مساء الخير لجميع الاعضاء
حأنزل رواية الوجه الاخر للذئب
الملخص
عاشت جين في كنف خالتها دورثي من غير أن تعلم شيئا عن والدها سوى ما أخبرتها إياه الخالة وهو أن هذا الأب القاسي الأناني تخلي عنها منذ12 سنة وغادر البيت إلي غير رجعة .
وفجأة عرفت جين أن والدها لم يتخلي عنها , وانه كان يراسلها باستمرار من دون أن تصلها أية رسالة , إلي أن وقعت على الرسالة الأخيرة التي يدعوها فيها إلي زيارته في جزيرة "سارامنكا".
وفي المطار اصطدمت جين بمشهد آلمها : رجل ضخم الجثة يصرخ في امرأة صينية مسنة , واثنان من أتباع الرجل يأخذانها إلي جهة مجهولة .
وتشاء الصدفة أن تلتقي جين الرجل نفسه في بيت أبيها بالذات ... وتتكرر المصادفات وكذلك اللقاءات , وفي كل لقاء كانت جين فريسة أحاسيس متناقضة تجاه الرجل الذي أرعبها تصرفه في المطار .
من هو هذا الرجل , وما هي حقيقة قصة المرأة الصينية ... وما هو الدور الذي يلعبه السيد غرانت في الجزيرة ... وكيف انتهي الصراع الطويل المرير بين جين والرجل القوي ؟
1- أنا آتية يا أبي
أول ما شاهدت جين هذا الرجل نفرت منه وقضمت شفتيها وسارعت إلي المجلة المفتوحة فوق ركبتيها محاولة أن تحجب عن أذنيها ضجة الأصوات المرتفعة في مبني المطار الذي تشوبه لسعة الحرارة في المرحلة النهائية من رحلتها إلي جزيرة سارامنكا . كانت الخالة دورثي تبعد عنها آلاف الأميال , هناك في انكلترا , وبرغم ذلك كانت كلماتها تطن في أذنيها : لن تستطيعي أن تعيشي وسط هذا الضجيج."
لم تكن هناك فائدة . فقد كان من المستحيل تجاهل ذلك المشهد كما كان من المستحيل تجاهل الخالة دورثي وقد انطلقت في انفعال . رفعت جين رأسها علي مضض ونظرت ثانية إلي الرجل المتسبب في تلك الضجة . كانت قامته أطول من الآخرين,وشامخا أمام بعض الموظفين , وأمام المرأة الصينية المنحنية المتشبثة بحقيبتها الكرتونية الرثة . كان هناك أيضا عدد من المتفرجين الذين شدهم ذلك المشهد . كان الرجل غاضبا وبرغم هذا لم يكن صوته مرتفعا . بيد أنه عندما كان يتكلم , كان يفعل كمن له سلطان , وكان الآخرون يسمعونه لفترة وجيزة , ليتحركوا من جديد بأيديهم , وجبينهم مكدود في يأس واضح . لم تكن لدي جين أدني فكرة عما يدور , المرأة الصينية يعلو هامتها المشيب , هادئة بجلال غريب وسط ذلك الهياج.
" يبدو أننا سنظل هنا إلي أن تنتهي المشكلة ."
رفعت رأسها سريعا لتنظر إلي الرجل في جوارها . يبدو انه أميركي , وقد تدلت آلة تصوير من عنقه فوق قميص منقوش بأزهار تخطف البصر :
" نعم , رغم إني لا أعرف السبب."
الرجل في الستين من عمره , بشرته سمراء وشعره كستنائي وعيناه بنيتان . جلس في جوارها , وقد اعتبر ردها دعوة صريحة لتبادل الحديث وقال:
" يبدو أن ذلك الشخص الضخم يعترض علي أن تستقل السيدة الصينية الطائرة إلي سارامنكا , أو علي الأقل هذا هو الانطباع الذي كونته ."
نظرت عبر القاعة نحو الرجل . ترى ما هي فرصة مثل تلك المرأة المسكينة للوقوف أمام رجل كهذا ؟ من الواضح أنه لا توجد فرصة على الإطلاق . ثم بدأ الجمع يتفرق . واقتاد أحد المسؤولين المرأة بعيدا تاركا إياها تحمل حقيبتها بنفسها.
" ما أقل ذوقه ..."
لم تكن تعي أنها تحدثت بصوت مسموع إلي أن رأت الرجل الجالس جوارها يلوي قسمات وجهه في شبه ابتسامة .
" إنه يبدو كرجل قادر أن يصل إلي ما يريد."
وقدم لجين بطاقته:
" دعيني أقدم نفسي . جاكسون تي ميلار . يمكنك الاحتفاظ بها هل أنت ذاهبة إلي سارامنكا"
" نعم , في أجازة."
