كاتب الموضوع :
الأمل الدائم
المنتدى :
الارشيف
الفصـــــــــل التاسع
عندما استدار ستروم نحوها ، رأت نيرن وجهه على ضوء النار المشتعلة وكان مرهقاً مغضناً بينما صوته كان ثابتاً وهو يقول : " نعم انه سيصبح بخير ولا بد انه أوى إلى هنا قبل العاصفة الثلجية ورغم أن حذاءه وجوربه مبللان إلا أن ثيابه جافة انه البرد والإرهاق وهذا كل شيء ولولا أن عثرنا عليه لكان الامر مختلفاً بطبيعة الحال ... "
وداخل نيرن الارتياح ممزوجاً بمشاعر مختلفة ، مشاعر كانت بمثل عنف العاصفة الثلجية التي تولول خارج الكوخ . هل تراها جنت لكي تتعلق عيناها في مثل هذا الوضع بهذا الرجل الذي كان الآن يقف بعد طول جلوسه القرفصاء بجانب الفراش؟ بوجهه الهضيم وعينيه اللتين كانتا كبحيرتين من التعاسة؟ كان هذا ما جذبها إليه وكان هنالك أيضاً شعورها بالعطف نحوه ... العطف لأنها كانت تعلم
أنه يتألم لقد كان الألم رفيقه كان رفيقاً لا يريده ولكنه تملك نفسه بكل قسوة .. تملك نفسه منذ خمس عشر عاماً ...
رفيقاً أوجدته فيه هازيل .
ما أعظم ما كان حبه لها ، لكي تترك فيه جرحاً كهذا ... لكي يتسمم بهذا الشكل مهما كان فعلها به ....
اقترب منها ونظر إلى النار وهو يسألها : " هل أحضرت طعاماً؟ "
فأجابت : " أحضرت جبناً وكعكاً ولوحي شكولاته وبعض المكسرات ولكنك لن تحاول إيقاظه أليس كذلك؟ "
فأجاب : " ليس لأجل كيلتي بل لأجلنا نحن . "
ودون أن يرفع عينيه عن النار قال : " لقد مرت ساعات منذ تناولنا الطعام وليلتنا ستكون طويلة ويجب أن نأكل شيئاً يحفظ قوانا ولكننا يجب أن نقتصد في مئونتنا فمن يعلم كم سنبقى محتجزين هنا؟ "
وسكت . وشعرت نيرن بالبرد أكثر مما كانت تشعر به خارج الكوخ ولم تشأ التفكير في إمكان أن تحتجزهما العاصفة أياماً.
وسألها : " هل ثيابك مبللة كلياً؟ "
فأجابت : " إن جوربي مبللان وكذلك بنطلوني من الفخذين فنازلاً أما القسم الأعلى من ثيابي فلا بأس . ماذا عنك أنت؟ "
فأجاب : " لست محظوظاً تماماً . "
فسألته : " هل سندخل إلى أكياس النوم الآن؟ "
فأجاب : " هذا افضل . "
جلست القرفصاء وسحبت كيس النوم من حقيبتها حيث فتحت السحاب وما زالت تتجنب النظر حولها ولكن قبل أن تدخل الكيس قالت : " هل لك أن تدخل كيسك ريثما احضر أنا شيئاً نأكله. "
ولم تعد إلى النظر إليه إلا بعد أن سمعته يجر سحاب الكيس الطويل وكان جالساً في الكيس يدفئ يديه أمام النار وقد وضع القسم الأعلى من الكيس على كتفيه العريضتين .
