كاتب الموضوع :
نور الهدى4
المنتدى :
رجل المستحيل
الجزء الجديد من (أنياب الأسد)
21- شاب.. وشاب..
على الرغم من التهامه شطيرة ضخمة في شراهة واضحة، بدا "قدري" شارداً تماماً، وهو يسير إلى جوار نيل "مصر"، وذهنه كله يفكِّر في أمر واحد..
"أدهم"..
لم يكن يدري، هل قام بالتصُّرف السليم، عندما أخفى عن رجال المخابرات كل ما فعله من أجله؟!
أيهما أكثر أهمية.. أن يثق في صديقه، أم أن يسعى لإنقاذه؟!..
أيهما؟!..
لم يكن ذهنه قادراً على اتخاذ قرار حاسم في هذا الشأن، مما جعل عقله شارداً تماماً، وهو يعبر الطريق، و...
فجأة.. ارتفع صرير إطارات مسرعة، قبل أن يشعر بصدمة في جانبه الأيسر، ألقت جسده المكتظ أرضاً في عنف..
لم تكن الصدمة قادرة على اختراق طبقة الدهن المحيطة بجسده، إلا أنه ظلَّ مستلقياً على الأرض، مفتوح العينين، وكأنه لقي مصرعه، حتى عندما اندفع قائد السيارة التي صدمته إليه، وهو يهتف مذعوراً:
- يا إلهي!.. هل.... هل....
غمغم "قدري" في هدوء لا يتناسب قط مع الموقف:
- أنا بخير.
انحنى قائد السيارة يفحصه في اهتمام، وهو يقول في توتر:
- اطمئن.. أنا طبيب.. سأقوم بكل ما يلزم من أجلك.. اطمئن.
كرَّر "قدري"، وهو يحاول النهوض:
- أنا بخير.
برزت زوجة قائد السيارة مذعورة، وهي تحمل طفلتها الصغيرة، متسائلة في هلع:
- "توفيق".. هل.... هل....
أجابها زوجها في توتر:
- إنه بخير.
كان "قدري" يحاول النهوض، ولكن جسده الضخم منعه من هذا، فتعاون المحيطون به على إيقافه، وما إن وقف على قدميه حتى فحصه الطبيب بعينيه في سرعة، وغمغم في شيء من الارتياح:
- أنت تقف على قدميك.. هذه علامة جيدة.
حاول "قدري" أن يبتسم، وهو يقول:
- اطمئن يا دكتور.. أنا بخير.
تنفس الرجل الصعداء، وكذلك فعلت زوجته، وابتسمت، وربما لأوَّل مرة منذ وقع الحادث، فبادلها "قدري" ابتسامة ودود، وتطلَّع إلى الطفلة التي تحملها وهو يسأل الطبيب:
- ابنتك؟!
أجابه الرجل بابتسامة حانية:
- ابنتنا الوحيدة "منى".. أنجبناها بعد عشر سنوات زواج.
ابتسم "قدري" للطفلة، ولكنها دفنت وجهها في صدر أمها خجلاً، فقال الطبيب وهو يعود مع "قدري" إلى سيارته:
- لا عليك.. إنها طفلة وحيدة، ونادراً ما تلتقي بغرباء.
تمتم "قدري":
- لا بأس.
اتجه نحو الزوجة، وصافحها قائلاً:
- لا تنزعجي يا سيدتي.. أنا بخير.
تنهَّدت قائلة:
- حمداً لله.
التفتت إليه الصغيرة، وتطلَّعت إلى عينيه لحظة، فابتسم لها في حنان، فمالت نحوه، ومدَّت يدها الصغيرة تتحسَّس وجهه المكتظ، ثم أطلقت ضحكة طفولية صافية، وأخفت وجهها مرة أخرى في صدر أمها، التي هتفت في دهشة:
- رباه!.. إنها أوَّل مرة تفعل فيها هذا مع غريب.
ابتسم الطبيب في حنان، وقال:
- لقد أحبَّتْك.
غمغم "قدري"، في تأثُّر شديد:
- أو ربما شعرت أنني لست غريباً.
لم يدر وهو ينطقها أن هذا اللقاء سيمثل ذكرى كبيرة له في المستقبل.. وأن تلك الصغيرة ستصبح واحدة من أقرب نساء الأرض إليه..
وسيرتبط مصيرها بمصيره.
كثيراً.
وطويلاً..