ترددت جين عند لفظها الكلمة الأخيرة . فليس في وسعها أن تشرح لهذا الغريب عن أسباب سفرها.
" سأحضر بعض المرطبات. ما هو شرابك المفضل ؟"
ترددت جين ولكنها ابتلعت مخاوفها وقالت بخجل :
" أي شيء مثلج من فضلك . أسمي جين , جين ريتشي."
" إني مسرور بلقائك يا جين . فأنا لا أحصل كل يوم على فرصة التحدث مع فتاة جميلة ."
أختفي وسط الناس , الذين بدءوا يتحركون الآن تحركا طبيعيا بعد أن أنتهي الحدث المثير . أختفي الرجل الضخم , ولكن أحست جين برعشة خفيفة لم تره إلا عن بعد مع ذلك تلقت انطباعا بأن قوة قاسية تنبعث منه . الرجل شديد السمرة وقد لفحته الشمس , يرتدي بزة بلون الظبي الصغير من قماش خشن . لن تراه ثانية , هذا شيء يسعدها . بدأ ينقشع قدر من اليأس الذي خيم على جين قبل أن تترك لندن منذ ساعات . فهي لم تقدم على شيء خاطئ على الإطلاق . كل شيء سيسير على ما يرام , برغم تنبؤات الخالة دورثي المليئة بالتشاؤم.
تطلعت جين أمامها , لكنها لم تر ذلك الحشد , ولم تسمع تلك الثرثرة الحادة المتنوعة اللغات فللحظات عادت بذاكرتها إلي لندن لتعيش من جديد الصدام المرير مع خالتها .
" أنها فرصتك الأخيرة . إذا ذهبت فلن تعودي إلي هنا أبدا".
كانت الخالة دورثي تقف في جوار النافذة مولية ظهرها لجين .
وحين استدارت ببطء كانت هناك بقعتان مشتعلتان فوق وجنتيها وأحست جين بوخزه تسري فيها بقوة لعلها من الشعور بالإشفاق , إذ فجأة رأت عمتها على حقيقتها , امرأة وحيدة في خريف عمرها تشعر بالمرارة وهي تري ابنة أختها تتحداها للمرة الأولي في حياتها.
" خالتي دورثي . اعلم أنك كنت كريمة للغاية عندما سمحت لي بأن أعيش معك السنوات الست الأخيرة وأنا أقدر كل ما فعلته من أجلي , ولكن ألا تستطيعين أن تتفهمي موقفي , أريد أن أشاهد والدي ألا يمكنك أن تحاولي أن تقدري وضعي ؟"
" كنت في السادسة من عمرك . عندما هجر والدك البيت ولم يسأل عنك .تتذكرين قولي ؟ لاشيء . لم يكن يصلح لشيء ولن يصلح أبدا ."
كانت يدا الخالة دورثي متشبثتين بظهر المقعد وقد بدت مفاصلهما بيضاء من التوتر وجهها شاحبا .
هزت جين رأسها وهي تقول :
" بعث إلي برسائل مرات عدة . دون أن تصلني واحدة منها . ولو لم يكشف لي ساعي البريد إلى مصادقة لما علمت بذلك . لماذا أخفيت الرسائل عني ؟"
" فعلت ذلك من أجلك أنت . لم أكن أريد أن أزعجك ."
" كانت الرسائل لي . ولم يكن من حقك أن تخفيها عني ."
" كان لي كل الحق . أنت تعيشين في بيتي وفي حمايتي ."
ضغطت جين على الرسالة الأخيرة التي تمدها لم تعد تخشي الآن تلك المرأة التي سيطرت على حياتها منذ كانت في الثانية عشرة من عمرها , منذ وفاة أمها .
" أنا لم أدرك إلي أي حد كنت مستاءة لبقائي معك . أنا آسفة ولكني سأبذل قصارى جهدي لأعوضك عما بذلت . سأعمل في عطلة نهاية الأسبوع إبان دراستي في كلية المعلمات ."
أمسكت عن الكلام بعدما رأت وجه خالتها الغاضب المتجهم . اندفعت الدموع إلي عينيها . أحست بصدمة حين اكتشفت فجأة أن خالتها تضن عليها بتلك الرعاية التي منحتها إياها طوال تلك السنين . والآن اتخذت جين قرارها , ولا عودة عنه . ليحدث ما يحدث فهي ذاهبة لرؤية أبيها . إنه لم يكن في حالة صحية تسمح له بالسفر وإلا لكان حضر إلي انكلترا . أبلغها ذلك في رسائله , رسائله التي ظلت حبيسة صندوق مكتب خالتها . قرأتها جين جميعا : رسالة رسالتان كل عام , من أماكن مختلفة من شتي أنحاء العالم , عدا الرسائل الأربع الأخيرة , فجميعها أرسلت من جزيرة في المحيط الهندي , اسمها سارامنكا . كانت طوابع تلك الرسائل رائعة الجمال عليها صور لطيور وأزهار غريبة بعثت جين على الفور برسالة إلي العنوان المثبت على متن الرسالة المهترئة . وجاءها الرد . بعد خمسة أيام , رسالة مقتضبة : رسالتي في الطريق إليك وفيها نفقات الطائرة . أحضري أرجوك .