والتفت إليها قائلاً : " بالنسبة إلى الكلب شادو عندما خرجنا كان نائماً في المطبخ من الذي سيفتح له الباب ليخرج؟ "
فنظرت إليه مستغربة أن يفكر في الكلب في ظروف كهذه وأجابته وهي تناوله كعكة وقطعة جبن : " لقد اتصلت هاتفياً بأمي قبل أن نترك البيت وهي ستهتم به إلى حين عودتنا . "
فقال : " هذا حسن . "
ولم يزد ، واخذ يأكل ثم عاد يقول : " منذ متى اقتنيته؟ "
فأجابت : " شادو؟ منذ ثماني سنوات ، انه هدية العرس من كيفين . "
فسألها : " ابن أختك؟ لا بد أن أختك تزوجت قبلك بعدة سنوات ...... "
فقالت : " كلا ، تزوجنا في يوم واحد . "
وبعد فترة صمت عاد ستروم يقول : " ولكن كيفين .. أظنه في الحادية عشر أو الثانية عشر من عمره . "
فأجابت : " آه آسفة ، كان علي أن اشرح الامر . انه في الثانية عشر .. ولكن آدم ليس أباه فقد كانت كيلا متزوجة قبله من شاب اسمه درو فيرغسن وكانت هاجرت معه إلى كندا حيث ولد كيفين . وقد مات درو حين كان كيفين في الرابعة من عمره فعادت به كيلا إلى هنا حيث تزوجت من آدم بعد فترة قصيرة . "
فقال ستروم : " بشيء من الدهشة : " إذن آدم هو زوجها الثاني ، انهما يبدوان في غاية السعادة . "
فأجابت ببساطة : " انهما يحبان بعضهما . "
فابتسم ساخراً وهو يقول : " يحبان بعضهما؟ هل تثقين بالحب؟ "
فقضمت نيرن قطعة صغيرة من كعكتها وأعادت البقية إلى الكيس ، من يعلم كم سيبقون محتجزين في هذا المكان .... وأجابت : " نعم إنني أثق بذلك . "
فقال : " وإذا وقع شخص في الغرام وتزوج اكثر من مرة .... فهذا يبطل منطقك أم أن بمكان الشخص أن يكون له اكثر من حبيب ..... "
كانت تعرف أنه يغيظها ... ولكنها كانت تعرف أيضاً أنه يريد حقاً جواباً لهذا السؤال ، فهل بإمكانها ان تجيب؟
وأجابت بهدوء وهي تحدق في اللهب : " كلا ، إنني لا أثق بالحب المتعدد ولكنني أثق بان الشخص قد يعثر على رفيق ... رفيق حياة يكمله أو يكملها وعندما يجتمعان يصبحان واحداً مكتملاً . "
فسألها : " وهل تظنين أن كيلا ودرو كانا حبيبين حقاً؟ "
فأجابت : " كلا انهما لم يكونا حبيبين بكل معنى الكلمة ، لقد كان درو مجنوناً بكيلا وقد أحبته كيلا ، إنما ليس بنفس القدر ، لقد كانا دوماً صديقين حميمين وكان حبها له كحب أي شخص لصديق حميم . ولكن الامر مع آدم اختلف فقد تعلمت معه الحب الحقيقي الذي يكون بين رجل وامرأة فهو إذن حبها الحقيقي . "
فقال : " إذن ، جزآن متماثلان يتحدان معاً ليصبحا فرداً متكاملاً مثلكما أنتِ و روري؟ "
لم تحول عينيها عن النار ، كانت تعلم أنه ينظر إليها ، ولم تشأ أن يرى التعبير الذي بدا في عينيها لم تشأ أن يرى الدموع فيهما .. الدموع التي تفجرت منهما وكأن يداً خفية اعتصرت قلبها فلم تكد تحتمل الألم .
هذا الألم الناتج عن كلماته الرقيقة ... كلماته التي نطق بها بكل براءة . الألم الذي كان يدفعها آلي أن تصرخ وهي تواجه الحقيقة القاسية ، الحقيقة المرة ، الحقيقة التي اخترقت من الأعماق ... فهي مع أنها أحبت روري كما احبها هو أيضاً وكان حبهما رقيقاً متشاركاً بعيداً عن الأنانية .. ولكن كان هنالك شيء مفقود...
