كاتب الموضوع :
الأمل الدائم
المنتدى :
الارشيف
3 _ وحش الجزيرة
إنها مستلقية على سرير خشبي ضيق في مكان مظلم صغير . كانت هذه أول فكرة مرعبة عنت لها وهي تعود إلى وعيها على مضض لكن عندما اعتادت عيناها على الضوء المنخفض أدركت أنها مستلقية على أريكة في معتزل صغير ذي قناطر محفور في جدار حجري سميك مخفي عن الغرفة وراءه بستارة سميكة مثبتة على خشب أسود .
جلست ببطء يدها إلى رأسها تحس بالدوران والغثيان وكادت تعيد رأسها إلى الوسادة تنتظر مرور الدوار حينما سمعت باب الغرفة ينفتح وكرسي يزاح من مكانه وأوراق تتحرك .
إنها ليست وحدها .. بينما كانت تحدد هذا أدركت أشياء أخرى أدركت أن الغطاء الثقيل الملقى فوقها مطرز تطريزاً يدوياً .. وأن الأريكة بالرغم من قساوتها قطعة أثرية نفيسة … وأنها _ وهذا ما شتت أفكارها _ لا ترتدي إلا روباً حريرياً أسود هو لرجل … ترددت للحظة تترك المجال للغضب الناري أن يخمد في جسدها ثم تحركت بخفة قدر استطاعتها تدفع عنها الغطاء قبل أن تهب واقفة .
كانت الأرض الموزاييك الأنيقة تحت قدميها شديدة البرودة فتحركت بخفة دون أن تحدث صوتاً إلى طرف الستارة ونظرت إلى الخارج حولها .
كانت قطعة الأثاث الأساسية في الغرفة عدا رفوف الكتب ذات الغلافات الجلدية الفاخرة طاولة ضخمة تقع تقبع وسط الغرفة التي وضع على نوافذها أغطية سميكة جعلتها لا تدرك الوقت وفي الغرفة أيضاً مصباح فوق الطاولة كان مصدر الإنارة الوحيدة فيها لكنه كان يكفي كما هو ظاهر الرجل الجالس خلف الطاولة الغارق في قراءة وثائق لها مصدر رسمي .
لم تستطع روندا إشاحة بصرها عن وجهه .. لم يكن وسيماً بشكل تقليدي بأنفه المقوس و انعطافة فمه الرقيق الشفتين .. ومع ذلك فهو آسر وفاتن نظرتها التقطت أيضاً شعره الكث الأسمر المتدلي حتى ياقة قميصه الحريري وأهدابه السميكة التي تغطي لون عينيه .
ذكرها بشخص ما حركت دماغها بحثاً عمن يكون إن له علاقة بصورة شاهدتها .. لكنها ليست صورة فوتوغرافية .. ما هي يا ترى ؟ … ثم تذكرت كانت صورة لوحة وضعت في كتاب فني اطلعت عليه مرة .. لوحة الأمير يعود إلى عصر النهضة في أوربا .. واللوحة تشبه هذا الرجل الجالس على بعد أمتار منها .
بينما كانت تقنع نفسها بسخف تفكيرها سمعته يتكلم بصوت منخفض رنان :
_ أنا لست فرجة لمسترقي النظر … آنستي !
سرعان ما لفت الروب حول جسدها و أعادت ربطه ثم رفعت رأسها بثقة كانت بعيدة عن الإحساس بها وتقدمت من خلف الستارة نحو الطاولة تسأله آمرة : من أنت ؟
_ أنا سيد الجزيرة .
خطفت عجرفة بيانه البسيط أنفاسها ثم تنبهت إلى أنها تحملق به مشدوهة فسيطرت على نفسها بقساوة قائلة :
أرى هذا بإمكانك إذاً تدبير أمر رحيلي لأعود إلى جزيرة ماسيرنو حيث أصدقائي .
_ بإمكاني هذا .
لكنه لم يرفع رأسه نحوها يل استمر يدرس الأوراق التي في يده فأجبرت نفسها على ضحكة خفيفة : تتحدث وكأن هناك بعض الشك .
_ لا شك على الإطلاق آنستي .. فأنا أستطيع ولكنني لن أفعل .
ورفع رأسه إليها فشهقت عندما التقت عيناه عينيها كانت عينين عسيليتين محاطتين بإطار ذهبي يزيد من حيويتهما ووحشيتهما .
_ أتلمح إلى أنني سجينة هنا ؟
_ إنه أكثر من تلميح آنستي إنها الحقيقة أنت سجينتي و ستبقين هنا إلى أن أقرر رحيلك .
مد يده إلى جرس فضي صغير و أكمل : سأجعل توماس يرشدك إلى غرفة أعددتها لك .
فقالت بحدة : انتظر .. هذا أمر سخيف .. أنت لا تعرف شيئاً عني بل أنت لا تعرف من أنا .. لذا لا يمكنك حجزي هنا رغم إرادتي .
فسألها بصوت ناعم : حتى لو جئت أنت إلى هنا رغم إرادتي ؟
_ إذا كان هكذا فأنا آسفة لم أكن أعرف أن هذه الجزيرة أملاك خاصة وأؤكد أنني لن أرتكب الغلطة مرة أخرى .
قال لها ببطء وهدوء :
لكنك سترتكبين أخطاء مختلفة خطيئة الكذب مثلاً .
_ لم أكذب .
_ لا ؟ .. إذن ألم تكوني أنت من رقص في ذلك الملهى في ماسيرنو ليلة أمس ؟ ألم تتشاجري مع أصدقائك بعد تلقيكم تحذيراً واضحاً بالابتعاد عن الجزيرة ؟ التحذير الذي بدا قاطعاً لأصدقائك أما أنت فتجاهلته كل التجاهل
وما يشغل بالي الآن لما فعلت ذلك ؟
صمتت روندا .. إنها تفضل الموت على أن تقول لهذا الشقي المتعجرف .. اليوناني أنها جاءت إلى الجزيرة بمحض إرادتها العنيدة لأنها ولأنها فقط تلقت تحذيراً بألا تفعل .
_ الأسباب شخصية لا تهم سواي نعم أنا تلقيت تحذيراً لأمتنع عن المجيء إلى هذا المكان وأنا آسفة لأنني وضعت قدمي في هذا المكان … فهل يكفيك هذا ؟
_ للأسف .. لا أنت أتيت وفي الوقت الحالي ستبقين .
_ حقاً ؟ قد تغير رأيك لو سمعت من أنا ! والدي رجل ذو نفوذ عندما يسمع بهذا … الاعتداء ..
_ أنت وحدك المعتدي لقد تسللت إلى ما لا حق لك بالتطفل عليه كما أن هويتك ليست لغزاً .. آنسة ستورم .
فتح درجاً في طاولته أخرج منه مغلفاً رماه لها أخذته فوجدت اسمها مطبوع عليه وفي داخله صورة لها مقتطعة من صحيفة إضافة إلى مقال صغير عنها فسألته ساخطة : من أين حصلت عليها ؟
رمت المغلف على الطاولة بخشونة حتى أن بعض ما يحتويه تبعثر فقال :
هذا ليس شأنك لكن ذلك سيجعلك تعرفين أني لا أعب بهويتك فأنت فتاة شهيرة .
_ ووالدي رجل شهير .. أتحتجزني لتطلب فدية .
_ لا .. يا آنستي لن أفعل هذا .. لكن لو فعلت فأي ثمن تضعينه فدية لك ؟ ربما ليس ثمناً مرتفعاً إذا كانت هذه المقالات صادقة .
أحست باحمرار وجهها : هل أنت واثق أن هذه المقالات تذكر الحقيقة عني ؟
لكنها تساءلت لما اندفعت بالدفاع عن نفسها أمام هذا الرجل .. وأغلق الملف وأعاده إلى المغلف .. ووضعه من جديد في درج الطاولة .
_ فتاة صغيرة أفسدها الدلال .. وهذا الطراز لا يثير كثيراً .
_ يبدو أنك تحملت عبئاً لا يستحق .
_ هذه طريقة للتعرف على ضيفة غير متوقعة .
قطب جبينه قليلاً وقد لاحظ ارتجاف ساقيها ثم أشار لها بالجلوس على مقعد جلدي مرتفع الظهر يماثل الذي يحتله .
_ اجلسي آنستي .. قبل أن تقعي فأرضي قاسية قد تؤذي ثانية هذه البشرة الناعمة .
جلست ببطء وجمود بعد أن استوعبت مضامين كلامه وسألت : روب من هذا ؟
فرد ساخراً : ليس لي وهو لا يليق بك آنستي لكن ما من امرأة تعيش في القصر والثياب الملائمة لك يصعب أن نجدها في أوقات طارئة .
_ طارئة ؟ هذا لم يكن .. لا يمكن أن يحدث ..
إنه كابوس .. يا رب .. اجعلها تفيق منه .
وتابع صوته : ثيابك كانت مبللة من جراء محاولتك السخيفة الهرب من رجالي ولأنها ترشح ماء فقد تسبب لك الأنفلونزا …
_ إذن .. أنت من ..
منعها إحساسها بالخزي والعار من إكمال كلماتها ملمس الحرير على بشرتها أصبح فجأة مؤلماً لأنها تصورت نفسها عارية عاجزة تحت نظرات هذا الرجل المخيف . قال بحدة :
لا تظهري هذه الصدمة آنستي فأنت لم تحرمي رجالي من نعمة النظر إلى جمال جسدك فهل أنا أقل إنسانية منهم ؟ أم أنك تفضلين اهتمامهم بك ؟
قالت بهدوء واستسلام : إذا كنت تقصد إذلالي فقد نجحت .. وكل ما أرجوه أن تكون قد اكتفيت الآن وأن أستطيع المغادرة دون تأخير .
_ وهل يجعلك الإذلال صماء كذلك آنستي ؟ أنت لن تغادري الجزيرة .
كافحت لتمنع انفجارها الغاضب القلق :
_أظنك مجنوناً لن تحتجزني .. أنت تفهم هذا مؤكداً ! أصدقائي يعرفون مكان وجودي وهم سيأتون بحثاً عني نعم أنت حجزتني لكنك لن تستطيع حجزهم .
_ لن أفعل هذا ولا أعتقد أنهم سيبحثون عنك .. فأصدقائك يعتقدونك ضيفة لدي بملء إرادتك .