مسحت جين دموعها , واستدارت تحمل حقائبها , لم يعد هناك مجالات لأي حديث
*****
" هيا استيقظي يا حلوتي جين . أن الثلج يذوب."
كلمات قليلة أعادت جين إلي الواقع , لتري صديقها الجديد يرقبها بابتسامة عريضة.
" أنا آسفة , سافرت مع تأملاتي إلي البعيد "
أخذت الكوب المقدم إليها , شاكرة صديقها الامريكي , ثم مر في جوار المائدة احد الخدم ليقول:
"ستقلع الطائرة بعد خمس عشر دقيقة."
قاومت جين إحساسا بالذعر بدأ يهاجمها . لقد اقتربوا الآن من نهاية رحلتهم . ماذا لو كانت الخالة دورثي على حق : هل هي متهورة حمقاء ؟ انطلقت الأفكار في دوامة جنونية . ثلاث ساعات أخري ويصلون .
سالت رفيقها الاميريكي :
"هل ذهبت قبل الآن إلي سارامنكا ؟"
" نعم , مرة أثناء الحرب لا يمكنني أن أنساها . وهذا هو سبب عودتي إليها."
" أخبرني عنها بالتفصيل ."
" أظن أنها مختلفة الآن , لكنها مكان فسيح قد يصل طولها إلي ستين ميلا . تبدو من الطائرة وكأنها سمكة عملاقة . خضراء جدا , نباتها مورق وطبيعتها غنية بما يسحر ويريح."
كانت في عينيه نظرة حالمة كأنه غجري منطلق مع قيثارته :
" نعم يا سيدتي . إنها رائعة هناك ينمو قصب السكر على مدي أميال وأميال ."
" هل أنت ذاهب في أجازة؟"
" يمكنك أن تسميها رحلة إلي الماضي ."
توقف قليلا ثم ابتسم وقال:
"ولكن ما الذي يجعل فتاة مثلك تقطع كل هذه المسافة وحيدة لتأتي إلي هنا ."
روت له جين بإيجاز قصة رسالة أبيها ودعوته المفاجئة لها.
" هذا شيء رائع . ألم تريه منذ اثنتي عشرة سنة ؟ أراهن أنه سيكون لقاء رائعا."
عبر الميكروفون جاء صوت المذيعة الجاف:
" الرجاء من المسافرين إلي سارامنكا التوجه إلي الباب الرئيسي."
جلست جين في مقعد مجاور للنافذة محدقة في الحشد الصغير المتجمع أمام مدخل الباب الرئيسي وأحست بالارتياح وهي ترقب ذلك الحشد لأنه لم يكن هناك أثر لذلك الرجل الغريب الطويل القامة . أقلعت عدة طائرات منذ أن حدث ذلك المشهد الكريه في المطار . من المحتمل أن يكون قد أستقل إحداها . لم يكن هناك أثر أيضا للمرأة الصينية . وتساءلت جين عما يكون قد حدث لها . إن منظر تلك المرأة العجوز وهم يقودونها بعيدا لا يبرح مخيلتها . وعندما كانت على وشك أن تدير رأسها بعيدا عن النافذة لتحدث رفيقها المنهمك في دراسة بعض الأوراق التي استخرجها من محفظته , توقفت وأطلقت شهقة وقالت :
" أوه _ لا ."
" ماذا هناك ؟"
" أنظر ."
أشارت جين إلي رجل طويل يسير متمهلا خارجا من المبني . كان هو ذلك الرجل نفسه , الذي تسبب في ذلك الصخب يسير الآن نحو الطائرة . كان قد خلع سترته , وحملها فوق كتفيه , كان يبدو وكأنه غير مبال بأي شيء حوله .
" اعتقدت بأنه رحل."
" أنا أيضا . هل قلت إن سارامنكا كبيرة ؟"
" كبيرة بالقدر الذي يكفي لكي لا تصدمي به , إذا كان هذا ما تعنينه من السؤال ."
ضحك ضحكة خفيفة وقال:
" هل تكرهينه إلي هذا الحد ؟"
" أنا لا أحب أي شخص يستخدم ماله ونفوذه أو أي شيء ليستأسد على من هم أضعف منه ."