إنها لم تدرك هذا في ذلك الحين .. ولو لم تقابل ستروم غالبريث لما أدركته طيلة حياتها .
أما ما كان مفقوداً من علاقتهما فهي العاطفة.
العاطفة المحمومة والرغبة العميقة .....
وشعرت بنفسها ترتجف عندما قال لها بصوت يتملكه الذهول : " هل تبكين؟ آه يا نيرن .... "
رتب على يدها وتمتم : " إنني آسف ، إذ جعلتك تفكرين في روري فجلبت إلى نفسك الحزن .... إنني حقاً متوحش ... "
فهمست وهى ترى الندم في صوته : " كلا ، انك مخطئ ليس هذا هو سبب بكائي ."
فقال وهو يتخلل شعره بأصابعه : " ما هو السبب إذن؟ اخبريني . "
وماذا تخبره؟ وكيف تقول له أنها اكتشفت الآن ذلك الفراغ الذي كان يسود حياتها الزوجية؟
وعاد يقول : " من المفيد أحياناً أن تكشفي عما بنفسك .... "
وسكت فجأة وهو يراها تغمض عينيها وهي تجذب نفساً مرتجفاً فسألها بصوت متوتر : " ما هذا؟ ما هو سبب بكائك؟ "
وأرادت أن تصرخ ...... أن تقول له انه هو سبب بكاءها ... إنها تبكي لأنها تشعر وكأنها كانت تعرفه طيلة حياتها .... ولأنها تشعر أنها تريد أن تمضي بقية حياتها هنا ولكنها لم تنطق بكلمة.... وإنما قالت بصوت خافت : " إنني آسفة لا ادري ما سبب بكائي هذا ... ربما ما مر بي هذا النهار من أحداث قد أوهن أعصابي ، واظن ان علينا أن ننام . "
وقفت لتسوي كيس نومها ثم تستلقي . ومضت لحظة لا نهاية لها لم تسمع فيها صوت ستروم وتمتمت : " سأراك في الصباح . "
ولكن لم يكن هناك جواب فاستدارت تنظر إليه لترى انه يجلس القرفصاء قرب كيلتي واضعاً يده على جبينه وقد استحال إلى كتلة من الاهتمام والتركيز .
وشعرت وكأنها موشكة على البكاء ياله من رجل غامض معقد غير مفهوم ولكن هنالك شيء مؤكد هو انه رغم ما يبدو عليه من عنف وتصميم على ألا يختلط بابنه فقد كان قلبه يحتوي على مقدار كبير من الحنان . كانت متأكدة من انه رغم قوله انه لا يريد كيلتي ، فثمة صراع يدور في أعماقه في كل مرة ينظر فيها إلى ابنه الذي هو نسخة ثانية عنه ومن لحمه ودمه .
وبعد ذلك بلحظة سمعته يسوي من كيس نومه وهو يقول لها : " ليلة سعيدة يا ينرن ."
أجابته وهي تبتسم رغم الدموع التي كانت تنساب منها على وجنتيها : " ليلة سعيدة يا ستروم . "
ومن الغريب أنها استطاعت أن تنام وعندما استيقظت ونظرت إلى ساعتها رأت أنها الثامنة صباحاً وسرعان ما انتبهت إلى ستروم واقفاً أمام المدفأة يغذيها بالوقود . لابد انه أبقى النار مشتعلة طيلة الليل لأن الكوخ كان دافئاً .
وكيلتي؟
أدارت رأسها نحو ذلك الجسم المستلقي على الفراش . لم يعد الآن متكوماً على نفسه التماساً للدفء كان مستلقياً على ظهره يغط في نوم هادئ .
وشعرت نيرن بالطمأنينة والسلام ، كان ستروم مصيباً حين قال أن كيلتي سيصبح بخير ولكن لو أن كيفين لم يلحق به ليرى إلى أين يتجه إذن ....
