المنتدى :
خواطر بقلم الاعضاء
حلم كائن بسيط
حلم كائن بسيط
انقلبت نظراته سهاما ثاقبة ، راحت تخترق المكان .. و الأشياء ..حول بناية ما كان ينتظرها ؛ رغم سعيه الدءوب ..دار حول نفسه فى ثبات .. قارئا وجوه و ملامح و ثيابا و كائنات مارة ؛ أملا ألا يرصده أحد من هؤلاء .. من دأبوا على ملاحقته ، وفوتوا عليه طيلة ثلاثة أعوام فرصا سنحت له، و برغم تأكده من عدم وجود أي منهم ، إلا أنه قام من فوره منحنيا على كومات قمامة تحيط بالبناية .. نابشا فيها بأظافره ، و بكل ما أوتى من قوة ينثرها في فراغها ، حتى أن العابرين توقفوا متعجبين من فعله ، ودون تفسير لما يحدث ، يجرون أذيالهم .. لاطمين أكفهم في تهكم ..بينما ينهى قرص الشمس دورته ، وينحدر في تراخ حنون .. مرتميا في حضن المغيب ، ليرخى الليل عباءة رمادية رويدا .. رويدا ويعم الظلام ، و يطوق الفضاء جيوش من بعوض ، كانت تصدر أزيزا يشوى وجهه المغضن .. ثم نقت ضفدعة فى بادىء الأمر .. وتتابع النقيق بشكل مفزع ، يتخلله صفير حاد ، يرجعه فضاء شارد منهك ، تحت وطأة أحمال بنايات الطوب الأحمر .. يبتلى كيانه السابح عبر المسجد الكبير .. هناك في قلب المدينة الناتىء حيث الأولاد.. وزوجته ( أم الهنا ) ؛
فللبعوض دل كزغزغات ملاعبة .. وأزيز يدوم فى آفاق الأذن .. وللمنطقة رائحة مألوفة .. وللسكون فى قلبه آية حروفها تروس عاصرة .
اختفت الحركة .. استكان الناس خلف بوابات حديدية على الجانب الآخر من الطريق .. زحف خائضا البلدة .. ومزيج من مشاعر طاغية يغذى خطاه .. ولهاثه الفظ لا يهدأ .. و العرق لاينى نازفا من هيكل محدودب .
بجوار أحد المساجد الكبيرة .. توقف متقطع الأنفاس .. ومرعدا فرائص أولاده الستة وزوجته .. قال :" قوموا يا أولاد الكلب .. شيلوا ويللا بنا .. يللا ياوليه ".
أدار رؤوسهم فزع .. هاهي ذي نفس النبرة الآمرة .. تطاردهم حتى وهم فى حماية سيدنا " النعمان " ، باطشة بكرامته .. كانوا نياما بالكشك عندما هاجمتهم جنود الأمن ، وبلدوزر كأنه قلعة ، على رأسهم ضابط كبير له وجه فتاة بكر :" يللا ياحوش .. يا أنجاس.. خليتوا البلد زريبة ".
عندما طالعت عيونهم الوالد بشحمه و لحمه ، تطامنت صدورهم .. وحدقوا فى وجهه بغباء ، وهو يقبض على كومة مزق .. وهلاهيل .. وقفصين كبيرين .. ثم يرفع الأشياء على كتفه ، بعدما اقتلع ركائز خشبية محيطة بكتل الفل ، ويستدير عائدا من نفس الاتجاه ، وقلبه يخفق بقوة حصانين .. الأولاد حيارى.. مشدوهون. حدقاتهم تنبش فى عتمات الطريق مستعيدة صيغة الأمر . الزوجة تحزم الأشياء مدركة ضرورة ملاحقة رجلها .. بهمة تحسد عليها !!
بعد قليل كانوا ينطلقون خلفه ، جفونهم لم يعد عليها أثر لنوم .. كان حلمه يطير به على بساط بازلت مترنح تحت قدميه .. محلقا عبر أفلاك تحنان .. و عوالم سحرية .. فهاهو ذا أخيرا يرتاح .. و يعتصر ( أم الهنا ) بين ذراعيه .. تظللهما جدران من ضباب ندى.. وطيور وفراشات.. وتحتضنهما شمس هنا.. كقوس قزح .
