كاتب الموضوع :
نور الهدى4
المنتدى :
رجل المستحيل
الجزء الجديد من (أنياب الأسد)
24- في قبضتهم..
على الرغم من أن رجال المخابرات، في كافة أنحاء العالم يمتلكون قدرة مدهشة على كبح جماح أنفسهم والسيطرة على مشاعرهم، وكتمان انفعالاتهم، إلا أن "حسن" رجل المخابرات المخضرم لم يستطع منع ذلك الشحوب الذي كسا وجهه وصوته، وهو يحدِّق في وجه مسئول أمن المطار الفرنسي، قائلاً:
- سيارة السفارة الإسرائيلية؟!... هل تركتموهم يرحلون به.. هكذا بكل بساطة؟!
قال مسئول الأمن في عصبية:
- كانوا يحملون جوازات سفر دبلوماسية، و...
قاطعه "حسن" في حدة:
- وماذا عنه؟!.. أي جواز سفر كان يحمل.
امتقع وجه مسئول الأمن، وهو يقول:
- لست أدري في الواقع.
كاد "حسن" ينقض عليه من فرط غضبه، وهو يهتف:
- لست تدري، وعلى الرغم من هذا، فقد تركتهم يحملونه خارج المطار تحت سمعك وبصرك.. بل تحت سمع وبصر طاقم أمنك كله.
غمغم الرجل، في ارتباك شديد:
- جوازاتهم دبلوماسية.
كان "حسن" يهم بالانفجار في وجهه بثورة، عندما وصل الملحق العسكري للسفارة المصرية، وهو يقول في توتر:
- إنه هو.. ضابط الجوازات تعرَّفه باسم "روبرت كال" البريطاني الجنسية.
أمسك "حسن" طرف مكتب مسئول الأمن الفرنسي، حتى لا يسقط من فرط الدوار الانفعالي الذي يشعر به، وراح يردِّد في مرارة شديدة:
- إنه هو.. لقد ظفروا به.. هذا ما كنت أخشاه.. لقد ظفروا به.. إنه الآن في قبضتهم.
شعر مسئول الأمن لحظات بتوتر شديد، وبدا له أنه قد ارتكب أكبر حماقة في حياته كلها، وراح ذهنه يفتش مذعورًا عن أي تفسير، يمكن أن يعفيه من المسئولية؛ لثقته في أن جوازات السفر الدبلوماسية للإسرائيليين لم تكن لتعفيهم من مواجهة القانون في فعلة مباشرة كهذه، ثم لم يلبث أن انتبه إلى نقطة، جعلته يهتف:
- مهلاً.. ما شأن المصريين بما حدث.. إنها مشكلة بين الإسرائيليين وبريطاني.
ارتفع صوت صارم يقول:
- هذا لا يعفيك من المسئولية.
ظهر المفتش "آلان" مع مساعده "بيير"، وأبرز بطاقته أمام المسئول مستطردًا:
- وستتم محاسبتك على هذا فيما بعد.
بلغ امتقاع وجه مسئول الأمن ذروته، وانكمش في مقعده على نحو يدعو للرثاء، في حين التفت المفتش "آلان" إلى "حسن" والملحق العسكري، مواصلاً بنفس الصرامة:
- ولكن دعاني أطرح عليكما السؤال نفسه.. ما شأنكم كمصريين بما حدث.
تبادل "حسن" والملحق العسكري نظرة صامتة، دون أن ينبس أحدهما ببنت شفة، فأشعل المفتش الفرنسي سيجارة قصيرة، وقال، وهو يقودهما بعيدًا عن مكتب الأمن:
- فليكن.. سأجيبكما أنا، ما دمتما تعجزان عن الجواب.. الواقع أن الأمر يرجع إلى أن "روبرت كال" هذا ليس بريطانيًا.
ظلت ملامحهما جامدة لا تحمل أية انفعالات يمكن أن يستشف منها شيئًا، فبدت عليه العصبية، وهو ينفث دخان سيجارته القصيرة قبل أن يقول:
- إنه إما مصري يعمل لحسابكم، أو إسرائيلي يتعاون معكم، فأي التفسيرين صحيح؟!.
صمت الرجلان لحظات، ثم قال الملحق العسكري في برود:
- إنه صغير السن كما تقول التقارير.
لوَّح المفتش بيده، قائلاً:
- وهذا يشير إلى أنه لا يعمل لحسابكم؛ فلم نر أجهزة دبلوماسية أو أمنية من قبل، تتعاون مع من في مثل عمره.
قال "حسن" في صرامة، أخفى بها توتره:
- إذن؟!