وفجأة لاحظت نيرن أنها لم تعد تسمع صوت العاصفة فقد هدأت العاصفة وسيكون بإمكانها العودة في اقرب وقت ..
قال لها وهو يجلس بجانبها : " هل أنتِ مستيقظة؟ هل رقدت جيداً؟ "
فأجابت : " نعم ، وأنني اشعر بالذنب لعدم معاونتك في السهر . "
فقال : " معاونتي في السهر؟ "
فنظرت إلى النار المضطرمة وهي تقول : " اعني في المحافظة على اشتعال النار وإلا لكنا ارتجفنا من البرد طوال الليل . "
فقال : " لقد كنت مرهقة جسمانياً ونفسانياً . وما كنت لأوقظك مهما كان الامر وفي الحقيقة كنت مسروراً أن سمعت غطيطكِ . "
فقالت : " غطيطي؟ ولكنني لا أغط في نومي مطلقاً . "
والتفتت إلى كيلتي الذي كان ينقلب إلى جانبه وهو يتأوه مغمض العينين بينما ابتسم ستروم قائلاً : " إنني أقول ذلك لأعرف فقط وهذه عادتي كلما اضطررت لمشاركة الغرفة مع أحد . "
وكان الآن متكئاً أمامها ينظر إليها ليرى ردة الفعل عندها لما قاله .
شكرت نيرن حظها على أن ليس لديه فكرة من ردة الفعل في قلبها ، في نفسها وذلك عندما كان ينظر إليها بهذا الشكل . هل هذا كان شعور هازيل نحوه عندما كان ينظر إليها؟ شعرت لهذه الفكرة بمثل طعنة السكين في قلبها ، لماذا آلمها بهذا الشكل مجرد التفكير به مع هازيل؟
وهمست قائلة : " هل كنت مغرماً بهازيل؟ "
فاستدار يستلقي على ظهره ، واضعاً يديه تحت رأسه وقد سادت الرزانة ملامحه ثم قال بعد سكوت طويل : " نعم لقد كنت مغرماً بها ، كان حلماً جميلاً ... كان حلماً استحال إلى كابوس . "
فقالت برقة : " حدثني عن كل هذا ، عنك وعن هازيل . "
فقال : " بصوت خافت : " لقد كنت جئت ذلك الصيف إلى اسكتلندا في الصيف مبكراً ابحث عن قطعة ارض وكنت قد أوجدت لتوي مشروعاً في الخارج وحيث أن مشاريع السياحة والتزلج في الشمال كانت مزدهرة فقد وجدت أن الوقت قد اصبح مناسباً للاستثمار في المنطقة وبسبب اصلي الاسكتلندي كما أظن وجدت أن اسكتلندا تجذبني كالمغناطيس . "
فسألته : " وما الذي جعلك تختار قرية غلينكريغ؟ "
فأجاب : " كان المكان مثالياً فهو قريب جداً من الجبال ولكنه بعيد عن الطراز الأمريكي ، إذ انه كان يمثل اسكتلندا الحقيقة ، اسكتلندا القديمة التي كانت قبل أن يصبح كل شيء تجارياً وكانت غلينكريغ ..... كانت صورة كاملة لما أريد. "
فهزت رأسها قائلة : " ولكنك لم تطور شيئاً .... لماذا؟ "
ولكن توتر ملامحه أنبأها بالجواب . وكان طبعاً يتعلق بهازيل .
