كاتب الموضوع :
نور الهدى4
المنتدى :
رجل المستحيل
26- غليان..
(ما تقوله مستحيل يا سيد "حسن"!!..)
هتف الملحق العسكري بالعبارة في عصبية شديدة، تجاهلها "حسن" تماماً وهو يدس مسدسه في حزامه، ويندفع نحو الباب قائلاً بكل الحزم:
- لن أسمح لهم بإرساله إلى هناك.. أبداً.
لحق به الملحق العسكري، وهو يهتف:
- ولكن ما ستقدم عليه يعدّ منتهى الحماقة.. في ظروف كهذه من سيسمح لك بهذا؟
أجابه "حسن" في إصرار:
- لا أحد.. ولن يمنعني هذا من تنفيذه.
توقف الملحق العسكري، هاتفاً في يأس:
- قد يعرّضك هذا للفصل من الخدمة.
توقَّف "حسن" بدوره، والتفت إليه، وكأنما صدمه القول..
وفي ذهنه تداعت عدة صور وأسماء..
وتوقَّفت أفكاره عند صورة واحدة..
"صبري"..
توقف عندها كثيراً..
وطويلاً..
وحزيناً..
ثم امتزجت صورة "صبري" بصورة "أدهم"، وتردَّد في ذهنه صوت صديق عمره..
(لو لم يمهلني القدر، ستكمل أنت مسيرتي بإذن الله يا "حسن".. عامل "أدهم" كما لو كان ابنك، وامنحه كل رعايتك وحبك واهتمامك، وأكمل التجربة.. أكملها كما لو أنها تجربتك أنت.. أكملها يا "حسن".. من أجل "أدهم".. ومن أجلي..)..
فاضت عيناه بالدموع عند هذه النقطة، وغمغم في حزم متأثر:
- من أجلك يا "صبري".. إنني أفعلها من أجلك.
واندفع نحو سيارة السفارة، وقفز فيها، وأدار محركها، فردَّد الملحق العسكري في استسلام:
- سيفصلونك.
ألقى عليه "حسن" نظرة واحدة، تفيض بالحزم والتحدي..
ثم انطلق بالسيارة..
انطلق ليقدم على ما اعتزمه..
من أجل صديق عمره..
من أجل "صبري"..
تألَّقت عينا "جراهام"، كما لم تتألقا من قبل، وارتسمت وحشية مخيفة على ملامحه وهو يتطلَّع إلى "أدهم"، الذي بدا شديد التهالك على نحو لم يمرّ به من قبل، في حين غمغم الطبيب الإسرائيلي في عصبية:
- خطأ يا أدون "جراهام".. خطأ.. عقله لن يحتمل كل هذا.. ربما يصاب بحالة من الذهان، أو بفقدان ذاكرة، يضيع معه كل ما ترغب في الحصول عليه منه.
قال "جراهام" في صرامة:
- فليذهب عقله إلى الجحيم.. المهم أن أحصل منه على ما أنشده.
قال الطبيب في حدة:
- فليكن يا أدون "جراهام".. افعل ما يحلو لك، ولكنني سأتقدم بشكوى رسمية، وسيتضمن تقريري كل ما حدث هنا، وكل ما نصحتك به، وإذا ما فشلت فسوف..
قاطعه "جراهام" في شراسة:
- اصمت.
ثم هبَّ من مقعده، واندفع نحوه، ودفعه في قسوة، حتى التصق بالجدار، ومال يصرخ في وجهه:
- "دافيد جراهام" لا يفشل أبداً.. لم يفشل، ولن يفشل.. هل فهمت أيها المدني المتحذلق؟!
شحب وجه الطبيب، وهو يحدِّق في وجهه قبل أن يقول متلعثماً:
- إنه رأي طبي محض.
زمجر "جراهام"، قائلاً:
- احتفظ به إذن خلف أسنانك لو أردت الاحتفاظ بها سليمة..
شحب وجه الطبيب أكثر، واتسعت عيناه غير مصدق ما سمعته أذناه، وحدَّق في وجه "جراهام" في ارتياع، وارتجفت شفتاه، وهو يهمُّ بقول شيء ما، لولا أن اندفع مسئول الأمن الإسرائيلي إلى المكان، هاتفاً:
- عرفنا من هو.
التفت "جراهام" إلى "جونسون" بحركة حادة، فأكمل هذا الأخير، وهو يشير إلى "أدهم" المقيَّد إلى ذلك المقعد المعدني، والذي بدا أشبه بالصريع، من ملامحه الشديدة الشحوب، وخيط الدم الذي يسيل من بين شفتيه:
- "أدهم" هو اسمه الحقيقي، وهو ليس شخصاً مجهولاً أو مجرَّد مغامر شاب كما تصوَّرنا.. إنه ابنه.
