا أول استدعاء أييبه .. يعني لا تتحرا انيه راعية سوابق .. لا حشاا ..
ثم قالت بصوت هادئ لم يخلو من نبرة حزن ..
- ابويه الله يرحمه لو اييب استدعاء كان قصبنيه قصاب .. و سواني كباب .. عيل .. شوه تتحرا ... نحن بنات حمد كلنا متفوقات .. ولد عمك يايب في الثمانين .. و عفاري يايبة تسعة و تسعين .. لا تستهين بنا ..
ثم هزت كتفيها بصراحة ..
- و بعدين نحن نحب المندرسة .. لنها المكان الوحيد لي نسير له غير البيت .. أول كنا نسير بيت خالوه .. نظهر وياهم .. عميه سلطان و أبوية يرتبون طلعة و نظهر رباعة .. بس .. الحين .. آممم .. حتى بيت خلوه ما نسير له ..
ثرثرتها تلك بدت مشاكاة بالنسبة إليه ..
شعر بالأسف على حالهم .. لا يمر يوم واحد دون أن تخرجن أخواته من البيت ..
تخيّل أنت يظل مقيّدا في البيت لمدة أسبوع فقط ..!!
رفع عينه لها و هو يقول بجفاء ..
- هيه و تيين المدرسة و تخورينها سوالف و لعب .. و تنسين الدراسة ..
- لاااا .. سلاااامتك .. استريح مستر غيث .. انا كل شي و لا دراستي .. أنا دانة علمي ما تعرفني .. خبرتك ..؟ أنا فعلمي ..
نظر لها بشك فقالت بثقة ..
- و الله فعلمي .. يوم أقولك لا تستهين بنا .. بعدين شوه فيها السوالف و اللعب .. المدرسة مجتمع كااامل .. نفس الجنس و نفس العمر .. أفكار متشابهة و اهتماماتنا نفسها .. يعني بنسوي حزب و بننقلب ع نظام الحكم .. شرايك ..
أعاد ظهره للخلف ببرود ..
- خلي عنج الخرابيط .. ما بتنفعج هذرة البنات .. ما بتنفعج الا الشهادة .. أقسم بالله لو تييبين استدعاء ثاني يا دانة .. و الله ما اييج طيب ..
ارتخت كتوفها بيأس ..
- عنبوه .. انتوه امررررة ما تبون الواحد الا ياكل الكتب أكااال .. لا يمين و لا يسار .. يابوك هلاي عفرا .. أنا ماروم .. بعدين حس فيناا شوية .. أنا قلت غيث سكن عدنا بيعبرنا .. بيظهرناا..و بنشوف العالم ..و انته ما علييييييك الا من عمرك .. حادر .. و ظاهر .. ياخي نحن نعيش حالة كبت .. لااا تلومنيه لو فرغتها في المدرسة .. فديتنيه ع الأقل أظهر .. أشوف الكائنات البشرية .. شوه تقول عن حور و المها و أمايا .. هاي أكثر عن سبع شهور خطفن و هن ما شبّرن البيت .. أقول ولد عمّي .. تيك كير .. يمكن تتخبل حور ختيه قبل لا تاخذها .. أمس تقول انه فزاع خطف عليها و تقهوت هي وياه ..!! تخيّل فزاع ايي بيتنا .. أخخخ خسارة .. راحت عليّه ..
نهرها بصرامة رغم يقينه بكذبها ..
- دانة ..
ضحكت بخفة ..
- لا تخاف .. و لا تغار .. شكلها كانت تتخيل .. تصير مرات الشخص المكبوت يهلوس .. أن درسته في الأحياء .. لا تنسى انيه علمي .. شوف عاد .. وحدة كاتينها .. ما تشوف حد .. ما تعرف حد .. اذا ما تخبّلت أنا بنت مايكل جاكسون .. بس تدري ..!! ما تلاحظ انها تخيّلت فزاع و ما تخيّلتك ..؟
ضحكت و هي تردف بخبث ..
- انا أقول تلاحق على عمرك و اقظي على أوهامها ..
زفر غيث بقوة .. و شعر برأسه يضج .. كانت كلمات دانة تصيبه بالصداع .. تحشره في زاوية لتجبره على النظرإلى الأمور من خلالها .. و هذا ما جعله يشعر بالضيق الشديد ..
استعاد وجه حور المستاء .. برودها .. و جفاءها الذي لم يلمسه سوى البارحة ..
ما سببه يا ترى ..؟!
هل ما تقوله دانة صحيح ..؟ الوقت الذي مر عليها و هي محتجزة داخل البيت .. المسؤوليات التي وقعت على عاتقها منذ وفاة أبيها ..
اقتحامه حياتها .. و تلاعبه بها ..
أغمض عينيه لبرهة .. يستعيد صورة وجهها الصافي ..
و كلمات الأمس تتردد داخله بايقاع كريه ،،
كيف لها أن تقوى حمل كل هذا ..؟؟!
