كاتب الموضوع :
نور الهدى4
المنتدى :
رجل المستحيل
انياب الاسد ( رجل المستحيل ) 3- اصابع فنان
في حجرته الصغيرة، جلس "أدهم" الشاب صامتاً يفكِّر...
كل ما قاله شقيقه "أحمد" كان سليماً تماماً..
وهو محق فيه، على نحو لا يقبل الشك..
السفر من "مصر" ليس بالأمر السهل..
إنه يحتاج إلى إجراءات، وأوراق، وتفاصيل، وتحريات، وموافقات..
والأهم، أنه يحتاج إلى جواز سفر..
حتى اغتيال والده، كان يسافر كل مرة بجواز سفر دبلوماسي مؤقت، تبدأ صلاحيته مع خروجه من البلاد، وتنتهي بعودته إليها..
ولقد سلَّم جوازه إلى مكتب المخابرات، الذي استخرجه له، فور عودته من "باريس" إلى "القاهرة"، في آخر رحلة ميدانية، أرسله إليها والده، قبل أن يغتاله قتلة "الموساد" الأوغاد..
وهو لا يحمل جواز سفر الآن..
لا يحمل الوثيقة الأساسية، التي تتيح له الخروج من الحدود، حتى لو حصل على كل الموافقات الأمنية اللازمة..
وزميل والده "حسن"، لن يمنحه الموافقة على استخراج جواز سفر، ما دام يخشى أن يستخدمها في محاولة الثأر..
المشكلة إذن صعبة للغاية..
صعبة إلى أقصى حد..
بل تكاد تكون مستحيلة!.
جال الأمر في رأسه، فمال مسترخيًا على فراشه، وأغلق عينيه، وحاول أن يعيد دراسة الأمر في ذهنه مرة أخرى، في هدوء أكثر، وبعيداً عن انفعاله بما أصاب والده الراحل، وعلى ضوء مناقشته مع شقيقه..
"هناك شخصية تاريخية، لا أريدك أن تنساها يا "أدهم".. شخصية "نابليون بونابرت".. ليس لتاريخه وأفعاله، ولكن من أجل عبارة واحدة قالها، وأريدك أن تتخذها نبراساً لحياتك كلها.. عبارة قال فيها: إن قاموسه لا يحوي كلمة مستحيل.."..
تردَّدت عبارات والده الراحل في ذهنه، وهو مسترخ على فراشه، فأغلق عينيه بقوة أكبر، وأطلق العنان لتفكيره، بدون حد أقصى..
ما يريده يبدو مستحيلاً..
فقط لو نظرنا إليه، من المنظور التقليدي..
فلا أحد سيسمح له بالسفر إلى "إسرائيل"..
أو حتى بالخروج من "مصر"..
وهذا يعني أن الأمر يحتاج إلى حلول غير تقليدية..
حلول جريئة..
غير نمطية..
ومجنونة..
والمشكلة هنا تنقسم إلى قسمين كبيرين للغاية، وكلاهما أكثر صعوبة وخطورة من الآخر..
الخروج من "مصر"..
ودخول "إسرائيل"..
وإذا ما نجح في هذا وذاك، فهناك المشكلة الأعظم..
"إسرائيل" نفسها..
ومن أول وهلة، تبدو العملية كلها كمعضلة كبيرة، وكأمر رهيب، وقمة لا يمكن بلوغها أبداً، حتى ولو تم حُشِد جيشٌ كامل من أجلها..
وعلى الرغم من هذا، فهو يفكِّر في إنجازها وحده..
بخبرته المحدودة..
وسنوات عمره القليلة..
وتلك النيران المستعرة في أعماقه..
نيران الثأر..
ولهيب الانتقام..
فهل هذا يكفي؟!..
هل تكفي إرادته وحدها، لمواجهة دولة كاملة، بعدتها، وعتادها، وأمنها، وجيوشها، وحلفائها؟!..
هل؟!..
الجواب المنطقي هو لا..
لا يمكن أن ينجح وحده في هذا..
من المستحيل أن ينجح!..
من المستحيل تماماً!..
عند هذه النقطة، فتح "أدهم" عينيه، واعتدل جالساً على طرف فراشه، في حركة مرنة سريعة، وتألَّقت عيناه ببرق عجيب، وهو يغمغم، بمنتهى منتهى الحزم والإصرار:
- لقد قالها "نابليون" قديماً.. لا وجود لكلمة مستحيل!
لثانية واحدة، بعد أن قالها، ظلَّ جالساً على طرف فراشه، ثم هبَّ واقفاً بحركة قوية، والتقط سمَّاعة الهاتف، المجاور لفراشه، وطلب رقماً خاصاً، يحفظه عن ظهر قلب، وانتظر حتى سمع صوت محدِّثه، على الطرف الآخر، وهو يقول في تراخ:
- من المتحدِّث؟!
أجابه "أدهم" في حزم:
- أنا "أدهم".. "أدهم صبري".
بدا وكأن كل التراخي قد زال من صوت محدِّثه، وهو يقول في حماس:
- أهلاً يا "أدهم".. يؤلمني جداً ما حدث لوالدك.. لقد كنت في الجنازة هذا الصباح، وصافحت شقيقك، ولكنك كنت منشغلاً مع...
قاطعه "أدهم" في حزم:
- "قدري".. أنا أحتاج إليك..