لم يشعر بهذا وهو يصافح والدها الدكتور "توفيق" قائلاً:
- ربما لن يتناسب الحديث مع الموقف، ولكنني سعيد جداً بمقابلتكم جميعاً يا دكتور.
غمغم الطبيب مبتسماً:
- صدقني عندما أقول: وأنا أيضاً.
تصافحا، وعاد الطبيب وزوجته إلى سيارتهما، وانصرف المارّة الملتفّون حولهم، ولوَّح "قدري" بيده لـ "منى" الصغيرة، التي أطلقت ضحكة صافية أخرى، ثم لوَّحت له بيدها لدقيقة، قبل أن ينطلق والدها بالسيارة مبتعداً..
وفور ابتعادها استدار "قدري" ليواصل طريقه، ولكنه شعر بيد قوية تمسك ذراعه، وسمع رجلاً يقول:
- حمداً لله على سلامتك يا سيد "قدري".
التفت إليه "قدري" في دهشة متوترة قائلاً:
- هل تعرفني؟!
أجابه في شيء من الصرامة:
- الجميع عندنا يعرفونك.. وينتظرونك.
قال "قدري" في دهشة مذعورة:
- الجميع؟!
جذبه الرجل في صرامة واضحة قائلاً:
- قلت: إنهم ينتظرونك.
في نفس اللحظة التي نطق فيها العبارة، توقَّفت سيارة كبيرة إلى جوارهما، ودفع الرجل "قدري" إليها، وهو يضيف:
- وهم لا يحبّون الانتظار طويلاً.
وانطلقت بهما السيارة..
إليهم..
* * *
انعقد حاجبا المفتش الفرنسي "آلان" في توتر، وهو يراجع إفادة "روجيه" بشأن الشاب، في نفس اللحظة التي دخل فيها مساعده "بيير" إليه قائلاً:
- مسئول من السفارة الإسرائيلية يطلب مقابلتك يا سيدي.
بدا الضيق على وجه "آلان"، وهو يقول:
- وماذا يريد مني مسئول السفارة الإسرائيلية؟!
أشار "بيير" بيده مجيباً:
- لقد أتى بشأن ذلك الشاب الذي ألقينا القبض عليه.
مطَّ "آلان" شفتيه، وقال في حنق:
- وما شأنهم به؟!
فتح "بيير" شفتيه ليجيب، ولكن "آلان" قاطعه قائلاً:
- لا بأس على أية حال.. دعه يدخل.
تراجع "بيير" على الفور، ومضت لحظة من الصمت والسكون قبل أن يدخل "جراهام"، قائلاً بفرنسية سليمة:
- مساء الخير أيها المفتش.
تطلَّع إليه "آلان" في اهتمام، وقال:
- تتحدَّث الفرنسية بإتقان مدهش أيها الإسرائيلي.
جلس "جراهام" أمامه دون أن يدعوه لهذا، وقال:
- هكذا الدبلوماسيون في كل دولة.
تنهَّد "آلان" بنفاد صبر، وتراجع في مقعده، وهو يسأله:
- عظيم.. وماذا يريد منا دبلوماسي إسرائيلي؟!
قال "جراهام" في حزم:
- ذلك الشاب الذي ألقيتم القبض عليه.
سأله "آلان" في برود:
- ماذا عنه؟!
أجابه في صرامة:
- أنت تعلم أنه أساء إلى سفارتنا.
تراجع "آلان" في مقعده قائلاً:
- مطلقاً.
انعقد حاجبا "جراهام"، وهو يقول:
- لسنا هنا لمناقشة وجهات النظر، أو..
قاطعه "آلان" في صرامة، وهو يلتقط صورة من أمامه، ويضعها أمام "جراهام" بحركة حادة:
- لا شأن للآراء الشخصية هنا.
حدَّق "جراهام" في الصورة، وقال في توتر:
- من هذا؟!
أشار "آلان" إلى الصورة قائلاً:
- الشاب الذي ألقينا القبض عليه، وهو ليس من أثارَ تلك الضجة أمام سفارتكم كما ترى.
ردَّد "جراهام" في عصبية:
- ولكن..
قاطعه "آلان" قبل أن يكمل:
- مواصفاته الجسدية خدعتنا، ولكنه لم يكن هو... لقد خدعنا جميعاً بأسلوب محترف.
وانعقد حاجبا "جراهام" في شدة...
ما زال ذلك الشاب يجيد اللعبة، على نحو مدهش..
ولكن أين هو؟!..
أين؟!.
* * *
|