" في عينيك بريق غامض , أتدرين أنك جميلة حقا ؟ تذكرينني بابنتي الصغرى "
تحسس جيب سترته وأخرج محفظة سحب منها صورة بناته وزوجته , فراحت جين تلهي نفسها بمشاهدة الصور كيلا تري الرجل الضخم الذي دخل الطائرة في اللحظة نفسها , حانيا رأسه ثم سار متجها نحوها .
" أنهن جميعا جميلات ."
قالت ذلك وهي تتجاهل المضيفة وهي تحوم حول الرجل الذي استقر في مقعد في مؤخرة الطائرة . وقد جرت بينهما أحاديث لم يكن في وسعها أن تسمعها .
وعادت جين تتأمل أفراد عائلة رفيقها الأميريكي . عرفت ماذا كان يعني جاكسون بالتشابه بينها وبين أبنته . كانت الفتاة طويلة , ربما أطول قليلا من جين . كان شعرها طويلا مسترسلا داكنا , كما كان هناك تشابه طفيف مع عيني الفتاة الواسعتين ذاتي الرموش الكثيفة . أعادت جين الصورة مبتسمة . كانت برغم كل شيء متنبهة تماما إلي وجود الرجل الجالس خلفها . وحين دعي الركاب إلي ربط الأحزمة استجابت بصورة تلقائية . قد تكون تلك هي المرة الأخيرة التي ستري فيها الرجل الضخم بعد مغادرة المطار . في أي حال أن ما يهمها الآن هو أنها ذاهبة إلي والدها . لفحتهم الحرارة وهم يغادرون الطائرة . تعثرت جين على السلم فأمسك جاكسون بذراعها ثم نظر إليها في حنان وقال:
"هل سيكون والدك باستقبالك ؟"
هزت رأسها وهي تطرف بعينيها قليلا من شدة وهج الشمس :
" كلا . طلب من أحدي جاراته أن تستقبلني أرسلت صورتي في رسالتي الأخيرة وقال لي إنها ستتعرف على أنا أشعر ببعض الدوار ."
سأنتظر حتى تأتي هذه الصديقة . لا أحد يعرف ما سيحدث ."
" أنت طيب للغاية , لكني "
"لا يمكنني أن أتخلي عنك وأنت في هذه الحال ."
" آسفة ماذا قلت ؟"
أعادها صوت جاكسون مرة أخري إلي الواقع .
" يبدو أن تلك السيدة القصيرة تلوح لك ."
نظرت جين إلي الحشد الصغير المجتمع خلف حاجز خشبي . الجميع يلوحون بالمناديل تنطلق منهم أصوات سعيدة صاخبة , رأت امرأة شقراء تلبس ثوبا بسيطا مشجرا بالإزهار . كانت تمسك بصورة فوتوغرافية , وعيناها تحدقان في جين وهي تبتسم .
" أنت على حق . هذه المرأة جاءت لترافقني ."
لم يكن ما عاشته حلما . أن أباها موجود هنا بالفعل , وقد أرسل في طلبها .
قالت المرأة الشقراء ذات الأربعين عاما :
" يا عزيزتي , عرفتك على الفور _ أنا ميغان ديفيز جارة أبيك هل كانت رحلتك جيدة؟"
" رائعة . شكرا لكنني متعبة قليلا ."
وبعدما تعرف جاكسون إلي المرأة قال :
" سعدت بلقائك يا ديفيز . كنت أود فقط التأكد من أن شخصا ما سيكون في لقاء جين ."
قالت جين ضاحكة :
" شكرا لك على رعايتك واهتمامك ."
وبعد مغادرتهما أ رض المطار حدث شيء غريب . أطلقت ميغان نفير سيارتها ولوحت بيدها . استدارت جين وفي ظنها إنها تلوح لجاكسون لكنها كانت سيارة مرسيدس بيضاء انطلقت بجوارهما . وأثناء ذلك حيا السائق ميغان . لم يكن ذلك الشخص سوى الرجل المشاغب الضخم .
"لم أعرف أنه عاد على الطائرة نفسها معك ."
استدارت ميغان في ذهول في اتجاه جين , ورأت التعبير الذي يعلو وجهها وقالت :
" ماذا هناك يا جين ؟"
" لاشيء ... سبق لنا وشاهدنا هذا الرجل في مطار جافر كان يتشاجر مع بعض الموظفين ."
انطلقت ميغان ضاحكة :
" إنه غافن غرانت المعروف في كل مكان . ماذا كان سبب الشجار؟"
" لا أعرف ."
ردت جين بهدوء مدركة أنها تقف على أرض زلقة . فهذا الرجل , كما يبدو صديق لميغان . لذا ينبغي ألا تحس به .
لكنها لم تستطع الكذب , وأفصحت قائلة:
" جاكسون يعتقد أنه كان يحاول منع امرأة صينية من أن تستقل الطائرة . كانت تقف هناك ممسكة بحقيبة من الكرتون , ثم اقتادوها بعيدا وما عدنا رأيناها ."
