سألت آن عن امكان العثور على فرصة للعمل في الجزيرة
و شرحت لها الاسباب و اصرارها على عدم اللجوء الى مساعدة والدها ,
فبادرتها آن قائلة وهي تربت على ذراعها :
" أنا أحترم حبك للاعتماد على النفس ,و لكن ألم يكن في نيتك الالتحاق بكلية المعلمات ".
" نعم ,
لكن تخرجي سيستغرق ثلاث سنوات , انا ارغب في العمل في أحد المكاتب او في اي مكان ".
" في وسعك ان تعملي هنا في المدرسة . فلماذا لا تسألين غافن اذا كان ذلك ممكناً ؟".
" لا اعلم ,
سأفكر في الأمر ".
قرب يوم الزفاف , نهضت جين مبكرة و ذهبت الى منزل ميغان لوضع اللمسات الاخيرة لثوبها .
منزل ميغان يشبه كثيراً منزل جون .
كان فسيحاً وأبيض وأثاثه هادئ وقد تناثرت السجاجيد على ارضيته والأزهار في كل غرفة .
كل ما في المنزل يدل على ان ساكنته امرأة ,
قادتها ميغان الى غرفة الحياكة , فشهقت جين لرؤية الثوب ثم صاحت قائلة :
" انه رااائع يا ميغان !".
" تعالي جربيه , وبعدئذ سأريكِ ما لديّ من قبعات ".
" كيف يمكنني ان اردّ لكِ هذا الجميل ؟".
إعتبريني فقط أمكِ الروحية !".
تضاحكت الاثنتان ثم بدأتا التجربة الأخيرة للثوب .
لم تكن جين قد رأت كنيسة الجزيرة , لكنها تخيلتها ذات طابع انجليزي بحت .
لذلك كانت مفاجأة لها عندما رأت ذلك المبنى الابيض البسيط وسقفه القرميدي الاخضر يلمع تحت اشعة الشمس و ينبعث منه رنين الاجراس القوي .
غمر جين احساس بالخجل لحظة وصولها هي ووالدها و ميغان وكولن ..
فشتان بين أن تنظر الى نفسك في المرآة وتشعر بأنك في مظهر لائق
و بين مواجهة عشرات الاشخاص الغرباء ,
جميعهم يتسمون بالاناقة و الثقة بالنفس .
أحسّت فجأة وكأن ادراكها متيقظ لكل شئ وكأن حواسها قد شحذت بلا استيعاب كل ما يدور حولها ,
اخذت تتحدث و تبتسم بخجل لأصدقاء أسرة موراي .
ثم انسحبت ميغان الى ركن هادئ و سألتها جين بفضول :
" من تكون الفتاة هناك ؟".
أشارت جين الى فتاة ذات شعر داكن رائعة الجمال .
" هذه هي كاي والاس , انها على علاقة متينة مع غافن .
إذاً هذه هي الفتاة الت تحدثت عنها آن !!
أحسّت جين بألم حاد ولكنها لم تدرك سببه .
تفرق الحشد اذ بدأ الجميع يدخلون الكنيسة ,
خفتت حدة الثرثرة لينبعث صوت الأرغن الرخيم .
لم تكن جين قد رأت غافن بعد ,
بدأت تنظر حولها ,
كانت الجدران ذات لون اصفر شاحب والسقف ذا عوارض خشبية داكنة ,
في المقدمة جلس رجلان , احدهما كان شخصاً غريباً ,
أما الثاني فكان ظهره مألوفاً بشكل محير .
حدّثت جين نفسها قائلةً :
بالقطع كان يجب ان اعرف – غافن هو شاهد العريس .
استدار قليلاً ليتحدث الى زميله وقد تباين بحدّة الشكل الجانبي لقسمات وجهه مع الحائط الاصفر الشاحب .
كان وسيماً للغاية ,
فأحست جين وكأن قلبها يترنح ,
فأشاحت ببصرها بعيداً خشية ان يراها أحد تحملّق فيه , خاصةً كولن الذي كان يجلس يجوارها .