.
.
تعقد ذراعيها و إحساس بالسكينة يهبط في صدرها ..
عيناها تمعنان النظر في جبينه المعقود من خلف الغطاء .. لا يهمها حقا ان ظنّها ثرثارة أو طويلة اللسان ..
تعمدت أن تنغزه بهذه الكلمات ..
جسده الطويل ينضح سلطة ترهب من حوله .. تحكمه في نفسه ..
قوته التي لا تخفى على أحد ..
كل ذلك بدا لها شيئا يفوق قدرات أختها الكبيرة ..
تلك الأم الثانية لهم ..
كلما وقع ناظرها على هذا الرجل خشيت على أختها منه .. لا تدري لما ..؟!
بدا واضحا أن حور بطبيعتها العادية .. و شكلها البسيط .. و رتابة هدوءها لن يلائماه ..
شعرت بالشفقة عليها .. ستحتاج للكثير لترقى إلى مستواهم .. كيف لحور أن تعيش بينهم ..
لما لا تتزوج و تظل معهم كما هم الآن ..
ماذا لو تعرضت للأذية من قبله أو من قبل أحد من أهله ..
ربما لن تستطيع حور صد الألم بقوتها السابقة ..
ما يحيّرها هو تمنعها السابق .. كراهيتها لهم ..
تذكرت ابن عمّها الذي قامت حور بطرده مرارا .. شتمها لهذا الزوج الذي يبدو أنها خضعت لوجوده في حياتها بسرعة قياسية ..
أذهلتها ..!
أيكون راغبا بحور كما هي ..؟ يحبها .. كما هي .. يريدها كما هي ..؟!
تكره أن تتمرد على ذاتها و تنسلخ عنها لمجرد ارضاءه ..!
واثقة بأنه يفوق حور من كل النواحي .. في خبرته .. في مستواه ..
خرجت الكلمات منها دون أن تدرك ..
- كم عمرك ..؟
وضع فنجان القهوة جانبا .. و هو يجيب دون تردد ..
- ثنين و ثلاثين ..
عقدت جبينها باستياء ..
يكبرها بسنوات ..!
- أنا بسير أشوف الشيخة شعنه ما يت الين الحين .. انا علمي .. و تضيع عليه الحصص ..
* * * * *
أطفأت نار الموقد وقد بدأ الشاي بالغليان ممتزجا بالورق و الحليب .. حين تناهى لها صوت الحصي التي تصطدم بنافذة المطبخ ..!
غريب ..!!
خرجت للباحة الخلفية الضيقة .. لتصيح بصوت مرتفع ..
- منوووه ..؟
أتاها صوت فاطمة ترد عليها ..
- حوووور أناااا فااااطمة .. تعالي للفتحة ..
تحركت حور بسرعة نحو الفتحة التي تقع في الجدار المشترك بينهم .. لتجد فاطمة في انتظارها ..
- شوه ما داومتي ..؟؟؟
زمت فاطمة شفتيها ..
- لااا راح عليه الباص .. و ما لقيت سلّوم عسب يودينيه ..
لوحت حور لها ..
- لو دريت كان طرشت الدريول عليج عقب ما ودّا البنات ..
- يا بنت الحلال .. خلينا ناخذ اجازة و لو يوم .. تعالي يا السبالات ..
- محد غيرج .. عدها سبالات هب الا وحدة ..
- انتي و خواتج البارحة كسرت دريشة مطبخكم و محد رد عليّه ..!!!!
- عقب العشا .. مادري شعندكن تصارخن .. صوتج واصل بيتنا ..
استعادت حور تلك الأحداث بضبابية .. صراخ غيث و صراخها .. رعب أخواتها ..
- آآآممم .. ماشي .. البارحة لقينا عفاري ختيه في السكة تصيح ارّوحها ..
اتسعت عينا فاطمة بذعر ..
- متى ..؟
- يوم ودت لج البدلة .. و هي رادة تقول لحقها كلب خلّود بن عنتر .. و عفدت في الغافة لي في السكة ..
بدت تعابير فاطمة غير مفهومة و وجهها يسود ببطء .. تقطع صوته باختناق ..
- و .. شوه .. اسـ .. استوى .. عليها ..؟
هزت حور كتفيها تقول بأسى ..
- ماشي .. ياغير طاحت ع ويها و هي تربع .. و تورم خدّها .. و ثمها انتفخ شوي .. ما سارت الجامعة اليوم ..
كانت فاطمة متيبسة بشكل غريب و عيناها تجحظان بقوة ..
- فاطمة ..؟!
انتفضت فاطمة ..
- هاا ..؟
- حووه .. مساعة أرمسج ..؟ ما سمعتينيه ..
هزت فاطمة رأسها بطريقة حائرة و هي تتلعثم ..
- لااا .. سمعت .. أنا بييكن .. حد عندكم ..
