كاتب الموضوع :
نور الهدى4
المنتدى :
رجل المستحيل
الجزء الجديد من العدد الخاص أنياب الاسد
16– أسير خاص..
"لا.."
نطق "قدري" العبارة بمنتهى القوة والحزم، فاحتقن وجه "حسن" في شدة، وهو يهتف به في عصبية، لا تليق برجل مخابرات:
- ماذا تعني بهذه الـ "لا"؟!
أجابه "قدري" في حزم أكثر:
- أعني "لا".. بكل بساطتها ووضوحها.. لا.. لا.. لا.. لن أحنث بقسمي لصديقي "أدهم" قط مهما فعلتم، ومهما كان الثمن.
احتقن وجه "حسن" وهو يهتف به:
- حتى ولو كانت حياته هي الثمن.
صمت "قدري" لحظة احتقن خلالها وجهه المكتظ قبل أن يجيب:
- ما من مخلوق في الدنيا كلها يمكن أن يؤثِّر بقدر أنملة في حياة أو موت مخلوق آخر.. الأعمار بيد الله -سبحانه وتعالى- وحده، ولقد حدَّد موعد موتنا قبل حتى أن نولد.
قال "حسن" في حدة:
- هذه الفلسفة لن تنقذ حياته لو قرَّر الإسرائيليون التخلُّص منه.
قال "قدري" في حدة مماثلة:
- وماذا عنكم؟!
بُهِت "حسن" للسؤال، فتساءل في عصبية:
- ماذا تعني؟!
أجابه "قدري" بنفس الحيرة:
- أعنيكم أنتم يا رجال المخابرات.. أنتم تخاطرون بأرواحكم طوال الوقت، ولا تطرحون على أنفسكم قط هذا السؤال.. لا تفكرون لحظة في حياتكم أو موتكم، فلماذا تحرمون "أدهم" من هذا؟
صاح به "حسن":
- نحن نقاتل ونضحي في سبيل ما نؤمن به.
هتف "قدري":
- وهذا ما يفعله هو.
مرة أخرى بُهِت "حسن" للقول، وحدَّق في وجه "قدري" الذي انخفض صوته في تأثُّر، وهو يستطرد:
- ربما لا تقتنعون بهدفه، ولا توافقون عليه، ولكنه يقاتل في سبيل ما يؤمن به، وليس لديه أدنى خوف، أو تردُّد في التضحية من أجله بحياته نفسها.. لو اقتضى الأمر.
صمت "حسن" لحظات قبل أن يميل نحوه قائلاً:
- أأنت مستعد لاحتمال وزر ما يصيبه حتى آخر يوم في حياتك؟!
تضاعف تأثُّر "قدري"، وهو يقول:
- قد يدمرني هذا بالفعل.
ثم اعتدل، واكتسب صوته حزماً شديداً، وهو يضيف:
- ولكن هذه هي الصداقة.. أن تضحي من أجل صديقك، وأن تثق به، وتعاونه فيما يسعى إليه، حتى لو اختلفت معه.. المهم أن تؤمن به، وبنبل وعدالة هدفه، وليفعل الله عزَّ وجلَّ بعدها ما يشاء.
كم راق هذا المبدأ لرجل المخابرات..
كم فهمه..
واستوعبه..
وقدَّره..
واحترمه..
وكم ضاق به في هذا الموقف بالذات..
الموقف الذي يتعلَّق بابن صديق وزميل عمره الراحل..
"أدهم".. "أدهم صبري"..
"أدهم".. الذي دخل بقدميه السفارة الإسرائيلية في "باريس"..
إلى وكر الذئاب..
والله -سبحانه وتعالى- وحده يعلم ماذا يفعلون به الآن؟!..
ماذا؟!..
* * *
التفَّ رجال الأمن الخمسة الأشداء حول "أدهم"، وكبَّلوا حركته في شدة، وألصق ثلاثة منهم فوهات مسدساتهم بجسده، وأحدهم يقول في صرامة شرسة، وباللغة العبرية القديمة:
- همسة واحدة وأفرغ رصاصات مسدسي في رأسك.
أدهشه وأحنقه ذلك الهدوء الشديد الذي بدا في ملامح "أدهم" وصوته، وهو يقول:
- حقاً؟!.. لماذا لا يقنعني هذا؟!
ثم ضرب قدمه في الأرض بقوة، مستطرداً في حزم:
- ألا إنكم لا تستطيعون قتلي، بعد أن سجَّلت كل وسائل الإعلام المحلية والعالمية دخولي إلى سفارتكم؟!
قبل أن يبحث الرجال الخمسة عما يجيبون به انبعث فجأة دخان أبيض، من حذاء "أدهم"، فهتف أحدهم:
- ماذا يحدث؟!
كتم "أدهم" أنفاسه في قوة، وترك العمالقة الخمسة من حوله يتحرَّكون في اضطراب وارتباك تأميني..
فوحده كان يعلم ماذا يحدث..
دروس الكيمياء التي لقنه إياها والده، تحت إشراف خبير كيميائي أتت ثمارها الآن..