في اللحظة التالية بدأ الارغن لحن مجئ العروس المعروف ,
تحولت الانظار صوب العروس .
إنّ هناك شيئاً مثيراً للعواطف في طقوس الزواج تلك ..
حدّثت جين نفسها لكنها وجدت عينيها مثبتتين لا على العروس والعريس ,
بل على غافن ,
لم ينظر وراءه ولا مرة واحدة , لم يرها ,
لكن جين ادركت تماما انه يعي انها تنظراليه .
وبعد مضي دقائق , جائت تلك اللحظة المصيرية .
حدث ذلك مع انتهاء طقوس الزواج , فقد استدار غافن للحظات ,
والتقت عيناه عيني جين .
كانت عيناه داكنتين , لاحت فيهما ظلال المسافة الفاصلة بينهما ,
لكن نظرات الاثنين في تلك اللحظة كانت وكأنهما كانا وحدهما في الكنيسة ,
أشاحت جين بوجهها بعيداً مرتعشة , بل انها احست بالدوار وغير قادرة على تحمل المزيد .
عرفت الآن انها تحب غافن غرانت .
توجه المدعوون الى الحفلة التي اقامتها أسرة موراي في منزلها ,
أخذت جين تثرثر مع كولن وميغان ووالدها , آملةً الا تفضحها حركاتها ,
تقدّم غافن نحوهم محدّثاً ومعه كاي فشعرت جين بالألم بينما كانت كاي تتأبط ذراع غافن ,
مجرد لمسة خفيفة كلمسة الفراشة , وهي تبتسم لجين معربة لها عن اعجابها بثوبها ,
استجمعت جين شجاعتها من مكان دفين فبادلتها الابتسام وتحدّثت بطريقة طبيعية ,
بينما كان كولن يحيطها بذراعه في خفه , لم تقوَ جين على مبادلة غافن النظر ,
وبدلاً من ذلك أخذت تراقب باعجاب جمال وجه كاي الهادئ بتعبيره الصافي وعينيها ذا ت الاهداب الكثيفة وهما ترمقانها بطريقة صادقة ودودة .
لم يكن فيها ما ينم عن الخداع مثل سارة ,
كانت هناك ثقة كاملة بالذات جعلت جين تحس وكأنها صبية في طور الدراسة الثانوية .
غير أن جين لم تكن تدرك كم كانت بدورها تبدو نضرة فاتنة في ثوبها وكم اضفى عليها الحياء مسحة من البراءة .
كانت تجيب في هدوء على اسئلة كاي حول انطباعاتها عن الجزيرة ,
وعندما تدّخل غافن في الحديث وذكر لها خدماتها للمدرسة , تبادلا النظرات .
ليتها تستطيعا ان تتصرف تصرفاً طبيعياً ,
بادرها قائلاً :
" أريد أن أتحدث معكِ في شأن المدرسة , قد لا يكون هنا المكان المناسب , تحدّثت طويلاً مع آن موراي ".
فقدت دقات قلب جين انتظامها , ترى ماذا قالت له آن ؟
يا لي من حمقاء ! كان يجب ان انبهها الاّ تقول شيئاً .
ابتسمت أخيراً قائلةً :
" في وقتٍ أخر , اسمحوا لي الآن , يجب أن اذهب لأرى ما اذا كان ابي يريد شيئاً ".
توارت جين ومعها كولن الذي أمسك بذراها هامساً بحدّة :
" قولي لي , ماذا بينكِ و بين غافن "؟.
" ماذا تقصد ؟"
"انا لا اعرف ! انه مجرد شعور , عندما تجتمعان كأن هناك شرارات خفية تتطاير في كل اتجاه , لا اعني اليوم فقط , فقد لاحظت ذلك من قبل ".
" خيالك خصب "
ردت عليه جين بسرعه وهي تلوح من بعد الى ابيها الذي كان يجلس مع ميغان وماك تحت جرة ظليلة في الحديقة . يجب ان تكون اكثر حرصاً ولا تدع مشاعرها تنكشف وإلا كانت النتيجة مروعة , لا يمكن تكهنها .