- محد غريب .. تعالي ..
ابتعدت فاطمة عن الفتحة دون كلمة أخرى .. راحت تهرول بتعثّر نحو المجلس ..
فتحت الباب على اتساعه .. ليتدفق نور النهار فيملأالمجلس المظلم راسمها ظلا طويلا لها ..
عيناها تقع على المكان الذي وجدت فيه غطاء رأسها ..
راحت قدماها ترتجفان بقوة .. و هي تغمض عينيها .. لتبعد صورة أخيها المضطربة عن ذهنها ..
ركضت للداخل مجددا تلتقط عطاء رأسها .. تردد .. هل تأخذ غطاء عفرا ..؟!
تركته خلفها .. و هي تحث الخطى للخارج .. قلبها يخفق بعنف ..
و شيء من الغثيان راح يتسرب لحلقها ..
أ يكون ..؟
لا ..!
تسحب أنفاسا عميقة و هي تقف أمام باب بيت بو نايف المفتوح .. قبل أن تدلف بسرعة ..
التقت حور و المها و أمها يجلسن في الحوش و قد وضعت أمامهن القهوة .. و توابعها ..خلعت حذائها ببطء قبل أن تطأ الفراش الذي يجلسن عليه بقدمها .. سلّمت و هي تغتصب ابتسامة مرتبكة ..
- السلام عليكم ..
لا تدري لما شعرت بأن حور و المها .. قد يكتشفن ما يدور في ذهنها ..
لذلك اختصرت الحديث معهن قبل أن تقف لتصيح حور و المها معا باعتراض و الاولى تقول ..
- حووووه .. وين بها ..؟
أشاحت بوجهها تمازحهن .. و الضيق يتعاظم في صدرها ..
- بسير أشوف عفاري عقب ماراثون البارحة .. - ثم صاحت تعترض - و الله ما اتنشين .. بسير لها اروحيه .. بسولف وياها شوي .. و ارد ..
أومأت حور برأسها موافقة .. و فاطمة تتحرك بعجل للداخل ..
.
.
حركت حور فنجان الشاي الذي تصاعد منه البخار ..
شعرت براحة حين طلبت فاطمة رؤية عفرا أولا ..
تعرف فاطمة كيف تجرّدها .. و ليست مستعدة كي تنثر ما في داخلها الآن ..!
شعرت بضربة على ركبتها ..
رفعت عينها لترى المها تمد لها بأحد كتبها .. نظرت لها مستفهمة فأشارت المها للصفحة الأولى منه ..
التقطت حور الكتاب الذي علّق على الصفحة قلم رصاص .. و راحت تقرأ ما كتب .. قبل أن تتنهد ..
كانت الكلمات واضحة للغاية بخط المها الذي يشبه خط طفل لا يزال يتعلّم الكتابة ببطء ..
(( ما الأمر حور ..؟ أراك مهمومة أختي ..))
لم تكتب و لن تكتب الا بالفصحى .. اللغة التي تتمكن منها .. لقراءتها .. أما العامية فلن تستطيع سوى تكسيرها ..
أمسكت حور القلم لتكتب تحت كلمات أختها ..
(( الحياة معقدة عزيزتي ،، أصبحت أدور في حلقة مغلقة و لم أعد أعرف نفسي ..))
مدت الكتاب للمها .. التي مررت عيناها على الكتاب قبل أن تمسك القلم مجددا ..
(( ربما ليست الحياة بذاك التعقيد الذي نراه .. ؟؟ قد تضيق نظرتنا للحياة فقط ..؟! ))
سحبت حور نفسا عميقا قبل ان ترد عليها ..
(( ربما .. اشعر بضيق شديد لا أعرف سببه ..!))
(( قد يكون سببه ما حدث لعفرا .. لا تقلقي .. اختك قوية بما يكفي ))
(( لا أعتقد هذا .. لكن يخالجني شعور بالقلق هذه الأيام .. أشعر بأننا على شفير حفرة ما ..))
ابتسمت المها بادراك .. و هي تكتب بخطها المتعرج ..
(( فهمتكِ حور .. الأمر هو دنو موعد ولادة أمي .. و رحيلنا .. أيوترك الأمر.. أعني أنك لم تخبري إخوتي بالأمر بعد ..؟! ))
راحت حور تخط أشكالا على الكتاب و المها تنتظر الاجابة بصبر .. قبل أن تكتب حور أخيرا ،،
(( تقريبا .. ))
كتبت المها شيئا قبل أن تلقي الكتاب لها ،، فتحت حور الكتاب لتجدها كتبت جملة قاطعة صغيرة ،،
.
.
(( ستفرج حور .. ثقي بذلك ))
.
.
.
.
بلغت باب حجرة البنات و توقفت عندها ..
لم يتملكها التردد حتى هذه اللحظة .. حين رفعت يدها لتدير مقبض الباب .. شعرت بتشنج يسري في أصابعها .. و أفكارها ..