_ ولماذا يعتقدون هذا ؟
_ لأنهم تلقوا رسالة منك أو بالأحرى تلقوا رسالة اعتقدوها منك تطلبين منهم فيها أن يرسلوا لك حقائبك إلى الجزيرة .
_ سيعرفون أن الخط ليس خطي فبيرس يعرفه .
_ عندها سيعرف توقيعك فتوقيعك مميز آنستي .
ورمى لها بطاقة اعتمادها المصرفية على الطاولة فصاحت به : إذن لقد زورت توقيعي إضافة إلى جريمة خطفي ؟ ما أكثر الشكاوى التي سأرفعها ضدك عندما أتحرر من هذا المكان ! إلا إذا أضفت جريمة قتل على جرائمك الأخرى .
عادت السخرية إلى صوته القاسي : كلمات قاسية لكني أعذرك فقد عانيت الكثير لتزوريني فهل ألام إذا عانيت لأحتفظ بك ؟
فجأة تدفقت الدموع من عينيها بصمت فدفنت وجهها بين يديها وتركتها تنهمر ثم سمعت صوت جرس يدق وكأنه آت من مكان سحيق لكنها لم تنتبه كثيراً له حتى بعدما ساعدتها ذراع لطيفة على الوقوف وراحت كلمات متشجعة تتمتم في أذنها بصوت عميق وأجش وهي تتحرك معمية النظر طائعة كالحالمة نحو الباب .
كانت غرفتها جميلة .. فرغم ذلها وغضبها قدرت على تقييمها .. ولم يمض إلا بعض الوقت حتى أقفل الباب عليها .. فلاحظت أن الأبواب الزجاجية المفتوحة التي تؤدي إلى الشرفة كانت مزودة بقضبان مربعة متصالبة تمنع هربها
لكنها سمحت لنسيم رقيق دافئ عابق بأريج الزهور أن يدخل الغرفة .
تمددت فوق السرير الضخم المزدوج على وجهها تسند ذقنها إلى يديها وتحاول التفكير بهدوء في ورطتها لقد توقفت عن البكاء وتذكرت كلمات كانت تقولها لها مربيتها عندما كانت طفلة : دموع الغضب سريعة الجفاف يا عزيزتي !
حسناً لقد جفت الآن لكن أكثر ما يضايقها الآن أنها لا تعرف سبب احتجازها .. هو بكل تأكيد لا يحتجزها للانتقام منها على اعتدائها على أملاكه ؟ فعلى الرغم من طريقة التي عاملها بها لا يبدو رحيماً وارتجفت حينما تذكرت نظراته الباردة القاسية وحينما تذكرت أنها ما تزال تجهل هويته .
أسندت ظهرها تحدق إلى الستائر الحريرية السوداء المتراجعة عند أطراف السرير كي يرخيها من ينام فيه قبل النوم جالت نظرتها ثانية إلى النوافذ المسدودة بقضبان الحديد ثم إلى الخزانة …وجلست في مكانها .. يتملكها قلق فجائي هذه غرفة امرأة ومع ذلك فما من امرأة تسكن هنا كما قال لها .
نهضت عن السرير فداست بساط مصنوعاً من جلد الماعز وتوجهت إلى طاولة الزينة حيث تناولت منها قارورة عطر هي إحدى قارورات عدة موجودة هناك .. هذه بكل تأكيد زجاجة غورلان المفضلة لديها أعادتها مكانها بسرعة وهي تحس بجفاف في فمها وأخذت تتحقق من باقي أدوات التجميل فإذا هي جميعها ذات ماركات شهيرة تستخدمها دائماً و أدركت بانفعال غاضب جديد أن كل تحرياته عنها كانت مكتملة وفكرت أن ترسل كل ما على الطاولة إلى الأرض بحركة واحدة من ذراعها .. لكن تعقلها تغلب فهي لا تشك أبداً في أنه سيتركها تنام في جو الغرفة الذي سيغمره العطر لو فعلت هذا .. وفكرت ثانية : حرير وعطور .. و أقفال الباب وقضبان متشابكة على النوافذ .. وكأنه جناح حريم .
ارتفعت يدها إلى عنقها وهي تفكر في أن هذا الكابوس حقيقي .. .. ألهذا هي هنا ؟ لقد قال لها إنه سيد المكان .. فهل يعني أنه سيدها كذلك ؟ أهذا هو عقابها على غزوها لخلوته ؟ وتماسكت بسرعة .. هذا هو القرن العشرين
ومهما كان هذا الرجل متعجرفاً فهو لن يكون بربرياً له لهذه الدرجة ثم أنها تعرف معنى الرغبة إذا شهدتها في عيني رجل وسمعتها في صوته وهو لم يظهر لها سوى الغضب البارد الممزوج بالاحتقار .
تأوهت قليلاً وهي تنظر إلى نفسها بالمرآة .. إنها بحاجة إلى حمام كي تغسل أثر الملح والعرق والغبار عن نفسها وشعرها يجب عليه أن تواجه سجانها في أحسن حالاتها .. لا عجب إذن أنه عاملها باحتقار وعجرفة لكنها ستجعله يرى أنها شخص يحسب حسابه .
_ آنستي ؟
عرفت الرجل القصير النحيل من خلال صوته فهو من رافقها إلى غرفتها .. وتذكرت لطفه وتعاطفه معها عندما ساعدها فابتسمت له :
_ أتريد الآنسة شيئاً ؟ أليست الغرفة مريحة
_ إنها رائعة .. ولكن ..
و أخفضت صوتها وكأنها تتآمر : بعد حمام ستكون أروع .
_ بكل تأكيد آنستي هل لك أن ترافقيني من هنا ..
رافقها إلى ممر رخامي حيث فتح باباً قبالة باب غرفتها وجدت روندا أمامها حماماً من الرخام الزهري اللون فيه زاوية للاستحمام ومغطس صغير ورفوف زجاجية تحمل زيوت الحمام والصابون و أدوات التجميل الأخرى ومشجب مناشف فضي يحمل مجموعة مختارة من المناشف السميكة الناعمة .
_ أهناك شيء آخر آنستي ؟
_ بعض الملابس فقط .
_ ستصل حقائبك قريباً .. حتى ذلك الوقت .. أنا آسف فكما ترين آنستي .. ليس هناك امرأة هنا .
_ هذا ما قيل لي .. لكني دهشة فسيدك كما بدا لي أعزب .
تغيرت أسارير وجهه إلى الرزانة التي يتحلى بها الخادم المدرب المخلص .. ما كان يجب أن تذكر السيد في كلامها معه وقال بأدب :
_ اقرعي الباب عندما تكونين جاهزة وسأرافقك إلى غرفتك جففت بها جسدها ثم التقطت الروب الحريري الأسود زهي تشعر بالقرف للاطرارها إلى ارتداء روب رجل .. ستطلب من الخادم أن يجلب لها البيكيني والروب الذي لا بد جف الآن وربطت الروب ونظرت إلى نفسها بانتقاد لكنها أحست بالانتعاش وبالقدرة على مواجهة ما ينتظرها فقرعت الباب .. وهي تعلم أن الخادم ينتظرها :
_ أتحب الآنسة أن ترتاح قبل العشاء ؟
فسألته وهو يقودها بلطف إلى سجنها الفضي : ألن تذكر لي اسمك ؟
_ أنا توماس آنستي .
_ أوه .. إذن أنت لست يونانياً كسيدك ؟
_ أنت على حق آنستي .. أنا لست يونانياً .. أرجو أن تتمتعي بالراحة .
لم تشعر قط أنها بحاجة إلى الراحة كما هي الآن فها هي العتمة بدأت تهبط والأنوار راحت تنطفئ لكنها لاحظت أن نوراً آخر بقي في الغرفة كان معلقاً فوق لوحة لم تلاحظها معلقة على الجدار قرب الباب قبالة سريرها تماماً .
تقدمت بدافع الفضول تنظر إلى الصورة فظنتها للوهلة الأولى صورة الرجل الذي قابلته في الطابق السفلي .. ثم أدركت أن الرجل في اللوحة يرتدي ملابس قرن بائد وأن قماش اللوحة نفسها من نوعية قديمة .
لكنه يبدو كسيد القصر تماماً شعره أسمر أحمر موضوع تحت قبعة تزينها الجواهر ويده ممدودة يستريح عليها هو أسير آخر في الظلام يا للسخرية !
كانت اللوحة بكل تأكيد أصلية مع أنها لم تميز التوقيع أو الكلمات الشاحبة المكتوبة عليها أيضاً .. لكنها عادت وتبينت أن الكلمات ربما اسم صاحب الصورة وهذا ما كان يتم فعله في لوحات القرن الرابع عشر لكن الثياب بدت لها تنتمي إلى حقبة أبعد من هذه الحقبة فجذبت كرسي طاولة الزينة ووقفت عليها تتحقق مما ترى لكن لسوء الحظ كانت الكلمات قديمة بحيث لم تعد مقروءة فنزلت وهي تحس بالإحباط .
لكن ثمة أسئلة كثيرة تريد عنها إجابات .. وأعادت التفكير بأحداث الساعات القليلة الماضية بذهول لقد أغرقت .. خطفت .. هددت وخوفت بل أرعبت .. الرعب هنا ارتجفت وقد تذكرت لحظة دخولها إلى القصر وزمجرة الحيوان المنخفضة الذي لم تستطع رؤيته .. ما هي تلك الجملة التي قرأتها مرة الرعب الذي يسير بالظلام وارتجفت عندما اكتشفت ما تعينه هذه الكلمات .
إذن يبدو أن النمر موجود فعلاً .. لكنه مروض بكل تأكيد .. ترى هل تروض الوحوش الضارية أبداً ؟
استدارت تنظر إلى اللوحة مجدداً .. يا لهذا الشبه الكبير ! إنه لا يصدق ! فلهما الجاذبية نفسها ترى هل كان هذا النبيل العتيق يدرك مدى جاذبيته كما هذا الرجل الموجود الآن في القصر ؟
كانت غارقة في أفكارها حنى أنها لم تسمع الضجيج المفاجئ .. وحينما سمعته لم تجد مكانه فوراً بل سارعت إلى النافذة ونظرت خارجاً ففوجئت مذهولة برؤية طائرة هيلكوبتر تهبط على سقف القصر .. فظنتها تقصد اليابسة .