" أنا واثقة ,أن الحقيقة تختلف عن المظهر تماما ."
" كيف حال أبي ؟"
أرادت جين أن تغير مجري الحديث.
" ليس على ما يرام يا جين . أنه في شوق إلي رؤيتك طوال الأسابيع القليلة الماضية ومنذ أن قلت إنك قادمة كان كالطفل . اضطر ماك أن يعطيه مهدئا غير مرة."
" ماك ؟"
" الدكتور دانكان ماكدونا هو معروف لدى أبناء الجزيرة باسم ماك أنه لم يفقد أبد لهجته الاسكتلندية الواضحة وهو ووالدك صديقان قديمان."
" بماذا يشعر أبي ؟"
" لا نعلم ماك طلب منه أن يذهب ليعرض نفسه على صديق له أخصائي في سيلان . لكنه رفض بإصرار أرجو أن تحاولي إقناعه."
" سأحاول بالطبع ."
ربتت ميغان على ذراعها :
" أنا سعيدة بمجيئك يا جين فأنا في حاجة ألي صديقة تخفف عني وطأة الرجال."
" هل هذا أمر سيء ؟"
" كلا , ولكن ليس في وسعك أن تتحدثي معهم بالطريقة نفسها , أتستطيعين ذلك ؟ ابني كولين سيحاول على الأرجح أن يختطفك بعيدا , لكنني سأكون حازمة."
" كولين ما عمره ؟"
كانت جين تتصوره غلاما في سن المراهقة .
" 23سنة. إنه يعمل لدي غافين ."
" أنا لا أعرف أي شيء عنك وعن عائلتك ."
" أنا أقطن قريبا من أبيك . وعندما أقول جارته الملاصقة فهذا صحيح إلي حد ما لكن منزلي يبعد عنه حوالي نصف ميل تقريبا . أنا أرملة منذ سبع سنوات وأعيش مع كولن . أما أبوك فيعيش وحيدا باستثناء ألين مديرة المنزل هي لطيفة للغاية ولكنها ميالة جدا إلي السيطرة . ثم هناك غافن."
" أتعنين أن غافن جار لأبي أيضا ؟"
" نعم يجب أن تري منزله يا عزيزتي أنه خرافي . فهو في الواقع يملك الجزيرة ويفرض عليها قوانينه الخاصة كما ستكتشفين بنفسك."
ضحكت ثم استطردت :
" هناك ليوني سمايث وابنتها سارة لكن منزلهما يبعد أميالا عدة . ستلتقين بهما حتما . أحب أن أعرف رأيك فيهما , إن ليوني ترغب في أن ترى أبنتها زوجة لغافن , وهي قد ترى فيك المنافسة الخطيرة . ألم يقل لك أحد بعد كم أنت جميلة ؟ لو كنت أملك عينيك الخضرواين لكنت في قمة السعادة ."
صمتت جين , أدركت فجأة ان ميغان كانت تتحدث في صدق , الخالة دورثي غرست فيها وبصفة مستمرة أنها مجرد فتاة عادية , وتقبلت هي هذا الوضع , كان ذلك يجعل الحياة أسهل . والآن بدأت تدرك أن آراء الخالة ليست دائما في محلها .
وصلتا إلي المنطقة المتحضرة , بدت لمحات خاطفة لبعض الفيلات من خلال أشجار النخيل الكثيفة , مبان منخفضة بيضاء ذات أبواب ملونة , وصاحت جين :
" إنها رائعة ."
" وصلنا الآن إلي منزل غافن , انظري إلي يسارك يا جين , هناك منزل عال ذو شبابيك خضراء وسطح به حديقة ملأي بالأشجار
والأزهار اليانعة المورقة من كل نوع ولون."
" هل يسكن هنا ؟"
" نعم , أنه يقيم حفلات رائعة تظل حديث سارامنكا كلها ."
شعرت جين بما يشبه الجيشان بسبب حرارة الجو من جهة وبسبب ازدياد كرهها لغافن الذي يحظي , على ما يبدو , باحترام المرأة التي ترافقها .
وعقدت العزم على ألا تذهب إلي أي من حفلاته إذا دعاها وهذا أمر مستبعد .
أدركت , وقد أسرعت خفقات قلبها , أنهما يقتربان من منزل أبيها . كيف سيكون شكل البيت من الواضح أن هناك ثراء أين هو مما قالت الخالة دورثي ؟ قالت انه على الأرجح يعيش في كوخ بناه من أعشاب الشاطئ يا ليتها كانت هنا الآن.
" أشكرك لك يا مغان حضورك للقياي."
ضحكت ميغان قائلة :
"يجب أن أعترف بأنني كنت متشوقة لأراك آمل أن أكون حاضرة عندما تلتقين ليون وسارة ."