وفي محاولة يائسة تمكنت من ان تقول :
" في الواقع ان هناك نوعاً من عدم الاستلطاف بيننا , هذا هو كل ما في الأمر .
ان هذا يحدث احياناً . مجرد تعارض في الشخصيات ".
" ليس الامر بهذه الاهمية "
تأبط ذراعها وانضما الى المدعويين .
بدأ الرقص فوق المروج الخضراء .
عقدت جين مقارنة بين هذه الامسية و حفلة سارة , فالجو كان مختلفاً تماماً .
كانت سارة هذه الليلة في الحفلة و قد نجح غافن في تقسيم وقته ببراعة بين سارة و كاي .
انه يملك كل شئ ,
المظهر الحسن و الثراء و فتاتين جذابتين ,
انه بارع حقاً – وهي بكل غبائها وقعت في شراكه .
أحست بالم حاد كالسكين لرؤيته يرقص مع كاي , وحاولت في ياس ان تسترخي بين ذراعي كولن ,
يا ليتها كانت تحس ولو بذرة عاطفة تجاه كولن , يا ليتها كانت , ولكن ما من فائدة .
رقصت جين مع ماك الذي قال :
"وافق ابوكِ على السفر الى سيلان لعرض نفسه على طبيب اختصاصي .
كل هذا كان بتأثيرك . فقد اقنعتهِ بأن يفعل ذلك من أجلك ".
" ماك , أنا سعيدة للغاية , متى سيذهب ؟".
" يوم الثلاثاء وسأذهب معه ".
" هل أذهب معكما ايضاً ؟".
خفّت الموسيقى وقد وقفا في رقعة ظليلة بعيداً عن الفوانيس التي علّقت عبر الحديقة .
حكّ ذقنه مفكراً ثم قال :
" لا أعرف يا جين , فغافن هو الذي سيأخذنا بطائرته ".
وقبل أن ينهي جملته , رأت الرجل الذي ليس في وسعها ان تتحاشاه قادماً وحده نحوهما فبادره ماك :
" هل يمكن ان تأتي جين معنا إلى سيلان ؟".
نظر اليها غافن في صمت وأحسّت إنها ترتعش كمن ارتكب خطأ .
ثم قال :
" سبقكم شخص آخر وطلب مني الطلب نفسه ".
تردد قليلاً ثم قال :
" ماك , هل يمكنني أن أتحدث مع جين على انفراد ؟".
" بالتأكيد , إلى اللقاء " .
تأبط غافن ذراع جين وقادها الى رقعة داكنه من ظلال الأشجار وقال في رقة :
" أريد فقط أن أتحدث معكِ , دعينا نجلس هنا ".
أشار الى مقعد تحت شجرة اتجهت اليه جين و هي سعيدة بفرصة الجلوس قبل ان تخونها قدماها .
" ابلغتني آن بأنكِ تريدين عملاً ".
رفع يده طالباً منها الهدوء أمام شهقتها ,
ثن قال :
" أنا آسف , دعيني استخدم عبارة اخرى ,
هل تقبلين بالعمل في المدرسة بشكل منتظم في مقابل راتب مناسب ؟
أنتِ تنوين البقاء هنا أليس كذلك "؟.
ثبتت جين نظرها على يديها و قد شبكتهما في توتر , كيف يمكنها ان تفعل ذلك الآن ؟
كانت لديها مخاوف من العمل في مدرسة غافن ,
والآن زادت تلك المخاوف بعدما أدركت انها تحبه :
" لا أعرف ".
" لا تعرفين ماذا ؟
لا تعرفين ما اذا كنتِ ستبقين في سارامنكا
أم لا تعرفين ما اذا كنتش تودين العمل في المدرسة "؟.
أسرعت ضربات قلب جين , فقد غمرها احساس بالطمأنينة وهي قريبة منه .
ما هذا التبدل المفاجئ في نظرتها اليه ؟.
قالت :
" كانت مجرد فكرة , فأنا لا اريد أن ......".