هذا تطور جديد .. لاشك فيه فبينما يمنع الناس من المجيء عبر البحر ويعتقلون يسمح لآخرين بالدخول والخروج عبر السماء كما يريدون وهذا يعني كذلك أن هناك وسيلة أخرى غير البحر لمغادرة الجزيرة وضحكت فغلبها أولاً التفكير في كيفية خروجها من غرفتها وبعد ذلك .. وحده الله .. يعرف كيف هي لا تسمع صوت الطائرة وهذا بعني أنها إما حطت في القصر نفسه وإما رحلت .
التفتت عندما سمعت صوت المفتاح في الباب الذي أطل منه توماس يحمل صينية عليها إبريق شراب التوت وكوبين وأعلن وهو يضع الصينية على طاولة أثرية صغيرة :
_ طلب مني السيد أن أبلغك أن له الشرف في تشاركيه العشاء هذا المساء .. آنستي .
_ حسناً .. أعتقد أنني لست في موقف يسمح لي بالرفض .. لذا من الأفضل أن تقول له إنني سأتشرف بهذا ..هذا إذا وجد أنه قادر على ترك ضيوفه الآخرين .
_ ضيوف آخرون آنستي ؟
_ أجل .. الرجلان اللذان وصلا بالطائرة لتوهما أم إنهما أودعا السجن أيضاً ؟
فابتسمت له أحلى ابتسامته وقالت بخفة : كما تقول توماس .
ثمة ما يجري في هذه الجزيرة لا يريد سيدها العظيم أن يعرفه من في الخارج .. فماذا يا ترى يحاول هذا العظيم أن يخفي ؟
ما إن خرج توماس حتى سارعت إلى المرآة تنظر إلى نفسها بانتقاد ورقصت عيناها وهي تنظر إلى نفسها للحظة ثم تقدمت إلى الصينية وصبت لنفسها كوباً من العصير المثلج .
والتفتت إلى اللوحة المعلقة على الجدار ترفع الكوب بابتسامة تحية .. وهمست من بين أنفاسها
_ والآن سيدي النبيل … فلنر إذا كنت من البشر .
_ سعيد أنا لأن محنتك الأخيرة لم تهبط روحك المعنوية آنستي .
التفتت روندا ووجهها يشتعل ناراً وكأنما تكلمت بصوت مرتفع منذ متى يقف بالباب ؟ هذا الصوت البارد المتعجرف هو الإعلان الوحيد عن وجوده .
تقدم إلى الغرفة يتحرك دون صوت ولاحظ أنها تنظر إليه تقيم ما يرتديه من ثياب النوم فابتسم :
وجدت أنك قد تنزعجين لو ارتديت ملابس سهرة السهرة للعشاء .
تلمحيه الساخر جعلها تصر على أسنانها فمسألة صغيرة كالملابس هي نقطة نقاش بينهما ولقد سجل عليها نقطة ويعرف هذا جيداً فقالت لنفسها : أوه .. سأنتقم منه ولو لمرة واحدة !
تقدم إلى الطاولة التي تحوي الإبريق وصب لنفسه كوباً ثم قال :
لعل هذه الفترة القصيرة من الخلوة لم تفقدك القدرة على النطق لقد كان لديك أقوال كثيرة تقولينها عندما التقينا باكراً وكنت أتوقع أمسية مسلية .
هزت كتفيها بغير مبالاة : آسفة لأنك تجد صحبتي مملة لكنني لست معتادة على تسلية غريب في مكان حميم كهذا .
_ رد يثير الإعجاب ولكنه يناقض شخصيتك لماذا لا تطلبين خروجي إلى الجحيم إذا كان هذا ما ترغبين فيه ؟
_ وهل لهذا فرق ؟
_ جربي …
الأمر مغر بالفعل لكن لو خرج لن تستطيع إقناعه بإعطائها بعض الحرية ولن تقدر على معرفة ما يجري هنا مع أن الأمل بنيل أقل حرية أو أدنى معلومة ضئيل جداً إلا أنها لن تسمح لأدنى فرصة بالإفلات من يدها .
_ ولم أنت واثق من أنني أريد رحيلك ؟
_ لأنني خاطف وسالب ولست واثقاً مما إذا كنت سأقبل يدك بعد العشاء وانسحب .. لكن مع كل هذه التهم الموجهة ضدي لن تهمني تهمة الإغواء .. والغرفة كما تلاحظين مناسبة لهذا …
لعنت روندا الاحمرار الذي غزا وجهها وقالت : أنت مخطئ …
لكنه قاطعها : لا تكذبي علي يا جميلتي لقد قلت لك إن الكذب علي خطأ كان لديك عدة ساعات من العزلة تفكرين خلالها في عقلك الأنثوي ماذا أخطط لك .. أعتقد أنك وجدت الفراش واسعاً كفاية .
ضحك ساخراً لرؤية احمرارها يشتد .
_ أترين .. لا يمكنك خداعي يا عزيزتي حسناً .. لن أفسد شهيتك للعشاء أنت للعشاء أنت هنا آمنة ولا أنوي أبداً مخالفة قواعد الضيافة .
_ يسرني سماع قولك هذا .
أوه .. إنه لا يطاق واثق من نفسه مقتنع بأنه يسيطر على الوضع ! لكنها أخيراً ستجعله تحت رحمتها وعندها سترى سيطرته هذه تتلاشى عند قدميها .
أنهت شرابها وقلبها يخفق باضطراب وقالت : إذا كنا سنتصرف حسب قواعد الضيافة فعلى الأقل اذكر اسمك فليس من العدل أن تعرف أشياء كثيرة عني في حين أنك لا تقدم لي شيئاً في المقابل .
ومدت له الكوب ليملأه من جديد ففعل وهو يقول : يشبع غروري اهتمامك آنستي .. اسمي ماتيوس سيبراتوس إنك دون شك سمعت اسمي سابقاً .
طبعاً سمعته فبعد لقائها رجال الأعمال والدبلوماسيين الذين يزورن منزل والدها لا يمكنها نسيان اسم صاحب شركة القرن العشرين المتطورة لدار مصرفية قديمة قد تكون جذورها ممتدة منذ القرن الرابع عشر في اليونان .
_ إذن أنت فعلاً الأمير سبيراس ….
فقاطعها : ما عدت أستخدم هذا الاسم .. ولا اللقب آنستي وجدت اليوم أنه بلا قيمة .
_ لكنك تعيش هنا كالأمير الحاكم .
_ ربما نحن فقراء زراعياً والصيد لا يسد حاجاتنا لذا حاولت أن أطور الأشياء لشعبي بإقامة صناعات صغيرة لهم ستخفف من اعتمادها على أشياء غير ثابتة في حياتهم التقليدية فهل أنا مخطئ في هذا ؟ وإذا طلبت منهم في المقابل الولاء والطاعة .. فهل أطلب الكثير ؟
_ لكنك تطلب أكثر من الكثير منهم في إجبارهم على العيش هنا دون نساء .
لاحظت نظرة الانتصار التي بدت على وجهه وقال :
_ العديد من النساء المحليات يتمتعن الآن بعطلة مكتسبة على الأرض الأم على حسابي وغيابهن الآن أمر مؤقت أؤكد لك و إلا ستواجهين ثورة .
_ والأميرة سبيراس ؟ هل تمتع هي الأخرى بإجازة في مكان ما ؟
_ أمي تعيش في فيلا خاصة بها في إسبارطة على شبه جزيرة البيلونيز لماذا لا تسأليني ما إذا كنت متزوجاً كما سألتني عن اسمي ؟ فهذه المراوغة غير الضرورية مملة .
كم رغبت في أن تركله لكنها سألته محافظة على رزانتها .
_ حسناً .. هل أنت متزوج ؟
_ لا .. يا جميلتي لكنني أنصحك أن لا تعقدي الآمال على أوهام فلن أتزوج في الوقت الحاضر .
فنظرت إليه نظرة كالعسل :
_ كنت فضولية فقط سيد سيبراتوس بما أنك تعرف الكثير عني فهذا يعني أنك تعرف أني مخطوبة .
_ آه .. أجل إلى ذلك الشاب الأشقر الذي كنت تحبطين رغباته كلها في الملهى ليلة الأمس .. إنكما خطيبان مثاليان ومع ذلك لا ترتدين خاتم الخطوبة .
_ سيقيم والدي حفلة لنا خلال هذه السنة ليعلن الخطوبة .
_ يا لهؤلاء الإنكليز التقليدين الباردين ..ألا يفكرون في نوع من العلاقة أولاً ؟
_ لا يحق لك أن تقول هذا فأنا و بيرس مغرمان ببعضنا بعضاً .
مغرمان إلى حد أنك تتجاهلين رغباته بقضاء يوم وحدك على الشاطئ لا تحملقي بي هكذا عزيزتي .. كم من مرة فكرت بخطيبك منذ وصلت إلى هنا ؟ عندما بكيت في وقت سابق بكيت لنفسك لا لافتراقك عنه كما قد أرغب أن تفعل أية امرأة لي .
فقالت بحنق : لا أتصور أن هناك امرأة غيبة إلى حد أن تبكي من أجلك .
فضحك بنعومة : لا .. ؟ حسناً .. والآن خبئي مخالبك لئلا تصيبي المسكين توماس بصدمة فهو سيحضر لنا العشاء .
كان من الأشرف لها أن ترفض تناول الطعام معه لكن منظر الطعام الذي كان يدفعه توماس أمامه على عربة كبيرة جعلها تذعن .
وما إن انتهيا وأخذت تحتسي قهوتها حنى تراجعت في كرسيها متنهدة من التخمة .
_ لديك طباخ ممتاز .
_ والخدمة لدي ممتازة عادة فشعبي لا يعتبرني الغول الذي تظنينه مع أن وضعك الحالي أفضل مما لو كنت بين يدي أحد أسلافي .
فاتجهت عيناها طوعاً إلى اللوحة فهز رأسه :
_ أنت محقة آنستي .. في عصر العنف والقسوة ماثيو سبيراس الأول صنع من اسمه مثالاً كانت كاستاريوس جزءاً من إرث ورثه فتاة سيئة الطالع تزوجها وبنى أول قصر هنا .
_ إذا كان سيئ السمعة هكذا فالعجب أنه انتقى مكاناً هادئاً كهذا بعيداً عن الأرض الرئيسية .