كان زغلول عامل المسجد ، يشفق عليه ، ويتركه مع ( أم الهنا ) فى دورة المياه ، و قبل أن ينتهيا ، يتزلزل الباب ، وتنتزعهما عقيرة زغلول متعجلة ، فيتماسك ، يحاول ثانية ، ولكن ليبدأ من جديد !
فى المرة الأخيرة فاجأته ( أم الهنا ) :" فيه عين بتبص علينا ياراجل ".
يتصدى للباب بظهره ، و يضمها بين ذراعيه .. عيناه تخترقانه .. راصدة هذه الفرجة .. تهوى رغبته فى محيط ثلج ، و يكتهل فيها إحساس راجف ، وهو سادر يقلبها حسبما اتفق ، و أمام جمود نازف تخبو جذوته ، فيساقط على بلاط المكان الضيق ، محاولا استعادة أشلائه .. و اقتناص الفرصة التى قد لا تتكرر ، باكيا فحولة صابئة ، بيد أن عنادا يحدوه ، ألا يغادر المكان إلا وقد نال وطره ، حتى لو استحالت طرقات زغلول .. إلى زلزال بالفعل !
و يخرج ليجد زغلول فى انتظاره :" معلهشى يا أخويا .. من غير زعل .. بلاش هنا بعد كده ".
حط الأشياء على الأرض برفق ، قعد ملتقطا أنفاسا مجهدة ، فبالوقت متسع ، وحتى يلحق به الأولاد !
غاص في بئر عميقة .. حلمه يستخف به :" لن يكون في وسع بلدوزر هدم هذا المكان .. إنه عالم منسي لا يخطر على بال أحد سوى الزبالين و عربات النزح .. ولوريات النفايات .. أربعة جدران .. لن يتورم رأسك بقطع من طوب يقذفها المراهقون ، و أنت تحت البطانية .. ولن يدفعك صبية إلى مطاردتهم ، عار إلا من فانلة ولباس ، بعد أن تجرأ أحدهم ، وركب إحدى البنات النائمات بجانبك .. ولولا أنفاس كانت من حرارتها تلفح وجهك لأفلت كلب ضال .. دفعك آخر الأمر للهذيان ".
رفع حمله .. دبيب أقدام أولاده .. لهاثهم يصاعد .. ما كانت قدماه تصلان أرضا .. كان طائرا يرفرف في فضاء ممتد .. الرحلة ذهابا و إيابا لم تستغرق سوى بضع دقائق .. يدنو من المكان .. بناية مقامة على الطريق منذ ردم البحر .. ومنذ عشرين عاما وهى تعمل كمقلب لعربات النزح :" أكل البلدوزر الكشك كحوت .. لم يبق على شيء.. كادت أم الهنا تضيع تحته سعيا خلف غسالة مازلنا نقتنص أقساطها.. كانت موردنا الوحيد.. بها نكفى الأولاد، بما أجلبه من ثياب و جلاليب عمال و سريحة السوق الكبيرة .. مسحوا الشارع بكل ما كان قائما .. وجاءت عربات الرش تبول على مصائبنا .. وقعقعات الجنود تدوي خلفنا – نحن المطرودين – لا نملك غير ركائز مظلات من فل و حجارة ".
عندما أصبح أمام البناية تجمد .. ترك حمله يرتطم بالأرض.. دار فاغرا الفم .. التفت يمينا .. ويسارا .. خلفا حيث جاء .. حدد كومة مازالت آثار أصابعه بادية عليها .. يدنو من فتحة .. هاهنا كان قاعدا .. ينحنى .. بإصبعه رسم دائرة .. حط بجسده فيها .. سحب خطواته فى قوة وعصبية .. أطل من ساتر كرتوني شد عليها .. محدثا جلبة .
قابله هيكل بفانلة كشفت ماتحت السرة:" اتفضل .. أية خدمة ". وشخير مدينة بأكملها .. يصطخب مدويا لافحا وجهه المسخوط ".
التعديل الأخير تم بواسطة ربيع عقب الباب ; 05-04-08 الساعة 02:16 AM
|