كاتب الموضوع :
amedo_dolaviga
المنتدى :
ملف المستقبل
الجيل الثالث ( ملف المستقبل ) 6- وتستمر التجربة
=======================================
انهمكت ربة منزل بسيطة، في إعداد طعام الغداء لأسرتها، وبدت محنقة؛ لأنها، وعلى الرغم من كل أجهزة الطهي الحديثة، التي حرصت على أن يضمها مطبخها، مازالت تعمل حتى منتصف النهار؛ حتى تعد الطعام..
كانت واحدة من الندرة القليلة من النساء، اللاتي فضلن البقاء في المنزل، بدلاً من العمل في وظيفة ما، وإن كانت، بحكم مواهبها الفنية، ترسم عشرات اللوحات الجميلة، التي تبيعها عبر محال التحف الفنية، وتحصل منها على عائد كبير، يفوق ما يحصل عليه زوجها، من عمله في أحد البنوك الإلكترونية الكبيرة..
كانت تعمل في سرعة، وتضغط أزرار الأجهزة طوال الوقت، وذهنها منشغل بموضوع لوحتها الجديدة، و...
وفجأة، انتفض جسدها كله في عنف، مع دوي صرخة الرعب الهائلة، التي انطلقت من الشقة التي تعلوها، والتي امتزجت بصوت، هو مزيج من مواء قط، وزمجرة فهد، وفحيح أفعى، وخفقان أجنحة قوية..
وعلى الرغم من رعبها الشديد، الذي سرى في كيانها كله، جعلها الفضول تندفع نحو نافذة مطبخها؛ لتلقي نظرة على فراغ المنور، الذي انبعثت عنده تلك الصرخة، بكل ما امتزج بها..
وعندما أطلَّت من النافذة إلى أعلى، انتفض جسدها كله، في عنف أكبر ألف ألف مرة..
لقد كان ما رأته، وما اتسعت له عيناها عن آخرهما، وتجمَّدت كل قطرة دم في جسدها، مشهدا رهيبا..
رهيبا، إلى أقصى حد ممكن..
* * *
أشار "رمزي" إلى نقطة بعيدة، على خريطة "الإسكندرية"، وهو يقول، في لهجة تفيض بالاهتمام والرصانة معاً:
- لو أن خصومنا لا يتحرَّكون، وفقاً للغريزة الحيوانية، أو للمنطق البشري، فما أعتقده هو أنهم يتعمدون هذا، ويختارون ضحاياهم من أماكن مختلفة؛ بغرض تشتيت انتباهنا، وإبعاد نظرنا تماماً، عن موقع وكرهم الفعلي.
غمغم "أكرم"، وهو يقلب شفتيه:
- وكرهم؟!
تابع "رمزي"، وكأنه لم يسمعه:
- ووفقاً لهذا، فهم في أحد طرفي "الإسكندرية"، أو في عمقها، ولكن حتماً في منطقة يتوافر فيها مورد غذاء دائم.
تمتمت "نشوى":
- العالم كله مورد غذاء دائم لهم.
هزَّ رأسه نفياً، وهو يقول:
- إنهم لا يقتلون للحصول على الغذاء فحسب.. هناك حتماً سبب آخر.
سأله "نور" في اهتمام:
- مثل ماذا؟!
أجابه في سرعة:
- إثبات القوة مثلاً... إعلان وجودهم.. ترك بصمة ما... أو ربما تحديد مناطق نفوذ، على نحو يخالف ما نعرفه.
تمتم "نور":
- كلها أسباب منطقية ومحتملة.
مع آخر حروف عبارته، ارتفع رنين هاتفه الخاص، فالتقطه بسرعة كبيرة، وقال في توتر ملحوظ:
- أهناك ضحايا جدد؟!
صمت بضع لحظات، ثم أضاف:
- نحن في طريقنا.
أنهى الاتصال، ورفع عينيه إلى رفاقه، قائلاً:
- هناك ضحيتان جديدتان.. عامل شبكات، وربة منزل.
غمغمت "سلوى" في دهشة:
- أما زال هناك ربات منزل؟!
وسأله "رمزي":
- أين يا "نور"؟!.. أين؟!
أجابه في حزم:
- في منطقتي "الماكس" و"المعمورة".. ولكن ليس هذا هو المهم.. المهم أن ضحية المعمورة، لم تلقََ مصرعها..
تفجَّرت دهشة مبتهجة، في وجوههم جميعاً، وهتفت "سلوى":
- كيف؟!
أجابها "نور"، في حزم أكثر:
- ليس هذا أيضاً هو المهم.. المهم أنها رسَّامة.. أتعرفون ما يعنيه هذا؟!
وحملت وجوههم كلها الجواب..
والدهشة..
واللهفة..
بلا حدود..
* * *
هناك.. في تلك المنطقة البعيدة المنعزلة، من مدينة "الإسكندرية"، وقف عالم كهل، وسط معمل كبير، يكتظ بعدد ضخم من الأجهزة الرقمية الحديثة، وأجهزة فحص الجينات، وحجرة معزولة معقمة، تحوي سريراً طبياً واحداً، وعددا غير محدود من أجهزة توصيل السوائل الحيوية والكيماوية..