فالتوت شفتاه : الخيار لم يكن له وحده آنستي فلقد أساء إلى أحد كرادلة روما المعتمدين في إسبارطة بانتزاع عواطف إحدى عشيقاته وأجبره الكاردينال على مغادرة البلاد .. فهرب إلى هذه الجزيرة التي أصبحت معقلاً له ودافع عنها ضد كل الوافدين بمن فيهم القراصنة والأتراك والغزاة لذا كان للناس عذرهم في محبته والامتنان له .
_ هل كان حقاً رجلاً رهيباً ؟
سألت هذا وهي تتأمل اللوحة ضائعة في تعابير الأمير الميت الغريبة فأجابها بصوت منخفض :
_ أظنه كان كما تقولين يقال إنه من الخير للمرء أن يموت دون أن يكون له عدو أو يكون عنده سجين كان ماثيو سبيراس الأول معتاداً على إطلاق صقره الخاص الذي ترينه في الصورة على عيون سجنائه .
فارتعدت روندا : ال ...
_ لقد كان اسمه وحش كاستاريوس .
وضعت روندا فنجان القهوة من يدها بقوة حتى انسكبت منه قطرات على القماش الأبيض الدمشقي وسألت بذهول : ماذا قتل ؟
_ قلت أنه كان يسمى .. !
وصمت ينظر إليها متسلياً ثم تابع باسترخاء :
هذا اللقب توارثه ذكور العائلة معظم أبناء عائلة سبيراس سمر الوجوه لكن كان يولد للعائلة بين زمان وزمان ابن له مواصفات اللون والبشرة نفسها ولون العيون العسلية والذهبية ذاتها .
_ أهذا ما يسمونك به الآن ؟
_ ليس في وجهي .
_ لكنني ظننت … ما كان ؟
_ عم تتكلمين ؟
_ عندما وصلت إلى الصقر وسترة سفاحك على رأسي سمعت حيواناً يزمجر خفت منه خوفاً شديداً وكانوا ليلة الأمس قد ذكروا أمامي في ماسيرنو لفظة نمر ثم كرروا اللفظ على الشاطئ هنا .. فظننت أنه نمر حقيقي يقال له وحش الجزيرة .
ارتد رأسه إلى الوراء ضاحكاً : لا تنظري إلي هكذا يا جميلتي .. سأريك النمر .
هب عن كرسيه متجهاً نحو النافذة حيث راح ينفذ بصره من خلاله ثم أطلق صفيراً منخفضاً طويلاً وانتظرت روندا متوترة الأعصاب لا تدري ماذا تتوقع ثم فجأة دوى نباح مسعور .
_ أوه .. كلب هل أستطيع رؤيته ؟ هل هو شرس ؟
_ أجل .. ولا يحترم النساء الجميلات إنه حيوان أليف لكنني لا أنصحك بالعبث معه أو مع أي من رفاقه .
_ وما فائدته ؟
_ إنه كلب حراسة .. يجول الأراضي حول القصر ليلاً لكنني أقول لك ثانية عزيزتي الخير ألا تسعي إلى صحبته فلا أريد أن يغمى عليك مرة أخرى .
فقالت ببرود : لا أظن هذا محتملاً .. لقد فوجئت بما أجهله عندما أغمي علي سابقاً .. لكنني معتادة على الكلاب ولا ألومه لقيامه بواجبه .
أسند ظهره إلى كرسيه متمدداً يعبث بفنجان قهوته : أتسامحين بهذه السهولة دائماً ؟
_ هذا يتوقف على نوع الإساءة .
وساد الصمت بينهما طويلاً .. ثم سألته : متى ستطلق سراحي ؟
_ لديكم قول مأثور : هذه السنة أو السنة القادمة أو في وقت ما .. أو أبداً .
حاولت أن تبقي صوتها متعقلاً : لكن ألا ترى .. كلما أبقيتني مدة أطول كلما ساء أمرك قد تكون رجلاً مهماً في عالمك لكنني مواطنة إنكليزية لها حقوق والخطف جريمة خطيرة خاصة في اليونان .
_ لكننا لسنا في اليونان نحن في كاستاريوس التي أملكها وأضع قوانينها وأنت تسللت إلى أملاكي وتتلقين الآن العقاب فهذا هو قانوني الخاص .
_ أظنك مجنوناً !
_ أحياناً احسبني كما تقولين .
وهب واقفاً فبد بحركته الرشيقة والسريعة كالحيوان الذي يسمى باسمه ووقفت روندا بدورها وقالت :
_ طلبت مني ألا أكذب .. لكنني أعتقد أنك من يكذب علي تتحدث عن العقاب ولا أظن أن للعقاب صلة بما تفعل بل أعتقد أن هناك شيئاً يحدث هنا في الجزيرة لا تريد العالم الخارجي أن يعرف به ولهذا لديك حراسك المسلحون ومراكبك المعدة وما الحراسة لهدف خاص بل لكتم سر ما و لا أرى أن هذا الشيء إلا أمر مخز لأنه يتطلب هذا كله .
فوقف عند الباب ويداه على خصره ثم قال بصوت متوتر علمت منه أنها أصابت هدفاً : هيا… تابعي .
_ احتفظ بسرك ما تشاء .. لكنني يوماً ما سأغادر هذا المكان فوالدي دون شك سيفتش عني .. عندها سأقول كل ما أعرف وعندها ستصبح في مكان ما تحكمه سلطة وسيعرفون كيف يتعاملون معك .
_ هل لديك شيء آخر تقولينه قبل أن أتمنى لك ليلة سعيدة ؟
أخيراً ارتجف صوتها :
_ أجل .. لقد سألتني منذ قليل إذا كنت أسامح بسهولة … وسأقول لك يا وحش الجزيرة أو يا ماتيوس سبيراتوس أو يا أمير سبيراس أو كائناً من تكون أو تختار أن تسمي نفسك لن أسامحك أبداً بسبب ما أعانيه على جزيرتك .. ولو اقتضى مني الأمر حياتي كلها لسعيت لأجعلك تندم واعلم أن كل يوم تحتجزني فيه سيكون دافعاً آخر ليزداد كرهي لك .
فضحك بسخرية خافتة .. جعلت فرائصها ترتعد ثم ابتعد عن الباب فإذا هو يلمح البصر إلى جانبها .
_ اكرهيني إذن يا عزيزتي .. لكن لسبب معقول لا لأنني جرحت كبريائك قليلاً .
أرادت أن تتراجع لكن الكرسي ورائها منعها فوقعت بين ذراعيه اللتين عقدهما على جسدها وشدها نحوه فتعلقت يداها بكتفيه غريزياً لتحافظ على توازنها .
كانت عيناه ذهبيتين لامعتين ببريق غضب داخلي أشبه بغضب نمر خطير شرس .. إنه ملك في غابته الخاصة ما إن احتواها تماماً حتى توقف عقلها عن التفكير لتحل مكانه الإثارة الفجة الصافية .
تبخر أي تفكير بالمقاومة وهو يحتجزها بين يديه بتسلط وتحكم لم تحلم بوجودهما من قبل .. كانت عاجزة أمام قوته عاجزة عن منع الاستجابة الحلوة لعناقه المتدفق .
رفع رأسه فإذا أنفاسه مضطربة وإذا عيناه تحدقان في عينيها الواسعتين النجلاوين ثم خرج منه صوت يجمع بين التنهد و التأوه قبل أن يعود إلى ضمها ثم افترقا ثم تعانقا وذابا كان وكأن لمساته تشعل ناراً حول ما تلمس وسمعت نفسها تتنهد تتوق إليه كما تلتفت الزهور نحو نور الشمس .
أتاهما من زاوية الممر صوت خفيف فرفع ماثيو سبيراس رأسه يصغي حدقت روندا به تشعر بالحرمان لكنها سمعت الصوت كذلك يرافقه وقع أقدام خافتة على الممر .
لا بد أن توماس قد جاء ينظف الطاولة وهذا يعني أنه كان يمكنه ضبطهما وهما على ذلك النحو فجرت نفسها إلى الخلف تلف أطراف الثوب الحريري حول جسدها المتجمد خجلاً بيدين مرتجفتين فبدت الدهشة على ماثيو :
_ عزيزتي .. توماس خادم مخلص لن يتطفل دعيني أبعده .
لكنها صفعته بما أوتيت من قوة .. وانتظرت لحظات خائفة من أن يرد الصفعة فقد رأت وجهه يشحب كما رأت العلامة الغاضبة التي تركته أصابعها تبرز حمراء على خده .. لكنها فجأة تحررت تقف وحدها على ساقين تهددان بخذلانها .. ونظر إليها من علو وقال ببرود : أنت تكرهيني جيداً عزيزتي .
واختفى كان الوقت يقارب الفجر حين تمكنت من النوم بقلق .. استلقت ساعات دون نوم .. مرهقة جسدياً و نفسياً أكثر مما يمكن أن تتحمل الحلول التي وصلت إليها كانت تتدرج من عدم الرضى إلى لا مقبول نهائياً .
لم يكن هناك مجال لتنسى أنها سمحت لعدو يبقيها سجينة في بيته لمآرب مريبة أن يغازلها ويعانقها في الواقع .. لم تسمح له فقط بل أنها تجاوبت بكل ذرة من كيانها معه ولولا اقتراب توماس الذي أعادها إلى رشدها لكان لذلك
المشهد نهاية وحيدة وارتجفت .. تضغط وجهها المحترق على برودة الأغطية على قماش الوسادة القطنية .
لقد أظهر لها وحش الجزيرة رغم إظهار الكره له والرغبة بالانتقام كم هي امرأة ضعيفة معرضة للمهالك وهذا بحد ذاته يشكل صفحة أخرى يضمها ملفه عنها وتطايرت روحها الثائرة من هذه الفكرة .
قالت لتوماس بعد خروج سيد القصر دون أن تلتفت نحوه : توماس هل يجب أن تبقى هذه الصورة معاقة في الغرفة أثناء وجودي فيها ؟
قال بدهشة واضحة : لكنها كانت دائماً معلقة هنا آنستي ! ألا تهمك ؟ أنت مختلفة عن بقية النساء اللواتي احتللن هذه الغرفة .. واللواتي كن يعتقدن أن الأمير الوحش جميل جداً .
_ لا .. لست كالأخريات .. وهل كن محتجزات أيضاً ؟
ساد صمت قصير تعس .. ثم قال بصعوبة : لو أن الآنسة تفهم .. لو أن الشرح ممكن ..