ارتجف صوت "جراهام"، من فرط انفعاله يسأل:
- ابن من؟!
صاح "جونسون" في توتر شديد:
- "صبري".. رجل المخابرات، الذي تمّت تصفيته في "لندن".
تفجَّرت نيران بركانية من عيني "جراهام"، وهو يقول بمنتهى الشراسة والعنف:
- ابنه؟!
انتقلت نظراته إلى "أدهم"، ثم اندفع نحوه، وجذبه من شعره، هاتفاً:
- لماذا أتيت إذن؟!.. للانتقام؟!
غمغم الطبيب في عصبية:
- لا يمكنه إجابتك.. إنه فاقد الوعي.
وضغط على أسنانه، مضيفاً في حنق:
- بسبب ما فعلته به.
استدار إليه "جراهام"، وبدا وكأنه قد فقد تماماً سيطرته على أعصابه، وهو يصرخ:
- قلت اصمت.
ثم عاد يجذب شعر "أدهم" في عنف، صارخاً:
- لا بد وأن يجيب.. لا بد.
لم يكن "أدهم" فاقد الوعي فعلياً في تلك اللحظة، على الرغم من أن مخه يكاد يذوب بالفعل داخل جمجمته..
لقد سمع كل ما دار حوله، وإن وجد صعوبة شديدة في تركيز أفكاره وتصفية ذهنه..
إنهم يتحدَّثون عنه..
وعن والده..
وعن اغتياله في لندن..
هذا يعني أنهم عرفوه..
وكشفوه..
وأصبح في قبضتهم..
والده كان على حق إذن..
من الخطأ أن ينطلق الشبل للصيد قبل اكتمال نموه..
وقبل أن تبرز أنيابه..
لا بد وأن ينتظر، وأن يتعلم الصبر، حتى ولو استغرق الأمر منه سنوات وسنوات وسنوات..
المهم أن ينطلق في الوقت المناسب..
وأن يربح معركته..
معركة أسد ناضج، وقوي..
أسد له أنياب قوية، بارزة، حادة، قادرة على صيد فرائسه، وتمزيقها بلا هوادة..
وبلا رحمة..
بذل جهداً رهيباً ليصفي لمحة من ذهنه؛ حتى يمكنه السيطرة على تفكيره، وإيجاد وسيلة للخروج من هذا المأزق..
إنه مقيد إلى مقعد معدني ثقيل، داخل قبو رطب، في وجود ثلاثة إسرائيليين، أحدهما مستعد لتمزيقه إرباً؛ ليحصل منه على كل المعلومات الممكنة..
فكيف يمكنه مواجهة كل هذا؟!..
كيف؟!
كيف؟!
لم يشعر في حياته كلها بمثل هذا التهالك..
لم يمر قط بحالة مماثلة، عجز فيها عقله عن التفكير..
ربما يعني هذا أنه قد خسر اللعبة..
وفشل في أوَّل محاولة صيد منفردة..
"هيا.. هات ما لديك.."..
صرخ "جراهام" بالعبارة في وجهه، بكل غضب وشراسة الدنيا، وقد بلغ انفعاله مداه، و...
وفجأة، وعلى الرغم من تهالكه، وبحركة غريزية بحتة، تحرَّك "أدهم"..
على الرغم من ذوبان مخه داخل جمجمته، تحرَّك جسده في عنف، وركل "جراهام" بكل ما تبقى له من قوة ركلة مفاجئة دفعته إلى الخلف، ليسقط أرضاً، وهو يطلق سباباً عبرياً، يجمع ما بين الألم والدهشة والاستنكار..
ومع شهقة الذعر التي انطلقت من حلق الطبيب تحرَّك "جونسون" في سرعة، وسحب مسدسه، وهو يهتف:
- أيها الـ...
ولكن "أدهم" قاطعه بحركة عجيبة بدت للطبيب المذعور صورة مجسمة لمعجزة بشرية، لم يتصوَّر أبداً مجرَّد احتمال حدوثها..
فعلى الرغم من ثقل المقعد المعدني نهض "أدهم" على قدميه، ورفعه معه، ثم اندفع به نحو "جونسون"، الذي تراجع صارخاً:
- لا.. توقَّف.
وبكل القوة والعنف، ضربه "أدهم" بظهر المقعد المعدني، ودفعه أمامه، وهو يعدو إلى الخلف، حتى ضربه بالجدار بكل القوة والقسوة، فانطلقت من حلق "جونسون" صرخة ألم، وأغلق عينيه بشدة، في نفس اللحظة التي نهض فيها "جراهام"، وهو يمسك صدره بيسراه، ويسحب مسدسه بيمناه، صارخاً:
- فليكن يا ابن "صبري".. أنت أردتها.
وفي مبنى السفارة الإسرائيلية في "باريس" دوّت رصاصة..
قاتلة..
* * *
|