راح الشال الملقي .. و المشبك المكسور يلوحان أمام ناظريها ..
وجه أخيها المضطرب على باب المجلس ..
.
.
رباه .. رباه ..
أرجوك يا الهي .. فلتكن مجرد شكوك فارغة .. شدت بأصابعها تدير المقبض و هي تدخل بهدوء شديد ..
نظرت فورا لفراش عفرا الذي تبين وجدها تحت اللحاف .. جسدها المستلقي مدثّر بثقل البطانية ..
استدارت لتغلق الباب خلفها في اللحظة التي أبعدت عفرا اللحاف عن رأسها لترى القادم .. ما إن وقعت عيناها على فاطمة حتى انقلبت سحنتها و انكمشت تعابيرها ..
راحت تشد على شفتها المتورمة و عيناها تمتلآن بالدموع .. ارتجف قلب فاطمة بفزع لرؤيتها بهذا الشكل ..
كدمة زرقاء جليّة على خدّها و هي تضم طرف البطانية بقوة لصدرها ..
تجمدت قدماها .. لم تستطع الحراك ..
راحت تربط الخيوط بتشويش .. نسيت أن تسلّم .. ان تدنو منها لتداعبها ببعض النكات ..
لتمازحها .. و تضحك معها ..
لم تجد في روحها ذرة من القوة للادعاء بأنها لا تشك بشيء ..
راح السؤال الذي يدور في ذهنها كالدوامة .. و دموع عفرا الصامتة تغرق وجهها ..
ينبلج من بين شفتيها .. بلا استفهام ..
ارتجف صوتها و هي تقول بخفوت .. يفصل بينها و بين عفرا .. خطوات ..
- شيلتج .. أناا لقيتاا .. في ميلسنا .. حتى شباصتج .. كانت مكسورة ..!
ليست الشباصة فقط ..
روح تلك الشابة المنزوية أمامها .. لم يعد منها سوى شظايا ..
أغمضت عيناها بشدّة ..
بتوسل .. برجاء ..
قولي بأنك أنت من ألقاها هناك .. قولي أنك اختبئتِ و نسيتها .. إكذبي عليّ ..
و لكن شهقة وحيدة مزّقت سمعها .. و هي تخترق السكون ..لتفتح فاطمة عيناها بصدمة ..
شعرت بشيء كالنصل يشق أوصالها .. يستعر في جوفها ..
و هي تدنو من عفرا بخطوات ميّتة .. ما إن قابلها وجهها .. تلك الكدمة .. و ذاك الشق في شفتها ..
سقط عليها اليقين .. يذبحها ببطء .. و هي تقول بهمس مختنق ..
- أخوي .. الكلب ..؟!
كان سؤالا .. و إيماءة عفرا المعذبة .. الباكية بصمت ..
هي طعنة .. لا إجابة .. و فاطمة ترفع كفيّها بصدمة لتغطي فمها ..
حين راحت الدموع تراق على وجنتيها بلا توقف ..
و صوتها المكتوم يردد بجنون ..
- ياااا ربييييه .. ياااا ربيييييه .. لييييش .. لييييش ..
راحت عفرا ترتجف كالورقة و هي تبكي .. و تضم رأسها لصدرها .. أصوات بكاءهن يختلط .. عفرا تنشج بصوت ممزق و فاطمة تشعر بالموت يسري في أطرافها حين امتزجت شهقات عفرا بكلماتها الباكية ..
- مسكنيه و أنا ظاهرة .. ظربنيه ع ويهي .. فاااااااااااطمة أخوووج اعتدى علييييه .. وين كنتي .. زاقرت عليج .. صارخت .. محد سمعنيه .. محد رد عليّه و لا فزعليه ..
راحت فاطمة تنشج بقوة ..
- الله يلعنه .. الله يلعنه ..
عفرا تنتفض بين يديها .. هناك من يعلم بما فعل ذاك الحقير غيرها ..
- شوووه أسوي .. شووووه أسوي .. مارمت أخبر حد .. فاااطمة .. أناا خايفة .. خاااااايفة يا فاطمة ..
أبعدتها فاطم عن صدرها .. و هي تواجه وجهها المنكمش .. دون أن يتوقف بكاءها ..
- خلاص .. لا تصيحين ..لا تصيحين ..
و راحت تمسح وجهها بجنون لتوقف دموعها .. دون فائدة ..
- يمكن حور تطب فجأة و تشك في السالفة .. لا تخافين حبيبتي .. لا تخافين .. ان شا الله بنحل السالفة قبل لا حد يدري بها .. عفرا لا تخبرين حد .. مهمن كان .. و لا حد .. خلينيه أشوف الموضوع أول و أفكر بشي ..
و عضت على شفتها بلوعة تمنع نفسها من الانفجار مجددا بالبكاء .. حين راحت عفرا تنشج و هي تهمس ..