فضحكت بجنون : أنت متورط في هذا كله إذن .. ماذا فعل سيدك توماس ؟ ماذا فعل بملايين مصارفه ؟ أهذا هو سبب وجود الحراس … ؟ أيتوقع هبوطاً مسلحاً ضده لاسترجاع المال ؟
وسمعت صوت تحطم فالتفتت لترى توماس منحنياً يلملم بقايا فنجان القهوة الذي كان على الطاولة .. فجف فمها .. إنه خادم مدرب ضليع في عمله ولن يكسر شيء بشكل أخرق دون سبب محدد .. فهل أصابت الهدف بكلامها هذا ؟ أيكون ماثيوس سبيراتوس البارد الأرستقراطي ذو العواطف الملتهبة … لصاً ؟
قد يكون هذا تفسيراً لمغازلتها .. أحسبها لن تبلغ عنه فيما لو أصبحت عشيقته أم أنه اعتقد أن خبرته في فن الإغواء قد تنسيها كل شيء ؟
وقالت : أرجوك توماس أخرج هذه اللوحة من هنا إن أمكن إني لا أطيق وجودها في الغرفة معي !
_ سأخبر السيد بالأمر آنستي لكنني لا أعدك بشيء .
وخرج توماس ثم أقفل الباب وراءه بالمفتاح .
دعاؤها الذي راقها في فترة النوم القصيرة بألا تضعف أمامه ثانية لم يستجب . فعندما فتحت عيناها على مضض أمام نور شمس الصباح المندفعة عبر الشباك الحديدي المثبت على النوافذ أحست أنها ما تزال ما تزال في كابوس حيث تلاحقها كل أنواع القطط المتوحشة تحت أنظار رجل شعره أسمر أحمر يقف على ذراعه صقر .
جلست في سريرها متنهدة تشعر بصداع أليم في رأسها ثم شاهدت شيئاً عند أسفل السرير أيقظها بحدة .. فقد وجدت أمامها ثلاث حقائب من الجلد الفاخر عليها حرف اسمها المذهب هذا انتصار آخر للعدو لكن ربما يكون هذا آخر انتصار له وعليها أن تعترف أن من المستحسن أن تحس من جديد بملمس ثيابها على جسدها دون أن تضطر لقضاء ساعات في روب حريري أسود فتحت أولى الحقائب فوجدت ملابس نومها وثيابها الداخلية ورسالة مكتوبة بخط يد أموريل التي قالت فيها :
عزيزتي روندا : لم تذكري كم ستبقين في كاستاريوس لذا أرسلت لك ملابسك كلها لا أظن أننا سنطيل البقاء هنا فبيرس مستاء جداً من جراء تصرفك وهو الآن لا يريد متابعة الرحلة البحرية إلى كريت وأنا لا ألومه سنعود رأساً إلى مسينا دون أن نقطع المضيق .. وسنراك في لندن بعد أن تتمكني من نزع نفسك من أصدقائك اليونانيين كان بإمكانك القول أن الأمير سبيراس صديق قديم لوالدك بدلاً من التسلل إليه هكذا … أموريل .
صديق قديم لوالدها إذن ! أوه .. يا لمكر هذا الرجل اللعين ! أيستخدم لقبه المهمل لزيادة اللمسة الأخيرة على سمعته المحترمة !
أخرجت من الحقيبة ثوبها المطرز الفرنسي الطراز وارتدته مكان الروب الرجالي الأسود في اللحظة التي قرع الباب فيها بنعومة فنادت ادخل .. فظهر توماس : أتود الآنسة استخدام الحمام قبل تناول الفطور ؟
_ بكل تأكيد !
أخرجت روندا حفنة من الثياب الداخلية وفتحت الحقيبة الثانية تخرج منها فستاناً قطنياً أزرق اللون ذا إطار أبيض و تنوره طويلة .
بعد أن استحمت وارتدت الفستان أحست بأن معنوياتها ترتفع فعادت إلى غرفتها فإذا بها ترى توماس قد أعد لها طاولة قرب النافذة وضع عليها إبريقاً طويلاً من عصير الفاكهة وإبريق قهوة فضياً على سخانة كهربائية صغيرة .
عندما عاد توماس يرفع الأطباق عن الطاولة قال لها :
_ لقد أخبرت السيد بشأن نزع لوحة سلفه من الغرفة .. فقال أننا لو ألقينا إصبعاً عليها فستعود روح وحش كاستاريوس لتطاردك لكنني أظنه كان يمزح فما من أحد يعرف أن شبحاً يعيش في القصر .
يمزح ! وغرزت أظافرها في راحة يدها لكنها أجبرت نفسها على الابتسام : قل لسيدك إن الأمر لم يعد يهم .. وقل له كذلك إنني لم أعد تلك الغبية التي كنتها ليلة أمس .
بدا الاضطراب على توماس وهو يقول باحتجاج : لكنه لا يعتبرك غبية آنستي .
_+ صحيح ؟ إذن ما هو برنامج السيدة المحكومة اليومي بعد أن تناولت إفطارها ؟ أهناك حقائب بريدية أخيطها له أم أنا مضطرة لقياس طول غرفتي من الحائط إلى الحائط ؟
_ ولماذا ؟
_ أنا آسفة توماس … إنها ليست غلطتك .. لكنني لا أظنني أقدر على مواجهة السجن مدة طويلة .
_ لكن السيد لا يريد سجنك بل يريد من الآنسة أن تتجول بحرية في القصر .
_ والأراضي حوله ؟
_ هذا ممكن … مع مرافق فالأراضي واسعة قد تضيع فيها الآنسة .
_ أوه .. حقاً ؟ قل لسيدك إنني أحفظ الاتجاهات جيداً .
وبدا القلق على توماس : ومع ذلك …
أيحاول إخفاء مكان هبوط الطائرة ؟ أم أنها قد تعثر على شيء آخر ؟ وقاطعته بسرعة : أنا أمازحك توماس ما دمت سأخرج من غرفتي لا أمانع مهما كان عدد المرافقين .
_ سأقول للسيد .
وابتسمت لنفسها .. يبدوا أن الوقت شيء تملكه كثيراً … وإذا كان هناك طريق للخروج من هذه الجزيرة … فستجده .. ولو استطاعت في الوقت نفسه إركاع وحش الجزيرة … فستفعل .
عندما سمعت بارتياح وقع خطوات توماس بدأت تحس أن ماثيو سبيراس يلاعبها لعبة القط والفأر !
_ أتسمح الآنسة بمرافقتي إلى الصالون . سألها توماس .
كانت تأمل لو تتجنب اللقاء مع سيد كاستاريوس إلى أن تكون آثار ما حدث ليلة أمس بينهما قد تلاشت قليلاً من ذاكرتها .. لكن يبدوا أن اللقاء حتمي وعليها مواجهته .
4_ جناح الحريم
تحت ضوء الشمس وجدت ما يحيط بها من معالم القصر تبهر النظر الجدران نظيفة تعكس الضوء على الممرات المليئة على جانبيها بكوات صغيرة كل منها يحوي على قطعة أثاث أثرية نفيسة أو تمثال أو لوحة .
كانت تود لو تتوقف لتتفحص بعضاً منها لكنها كانت متشوقة لمعرفة مدى الحرية التي ستمنح لها .. فتبعت خطوات توماس السريعة الرشيقة وسرعان ما وصلا إلى رواق عريض ذو درابزين حجرية منحوتة قادهما إلى بهو على طول مدخل القصر السفلي وأوصلهما إلى غرف تقود إلى أجنحة مختلفة من القصر مركزها كله حول سلم مرمري عريض يستدير بانحناء لطيف ليصل إلى الطابق الأرضي .
كانت الأبواب في الردهة التحتية مرتفعة جداً وسوداء ثقيلة ومحفورة لها مقابض حديدية مزينة على شكل رأس نمر وتساءلت بينها وبين نفسها ترى أي منها باب مكتب ماثيو سبيراس لكن الأبواب كلها كانت موصدة تخفي كل شيء ورائها .
كان الباب الرئيسي مفتوحاً يتسلل منه هواء الصباح …وبيدوا أن الحرية ونور الشمس بانتظارها لكنها مع ذلك تحس أن أي محاولة للهرب ستنتزع الحرية منها وصل توماس إلى أحد الأبواب المرتفعة وفتحه مشيراً لروندا بالدخول فدخلت فإذا بها تجد نفسها في غرفة سارعت لتنظر حولها إلى ما يحيط بها من أناقة والأرض الرخامية السقف المرتفع المنحوت .. ثم توقفت عيناها على صورة الرجل الواقف عند مؤخرة الغرفة ينظر عبر باب زجاجي إلى الخارج و ظهره لها .
في بذلته الرسمية لم يكن يبدوا طويلاً أو مهيباً كما بدا ليلة أمس أدار وجهه إليها فوجدت نفسها أمام رجل غريب كان شاباً أصغر سناً من ماثيو وأشد اسمراراً لكنه جذاب كذلك ابتسامته تتراقص على شفتيه مضيئة وجهه :
_ إذن أنت الآنسة ستورم .. يفتنني التعرف إليك .
تقدم منها ليأخذ يدها وينحني بطريقة قديمة الطراز وجدتها روندا مبهجة :
_ اسمحي لي بأن أقدم نفسي أنا بيدروس سبيراتوس ابن عم ماثيوس .
_ أمقيم أنت هنا كذلك ؟
فابتسم : من الآن وصاعداً …
_ وهل بعلم ابن عمك الطاغية بذلك ؟
كان كلامها فظاً إلا أنها عجزت عن منعه : بالطبع يعرف فأنا هنا بناء على دعوته عادة أبقى معه في وقت قادم من السنة لكنني ليلة أمس استلمت دعوته فوصلت باكراً بالطائرة .
_ بالطائرة … بالهليوكوبتر ؟
_ أجل .. لعلي لم أزعج منامك ؟
_ أوه لا .. وهل ستطيل الإقامة ؟
_ هذا يتوقف عليك آنستي .
_ علي أنا ؟
_ سأبقى هنا مادمت هنا … آنستي .
_ آه فهمت .. استدعاك ابن عمك لتكون سجاني .