مساحيق وسوائل التنظيف التي ابتاعها، وظل يخلطها ببعضها البعض بنسب دقيقة طوال ليلة أمس تحوَّلت على يديه إلى قنبلة..
قنبلة غاز مثير للأعصاب، ثبتها في أسفل حذائه بين الكعب والباطن داخل غلاف مطاطي منتفخ..
وبضربة فنية فجَّره..
واختلط السائل بالهواء..
وانطلق الغاز..
ولأنه تدرَّب جيداً على مثل هذه الأمور منذ نعومة أظفاره، فقد كان يعلم أن الوسيلة الوحيدة؛ لتفادي تأثير الغاز هي أن يكتم أنفاسه..
ولقد فعلها..
ومن حوله راح الرجال الخمسة يسعلون..
ويسعلون..
ويسعلون..
وهنا.. تحرَّك هو..
كان أقلهم حجماً يبلغ ضعف حجمه على الأقل، وعلى الرغم من هذا فقد تحرَّك في نشاط مدهش، وهو ما زال يكتم أنفاسه، وتملَّص من بين أيديهم المرتجفة، وراح يوزِّع عليهم لكماته وركلاته، ذات اليمين وذات اليسار، لتتحطَّم الأنوف، وتتساقط الأسنان، وتتفجَّر الدماء..
وبكل الألم والغضب صرخ قائد الرجال الخمسة:
- تماسكوا، ولا تسمحوا له بالفرار، حتى لو...
أخرسته لكمة كالقنبلة من قبضة "أدهم" الشاب، الذي وثب يعتلي بقدمه اليسرى ظهر أحد الرجال الآخرين، وركل الباب المغلق بقدمه اليمنى في قوة كبيرة حطَّمت رتاج الباب، وفتحته على مصراعيه، ليقفز هو خارجه إلى ساحة السفارة، أمام عدسات أجهزة الإعلام التي لم ينجح "جونسون" في صرفها بعد..
وللحظة ساد المكان كله صمت تام..
صمت صنعته الدهشة..
وصنعه الغضب والحنق..
غضب "جونسون"..
وحنقه..
ولكن "أدهم" قطع ذلك الصمت، وهو يبتسم لعدسات الإعلام قائلاً:
- معاملة جيدة.. أليس كذلك؟!
لم ينطق أحدهم بحرف واحد، وإن احتقن وجه "جونسون"، وارتبك موظفو السفارة، في حين اتجه "أدهم" الشاب في هدوء شديد، نحو موظفة السفارة، وقدَّم لها الإيصال، وهو يبتسم قائلاً:
- جواز سفري من فضلك.
اتسعت عينا الموظفة، والتفتت إلى "جونسون" الذي عضَّ شفتيه في غيظ، وأومأ لها برأسه إيماءة خفية، وتركَّزت كل عدسات وكالات الأنباء عليها، فالتقطت الإيصال بأصابع مرتجفة، وناولت "أدهم" جواز سفره، وهي تغمغم:
- معذرة.. الأمن اعترض على منحك تأشيرة دخول إلى "إسرائيل".
قال في هدوء، وهو يستعيد جواز السفر:
- لا بأس... كنت أتوقَّع هذا.
منحها ابتسامة أخرى، ثم رفع جواز سفره؛ لتراه كل وكالات الإعلام، وهو يغادر السفارة قائلاً بالفرنسية:
- رفضوا منحي التأشيرة.
وأطلق ضحكة ساخرة، مستطرداً:
- ويدعوننا لزيارة "إسرائيل"... يا للمهزلة!
اندفع مندوبو وكالات الأنباء يلتفون حوله، وحول "جونسون"، ويطرحون عشرات الأسئلة في لهفة، وبقدر ما بدا "أدهم" هادئاً مبتسماً، بدا "جونسون" عصبياً متوتراً، وكاد يشتبك مع اثنين أو ثلاثة من الصحفيين ورجال الإعلام، قبل أن يشعر بيد توضع على كتفه، ويسمع من خلفه صوتًا حازمًا يقول بالعبرية:
- اهدأ يا رجل.. إنها مجرَّد جولة.
التفت "جونسون" بحركة سريعة إلى مصدر الصوت، ووقع بصره على "دافيد جراهام"، فهتف في لهفة متوترة:
- أدون (دافـ....)
قاطعه "جراهام" في صرامة، وكأنه ينبهه إلى تجاوزه:
- لا قيمة للأسماء في مثل هذا الموقف يا رجل.. دعني أرى الهدف أوَّلاً، وحاول أن تبتسم... العالم كله يشاهدك الآن.
كلماته هذه لم تهدئ "جونسون"، وإنما ضاعفت من توتره، في حين تركه "جراهام"، واتجه نحو حشد الصحفيين؛ ليلقي نظرته الأولى المباشرة على "أدهم"؛ إيذاناً ببدء جولة جديدة من الصراع..
جولة وحشية..
إلى أقصى حد.
* * *
|