أجاب وقد بان التجهم في ملامحه : " لقد قابلتها مصادفة في نفس اليوم الذي عثرت فيه على قرية غلينكريغ وكنت هابطاً الوادي لأرى بعض الأراضي فيه والتي لم تعجبني وكنت شاعراً بخيبة الأمل لذلك لأنني كنت أحببت هذه المنطقة كثيراً وعندما رأيت خرائب البيت الريفي في كريجند والأراضي المهملة المحيطة به تساءلت عما إذا كانت معروضة للبيع وأوقفت سيارتي إلى جانب الطريق ثم أخذت أسير بين الحقول وملأتني الإثارة فقد كان المكان مناسباً تماماً وكنت واقفاً هناك أحلم بما سيكون عليه بعد إصلاحه عندما برزت أمامي صورة فاتنة لفتاة جبلية جميلة ذات شعر اسود ثائر وعينين خضراوين وضحكة جذابة أسرت حواسي ... "
وسكت فجأة وكأنه نسي نفسه ، ثم أطلق ضحكة مرة وهو يتابع : " وبالطبع لم تكن تلك صورة وإنما مجرد مخلوقة من لحم ودم . ولكنها فتنتني على كل حال . لقد سألتني : ماذا تريد من هنا يا ابن المدينة؟ فأجابتها : إنني أريدك . وكان حباً من أول نظرة . كان هذا أمراً سخيفاً أليس كذلك؟ ولكنه لم يبد سخيفاً في ذلك الحين لقد سرقت قلبي . "
فسألته نيرن : " وهل أحبتك هي أيضاً؟ "
فلوى شفتيه : " لقد قالت ذلك وكنت أظنها فتاة حرة عاطفية ، رغم أنها كانت دوماً ترغب في مقابلتي في أماكن هادئة ... وبعد أن مر على تعارفنا قرابة أسبوعين أخبرتني عن هوغ ... وعن تفاهمهما ، أخبرتني انه يصطاد السمك في الساحل الغربي ولكنها وعدتني أن تفصم خطبتها معه عندما يعود في أواخر حزيران وتخبره بأننا سنتزوج . "
وتنهد بصوت مرتجف وهو يتابع : " وفي آخر ليلة من رحلتي تلك ، كانت الغلطة التي اقترفتها وهكذا عدت إلى لندن وفي جيبي عقد شراء ارض كريجند وفي قلبي .... هازيل لندساي . "
وظنت نيرن أن حديثه انتهى ، فأرادت أن تعرف ما حدث بعد ذلك ولكنه عاد يتابع حديثه بصوت خشن : " لقد كتبت ألي رسالة بعد عودة هوغ من صيد السمك تقول فيها أنها منذ اللحظة التي رأته فيها مرة أخرى علمت انه الرجل الذي يحبه قلبها .. وان علاقتنا ، أنا وهي لم تكن سوى غلطة لم تعد تعني لها شيئاً وقالت أنها لا تريد أن اتصل بها بعد ذلك لأنهما هي وهوغ سيتزوجان بأقرب وقت بعد ان اعترفت له بالحقيقة . "
ترقرقت الدموع في عيني نيرن عطفاً على هذا الرجل . كان يقول الحقيقة دون شك . الحقيقة التي كانت تبدو من صوته الخافت المتألم .
وعاد يقول بصوت معذب : " ربما كنت سامحتها على كذبها ذاك ولكنني لن أسامحها أبداً على عدم اطلاعي على حملها مني . كان عليها أن تخبرني ، كان لي الحق في أن أعلم .... كيف أمكنها أن تكون بكل تلك الأنانية ... "
وكانت الشهقة المفعمة بالذهول والتي ملأت جو الكوخ ، كانت من الألم الذي ينضح منها ما ظنت نيرن معه أنها صدرت عنها هي ... فهي لم تصدر عن ستروم لأنه أبدى مثلها دهشة وعجباً وقد بدت عيناه حادتين متسائلتين . ذلك أن الشهقة كانت صدرت عن كيلتي .
كان منبطحاًَ على بطنه وقد أخفى وجهه بين ذراعيه وسرى في نفس نيرن الهلع . انه لم يكن نائماً ، فلا بد انه سمع كل شيء إذن ، ولم تستطع أن ترى وجهه ولكنها استطاعت أن تتصوره . لقد كان يحب أمه كثيراً وكان يرى العالم كله ممثلاً في هوغ .. الرجل الذي كان يظنه آباه .