_ آنسة ستورم .. هل أبدو لك سجاناً .. من الطبيعي أن تفضلي البقاء مع ماثيو .. ومن يلومك لكن هذا مستحيل في الوقت الحاضر لذا طلب مني أن أكون مرافقك إلى أن ينتهي الأمر ويستطيع ماثيو العودة إلى دور المضيف ثانية .
فقاطعته روندا :
سيد سبيراتوس .. أظنك واقع ضحية سوء فهم فليس لي أية رغبة بالبقاء مع ابن عمك لا الآن ولا فيما بعد فأنا لا أرغب بوجوده .. ولست أدري من أين أتتك فكرة أنه مضيفي كلمة سجاني وصف أضق بالنسبة له .
فأطلق بيدروس صفيراً خافتاً !
_ إذن أنت لا تتمتعين بالإقامة بالقصر آنستي ؟ ربما تخاصمت معه طبعه كريه أحياناً لدي تجاربي معه …
_ لا … أنت مخطئ تماماً سيدي مهما كان ما قاله لك ابن عمك فأنا لست ضيفة هنا بل إنني لم أكن أعرفه حتى يوم أمس عندما اعتقلني رجاله وأنا أستحم تحت أشعة الشمس على الشاطئ في الجهة الأخرى من الجزيرة لقد حملوني إلى هنا مغطاة الرأس وكأنني كيس غسيل تحت الحراسة ومنذ ذلك الوقت أنا سجينة في غرفة فيها أبواب ونوافذ حديدية ولوحة سادي تعود إلى القرون الوسطى أتسلى بالنظر إليها .
قطب بيدروس جبينه :
غرفة سبيراس ؟ أؤكد لك آنستي أن تلك الغرفة معدة لاستضافة أقرب المقربين من معارف ماثيوس .. وأؤكد لك أنه لا يريدك أن تكرهيه وبعد أن رأيتك آنستي لا أستطيع لومه .
_ أعتقد أنك تظن أن علي أن أكون ممتنة لإطرائك هذا ! لكنني أجد هذا ثمناً باهظاً أدفعه لأجل بعد الحرية .. قل لابن عمك إنني أفضل رفقة نفسي سيد سبيراس ولك العودة من حيث أتيت … !
ارتدت مبتعدة عنه بحدة والدموع تثقل جفنيها لكنه سارع يضع يده على ذراعها وجاء صوته رقيقاً لطيفاً :
_ آنستي .. ربما أخطأت في تقييم الموقف وأطلب صفحك أرجوك لا تبعديني عن هنا فكلانا مجبر على البقاء لوقت ما ومن الغباء لنا أن نكون وحدنا .
فتنهدت : أجل .. هذا غباء أنا أقبل اعتذارك سيدي ربما أنا شديدة الحساسية بالنسبة للموضوع لكني بقيت ممن يعتقدون أنني هدية مناسبة للنمر .
_ ومن هو الرجل الشجاع الذي قال هذا آنستي ؟
للحظات تأرجحت بين الانزعاج والضحك إلى أن فاز الضحك :
_ أحد الرجال الذين ألقوا القبض علي يومها لم أكن أعرف ما يعني بالطبع فأحست بالذعر .
_ وعندما اكتشفت الحقيقة ؟
_ ازددت رعباً .
وضحكا معاً فانجلى الجو بينهما ثم تقدم إلى المدفأة ليجذب حبلاً مجدولاً طويلاً : لقد أصبحنا الآن صديقين سأستدعي توماس ليحضر لنا القهوة سنتناولها على الشرفة و ستخبرينني قليلاً عن نفسك روندا … هل لي أن أناديك باسمك وتناديني بيدرو ؟
_ لا بأس في هذا .
رافقها إلى الشرفة العريضة المغطاة بعريشه من النباتات المتسلقة ذات الرائحة اللذيذة المتربع فيها أرجوحة ذات مقعد عريض وطاولة كان الهواء من هناك عليلاً والمناظر رائعة تطل على حدائق متسعة تصل إلى حدود البحر .
وقال لها بيدرو : القصر مبني على حرف صخري ينتهي هناك والقرية مع الميناء تحته مباشرة .
_ إنها حماية مزدوجة بالنسبة للأيام الغابرة .
_ في الواقع … هذا صحيح وحش كاستاريوس الأول المعلقة صورته في غرفتك بنى عدة مراكز مراقبة فوق أطراف جزيرته المرتفعة بنى الحصون حولها لحمايتها من القراصنة بعد وفاته اجتيحت الجزيرة أكثر من مرة لكن هذا ما كان يحدث إلا عندما يغيب سيدها عنها لذا يتناقل القرويين أسطورة أن وحش الجزيرة هو حاميهم وأن ما من شر يحل عليهم ما دام يعيش بينهم .
_ أهذا ما يشعرون به الآن وحراس ابن عمك المسلحون يشرفون عليهم ؟
_ إنهم يتقبلون الضرورة .
_ كما يتقبلون العيش هنا دون نسائهم حسب رغبة السيد .
_ روندا .. قد تبدو لك هناك بعض الأشياء الغريبة لكن أتوسل إليك لا تسألي عنها ... حاولي أن تتقبلي ..
_ كأي فرد من أفراد أهل الجزيرة المساكين المؤمنين بالخرافات ؟ آسفة بيدرو .. فأنا لست مهتمة بحماية وحشهم لي وعندما ابتعد عن هنا سأجعله يتمنى قائلاً : ليتني لم أولد .
ضحك فجأة : ربما لن تحتاجي إلى مغادرة الجزيرة لتفعلي هذا يا روندا .. والآن .. وماذا تودين أن تفعلي بعد الغذاء ؟
تبادلا الحديث بعفوية وعلمت أن بيدرو لا يعرف كل أسرار ابن عمه لكنها تشك في أن تحصل على مساعدة منه .
_ سأريك القصر ثم نستلقي قرب بركة السباحة لنشرب المرطبات المثلجة .
_ بركة سباحة ؟ أوه ما أروع هذا .. أين هي ؟
_ إلى جانب المنزل مخفية عن الأنظار .. أنا لست خبيراً في التاريخ بل ماثيوس هو المهتم بهذا لذا يجب أن تطلبي منه أن يشرح لك تاريخ القصر وما يحتويه عندما يعود .
_ لا !
_ من الغريب جداً أن تكرهينه .. فهذا مخالف لآراء النساء .
_ لكنني لا أعتقد أن رأي النساء يهمه وإلا لماذا لا يسمح لهن بدخول برجه العاجي ؟
فضحك بيدرو :
_ أنت أسأت فهم الموقف فهو لا يعيش منعزلاً عن الناس وعندما يحتاج إلى امرأة .. تأتيه صدقيني .
احمر وجهها خجلاً وكأنها تلميذة فصحيح أن ماثيو سبيراس رجل أعزب إلا أنه لرجل لا يتردد في التمتع بحياته كلما أراد لكن متابعة هذه النقطة مع بيدرو لن تؤدي إلا لمواجهة مع أحاسيسها .
ولأنها لم تجد شيئاً تعرفه عن ماثيو سبيراس .. أقنعت نفسها بألا تبحث عن شيء !
كانت الجولة في القصر تثقيفية و متعبة فقدت خلالها روندا القدرة على عد الغرف والممرات التي شاهدتها إذا كانت كلها تلتف وتدور لتصل نهاية الأمر إلى الرواق المركزي فوق السلم المرمري .
بيدرو رغم جاذبيته الظاهرة كان أبعد ما يكون عن ابن عمه الغامض .
_ جناح ماثيوس الخاص من هنا أتريدين رؤيته ؟
_ لا !
انكمشت تخشى فكرة لقائه في جناحه فهي لم تره طوال اليوم وما تزال تذكر كلامه البارد : أنا لست فرجة للمتجسسين آنسة .
_ حسناً .. اظننا شاهدنا القصر كله الآن .. إذن يمكننا الاستفادة من بعض العصير المثلج .
فقطبت جبينها : هذه الممرات كالمتاهة .. لكنني واثقة أننا لم نمر في تلك الفتحة المغطاة بالستائر لا أذكرها أبداً .
_ أوه .. لا يعقل أن تكوني راغبة في رؤية المزيد .. فلنذهب ونبدل ملابسنا ولنجلس بعدها قرب بركة السباحة .. فأنا متعب .
_ فلنزر هذا المكان فقط فمن يعلم قد نجد منحوتة أثرية لرافاييل أوبوتشيللي نسيت أن تريني إياها .
_ مستحيل فأي شيء كهذا لا شك أنه تدمر منذ قرون عندما تهدم القصر الأصلي خلال إحدى الغزوات .. فهذا هو ثالث أو رابع بناء .. وهو وحده الناجي .
_ أكانت هذه اللوحات كلها والكنوز الأثرية موجودة يومها ؟
فهز رأسه : بعد الحرب قرر والد ماثيوس نقل نفائس العائلة إلى الجزيرة التي كانت من قبل ذلك مخبأة لتبقى بعيدة عن يد المحتل الألماني والقصر كان مهجوراً قبل الحرب لكن عمي فيلبيس قرر بعد أن أنجب نمراً جديداً للعائلة أن يترك له إعمار إرثه بنفسه .
_ نمر جديد ؟
_ ماثيوس كان المولود الأول الذي يولد منذ أجيال ببشرة كبشرة جدنا الأول بعد أن كان يظن العديد أن اللون الأبيض والشعر الأسمر الأحمر قد اندثر من إرث العائلة .
كادت روندا تتلفظ بكلمات طفولية تقول فيها : ليت ذلك اليوم يوم ولادته لم يكن إلا أنها سارعت لتغيير الموضوع :
_ ألم يبق شيء من المبنى الأصلي ؟
_ أعتقد أن الأساسات ذاتها قد استخدمت على الدوام .. أوه .. والزنزانات تحت الأرض ما زالت موجودة .. وهي تستخدم الآن كأقبية .
بعد قليل من الصمت كان يعبث خلالها بالمفاتيح قال : أمر غريب … مفتاح هذا الباب ليس بين المفاتيح .. يجب أن نعود .
فقالت خائبة الرجاء : أوه ألا يمكن أن ترى إذا كان يناسبه أي مفتاح آخر ؟
جرب بيدرو مفتاحاً بعد آخر دون جدوى : أرأيت روندا .. لا فائدة يجب أن نعود .
_ ألا يبدوا لك هذا غريباً يا بيدرو ؟ كل المفاتيح هنا إلا هذا كان ناقص .