ولم يجب "قدري" على الفور، ولكن كل ذرة في كيانه ارتجفت..
ارتجفت بمنتهى القوة..
* * *
"لا أستطيع أن أفهم وجهة نظرك.."..
نطقها مدير "الموساد" في عصبية شديدة، وهو يواجه "جراهام"، الذي ظلَّ هادئاً متماسكاً، وهو يقول:
- على الرغم من أنها بسيطة ومباشرة للغاية؟!
لوَّح مدير "الموساد" بيده، وقال في حدة:
- اعتبرني غبياً.
أراد "جراهام" أن يقول: إنه يراه كذلك بالفعل، إلا أنه لم يَقُلها، ولم يقل حتى ما يمكن أن يشير إليها، وهو يشير بيده، قائلاً:
- عفواً، ولكن وجهة نظري أن المساءلة الرسمية تعني أوراقاً، وسجلات، وتحقيقات، وعشرات الأوراق، التي يمكن أن تتسرَّب يوماً، فنكشف ما نحاول إخفاءه بشدة.
قال المدير في صرامة:
- القانون هنا يحتم كشف الوثائق، بعد ثلاثين عاماً.
أشار "جراهام" بسبَّابته، قائلاً:
- هذا لو أنه هناك وثائق.
تراجع المدير في مقعده، وداعب ذقنه بسبَّابته وإبهامه، وهو يتطلَّع إلى "جراهام" في عصبية، قبل أن يعتدل بحركة حادة، قائلاً:
- هل تطلب مني إخفاء حقائق رسمية يا "جراهام"؟!
هزَّ "جراهام" رأسه نفياً في بطء، قبل أن يجيب في حزم:
- بل أطالبك بألاّ تمنح المصريين فرصة للتفوق علينا، ولو في مجال الإعلام.
عقد مدير "الموساد" حاجبيه؛ عندما سمع تلك الكلمة السحرية، التي تثير وتستفز أي مسئول إسرائيلي، حتى يومنا هذا، وقال في عصبية، ولَّدها انفعاله:
- لا يمكنني أن أعفيك من المساءلة الرسمية.
مطَّ "جراهام" شفتيه، وكأنما لا يروقه هذا القول، فاستدرك المدير في سرعة وتوتر:
- إلا إذا..
التقط "جراهام" الجملة، قبل أن تكتمل وتساءل في لهفة:
- إلا إذا ماذا؟!
تطلَّع المدير إلى عينيه مباشرة في صمت، استغرق بضع لحظات، قبل أن يجيب، في صرامة شديدة:
- إلا إذا اقتنع رئيس الوزراء بوجهة نظرك..
تألَّقت عينا "جراهام"، عندما سمع هذا، وقال في لهفة:
- هل يمكنك أن تعرض عليه مشروعي أيضاً؟!
ردَّد المدير في حذر:
- مشروعك؟!
مال "جراهام" نحوه، وتألَّقت عيناه أكثر، وهو يقول:
- مشروع قسم الاغتيالات.
عاد حاجبا المدير يلتقيان في شدة، ونهض من خلف مكتبه في بطء، وعقد كفيه خلف ظهره، وهو يتجه إلى نافذة حجرته، التي وقف عندها صامتاً بضع لحظات، قبل أن يلتفت إلى "جراهام" في توتر، ويتطلَّع إليه بنفس الصمت الصارم، الذي دفع هذا الأخير، إلى أن يقول في عمق، وكأنه شيطان، يبث سمومه في نفس بشرية:
- كل أجهزة المخابرات القوية، عندها قسم مثله.. المخابرات الأمريكية، والسوفيتية.. وحتى البريطانية؛ لتنفيذ ما يطلق عليه اسم العمليات القذرة، التي لا ينبغي إعلانها، أو حتى الاعتراف بها، ولكنها تزيح عقبات بالغة الخطورة، تهدِّد الأمن القومي، وتحذف كماً هائلاً من المشكلات، التي يمكن أن تنشأ بسببها.
التقى حاجبا المدير، في شدة أكثر، وهو يستمع إليه في صمت، شجَّعه على أن يواصل، متظاهراً بالحماس:
- قسم الاغتيالات هذا، قد يوقف تلك العمليات الانتحارية العنيفة، التي يقوم بها المخربون العرب، الذين يطلقون على أنفسهم لقب الفدائيين؛ فلو اغتلنا قياداتهم، سنكسر شوكتهم، ونربك صفوفهم، ونضيع عليهم وقتاً طويلاً، في إعادة تنظيم صفوفهم، وقبل أن يفعلوا، نكون قد اغتلنا من تم ترشيحه، فنربكهم أكثر، وهكذا.. الأهم أننا نستطيع أيضاً أن ندس عيوننا بين صفوفهم، ونوحي إليهم عبرهم، أن خصومهم هم من نفذوا ذلك الاغتيال، ثم نجلس ونستمتع بمراقبتهم، وهم يقاتلون بعضهم البعض، فينشغلوا عنّا تماماً..
بدت الفكرة شديدة الأناقة، بالنسبة لمدير "الموساد"، ويمكنها، على هذا النحو الأخير، أن تقنع رئيس الوزراء، بإنشاء ذلك القسم الجديد، و..
وفجأة، برزت في ذهنه فكرة..
فكرة، فجَّرت في نفسه انفعالاً قوياً..
فكرة مثيرة ومدهشة..
للغاية.
***
__________________
|