- يا ربي ارحمنيه .. ليتني أموووت .. يااا الله .. مادري شوه أسوي ..
ثم أمسكت بيد فاطمة ..
- دخيلج .. دخيلج .. لا تخبرين حور .. و لاحد .. دخيلج فاطمة .. و لا تبطين عليه .. لو حد يدري باللي صار .. مادري شوه بيسوون ..
غطت فاطمة وجهها بكفيّها .. تشعر بأن الأنفاس لا تسع رئتها ..
تخبرهم ..؟ بما ..؟
بفعلة أخيها الشنعاء ..!
سيقتلونه دون شك .. حين عاكسهن في الطريق صدموا سيارته .. و ظربوه حت أدخل المستشفى ..
و الآن ..
حين انتهك حرمة الجيرة ..
حين مزّق أسمى حميمية قد تولد بينهم ..
شعرت بالغثيان يتصاعد لفمها ..
ما فعله أخوها كان أكبر من أي صدمة قد تتلقاها في حياتها ..
شيء أعجزها عن التفكير .. غلطة أحرقت أحاسيسها نحوه ..
.
.
لماذا أخي ..؟
لم يعد هناك فرق بينك و بين البغال ..!
عليك اللعنة ..
لماذا هشّمت ما تبقى من إحترام لك في داخلي ..؟!
* * * * *
كان الليل قد هبط ،،
بثقل أنفاس أولئك الموجوعين ..
.
.
.
.
.
.
التفتت للجالسة إلى جوارها و هي تؤكد ما نبهت إليه قبلا ..
- حمدان تردنيه الساعة عشر لازم أرد البيت ..
ردّت حمدة المشغولة بقيادة السيارة بصوت خشن و هي تلوي شفتها ..
- خلاص قلتيها عشر مرات ... لا تخافين .. تسع و نص بردج بيتنا .. مع انيه ما أظهر من اللمات الا عقب ثنعش .. بس عشان خاطرج بردج بيتنا .. عسب يشلج دريولج من هناك .. غيره قلبوو ..؟
انحنت شيخة لتثني بنطالها ..
- سلامتك .. السيارة كانها يديدة ..؟
هزت حمدة كتفيها ..
- ابوي شارنها ليه السنة لي طافت يوم نجحت الكورس الثاني ..
ضحكت شيخة بخشونة ..
- خيييييبة .. شكله يائس من نجاحك .. مالومه معمر انته هناك ..
ضحكت حمدة بفظاظة ..
- خلينا الشطارة لج ..
ثم راحت تستدير بالسيارة حول البحيرة التي توقفت حولها بعض السيارات ..
- شيخاني .. تبينا نطلع فوق قبل لا نسير الشاليه ..؟
هزّت شيخو رأسها بلا قاطعة ..
- لا .. نسير الشاليه سيدة .. أبا أيلس شوي ويا البنات قبل لا أرد البيت ..
زفرت حمدة بضيق ..
- ع راحتج ..
- بسالك كيف حجزتوا الشاليه .. لي اعرفه انه هب كل من هب و دب يحجز .. و هويات و حشرة ..
هزّت حمدة كتفيها ..
- محمد ولد خاليه هو حاجزنه ..
- و عادي ..
- هيه عيل ..؟ قلتله لمة بنات و ابوية يدري .. بس نباه يحجز الشاليه ..
نظرت شيخة لها بطرف عينها حين بدأن يتجاوزن بعض الأكواخ البيضاء .. إلى الشوارع الضيقة الفاصلة بالداخل ..
كانت تظن أنها في حريّة و بلا رقابة .. ماذا تقول عن هذه الفتاة ..؟!
انها تتخبط بلا هدى .. لا قيود تردعها البتة .. و لا يسأل عنها أحد ..؟!
توقفت السيارة فجأة لتنظر شيخة عبر زجاج النافذة .. كانت حمدة أو حمدان قد أوقفت سيارتها أمام أحد الأكواخ المضاءة ..
ثم أطفأت محرك السيارة قبل أن تقول بصوتها الاجش ..
- وصلنا قلبي .. حولي ..
و فتحت سيارتها لتترجل بقفزة واحدة دون أن تعدل من وضع شيلتها التي انطرحت بسكون على كتفيها العريضين ..
حتى هيئتها لم تبدو لها كهيئة فتاة أبدا ..
تنضح أنفاسها حرارة تخيفها ..!
فتحت شيخة الباب أيضا .. لتنزل .. و نسائم الهواء الباردة تحرك أطراف عباءتها المفتوحة .. فتكشف عن بنطالها الخشن .. تقدمت بهدوء تتبع حمدة التي راحت تترنم بأغنية أجنبية وصوتها الغليظ يتردد في المكان الخالي .. قبل أن تستدير و هي تمشي للوراء و تغلق سيارتها عن بعد .. توقفت أمام الباب تنتظر وصول شيخة التي ما ان بلغتها حتى راحت الاولى تطبّل بقوة و ايقاع غريب على الباب .. و تقول بصوتها الرجولي المفخّم ..