كانت التجاعيد، التي حفرت خطوطاً عميقة على وجهه، تمنحه مظهراً يفوق سنوات عمره بكثير..
وكان منهمكاً في عمل ما..
كان يخرج عينات، من جهاز زجاجي صغير، ويذيبها في مادة خاصة، ذات لون أصفر، يميل إلى الحمرة، ويقِّلبها بعصا زجاجية صغيرة في حرص، حتى يتعكَّر السائل، ويكتسب لوناً وردياً، فيسحبه بوساطة جهاز آخر، ويحقنه في زجاجات صغيرة، ثم يرصَّها في وعاء خاص، وينقلها إلى مبرِّد طبي كبير..
ظل يواصل عمله هذا، لأكثر من ساعة كاملة، دون أن يتوقَّف لحظة واحدة، حتى بدا عليه الإجهاد، فألقى جسده على مقعد معدني كبير، في ركن المعمل، وراح يلهث، وكأنه قد قطع مسافة طويلة، جرياً على الأقدام..
وبينما يُسبل جفنيه في إرهاق، التقطت أذناه صوتاً خافتاً، أشبه بخربشة أظافر، على باب معمله، ففتح جفنيه، وتطلَّع إلى الباب في تساؤل، دون أن يقوم من مكانه، ولكن الأصوات تصاعدت..
وتصاعدت..
وتصاعدت..
وامتزجت بوقع أقدام، تقترب من باب المعمل، وصوت زحف خارج نافذته..
وعلى الرغم من ذلك المزيج المخيف، لم يحرِّك العالم ساكناً، وإنما ظل جالساً، وعيناه تحملان نظرة ترقُّب، تخلو تماماً من الخوف والرعب..
وفجأة، انفتحت النافذة في عنف..
وفي اللحظة التالية، انفتح الباب بالعنف نفسه..
وفي هدوء، نقل العالم الكهل بصره، بين النافذة والباب، ورأى تلك المخلوقات الثلاثة تدلف إلى المعمل، وتتجه نحوه، فابتسم في حنان مدهش، حتى ركع الثلاثة أمامه، وأمال أحدهم رأسه تجاهه، فربت على رأسه في حنان، فمال أكثر يتمسَّح في ساقه، لتتسع ابتسامة العالم في حنان أكثر..
وأكثر..
وأكثر..
* * *
على الرغم من مرور ما يقرب من ساعة على ما أصابها، ظلَّ جسد ربة المنزل يرتجف، ولسانها عاجزا عن الكلام، وهي تقف أمام "نور" ورفاقه، وتحدِّق فيهم في رعب هائل، جعل "نور" يلتفت إلى "رمزي"، ويشير إليها، فاقترب منها "رمزي" في رفق، وجلس إلى جوارها قائلاً في هدوء:
- كل شيء انتهى يا سيِّدتي.. يمكنك الشعور بالأمان الآن.
حدَّقت فيه في رعب، وبدا أنها تبذل جهداً رهيباً؛ للسيطرة على أعصابها، قبل أن تندفع قائلة، في صوت مختنق:
- خطأ.
بدا للجميع أنهم لم يسمعوها جيداً، فمالوا نحوها، على نحو غريزي، لتهتف هي في عصبية شديدة:
- لن أشعر بالأمان أبداً.
هتافها المفاجئ، جعلهم يتراجعون بحركة حادة، فأشار إليهم "رمزي" بالهدوء والتماسك، وهو يسألها:
- ولماذا؟!
أكملت عبارتها، وكأنها لم تسمعه:
- ما دام ذلك الشيء على قيد الحياة.
وهنا سألها "نور":
- أي شيء؟!
رفعت عينيها إليه بحركة حادة، وقالت:
- الشيء البشع.
ثم راحت تلوِّح بيديها في عصبية، مستطردة:
- إنه يبدو كالبشر، في الضوء الخافت.. ولكنه ليس كذلك.. هناك تلك الـ.. الـ..
قال "نور"، محاولاً إكمال عبارتها:
- المخالب والأنياب.
هزَّت رأسها نفياً في قوة وعصبية، قبل أن تجيب:
- الأجنحة.
جاء الجواب ليصيبهم جميعاً بصدمة، فتبادلوا نظرة شديدة العصبية، قبل أن تسألها "سلوى":
- أنت فنانة كما أخبرونا.. ألم..
قاطعتها في انفعال:
- رسمته؟!.. بالتأكيد.
هبَّت من مقعدها، واندفعت نحو مكتبها، وقطعت، في عصبية شديدة، ورقة من دفتر الرسوم التحضيرية، وعادت بها إليهم، قائلة:
- ها هو ذا.
ألقى الجميع نظرة متلهِّفة على الرسم..
واتسعت العيون كلها في ذهول..
فما رسمته كان مذهلاً..
بكل معنى الكلمة..
* * *
|