كانت على وشك ان تقول لا اريد ان اعمل لديك ,, ولكن الكلمات توقفت .
اطلق ضحكة صغيرة وقال :
" لا تودين ان تعملي في مشروع يخصني , أليس كذلك "؟.
ابتلعت ريقها في صعوبة قائلةً :
" هذه هي الحقيقة ما دمت قلتها بنفسك ".
كانت تعرف انه غضب .. نظر اليها بعينين قاتمتين قائلاً :
" شكراً لصراحتكِ . هل لي أن أسأل لماذا ؟".
" لا أعرف ".
لم تقوَ على الاشاحة بعينيها بعيداً . فقد كانت عيناه مركزتين عليهما ,,
" نعم , تعرفين , ماذا هناك ؟
أنتِ خائفة من أن تقدمي على أي عمل يؤذيني . اليس كذلك ؟".
شئ ما في صوته فجّر كل توترها العصبي . لماذا اخضع لهذا الارهاب ؟ لماذا أصبح كالآخرين ؟ ليس لديّ ما اخسره . انه يعتبرني طفلة .... فما من شئ على الاطلاق يقدر ان يجعله ينظر اليّ كما ينظر الى سارة .
" أنا لا أود ان أعمل معك لانك تتصور إن في امكانك ان تصدر الاوامر للجميع,
لكنّي لن أسمح لك بذلك ".
" إما انكِ تمزحين وإما أنكِ جننتِ ,
أنا أصدر الاوامر للجميع .. متى حصل ذلك ؟".
أضفت نبرته الساخرة برودة على كلماته .
همّت جين بالوقوف . لكنه بحركة عنيفة أجلسها في مكانها قائلاً :
" اجلسي , انا فعلاً أحب ان اراكِ احياناً !
اللعنة على هذا التفكير .. لماذا تدخلين دائماً في صراعٍ معي ؟".
" أنا ؟؟ كيف كان ذلك ؟".
" بالطريقة الانثوية الماكرة ,. و اضافة الى ذلك ....."
" انا لن ابقى هنا لأسمع اهاناتك ".
نهضت و ضربت الارض بقدمها بشدة وقالت :
" كيف تجرؤ على ان تتحدث معي بهذا الشكل , عد الى صديقاتك ,, وانا ...."
" وانتِ تعودين الى صديقكِ كولن ".
وبعدما نهض اضاف :
" انتِ لا تقبلين الاهانه , بينما تسمحين بتوزيعها على الآخرين ,
لماذا لا تقدمين على صفعي ؟".
" لا تستفزني ".
تطلعت بعينين قلقتين نحو المنزل فبادرها قائلاً :
" لم يلاحظ أحد شيئاً , لكن استمري , فأنتِ تحققين تقدماً ".
" أنا أكرهك ! هل تسمعني ؟ أكرهك ! ".
" تكرهينني ؟ اذن دعينا نرى ما اذا كنتِ تكرهين هذا أيضاً "
جذبها بقوة نحوة وقد أحاطتها ذراعاه بقبضةٍ قوية ساحقة جعلتها لا تقوى على الحركة .
حاولت ان تقاوم لكن فشلت ,
أبعدها عنه وقال في حدة :
" لن أعتذر وحتى لو اعتذرت فان موقفي لن يكون حقيقياً ".
صاحت وهي ترتعش من هول الصدمة :
" أهكذا تحارب النساء ؟".
" نعم . اذا اردتِ هذا التفسير ".
" انت حقير كريه !".
" انا اعرف ذلك , و لذلك فلن تستغربي اذا كان سلوكي سيئاً ".
مع هذه الكلمات استدار عائداً الى المنزل بينما وقفت جين وحدها .
ثم سمعت حركة مجاورة فاستدارت لترى كولن أمامها .
كان في حالة هياج .
احست بانها على وشك البكاء ,
ومدّت يدها لتلمس ذراعه فأقصاها عنه و استدار بدوره عائداً الى المنزل .
أغلقت جين عينيها ,
اما لهذا الكابوس من نهاية ؟