كاتب الموضوع :
amedo_dolaviga
المنتدى :
ملف المستقبل
الجيل الثالث ( ملف المستقبل ) 3- اظافر
------------------------------------------------------------
بدا الدكتور "حجازي" شديد الانهماك، في مطالعة أحد مراجع الطب الشرعي القديمة، عندما دلف "نور" إلى مكتبه، وهو يقول في صوت خافت، خشية أن يزعجه:
- مساء الخير.
على الرغم من هدوء صوته وخفوته، انتفض الدكتور "حجازي" في شدة، ووثب من مقعده بحركة عنيفة، وحدَّق في "نور"، بعينين حملتا كل الرعب والارتياع، قبل أن يهتف، في صوت، حمل انفعالاً جارفاً:
- "نور"؟!
قال "نور" في دهشة:
- لم أتصوَّر أن يفزعك قدومي، إلى هذا الحد.
ظلَّ الدكتور "حجازي" يحدِّق فيه لحظة، بنفس الارتياع، قبل أن تلين ملامحه فجأة، ويحمر وجهه خجلاً، وهو يغمغم:
- معذرة يا "نور".. كنت منهمكاً في مراجعة معلومة دقيقة فحسب؛ فلم أشعر بقدومك.
غمغم "نور"، محاولاً تخفيف الموقف:
- لقد دلفت إلى هنا، في خفة أكثر مما يليق.
أغلق الدكتور "حجازي" مرجعه، وأزاحه جانباً، وهو يبتسم، قائلاً:
- لا عليك.
ثم اعتدل، وتنحنح، محاولاً استعادة رصانته التقليدية، وهو يكمل:
- ولكن لابد وأنه أمر جلل، ذلك الذي يدفعك إلى القدوم، دون موعد سابق يا "نور".
جلس "نور" على مقعد مواجه، وأجاب:
- الواقع أنه كذلك.
تراجع الدكتور "حجازي" في مقعده، وأشار إليه بيده ليبدأ حديثه، فتنحنح "نور" بدوره، قبل أن يقول:
- الواقع أنني أحتاج إلى معاونتك يا سيدي.
التقى حاجبا الدكتور "حجازي"، وقال في اهتمام يفوق العادة:
- بشأن الجثث الثلاث؟!
ارتفع حاجبا "نور" في دهشة، وهو يقول:
- هل تعلم بأمرها؟!
تراجع الدكتور "حجازي" في مقعده مرة أخرى، وأشار بيده، قائلاً:
- عالم الطب الشرعي أصغر من أن يخفي سراً.
غمغم "نور":
- حتى ولو حاولنا إخفاءه رسمياً.
هزَّ الدكتور "حجازي" كتفيه، وقلب كفه، مع ابتسامة محرجة، دون أن يجيب بحرف واحد، فأومأ "نور" برأسه متفهماً، وقال:
- هذا سيوفِّر بعض الوقت على الأقل.
ثم اعتدل في مقعده، وشدَّ قامته على نحو رسمي، دون حتى أن ينتبه إلى هذا، وهو يضيف:
- أريدك -رسمياً- أن تعيد تشريح تلك الجثث، وأن تتولى فحص كل ما يخصها، من أدلة جنائية، حتى يمكننا الحصول على تقرير وافٍ، يقودنا إلى بداية الخيط.
تردَّد الدكتور "حجازي" لحظة، وبدا متململاً على مقعده، وهو يقول:
- على الرحب والسعة يا "نور"، ولكن...
بتر عبارته، في تردُّد أكثر، فمال "نور" نحوه، يسأله في قلق واهتمام:
- ولكن ماذا؟!
تردَّد بضع لحظات أخرى، قبل أن يحسم أمره، قائلاً:
- ولكنني أعتقد أن البداية ليست في تلك الجثث الثلاث.
جذبت العبارة انتباه "نور" في شدة، فتساءل في قلق:
- فيم كانت إذن؟!
تطلَّع إليه الدكتور "حجازي" بضع لحظات في صمت، قبل أن يجيب في بطء، حمل كل توتره وانفعاله:
- في منتصف تسعينيات القرن العشرين.
انعقد حاجبا "نور" في شدة، وقد بدا له الجواب أشبه بالصدمة، فحدَّق في وجه الدكتور "حجازي" بضع لحظات، قبل أن يقول، في خفوت عصبي:
- منتصف التسعينيات؟!.. ماذا تعني؟!
لوَّح الدكتور "حجازي" بيده، قائلاً:
- أعنى أنني قد واجهت أمراً مشابهاً، في تلك الفترة، ولقد قمت بتسجيله كحدث غامض آنذاك، ولكنني لم أتوصل إلى حله أبداً، ثم توقَّفت حالات القتل، واندثر الأمر مع الزمن، وقيَّدت الشرطة الحادث ضد مجهول، وألقيت أنا الأمر كله خلف ظهري.
وصمت لحظة، ثم استدرك بصوت عصبي:
- أو أنني قد حاولت هذا.
حدَّق فيه "نور" بضع لحظات أخرى، محاولاً هضم ما سمعه على التو، خاصة وأنه قد يقلب الموقف كله رأساً على عقب، ثم تنحنح، في محاولة لطرح توتره، قبل أن يسأل الدكتور "حجازي":
- ماذا حدث بالضبط، في منتصف التسعينيات؟!..
امتعض وجه الدكتور "حجازي"، وكأن السؤال قد أجبره على استعادة ذكرى بغيضة، إلا أنه لم يلبث أن قال:
- فليكن.. سأروي لك ما حدث حينذاك.