" أنا أرجو ذلك أيضا يا عزيزتي ".
" وصلنا "
انعطفت السيارة إلي طريق خاص واسع متعرج يشبه كثيرا الطريق المؤدي إلي منزل غافين غرانت غير أن المسافة بين الطريق والفيلا . البيضاء التي ظهرت الآن كانت أقصر . شهقت جين في دهشة عندما شاهدت المنزل . كانت هناك شرفة طويلة فيها أعمدة بيضاء نحيلة تدعم قرميد السقف . وكانت النوافذ ذات لون أخضر فاتح وقد فتحت على مصراعيها أمام أشعة الشمس . كل هذا محاط بمنظر الأزهار والورود ذات الرائحة الشذية وقد ترعرعت في انطلاق حول الحشائش الخضراء .
" قالت جين :
" لم أكن أتوقع أن يكون بيت أبي في مثل هذا الجمال ."
" حسنا تعالي يا عزيزتي فأبوك ينتظرك ."
كان هناك شيء غريب في الطريقة التي تحدثت بها ميغان لكن جين لم تكتشف السبب ألا بعد فترة . خرجت من السيارة وهي تشعر بالتعب . وسط حرارة شديدة مشبعة بالرطوبة .
قالت ميغان :
" ستعتادين ذلك حاولي الاحتفاظ بطاقتك إلي ما بعد الظهر وأؤكد لك أن الجو يصبح أبرد وألطف في المساء ."
دخلتا إلي بهو رطب جدرانه بيضاء فيه سجاجيد رقيقة فوق أرضيته الخشبية اللامعة . كان هناك أيضا العديد من اللوحات المعلقة فوق الجدران . وغيثار ينعكس خشبه الداكن مع لون الجدار الأبيض المبهر من خلفه فرحت جين برؤية الغيتار وكانت على وشك أن تتكلم عندما سمعت صوتا يقول :
" ميغان , هل أحضرت ابنتي معك؟"
جاء صوت ميغان بنغم شجي :
" نعم يا جون , وستأتي فورا ."
دخلتا غرفة جلوس فسيحة في مؤخرتها نوافذ واسعة تطل على مزيد من الحدائق تنحدر نحو غابة من النخيل ذي الورق اللامع المتموج . تناثرت في الغرفة قطع من الأثاث الخيزراني البسيط التي أعطت انطباعا بالأناقة وقد أمتلات الجدران بمزيد من اللوحات . وسط كل هذا كان الرجل هو الذي أستحوذ على انتباه جين وقد تلاشي كل ما عداه وهو ينهض من مقعده وذراعاه ممدودتان.
" جين ,ابنتي ..."
كان صوته منفعلا , واتجهت نحوه كأنها في حلم . كان هذا هو الرجل الذي حلمت به ولم تتخيل أنها ستراه . كان اكبر سنا مما كانت تظن ذاكرتها , لكن جون ريتشي كان رجلا وسيما , وكان شعره الداكن الذي يتخلله لون رمادي باهت ممشطا إلي الخلف كاشفا عن جبين عريض , كانت عيناه تشبهان كثيرا عيني ابنته , حنونتين , مليئتين بالحزن .
" أبي , أبي !."
" جين طفلتي بعد كل تلك السنوات ."
تعلق كل منهما بالآخر في صمت ثم أبعدها في رفق :
" دعيني أتأملك . أنا لا أصدق أنك أنت ابنتي حقا ."
" نعم أنا أبنتك . وعندي الكثير مما يجب أن تطلع عليه ."
" لا . ليس الآن قلت لي ما يكفي يا جين في رسائلك . لست في حاجة إلي أن تقولي لي شيئا عن شخصية دورثي . أين ميغان ؟"
عادت ميغان وهي تبتسم :
" سمحت لي إلين أن أحضر لكما هذا بنفسي . ستحضر هي بعض الكعك ."
استطردت ميغان وهم يتناولون القهوة:
"رأينا غافن في المطار . لم أكن أعلم أنه سيكون على الطائرة نفسها مع جين."
رفع جون ريشي وحاجبيه في دهشة :
" ولا أنا أيضا , غريب أنه لم يذكر ذلك عندما كان عندي أمس ."
نظر إلي جين متسائلا :
"ما رأيك فيه ؟"
وقبل أن ترد جين اندفعت ميغان ضاحكة :
" أخشي يا جون أن تكون جين قد أخذت انطباعا سيئا عنه . حدث مشهد صاخب في مطار جافر ويبدو أنه كان هو المتسبب فيه ."
ابتسم جون ريتشي وقال :
" آه فهمت , يمكن أن يكون مخيفا إذا كان في إحدى نوبات طبعه الحادة . لا بأس غدا تعرفه تماما عندما تتعرف إليه . أنا متأكد من ذلك والآن أخبريني يا جين ما رائك في سارامنكا ؟ أهي كما تصورتها."