- هوووووووووود ..
لحظات قبل ان يتردد في الممر المؤدي للباب قرعات كعب واضحة .. ثم يفتح الباب على اتساعه لتطلّ منه شابة اتضحت ملامح وجهها الناعم على الضوء القادم من الخارج .. جسدها النحيل يكتسي بكنزة ملوّنة بلا أكمام و تنورة تصل لركبيتيها و كعبٍ عالٍ و قد تناثر شعرها المجعد حول وجهها و هي تصيح بحبور ..
- حموووووووودي ،،
أحنت حمدة رأسها تقبل خد الفتاة التي رفعته لها .. و هي تلف ذراعها حول خصرها بحميمية ..
- أسووووومه يا حبي ..
عقدت شيخة جبينها دون أن تتكلم .. و هي ترى حمدة تلامس خد الفتاة و تقول ..
- ريحتج حلوة ..
ظربت الفتاة كتف حمدة و هي تقول بعتب ..
- ريحتيه دوم حلوة ..
ثم التفتت لشيخة بفضول ..
- أووبس .. منوه ..؟؟
ابتسمت حمدة بفخر غريب ..
- هاي شيخة .. خويتيه ..
عقدت أسماء جبينها بحيرة ..
- كيف يعني خويتك ..؟
- يعني فرند .. خلي الهذرة .. و حدري .. لو حد يخطف بركن عند الباب انتي و هالعصاقيل ..
دلفن معا .. و شيخة تلتزم الصمت .. هذه المرة الأولى التي تحضر فيها اجتماعا مشابها .. تتبع حمدان بهدوء .. ما ان بلغن الصالة .. حتى صرخن جميع الفتيات الحاضرات بحماس شديد ..
و حمدة تصفق بيدها في استرجال ..
- وووووووووووو .. ووووووووووووووووووووو ..
ثم توقفت فجأة عن الصفق و هي تشيح بوجهها و تشتم بلفظة بذيئة بهمس ..
- هاي شوه يابها ..؟!
نظرت بتوعد لأسماء التي دست رأسها بين شيخة و حمدة ..
- مريامي عازمتنها .. شوه أسوي .. ؟ اروغها ..؟
نظرت شيخة للفتاة المعنية بهدوء .. شابة بعمرها تقريبا .. ترتدي فستانا حريريا أحمر منسدلا على جسدها الممتلئ بنعومة .. عينان واسعتان .. و أنف دقيق .. و فم تشدّق بابتسامة غريبة .. و عيناها لا تفارق حمدة .. التفتت شيخة لحمدة التي يبدو على وجهها الاستياء الشديد ..
- حوووه حمدان .. وتس أب ..؟
همست حمدة بحقد ..
- الكلبة أم الأحمر كانت حبيبتي .. و ودرتها ..
- اهاا .. انزين و ليش زعلان ..؟
- ماباا أشوفها .. بس ما علينا منها .. هاي اول مرة تيين شيوختي .. تعالي بعرفج ع البنات ..
ثم ابتسمت بمرح خشن .. للحظات وجدت شيخة نفسها تتنقل من واحدة لأخرى .. جميعهن يرتدين ملابس لا تناسب اجتماعا عادية .. بل حفلا لتوزيع جوائز ..!
شعرت بان أنظارا مسلطة عليها .. حين التفتت لم تكن مخطئة .. صاحبة الاحمر .. تنظر لها بحقد غير طبيعي .. رفعت شيخة حاجبها بتحدٍ بارد .. و هي تلتقي نظرتها الكريهة .. قبل أن تلتقط كوبا من العصير ..
الجميع يتبادل الاحاديث الصاخبة و الضحكات العالية .. راق لها الجو نوعا ما .. و ضحكت كثيرا بدا أن الجميع يعرفون بعضهم جيدا .. و بعد ساعة من وصولهن وصل العشاء .. تناولوه بشهيّة .. و شيخة لا تتوقف عن الضحك .. كانت الأجواء ممتعة .. و الوقت يمر بسرعة .. بدأن يختلطن ببعض .. و ينقسمن لمجموعات قبل ان يدرن جهاز التسجيل و يرقصن للحظات .. وجودت شيخة نفسها تجلس بجوار أسماء .. نفس الفتاة التي استقبلتها الليلة ..
ابتسمت لها الفتاة بلطف و هي تسألها ..
- شوووه عيبتج اللمة ..؟
أومأت شيخة بابتسامة و هي تسترخي في مقعدها ..
- هيه .. وايد .. حبيتكم ..
ضحكت أسماء ..
- حتى نحن حبيناج .. حمودي ما اييب الا ناس كوووول وياه ..
رفعت شيخة حاجبها بشك و هي تتذكر نظرات صاحبة الاحمر التي اختفت من المكان ..