وعلى الرغم من توتره الشديد، بدأ يروي..
وبكل التفاصيل..
* * *
كان الظلام حالكاً، في تلك البقعة الهادئة، من حي "المنتزه" في "الإسكندرية"، إلا أن "حامد"، صاحب أسطول مراكب الصيد الشهير، لم يبال بالظلام والصمت والهدوء، وهو يسير في الشارع الذي اعتاد قطعه كل ليلة، أثناء عودته من عمله، فعلى الرغم من ثرائه الشديد، وعدد السيارات الكبير الذي يملكه، فقد اعتاد العودة إلى منزله سيراً على الأقدام، في كل ليلة، لتنشيط دورته الدموية، والحفاظ على لياقته البدنية، في عصر سيطرت عليه التكنولوجيا، وأصبحت الحياة فيه رقمية، من القمة إلى القاع..
وفي هدوء شديد، وعلى الرغم من الظلام الدامس، دسَّ كفيه في جيبي سرواله، وراح يطلق من بين شفتيه صفيراً منغما، للحن قديم، من منتصف ثمانينيات القرن العشرين، وهو يهز رأسه مع اللحن، وكأنما يستمتع به، أو يستعيد معه ذكريات ذلك الزمن الجميل، الذي عاش فيه كل صباه وشبابه..
وبينما يسير في هدوء، تناهى إلى مسامعه فجأة ذلك الصوت..
صوت أشبه بصوت أقدام، تتسلَّل من خلفه..
أقدام سريعة..
خفيفة..
مرنة..
صوت أثار ريبته وقلقه، وخاصة وسط الظلام الدامس..
فتوقَّف..
توقَّف دفعة واحدة؛ ليرهف سمعه..
ومع توقفه، توقَّفت الأصوات أيضاً..
ولِما يقرب من دقيقة، ظلّ الرجل صامتاً ساكناً، يرهف سمعه بشدة..
ولكنه لم يسمع شيئاً..
أي شيء..
ومع الصمت المحيط به، بدأ، لأوَّل مرة في حياته، يشعر بالقلق والخوف، فعاود السير في سرعة، وقد اتسعت خطواته، وكأنما يحاول بلوغ نهاية الطريق، في أسرع وقت ممكن..
ولكن الأصوات عادت مرة أخرى، على نحو مختلف..
عادت أشبه بشيء ما، يتسلَّق الجدار، في خفة وسرعة..
وزاد "حامد" من سرعته أكثر..
وأكثر..
وأكثر..
وتضاعف قلقه وخوفه ألف مرة، حتى دفعاه في النهاية إلى العدو بأقصى سرعته، وكأنما تطارده الشياطين..
وبكل ذعره، سمع من يعدو خلفه، ولكن من أعلى..
شيء ما، كان يطارده فوق الأسطح، ويستهدفه على نحو ما..
وفجأة، سمع "حامد" صوتاً أشبه بمواء قط هائل، فصاح بكل الرعب:
- ماذا تريد مني؟!
ومع آخر حروف كلماته، انقض جسم ضخم عليه، فصرخ..
وفي ذلك الشارع المظلم، انبعثت أصوات مختلطة، لصرخات رعب وألم، وصوت شجار عنيف، ومواء شرس..
ثم خفَّت الأصوات، حتى صمتت تماماً، قبل أن يرتفع مواء قط ضخم، ثم يسود الصمت..
التام..
* * *
مدَّ الدكتور "حجازي" يده، يلتقط في توتر علبة صغيرة، من دولاب زجاجي، اعتاد "نور" رؤيته دوماً في مكتبه، وتصوَّر أنه يحوي ذكريات من قضايا مختلفة، واجهها كبير الأطباء في شبابه، ولكن الدكتور "حجازي" فتح العلبة، ووضعها أمام عيني "نور"، وهو يقول:
- هذا هو الدليل الوحيد، الذي عثرنا عليه آنذاك.
تطلَّع "نور" إلى الظفر داخل العلبة، وغمغم:
- ظفر بشري؟!
أومأ الدكتور "حجازي" برأسه إيجاباً، وقال:
- عظيم أنك قد عرفته، مع النظرة الأولى.. أنا أيضاً فعلت في حينها، ولكنني لم أنجح في الاستفادة منه قط.. كل ما تيقنت منه، هو أن الذي فعل هذا بالضحايا الثلاث آنذاك، كان بشريا واحدًا.. أنا أحتفظ ببصمة أسنانه، التي استخرجتها من أثر التهام لأجزاء من ضحاياه، وذلك الظفر، الذي انكسر، وهو يمزِّق قطعة من لحم ضحاياه، التصقت بعظامها، ولقد قضيت ما يقرب من العام، أتطلَّع إليه، وأنا عاجز عن معرفة أي شيء منه.
سأله "نور" في خفوت:
- ولماذا؟!..
أجابه في أسف:
- لم يكن علم الجينات بهذا التطوّر آنذاك، ولم تكن هناك وسائل لفحص الحمض النووي، أو..
قاطعه "نور" في حزم:
- ولكنها متوافرة الآن.
رفع الدكتور "حجازي" عينيه إليه في تساؤل، فأضاف بمنتهى الجزم:
- ويمكننا استخلاص العديد من النتائج، من هذا الظفر، في زمننا هذا.
سأله الدكتور "حجازي" في لهفة:
- وهل تتوقَّع؟!
قاطعه "نور" مرة أخرى:
- نعم.. هذا هو طرف الخيط لدينا.. طرف الخيط الوحيد.
نطقها بكل الحزم..
وكل الأمل.
* * *
|