أشار المفتش بسبَّابته، قائلاً في حزم:
- إذن فهو إسرائيلي يتعاون معكم، ولكن ترتيب الأحداث يوحي بأن هذا مستحيل.
سأله "حسن" في حذر:
- لصغر سنه.
أجابه مساعده "بيير" في سرعة:
- كلا، ولكن لأنه كان يحاول الحصول على تأشيرة دخول إلى "إسرائيل"، بجواز سفر فرنسي.
سأله "حسن" بنفس السرعة:
- أأنت واثق من أنه الشخص نفسه؟!
عند هذا السؤال ارتبك الفرنسي بحق، على الرغم من محاولته التظاهر بالتماسك، وهو يقول:
- أعتقد أنه.. أنه كذلك.
غمغم الملحق العسكري في صرامة:
- تعتقد؟!
ارتبك المفتش أكثر، ثم قال في حدة:
- فليكن.. ربما هو ليس الشخص نفسه، فمواصفاته تختلف إلى حد ما، ولكن هذا يبقينا داخل السؤال الأوَّل ذاته.. ما شأن المصريين بالأمر.
اندفع "حسن" يقول في صرامة:
- إنه يعمل معنا.
سأله المفتش في سرعة:
- بصفة رسمية؟!
لم يجب "حسن" السؤال، فتراجع المفتش، وهو يتطلَّع إلى عينيه مباشرة، قائلاً:
- إنه هو.
قال الملحق العسكري في صرامة:
- لا يمكنك الجزم.
أومأ المفتش برأسه، قائلاً:
- بالتأكيد.
ثم استعاد صوته الصارم، وهو يكمل:
- ولكنني سأتولى التحقيق الرسمي في الأمر، وسنبدأ طبعًا بالبحث عن أية معلومات عن "روبرت كال".. تاريخ دخوله، وفترة زيارته.. أين أقام، وماذا فعل.. ولو أننا لم نعثر على تلك المعلومات، فسيعني هذا أنه -رسميًا- لم يصل إلى "باريس" أبدًا، وهذا يعني بالتالي أنه لم يختفِ، ولم يختطف، باختصار.. إنه يغلق الملف تمامًا.
ومال نحو "حسن" مضيفًا بشيء من الشماتة:
- ولن يبحث عنه أحد قط.
سيطر "حسن" على ملامحه بأسلوب يليق برجل مخابرات مخضرم محترف، فتراجع المفتش الفرنسي مرة أخرى، وقال في صرامة غاضبة:
- والآن، ومع احترامي لجوازيكما الدبلوماسيين، تفضلا بمغادرة المكان، فهو مسرح جريمة، لا يصح العبث به، أو تواجد من لا شأن لهم فيه.. تفضلا.
رمقه "حسن" بنظرة نارية، وقال:
- سنلتقي مرة أخرى.
أجابه المفتش في صرامة:
- هذا ما أرجوه.
انصرف الرجلان من المكان، واتجها نحو مخرج المطار، والملحق العسكري يتساءل في توتر:
- ماذا سنفعل الآن؟!. الفتى أصبح في قبضتهم بالفعل!.
أجابه "حسن" وهو يحاول التماسك:
- نسيطر على أعصابنا، ونفكِّر في عمق ورويّة، حتى نجد وسيلة لإنقاذه.
نطقها وهو يعلم أنه أول من يعجز عنها..
إنهما يتحدَّثان عن "أدهم"..
"أدهم" ابن صديق عمره، والفتى الذي شارك في تربيته منذ طفولته، والذي اعتبره ابنه بعد وفاة "صبري"..
وهنا تكمن المشكلة..
ربما لو أن الأمر يتعلق بسواه، لأصبحت مجرد مهمة، يمكن أن يقوم بها على أكمل وجه..
ولكنه الآن يشعر بضعف شديد..
يشعر بتخاذل، ربما يجعله غير قادر على اتخاذ القرار السليم..
وربما من الأفضل أن يسند العملية كلها لشخص آخر..
شخص لا يعرف "أدهم"، ولا يشعر نحوه بأية عاطفة..
ولكن الوقت لن يكفي لهذا..
لن يكفي أبدًا..
للأسف..
"المهم أن نفعل شيئًا، قبل أن يرسلوه في حقيبة دبلوماسية إلى هناك.."..
نطقها الملحق العسكري في توتر شديد، وعلى الرغم من أن "حسن" قد استنتج الجواب المنطقي بالفعل، فقد سأل الملحق العسكري في صوت مضطرب:
- إلى أين؟!
وأتاه الجواب كالصاعقة:
- إلى "إسرائيل"!
وانتفض جسد "حسن"..
بمنتهى العنف.
* * *
|