كانت واثقة أنها شاهدت أمراً غريباً في عينيه لكن رده الباسم كان هادئاً كعادته :
_ يجب أن تعذريني يا عزيزتي حتى أفضل مدبرات المنزل تنسى أين تضع بعض الأشياء ويجب أن أخبر ماثيو عن فقدان المفتاح .
فردت ببرود : أوه .. لا تزعج نفسك أظنه يعرف هذا .
ارتدت على عقبيها تبتعد وهي على يقين من أن سراً ما يخفيه هذا البيت لكن سيد القصر لا يريدها أن تعرف إلا ما يريده هو .
التفتت مبتسمة إلى بيدرو وقد لحق بها ليسأل :
_ ماذا ترغبين الآن يا عزيزتي ؟ .. المزيد من الجولات .
فدست ذراعها بذراعه : الآن أريني بركة السباحة .
كانت المياه الزرقاء باردة على جسدها دفعت بجسدها عن حافة البركة تسبح على ظهرها .. ثم غاصت حتى القاع لتعود بعد إلى السطح بسرعة قاطعة وأكملت السباحة السريعة إلى الأمام حتى آخر البركة واستلقى بيدرو على كرسي طويل إلى جانب البركة وصاح مهنئاً .
_ تسبحين بشكل رائع روندا سنتسابق يوماً .
فضحكت : سأغلبك .. ألا تتمرن يا بيدرو أبداً ؟
_ العب التنس قليلاً لا أجد معنى للتمرين واكتساب العضلات لأستخدمها بالمزيد من التمرين .
هذه الساعات من السباحة والاسترخاء قرب البركة أصبحت جزءاً من روتين يومي منذ وصول بيدرو .. جدران سجنها الآن تمددت فشملت معظم الأرض المحيطة بالقصر لكن بيدرو كان يبدو لها سجاناً رائعاً وإن كانت حريتها ما تزال محدودة .
لم تكن تعرف أكثر مما عرفت يوم وصولها طائرة الهليوكوبتر تابعت مجيئها وإيابها في أوقات غريبة من الليل والنهار لكنها ما تمكنت من اكتشاف ما تحمل ولا عرفت موضع هبوطها واستمرت حياة القصر السرية دون انزعاج رغم وجودها فيه لكنها باتت تشعر بخطر يداهم نفسها أولاً وهو انسياقها لهذه الحياة المتماسكة المتراخية .
كانت أحياناً تتناول الغذاء مع ابني العم معاً لكنها كانت تجهد لتتجنب هذا الموقف قدر الإمكان … فهناك أوقات كانت تدفعها صحبة بيدرو المسلية إلى نسيان وضعها المراقب فتتصور نفسها أنها ليست سوى ضيفة في القصر لكن نظرة ساخرة واحدة من ماثيو كانت تذكرها بوضعها الحقيقي هنا.
كان لطيف المعشر معها لكنه متحفظ لكنه متحفظ حتى بدأت تتساءل عما إذا كانت اللحظات التي قضتها بين ذراعيه ما هي إلا حلم لكن في الوقت نفسه كانت استجابات جسدها الطوعية لوجوده توضح لها بجلاء أنها بعيدة عن التخيل إنها تعرف ما يكفي عن الرجال لتعرف أنها تروق له وأنه يرغبها .. كانت تتساءل أحياناً لو أن علاقتهما استمرت حتى نتيجتها الحتمية تلك الليلة أكان ليعاملها بعدها بالطريقة ذاتها ؟
في إحدى الأمسيات بعد العشاء كانوا يستمعون إلى بعض الموسيقى العالمية الحالمة عندما رفعت نظرها ووجدت وحش الجزيرة ينظر إليها بثبات لكنه سرعان ما بدا مبتعداً من جديد ليتركها في الألم الموحش الذي سببته لها الموسيقى .
صممت بعد ذلك أن تبتعد بعد انتهاء العشاء .. لكنها عندما تعشت معهما في المرة التالية تركها ماثيو متجهاً إلى مكتبه ليدرس أوراقاً رسمية مهمة وصلته على عجل بقي يعمل عليها فلم ينضم إليهما حتى بعد أن دخلا الصالون ووضع بيدرو بعض الموسيقى وأقنعها بالرقص معه وكان تمتعها بالأمسية يكاد يكتمل لولا فكرة دخول ماثيو عليهما وهي بين ذراعي ابن عمه .. أما سبب تفكيرها في أن هذا أمر مزعج فهي لم تعرفه من قبل لكنها أدركت أخيراً أن هذا الاضطراب الذي يصيبها منه لا علاقة له بكونه سجانها أو بكونه مجرماً .
لكنها وهي تفكر في هذا كانت رعشة التحذير تجري في أحاسيسها ..
بعد الفطور في أحد الأيام كانت متمددة قرب البركة عندما وقع ظل فوقها خفف من حدة الشمس عليها .. ولم تكن بحاجة لفتح عينيها لتعلم أن ماثيو هو من يقف قربها ..
_ ماثيو ! صاح بيدرو روندا تفاخر بأنها خير مني في السباحة .. وهذا صحيح لكنه وصمة عار لشرف رجال العائلة يجب أن تلغيها وأنا أصر على أن تتحداها .
_ وما الذي يجعلك تعتقد أن الآنسة ستورم ستقبل التحدي ؟
اضطرت عندها للنظر إليه تحاول تخفيف وهج الشمس عن عينيها بيدها وقالت متعمدة إبقاء صوتها بارداً : سأقبل أي تحد تقوم به سيدي .
فرد بسخرية : وتقبلين أن المنتصر الوحيد سيكون واحداً ؟
_ أقبل ..
فصاح بيدرو نافذ الصبر : حسناً .. هل ستتسابقان ؟
فرد ابن عمه : ليس ف هذه اللحظات .. سنجري مباراتنا في وقت آخر بعد التوافق على الشروط .. وعندما لا تكون الآنسة متعبة من سباحة سابقة كي تعطي أفضل ما عندها .
رمى المنشفة التي على كتفه إلى الأرض وغطس في الماء كانت ضربات ذراعيه قوية وسريعة تشق صدر الماء بسهولة ..
فكرت : إن علم أني أجلس هنا أبدي إعجابي به لازداد السيد النبيل غروراً ووقفت بعفوية تتقدم من بيدرو المستلقي ووجهه إلى الكرسي الطويل حيث قربه زجاجة زيت الشمس فتحتها وبدأت تضع الزيت على ظهره وكتفيه فارتجف للمستها ثم استكان كالقط وتمتم ناعساً:
_ لك أصابع شبيهة بجناح فراشة يا عزيزتي .
_ يسرني استحسانك ذلك .
_ أوه .. لكن هل سيستحسنه ابن عمي ؟
_ وما علاقته بذلك ؟
_ ربما لا شيء .. ربما كل شيء لكنني كلما رأيتكما معاً أحس بشيء ما بذبذبات في الجو .
_ تتراءى لك الخيالات .
فضحك بصوت خفيف : أرجو ذلك يا عزيزتي وأعدك أن تجدي مني أعظم استحسان لئن ماثيو لاقى نصيباً وافراً وعادلاً من الدنيا بما فيه الفتيات الجميلات .
لاحظت بطرف عينيها أن ماثيو كان يدفع نفسه خارج البركة ..فغيرت موضوع الكلام فوراً تسأل بيدرو إذا كان هناك أية تسهيلات للتزلج على الماء في الجزيرة فالتفت يسأل ابن عمه :
_ ماذا حدث للمركب السريع الذي كان هنا السنة الماضية حين كانت ماريا روموس هنا ؟
فبدت الدهشة على ماثيو : أظنه في غرفة المراكب مع بقية العدة لماذا تسأل ؟
_ روندا ترغب بالتزلج .
فسارعت روندا تقول : أوه الأمر ليس مهماً كنت أفكر أن بعض الخلجان حول الجزيرة هي مثالية للتزلج لكنني لا أود إزعاج أحد أو خلق صعاب إن كان كل شيء مخزوناً .
فقال بيدرو بمرح : أوه لا إزعاج أبداً .. فلدى ماثيو رجال ينتظرون تنفيذ ما يأمرهم به ثم إن المركب يجب أن يعد للاستخدام قبل زيارة ماريا القادمة هل ستدعوها هذا الصيف ماثيو ؟
نظر ماثيو إلى ابن عمه الشاب طويلاً قبل أن يقول : ربما .
ثم بدأ يجفف نفسه بمنشفته وقال : ألن أحصل على زيت شمس أيضاً آنستي ؟ أم أن هذا خاص بي بيدرو ؟
فردت بقسوة وتوتر : لا يعني حجزك إياي في جناح الحريم أنه يتوجب علي التصرف كعبدة لك سيدي .
أجفلها الغضب المستعر فجأة في عينيه لكن بيدرو سارع إلى المقاطعة :
_ ماذا تحبين أن تفعلي غداً روندا ؟ بأخذ بعض الطعام ونستكشف القلاع القديمة ؟ لم تشاهدي الكثير من الجزيرة بعد لكنني أحذرك قد نخيب أملك بعض القلاع ليست سوى أكوام من الحجارة لكن هناك بعض من المدافع الصدئة الباقية ؟
قبلت روندا بحماس لكنها لاحظت أن ماثيو لم يعترض على مغادرتها أراضي القصر للمرة الأولى .. لا بد أنه واثق جداً من ترتيباته الأمنية .
نظر بيدرو إلى ساعته : سيحين وقت تغيير الثياب للعشاء هل ستنضم إلينا روندا الليلة ماثيو ؟
فرد ماثيو ببرود : إذا أرادت لكن ربما تفضل البقاء في الحريم .
التفتت إليه روندا بارتباك : أنا .. آسفة على ما قلته سيدي وسأكون سعيداً بمشاركتك العشاء .
_ رائع … سيحضرك توماس إلى الصالون لتناول العصير كالعادة قبل العشاء إذاً وقف ملتقطاً منشفته .. وابتعد فلحقت به روندا بعد تردد فوصلت إليه عند الباب الحديدي الموصل من القصر إلى البركة .
_ سيدي .. أرجوك .. هل لك إن سمحت .. أن تترك باب غرفتي مفتوحاً ؟ فأنا أكره السجن .. وأخاف الأماكن المقفلة .