وها هو ذا الآن يعلم انه كان يحيا حياة الكذب وان هذا الرجل الغريب الذي اقتحم حياته هو أبوه . انه يعلم الآن حقيقة ما حدث في الماضي وربما يمزق علمه هذا نفسه أشتاتاً .. تماماً كما تمزقت نفس ستروم وما زالت .
وهمست من خلال دموعها : " آه يا للهول ..... "
ووقف ستروم وهو يقول بصوت معذب : " لم اكن أريده أبداً أن يعرف .... "
وجاء صوت كيلتي خشناً وهو يقول بألم : " ولكنني كنت اعلم مسبقاً انك أبي . لقد سبق وعلمت ذلك، لقد كنت أنا من ... "
ولم يستطع أن يتابع كلامه .
وساد الصمت لحظة ، ثم همس ستروم ببطء وذهول : " هل كنت أنت من استأجر المحامي لكي يقتفي اثري؟ لقد ظننت أن أمك هي التي فعلت ذلك قبل موتها وإنها هي التي حركت الأمور لغاية في نفسها .. وكنت افترضت أيضاً أنها اخفت عنك الحقيقة لكي لا يعلم أحد بان هوغ لم يكن أباك الحقيقي .... "
وسألته نيرن : " ولكن من أين حصلت على النقود آجرا للمحامي يا كيلتي؟ إن القليل الذي تركه والداك لم يكد يكفي تغطية تكاليف الجنازة؟ "
فأجاب : " من بيع آلة التصوير . "
فهتفت : " آلة التصوير . "
لقد اتضح الآن كل شيء وشعرت بغصة في حلقها وهي تتابع : " لقد بعت آلة التصوير إذن لكي تدفع أجرة المحامي ... "
وهتف ستروم وقد بان الندم في ملامحه : " آه ، هذا هو السبب إذن في قولك انك كنت بحاجة إلى ثمنها ... "
فأجاب كيلتي بهدوء : " نعم ، وليس لأشتري المخدرات . "
فقال ستروم : " إنني آسف لقولي ذاك ، وان كنت أعلم أن أسفي هذا لا يكفي .. فهل بإمكاني أن اسحب كلامي؟ كل ما بإمكاني الاعتذار به هو انه كان صادراً عن اهتمامي بك . "
فأجاب الغلام وقد بدا الإرهاق في صوته : " نعم لا بأس إنني متفهم ذلك . "
فقال ستروم : " إن ما لم افهمه هو لماذا قررت أمك في النهاية أن تخبرك بالحقيقة؟ "
فانقلب كيلتي على جانبه متكئاً على مرفقه يحدق في ستروم بعينين مغرورقتين وهو يقول : " إن أمي لم تخبرني بذلك قط ، إن أبي هو الذي اخبرني لقد اخبرني عنك في المستشفى قبل أن يموت ، اخبرني انه ليس أبي الحقيقي ... اعترف بأنه كان يعلم ذلك طيلة الوقت . قال أن أمي لم تعلم مطلقاً بأنه كان يعرف بالأمر ، لم تعلم قط بأنه أحس باختلاف في مشاعرها نحوه ، عند عودته من صيد السمك في ذلك الصيف وعندما اكتشفت بعد زواجهما بقليل أنها حاملاً لم تعلم قط بأن أبي اكتشف سرها وانه تكهن بأنها لا بد تعرفت إلى رجل آخر أثناء غيابه وكان من حبه لها انه سكت طوال تلك السنين وكان الشيء الوحيد الذي استطاع أبي أن يعرفه عن ذلك الرجل وكان مجرد تخمين كما قال هو أن اسمه كان سومرليد ....... "
سألته نيرن : " سومرليد؟ ولكن .... "
فأشار كيلتي نحو ستروم وهو يقول : " إن اسمه الأوسط هو سومرليد .. وكانت أمي دوماً تقول أنها تحب هذا الاسم . "
ولم تستطع نيرن الكلام وقد أحست بأنها تكاد تختنق وكل ما استطاعت عمله هو أن تعض شفتها المرتجفة مغالبة دموعها . لقد فاضت بها المشاعر حتى لم تعد تستطع احتمالاً ...