- ما ظنتيه ..
ربتت أسماء على كتفها مطمئنة ..
- قصدج عنودي ..؟ ما عليج منها .. هاي موتها و حمدان .. ما تبا الا هو ..
رفعت شيخة حاجبها ..
- قلعتاا .. و انا شوه يخصنيه ..؟!
- تغاري لنج خويته ..
- قلتيها خويته هب حبيبته .. و بعدين عنودج هاي مـ ..
قطعتعبارتها و الاسم يلمع في ذهنها فجأة .. العنود .. تلك الفتاة التي تكلّمت عنها هدى ذات يوم ..!
أ يعقل ..؟
عقدت جبينها و هي تضع كوب العصير الذي بيدها جانبا .. نظرت لساعتها .. كانت قد تجاوزت التاسعة مساءً دون أن تشعر ..
هبت من مكانها و توجهت للبحث عن حمدة التي لا ترى لها أثرا الآن .. لم تكن في المطبخ .. و لا في حديقة الكوخ ..
فكّرت بالبحث في الغرف التي توقعتها مغلقة ..
لم يكن هذا المكان يحتوي سوى على ثلاثة غرف .. كانت الأولى مظلمة و خالية .. و توجهت للثانية .. و صخب أغانٍ اجنبية و صفقات البنات العالية تصلها من الصالة القريبة .. و هي تدير مقبض باب الغرفة الثانية و تدفعه ..
نعومة لون الحرير الأحمر برقت في عينيها التان اتسعتا بصدمة حين سقطت على المنظر المثال أمامها .. و قدماها تتجمدان على الأرض ..
قبل ان يداهمها شعور قوي بالدوار .. لتتراجع إلى الخلف صافقة الباب خلفها ..
سرعان ما شعرت بالغثيان يتصاعد لفمها لتندفع نحو المطبخ القريب فتفرغ ما في جوفها دفعة واحدة ..
عودة المشهد لذهنها مرات متكررة .. دفعها للتقيء مرارا ..
شعرت بشعر جسدها قد وقف من هول ما رأت .. كانت ترتجف بقوة .. و هي ترش الماء على وجهها ..
الدموع تحرق عينيها .. لم تعد ترى شيئا ..
عليها أن تخرج من هذا المكان ..
حالا .. و فورا ..
- شيخاني .. حبوو ..
تصلب ظهرها حين أتاها الصوت من الخلف .. قبل أن ترش وجهها بالماء البارد للمرة الأخيرة .. و تلتفت لحمدة التي وقفت باضطراب و قد تشعث شعرها ..
نظرت لها شخة باشمئزاز و احتقار شديد .. رؤيتها دفعت الغثيان للتصاعد مجددا في داخلها .. و هي تهمس بتقزز ..
- ردينيه بيتي .. يا قذرة ..
* * * * *
- و شوربة .. كريم كراميل ..كستر .. شوه بعد .. ذكرنيه لو ناسية شي ..!
قالتها حور لنورة التي راحت تدون الطلبات في ورقة .. و قد جلسن هند و مزنة إلى جانبها بفضول .. يتابعن الأسماء التي تتالت في القائمة ..
رفعت دانة رأسها عن كتابها التي كانت مستغرفة في حلّه ..
- حوووور ماشي قشطة ..
- نورة كتبي قشطة ..
ثم التفتت لعفرا التي جلست بجوار أمها التي راحت ترغمها قصرا على التهام العشاء .. و قد بدا عليها نفس ذاك التعبير الكسير .. و الدموع المتجمعة في مقلتها ..
- عفاري فديتج .. ما تبين تسيرين ويانا ..؟
رفضت بصمت و الغصة تمنعها من ابتلاع اللقمة التي تجبرها على التهامها .. و همست بصوت منخفض ..
- نورة و دانة يسدن .. أنا بيلس ويا أمايا .. غيري جو شوي ..
تنهدت حور بيأس ..
- انزين ما تبين شي معيّن ..؟
مسحت عفرا دمعة انزلقت على خدّها و هي تحاول أن تبدو طبيعية أمامهم ..
- كثروا مكسّرات .. نبا نسوي ساقو .. و بقلاوة ..
ابتسمت لها حور بحنان ..
- من عيوني حبيبتي ..
حولّت عفرا نظرها لمزنة التي كانت تنظر لها بحذر و خوف .. شيء من الريبة كانت ترتسم على وجه أختها كل ما وجّهت النظر إليها ..
التفتت حور هي الأخرى لمزنة .. لترى ذاك التعبير الغريب على وجهها ..
- مزووون خيييييييبة .. بلااااج ..
نظرت لها مزنة بذعر قبل ان تقترب منها ..
- حور .. عفرا كلبونية ..؟؟
عقدت حور حاجبيها و هي تغضن أنفها ..
- شووه ..؟ كلبية ..؟
نظرت مزنة لعفربخوف .. قبل أن تهمس ..