تنفست جين الصعداء وراحت تروي لأبيها ما شاهدته .
دخلت إلين , وكانت امرأة ملونة ضخمة , وهي تحمل صحنا كبيرا مليئا بالكعك والشطائر قدمها جون ريتشي لجين وكان من الواضح أنه يحمل لها الكثير من التقدير . وعندما غادرت الغرفة نظرت ميغان إلي ساعتها وقالت:
" يجب أن أذهب الآن إلي اللقاء, سأمر غدا لأراكما ."
" أن ميغان صديقة طيبة , وكذلك أبنها كولين ستكون هذه أجازة طيبة لك وسأبذل كل ما في وسعي لأجعلها كذلك ."
" يكفي إنني هنا لم أتخيل لحظة أن ذلك سيتحقق."
أمسك جون ريتشي بيديها وقال:
" لن نأسف على ما فات . أن المستقبل هو كل ما يجب أن نفكر فيه الآن أريدك أن تفكري بجدية في البقاء معي , أن تجعلي من هذا المكان بيتا لك "
كان لكلماته وقع غريب على جين .
"أنا_ أنا ".
" لا ليس الآن . أنا لا أريدك أن تقولي شيئا الآن . أنا رجل ثري يا جين . لقد كنت محظوظا وليس لي من أشاركه ذلك سواك . لكن القرار هو قرارك . وأنا لست مستعجلا أشعر أنني صغرت عشر سنوات بعد أن رأيتك . إنك تشبهين أمك كثيرا ."
توقف برهة ثم استطرد :
" لدي الكثير لأقوله لك _ ولكن ليس الآن . سأستدعي إلين لتريك غرفتك . استغرقت في إعداده أياما عدة."
ابتسمت جين وقد بدا عليها الإعياء , ثم تذكرت شيئا فقالت :
" رأيت آلة غيتار في البهو . أتعزف علي الغيثار ؟"
لمعت عيناه قائلا :
" كنت معتادا على ذلك في الماضي . لا تقولي لي إنك تعزفين الغيتار أيضا؟"
" نعم تعلمت ذلك في المدرسة . كنت أود أن أحضر غيتاري معي لكني لم أستطع نظرا للوزن المسموح به للأمتعة ."
ضحك والدها وقال :
" هذا رائع ! جين تلعب الغيتار , لا أصدق ذلك . أتدرين أنه كان أول آلة أتعلم العزف عليها والآلة الوحيدة كذلك . عديني أن تسمعيني بعض الموسيقي غدا ؟"
" أعدك بذلك ."
انحت جين لتقبله في الوقت الذي دخلت إلين تطقطق بخفيها على أرضية الحجرة البراقة وقالت لها:
" أنك في حاجة إلي أن تنامي قليلا , وغرفتك معدة . تعالي معي 0
عندما استيقظت جين كان الظلام مخيما وكانت الغرفة باردة . أحست بالجوع فجأة . قفزت من سريرها , لبست خفا من الفرو وتدثرت جيدا ثم ذهبت إلي الحمام .
رأت ضوءا منبعثا من الطابق الأسفل , وبعد تردد نزلت في هدوء . كانت تأمل أن تجد شيئا لتأكله , سارت عبر البهو حيث كان ضوء خافت يسطع على الغيتار وعلى اللوحات . توقفت جين أمام أحداهما , وقد نسيت جوعها وهي تحدق في الألوان الزاهية في لوحة صياد يقف في جوار زورقه , كانت لوحة بالألوان الزيتية بدت أكثر أثارة وغموضا تحت الضوء الخافت . خيل إلي جين أنها شاهدت اللوحة من قبل . ولكن كيف يمكن أن يحدث ذلك ؟
أحست بالحيرة , واستأنفت في هدوء يشدها ذلك الوهج الدافئ المنبعث من مصباح في غرفة تقع في نهاية الممر , دفعت الباب لتجد نفسها في المطبخ .
أتت إلين بحركة خفيفة في مقعدها الهزاز ثم فتحت عينيها وابتسمت لجين قائلة :
" أنت جائعة أليس كذلك ؟"
" نعم . أنا آسفة يا إلين إذا كنت أزعجتك ."
" لا يا طفلتي . لقد كنت أريح عيني فقط كنت أعلم أنك ستستيقظين في هذا الوقت . الجميع يفعلون ذلك بعد رحلة طويلة . أجلسي . هناك بعض الدجاج سأحضره لك ."
" شكرا يا إلين . رأيت منذ قليل لوحة زيتية في البهو . هل أحضر أبي معه العديد من الرسوم عندما جاء إلي هنا؟"
" ماذا ؟ أنها ملكه . اعني أنه هو الذي رسمها . ألم تعرفي ذلك ؟"
كانت دهشتها تعادل دهشة جين نفسها .