وعلا صوت الطرق على باب الكوخ ، وبشكل غير متوقع ، جعلها تقفز من مكانها وهي تشهق لترى الباب يفتح فجأة فيهب منه الهواء المثلج يصفع وجهها ، و أغمضت عينيها إزاء النور الساطع ، لتعود فتحهما على خيال طويل يقف في الباب وانطلق صوت مألوف لديها يقول : " من حسن الحظ أنكم هنا جميعاً وليس بكم ضرر كما أرى . "
فقفزت واقفة وهي تهتف : " آدم كنت أظنك في ادنبره؟ "
واندفعت تحيط صهرها بذراعيها .
واحتضنها هو بشدة وهو يبتسم لها قائلاً : " لقد تصادف أنني اتصلت بالبيت هاتفياً بعد المكالمة بينك وبين كيلا فأخبرتني بما حدث فقطعت رحلتي وعدت إلى البيت حيث شكلت فرقة إنقاذ وإذ بالعاصفة الثلجية تهب وكان علينا أن ننتظر هدوءها . لا يمكنني أن أصف لك مقدار الراحة التي شعرنا بها عندما رأينا الدخان يتصاعد من مدخنة الكوخ هذا ، آه ، يا ستروم لقد أحسنت بعنايتك بهذين وتهاني لك فهذا شيء حسن جداً بالنسبة إلى ...... "
فقاطعه ستروم ضاحكاً : " بالنسبة إلى ابن المدينة . انك لست الوحيد الذي ظن بي الضعف والخرع ... "
وانطلق صوت كيلتي من الخلف قائلاً : " انه ليس خرعاً . فهو أول رجل استطاع الوصول إلى قمة افرست في رحلة كارينغتون الاستكشافية وذلك عندما كان في الرابعة والعشرين فقط من عمره . "
واستدار ستروم و نيرن ينظران إليه وكان جالساً في كيس النوم وقد بدا عليه وكأنه لم يذق النوم منذ اشهر .
وهتفت نيرن : " قمة افرست؟ متسلق جبال؟ "
وشعرت برأسها يدور .
وتابع كيلتي بصوت مرتجف : " متسلق جبال ومصور فوتوغرافي وقد اضطر إلى ترك التسلق لأنه أثناء هبوطه في أخدود عميق أثناء تلك الرحلة ، وذلك لينقذ قائد الرحلة نيكولا كارينغتون ، أثناء ذلك كسر ركبته ... "
فاستدارت نيرن نحو ستروم وهتفت بذعر : " ستروم ما كان لك أن تصعد إلى هنا .. وركبتك هذه .. إن المجازفة ... "
كان هو ينظر إلى ابنه وقد بدا على ملامحه تعبير لم تره من قبل . ذلك أن الكآبة القاسية التي كانت تعلو وجهه قد تلاشت ليبدو في مكانها رقة هزتها ... وكانت تلك الرقة ممزوجة بالارتباك ، هل ذلك لأن كيلتي كان يعرف من هو طوال الوقت وكان يحتفظ بذلك سراً؟ أم أن الارتباك هو سبب المشاعر التي ابتدأت تتكون في أعماقه نحو ابنه؟ أم ربما لسببين معاً؟
ولكنها ما أن نظرت إليه ، حتى تمالك مشاعره بسرعة وعاد الجمود إلى عينيه لا تنبئان عن شيء .
وقال هو : " لقد كانت مغامرة كنت متأهباً لها . وحتى الآن ركبتي صامدة .. والآن هيا بنا ، فأمامنا طريق طويل شديد البرد . "
|