- لاااا .. كلبونية ..؟
- كلوبنية ..؟ كيف يعني ..
كانت نورة تقوم بحركات غريبة و العيون ترتكز على مزنة التي تجاهلت نورة و هي تقول بخفوت ..
- عظها الكلب .. و تتحول في الليل كلب وحشي و بتاكلنا ..؟
ضحكت دانة بصوتِ عالٍ .. و عفرا تعقد جبينها و هي تنظر لأختها باهتمام ..
دلف نايف للغرفة ليستلقي على الأرض و يضع رأسه في حجر أمه التي انشغلت هي الأخرى بدس لقمة في فم عفرا المطبق تقريبا ..!
لم يشعر بالعيون المعلقة على مزنة و حور تقول باستنكار ..
- كلب وحشي ..؟!!!!!!!!!
هزت مزنة رأسها و عيناها لا تفارقان وجه عفرا المحتقن .. قالت حور بغضب ..
- منوه لي قال هالرمسة ..؟
نظرت مزنة مباشرة لنورة التي صفقت جبينها لتقول ببراءة ..
- نورة قالت ليه ..
شهقت نورة تنكر بشدة .. و هي تشير لنفسها ..
- أناااااااا ..؟؟!!!! يا الكذوووووب ..!!
قالت مزنة بدفاع ..
- أنا ما أكذب .. انتي أمس قبل لا نرقد قلتيلنا لي ترمس و ما ترقد بتييها عفرا يوم تتحول كلب وحشي لنها كلبونية ..!!
واصلت نورة الانكار بحماس ..
- يا الكذااابة .. انا ما شفتج أمس أصلا ..
- قلتيها .. حووور انشدي هنوده ..
نظرت حور لهند التي هزت رأسها بهدوء و هي تواجه نورة بصراحة ..
- قلتيها ..
قالت نورة بقسوة ..
- اشدراج انتي .. كنتي راقدة ..
ردت هند ببرود ..
- كنت مغمضة و أدعي ..
تنهدت نورة قبل أن تقول لمزنة بغل .. و دانة لا تكف عن الضحك ..
- ما عليه بمسكج ارواحنا .. و أنا لي بستوي كلب وحشي .. ان ما نتفت ريشج .. ماكون نوري بنت حمد ..
ثم التفتت لعفرا بلهجة اعتذار ..
- آحم عفاري .. و الله ما كان قصدي شي .. بس كنت أخوفهن .. صدعنا أمس .. كله يرمسن عن السالفة ..
هزت عفرا رأسها بصمت قبل أن تنتكس أنظارها ..
شعرت نورة بالذنب يجتاحها و نايف يقول ..
- متى بنسير الجمعية نييب سامان رمضان ..؟؟
لم تسمع اجابة حور الجافة و هي تهب من مكانها لتدنو من عفرا .. جثت على ركبتها قربها .. و هي تقول بحب ..
- عفاري .. و الله ما كان قصدي .. كنت أمزح .. لا تزعلين .. فديت خشمج الأحمر ..
هزت عفرا رأسها تغتصب ابتسامة ميتة .. قبل أن تقول نورة بتفكير و هي تمزح ..
- تصدقين لو تنفخين براطمج بوتكس بيطلع شكلج طرررر ..
تدخل نايف مشاكسا ..
- تقص عليج لا تصدقين .. لو تشوفين برطومج ما تقولين غير تاير موتر مبنشر ..
نظرت له نورة بحدة ..
- اشدراك انته في الجمال .. سير يا بوية العب ويا حمود ..
قالت دانة من أقصى المجلس تساند نورة ..
- عفاري ما يبالها شي فديتاا .. حلو من ربيه خلقة .. ما تشوفينها تشابهنيه ..؟! الشعر سيل ليل منحدر ،، و الخشم سلّة سيف .. و البشرة .. آآآمم .. شوه يقولون .. إشطة ..؟؟
ضحكت نورة و هي تغمز لها ..
- إشطااا يااابااا ..
غنت دانة بصوتها الحاد ..
- إيشطاااااا ..
راحت دانة تطبل على حقيبتها المدرسية مصدرة صوتا مكتوما .. و نورة تغني مازحة ..
- أنا ممكن أبيع جتتي .. كوولوو الا نااقاات حتتي .. و اللي يعلي صوووتوووو .. يبآآ ناوي على موووتووو .. إشطااا يا باا ..
- ههههههههههههه .. حلوة ناقات حتتي ..
ابتسمت نورة حين رأت ابتسامة خفيفة تناوش وجه عفرا التعيس ..
- لعيون ناقتنا بس ..
* * * * *
* للشاعرة الإماراتية القديرة الحصباه ..
** لا تضميني / من بوح قلمي ،،
*** الراوي: النعمان بن بشير - خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: مسلم - المصدر: المسند الصحيح - الصفحة أو الرقم: 1623
**** سورة يوسف / الآية 8
|