" أتعنين أن أبي رسام ؟ هذا غير معقول."
" نعم أنه كذلك . بل أنه أهم رسام . هو يبيع لوحاته في مختلف أنحاء العالم . أحقا لا تعرفين ؟"
هزت جين رأسها وهي مذهولة . أن هناك الكثير لا تعرفه , بلا لا يمكن لها أن تتخيله وقد بدأت الأشياء الآن تنتظم في شكل محدد :
" لم أعلم شيئا عن أبي , لم أعلم شيئا على الإطلاق يا إلين , إلي أن اكتشفت رسائله ورددت عليها ."
" أصدقك يا طفلتي . لا تضطربي هكذا . أني فخورة بأني أعمل لدي والدك . لقد حضر خبراء من شتى أنحاء العالم إلي هنا ليروا اللوحات ويبتاعوها . ألم تشاهدي أيا منها من قبل ؟"
هزت جين رأسها في ذهول :
" لا أعلم لكن اللوحة التي في ا لبهو , لوحة الصياد والزورق , تبدو مألوفة لدي ."
" قد تكونين شاهدتها في الصحف . فقد جاء إلي هنا في العام الماضي مراسلو عدد من المجلات والتقطوا صورا لإعمال أبيك . إن اسم اوغستاس ريتشي معروف في العالم كله."
همست جين قائلة :
"أوغستاس . أوغستاس . بالطبع كم كنت حمقاء !"
لقد رأت طبعات لرسومه الحية لبعض الجزر . مناظر طبيعية زاهية الألوان ذات أسلوب مميز الحق عليه الخبراء صفة البدائية . وأستوقف نظرها أسم ريتشي أيضا , لكن هذا هو كل ما حدث . لم تكن لتتخيل أن أباها هو الذي رسمها .
" بالطبع , أسمه جون لكن أسمه الآخر أوغستاس وهو يعني الشخص ذا المكانة الرفيعة ."
تنهدت إلين , كان وجهها ترتسم عليه الطيبة وهي تطقطق فوق أرضية المطبخ لتضع الطبق أمام جين .
" لديك الكثير لتعرفيه عن أبيك , أليس كذلك ؟ إنه سعيد بمجيئك , يمكنني أن أري ذلك وقد سررت لذلك أنا أيضا ."
" أشكرك يا إلين ."
ابتسمت جين قائلة , وهي تحس بعاطفة مفاجئة نحو هذه المرأة :
" أنا لا أشعر بالنعاس . هل استطيع أن أخرج لأتمشى في الحديقة ؟"
" بالطبع . يا حلوتي , لا لصوص هنا في سارامنكا . ولكن هل أنت متأكدة من أنك ستخرجين في هذا الوقت المتأخر."
" متأكدة طبعا . وإلا فلن أستطيع النوم."
" سأحضر لك مشعلا ,فوالدك لن يسامحني إذا تعثرت وأصبت . عديني ألا تبتعدي كثيرا عن المنزل ؟"
" أعدك يا إلين . أريد فقط بعض الهواء النقي."
" إذن اصعدي حالا وارتدي معطفا فوق قميص النوم . فالجو بارد في الخارج سأحضر لك المشعل ."
ركضت جين سعيدة إلي الطابق الأعلى . فكرت أن تسير عبر ذلك الممر لتصل إلي الطريق ثم تعود . أن ذلك سيساعدها في تخفيف وقع الأنباء المتراكمة عليها .
أنبعث صوت الحصى المطحون تحت قدميها ولفتها رائحة أزهار خفيفة . كان الجو باردا , وشعرت بالسعادة لأنها تدثرت بالمعطف. ممسكه بالمشعل . وقفت قليلا في الظلال بعيدا عن المنزل حتى تعتاد عيناها على الظلام .
كان الليل هادئا والسماء مرصعة بالنجوم تتلألأ على مدى أبعاد لا نهائية . كان الإشعاع الخافت المنبعث من القمر يعطيها ضوءا كافيا لترى طريقها .
تنفست جين في عمق وأحست بسعادة مطلقة تحتاجها , لم يكن هناك خطأ في تصرفها . قطعت الآف الأميال لتصل إلي هنا واختفي تماما كل المخاوف والآلام . إن والدها يريدها , وهذا هو كل ما يهم .
سارت ببطء وحرص , وكأنها تخشي السكينة المسيطرة , ثم ما لبثت أن سمعت نباحا رهيبا وصوتا يصرخ :
"كارلو , قف مكانك."
خمد الكلب وهو يئن أنينا خافتا ورقد تحت قدمي جين , أخذت تبحث عن زر المشعل ثم أضاءته لتجد غافن غرانت يتقدم نحوها في خطى واسعة.