_ وما هي الضمانات ؟ فقد تفعلين أمراً غبياً لو وافقت على طلبك ؟
_أنا .. أعدك .. لن أحاول الهرب .. إذا كان هذا ما تعني .
_ لن تهربي ؟ حسناً .. يجب أن أصدق وعدك وعد الشرف آنستي هذا ما أعتمد عليه ؟
فتنهدت : أجل .. أجل أعدك وعد شرف .
_ عظيم .. أظنك حكيمة في قرارك .
مد يده يرفع ذقنها فالتقت نظراتهما أبقاها للحظات هكذا إبهام يده يلامس بخفة خدها نعم هي لمسة خفيفة إلا أنها أيقظت النبضات في جسدها النحيل كله .. لكنه سرعان ما أنزل يده وقال ببرود :
_ والآن اعذريني .. سأراك وقت العشاء .
وجدت نفسها بعد رحيله تتساءل كيف سيكون إحساسها لو أنها المرأة الوحيدة في حياته .. هل اهتم من قبل بامرأة حقاً ؟ هذه .. ماريا روموس مثلاً ؟ وابتسمت لنفسها سيكون الأمر أسهل لها لو كانت ترغب في بيدرو .. الفتاة التي تحدت الجميع لتأتي إلى هنا كان يمكن أن تلتقي بيدرو سبيراس تعبث قليلاً معه .. ثم تغادر الجزيرة دون أحزان أو ألم .. لكن تلك الفتاة لم تعد موجودة .. وهي الآن تعرف ما تريد فبدل أن تكون ضحية عواطف مشتتة قد تمزقها .. تريد أن تكون ضحية ماثيو .. وحش الجزيرة .
عندما عادت إلى غرفتها أحست بالراحة وتضاعفت راحتها عندما تمكنت من إغلاق بابها دون أن تسمع المفتاح يدور في القفل استلقت طويلاً في ماء دافئ معطر تريح جسدها وأعصابها قبل أن ترتدي أفضل ما لديها من ثياب وهو قفطان أبيض طويل ذو ياقة مثلثة واسعة وكمين مطرزين بخيوط الذهب كانت تضع العطر وراء أذنيها حين تناهى إليها صوت قريب جداً كان يصفر إنه ليس توماس فهو لا يفعل شيئاً غير رزين مثل هذا كما ‘ن الصوت آت من الخارج .
استسلمت لفضولها فاتجهت إلى النافذة كانت الشمس تغرب البحر يلمع ذهبياً و زهرياً تحت سماء قرمزية كانت دائماً مشغولة الفكر بسجنها وراء القضبان لتنظر عبرها إلى الأراضي المحيطة بالقصر .. لكنها الآن لاحظت أن غرفتها تطل على ممشى مرصوف بالحصى طويل على جانبيه أشجار السرو الباسقة لم يبدو لها هذا الممشى مألوفاً وتساءلت عما إذا كان جزءاً من الأراضي التي استكشفتها مع بيدرو .
كان هناك رجل بسبر هناك يده خلف ظهره ولم تعد لديها حاجة لمعرفة مكان انبعاث الصوت الخفي لكن لا يظهر أنه أحد الخدم أو الحرس .. أهو ضيف آخر ؟
بدأت تصفر له تضم صفيرها لتناغم مع نغمته فأجفل هو ورفع رأسه لكن وجهه لم يكن واضحاً بسبب أشعة الشمس الغاربة …
_ لا بأس عليك يا سيد .. فأنا مقيمة هنا .. ربما نلتقي على العشاء ..
صمتت مذهولة حين التفت الرجل وولى هارباً في الممشى من حيث أتى .. فابتعدت عن النافذة ضاحكة :
_ أيظنني شبحاً لا عجب إذن من هروبه !
كانت ما تزال مبتسمة عندما دق توماس الباب : الآنسة سعيدة الليلة هل تمتعت بيومك؟
_ كثيراً .. لكن توماس لقد مر بي أمر غريب .
وسرعان ما أخبرته ما حدث .. لكنه لم يشاركها مرحها بل حدق بها بفزع واضح :
_ عذراً آنستي .. يجب أن أتحدث إلى السيد انتظري عودتي لو سمحت .
ماذا حدث له ؟ لم تقل شيئاً يسبب ردة الفعل هذه صحيح أنها أفزعت الغريب لكنها لم تفعل شيئاً لهذا الضيف المكرم ربما عند ماثيو .
أيكون لهذا الرجل القصير الغريب الملابس علاقة بسر القصر لا .. مستحيل ! إنه يبدو رجلاً عادياً لن يتورط في عمل إجرامي .. أو في عمل شرير .
تأخر توماس بالعودة إليها حتى ظنته نسيها .. وحين جاء كان رسمياً ورافقها إلى الصالون دون أن ينبث بكلمة .
بيدرو كان ينتظرها بلباس سهرة لكنه كان قلقاً وحين ناولها كأس شراب قالت :
شكراً لك بيدرو .. ماذا حدث ؟ لقد شاهدت رجلاً في الحديقة و …
فضحك ضحكة متوترة وقاطعها :
_ أوه .. لقد قال لنا توماس إنك أفزعت بستانياً حتى الموت .. فالمسكين لم يكن يعلم أن غرفتك مسكونة .. بالمناسبة أرجو أن تعذري ماثيو الليلة فقد تلقى رسالة عبر الراديو لتوه ولديه عمل يشغله وقت العشاء .
فابتسمت روندا له : أفهم هذا تماماً .
إذاً ما فكرت به هو صحيح . لقد شاهدت شيئاً ما كان يجب أن تشاهده وهذا ما سبب بعض الذعر والفوضى ربما تمكنت أخيراً من تسجيل انتصار طفيف في هذه اللعبة لعبة القط والفأر التي تلعبها مع سيد القصر.
وابتسمت مجدداً تدس يدها في ذراع بيدرو : ألن نتعشى ؟ أحس فجأة بشهية كبيرة .
بعد انتهاء العشاء الذي غاب عنه إشراف توماس وافقت روندا على اقتراح بيدرو أن يتناولا قهوتهما على الشرفة التي كان فيها الهواء دافئاً وساكناً ومثقلاً بأريج الأزهار فتقدمت روندا حتى بداية السلم الحجري العريض الذي يقود إلى الحديقة ووقفت تتأمل العتمة المعطرة ثم قالت وكأنها تحلم :
_ أمسية رائعة للنزهة .
_ إذن … فلنتنزه .
وانطلقا ينزلان السلم نحو الممر العريض المفروش بالحصى أثناء سيرهما أخبرها بيدرو أن هذه الحدائق أسسها الأمير سبيراس الذي عاش هنا في القرن السابع عشر لأنه كان يتوق لإعادة تكوين جمال الحدائق التي يألفها على الأرض الأم :
_ لكن رغم مظهرها الرسمي فيها سحر أثري ألا توافقين على ذلك ؟ كان هناك جداراً قديم أزاله من هنا بعد أن أدرك أن البحر يشكل أفضل حاجز للغزاة .
_ وكيف نصل إلى الجرف الصخري ؟
_ نستمر بالسير .. فلا مكان بعيد عن البحر .
وأشار إلى مكان تلتقي فيه شجيرات مرتفعة فوق بعضها وكأنها قناطر عندما وصلا إليها حبست روندا أنفاسها ببهجة صافية فقد كانا يقفان في مكان ضيق من الأرض يحيط بهما البحر المتحرك على الدوام .. وفي البعيد بدا جسم أسود وكأنه يسد الأفق .
_ إنها جزيرة كريت .
فكرت لوقت قصير ببيرس وتساءلت عما إذا كان قد جاء على متن سيغال لمشاهدتها أم أنهم عادوا من حيث أتوا
وبدت لها تلك الرحلة وكأنها وقعت في زمن وعالم آخر فارتجفت ليقول لها بيدرو في الحال :
_ تحسين بالبرد سأحضر لك دثاراً .
_ وهل ستتركني هنا وحدي ؟
لاحظت الحرج المفاجئ الذي ظهر عليه لكنه ابتسم بسرعة :
أثق بك كثيراً يا عزيزتي ثم إلى أين يمكن أن تذهبي ملابسك ليست مناسبة للنزول عن الجرف الصخري كما أنني أتركك مع حارس آخر .
وأشار إلى طرف الصخور .. فبدا أنه يشير إلى صخرة كبيرة مركزة تقريباً عند نهاية الرأس الأرضي وضحك ثانية من نظرتها الحائرة قبل أن يختفي بين الأشجار نحو القصر .
خلعت صندلها باندفاع متهور فتحسست العشب النامي تحت قدميها ثم تقدمت نحو الصخرة المنعزلة يدفعها فضول غريب بينما كانت تقترب كانت الصخرة تتخذ شكلاً محدداً هذه الصخرة منحوتة تمثل شكل حيوان جاثم .
إنه دون شك تمثال نمر يواجه البحر كانت المنحوتة قديمة الصخر الذي نحتت منه متشققاً بفعل ما مر عليه من الأزمنة و مناخات يملأه البرص الصخري في كل زاوية مخبئة لكن رغم جور الزمن عليه ما استطاع شيء أن يغير معالم القوة والبأس والتحدي التي ما تزال تنبعث من الوحش الحجري الضخم .
_ عرفت إذن بأن وحش كاستاريوس موجود على أي حال آنستي .
كان قد تقدم منها بصمت فوق العشب فبدت صورته معتمة في جو يتجمع الظلام فيه رويداً رويداً ردة فعلها الأولى كانت اصطدامها بقوة بالصخر نفسه فسمعته يتمتم بخشونة :
_ يا إلهي !
سارع يجذبها إليه يزيح كم القفطان ليتفحص الذراع التي اصطدمت بالصخر .
_ آذيت نفسك ؟
حاولت دون نجاح جذب يدها من يده .. فلمسة أصابعه على بشرتها أعادت إليها العديد من الذكريات التي تبعث على الاضطراب .
_ أنا بخير … لكنك أجفلتني .
_ يجب أن تسامحيني !
لكي تخفي اضطرابها لجأت إلى لسانها السليط :
_ سأضيف هذا إلى اللائحة .
_ لائحة الأخطاء التي ارتكبتها معك ؟
لمعت أسنانه للحظة بابتسامة : لكن ما هي أخطائي بالمقارنة مع ما تمتعت به منذ مجيئك إلى الجزيرة ؟
|