غارقون في بحار الندم
في أطيب بقعة على وجه الأرض، هناك حيث ولد و عاش و بعث خير العباد، إلى حيث تتجه قلوب المسلمين و حواسهم في كل صلاة أينما كانوا، حيث تغسل دموع المسلمين من خطاياهم،حيث تشفى القلوب المكلومة و تطمئن النفوس المريضة،،،،
كانت جالسة بصمت،،، الصمت الذي بات لغة التعبير الوحيدة عندها،،،
عندما تنظر إلى ذلك الوجه الحبيب،،، لا تجد إلا أن تصمت،،،
كما سبق و صمتت لعشرين سنة طافت،،، ليس لها إلا أن تصمت إلى أن يحين أجلها،،،
لا تستطيع إلا أن تعيش مع ضميرها في حرب لا نهاية لها،،،
و هي تنظر لوجهه الذي كتب عليه ظلم الزمن حكاية ألم و حسرة،،
كانت سبحته بين يديه يحركها بهدوء ،،، ، و شفتاه تتحركان بحمد و تسبيح و تهليل و تكبير،،، لكن عيناه كانتا تسبحان بعيدا،،، تفكران في ماض مدفون في أعماقه،،، تتأملان وجوها غائبة،،، و تبكيان سعادة مقتولة،،،
ولا تزال شفتاه تتحركان بالحمد و الشكر،،، ولا يزال هو على حاله هــــادئ،،، ســــاكــــن،،،
انزلقت دمعة من عين روضة،،، دمعة واحدة،،، يتيمة،،، تاركة ورائها شلال دموع متواصلة لم تجف من سـنـيـن قابعة في قلبها الجريح و ضميرها المؤنب،،،،
نظرت حولها بحسرة لأفواج المسلمين المتهافتين على رحمة الله و غفرانه،،، جائوا من كل حدب و صوب يبتغون راحة النفوس و القلوب،،، و أغلبهم ينالها،،، إلا هي،،، إلا نفسها ،،، إلا قلبها،،،
رفعت رأسها تنظر هذه المرة للكعبة الطيبة،،، بيت الله الحرام،،، نفس الشعور يتملكها في كل مرة تقصد مكة مع زوجها فيها،،،
و كأن الكعبة تبتعد منها،،
ترفضها،،
ليت الله يتقبل نـــدمــــها،، ليت الله يــغــفـر صـمـتـها،،، ليتها ترتاح،،
كيف يا روضة ،،،الم يفت الأوان لترتاحي؟؟
ماذا ينفعك ندمك عند الله؟؟؟ إذا لم تطلبي السماح ممن تأذووا بسكوتك؟؟؟؟
شيطان أخرس يا روضة أصبحت،، شيطان لست إلا شيطانا أخرس،،،
أحست بيد ناصر تضغط على كتفها بحنان،،، نظرت إليه و هي تحاول بكل جهدها إخفاء دموع الندم الحارقة،،، ابتسم لها بكل حنان،،، ابتسامته المواسية تلك،،، تعذبها أكثر،،،
آآه يا ناصر تظنني حزينة اشتقت لسالم،، تشفق على حالي و حالك يصعب وصفه؟؟؟
ترى في روضتك،، ولا تعلم أني شيطان أخرس،،، ضحيت بسعادتك مقابل سعادة.............سعادة من لا تستحق حتى نظرة شفقة،،
من سيسامحها اليوم،،، بعد سكوت طال،،،
من سيلتمس لها عذرا،،،بعد أن حرمت أعز أحبابها سعادتهم،،،
عمها الطيب الذي رباها و حملها على كفوف الراحة،،، الذي عوضها غياب الأب و الأم،،، ماذا تقول له ؟؟ أنها اخترات مصلحة أختها،،، و أنكرت جميله عليها،،،
أو سالم وحيدها،،، ما حجتها أمامه،،، و هي قدوته في الطيبة و نكران الذات و التضحية لأجل الآخر،،، ماالذي ستقول له،،، جعلتك يا ابني وحيدا و أنا أعلم انك لست كذلك؟؟؟
و ماذا عن ناصر يا روضة؟؟؟؟ السؤال الذي تتهرب منه لكنه ملاحق لها،، و لامفر،،،،
ماذا أقول له،،،كيف أواجهه؟؟؟
زوجي الحبيب،،، تركت أجمل فتيات العائلة،،، و أغناهن،،، و اخترت اليتيمة ،،، الفقيرة،،، المريضة،،، عصيت أمك،،، أغضبتها،،، رحمة بحالي،،، تزوجت المريضة،،، و صبرت لمرضها،،، و عالجت ماقدرت عليه،،،
و حرمتك ابنتك،،، لم اقدر إخراجها حية،،، عاش سالم و ماتت سلمى،،، و تبعها الرحم،،، و لم تكرهني،،، لكن حبك زاد،،،
هل تعلم بما شكرتك؟؟؟ في اول فرصة أتيحت لي،،،
ضحيت بسعادتك لأجل أختي،،،
ضحيت بمن احبني،،، و راعاني،،،و صبر علي،،، لأجل أناس لم أعني شيئا لهم ،،،
رأيت البسمة تحتضر في عينيك و لم أتكلم،،،
رأيت المرض و الحسرة و ألم الخيانة ينهش عظامك ،،، و زاد صمتي،،،،
و قتلت سلمى مرة أخرى،،،
أحست بيده الحانية تلمس كتفها مرة أخرى،،، أغمضت عينيها بقوة كأنها تحاول إبعاد نظرةالحزن عنهما،،،
و تطرد طيف الدموع عنهما قبل أن ترفع له وجهها لمواجهت نظراته الحانية التي لم تقتلها الآلم ،،،،
حاول ناصر جاهدا الكلام:هـ.. ـل نــعو.. د ل.. ل شقة..... أنـا أش..ـعـر بالج..وع،،،
هزت روضة رأسها موافقة و هي تبادله ابتسامته العذبة:من عيوني يا الغالي،،،،
ثم وقفت و وضعت قرآنها الصغير بين يدي ناصر،، ،، لكي تستطيع التحكم في الكرسي
و هي تدفعه به،،،،،،
أحـــاول أسرق البـسـمة و أنا أشوفـك
و كثر ما أفشل أحاول...!!
أحاول ألبس القوة
بملامح وجه متماسك
و أنا مكسور في الداخـل..
أحاول أمنع الشهقة
و أمسح دمعتي سرقة!!
أخاف اتحس بضعفي
وصمـــتــك يــسأل إيــش حــاصل؟؟
*************** *************
الهدوء يعم أرجاء القصر،،، يحس دائما بيد تكتم على أنفاسه عندما يدخله،،،
تأمل أرجاء الحديقة الداخلية عله يلمح والده في مكان ما بين أشجاره و أزهاره الحبيبة،،،
جلس على أقرب كرسي وجده أمامه في مدخل المنزل،،، مسح على وجهه بتعب،،،نزع عن رأسه الشماغ و وضعه أمامه بإهمال،،،
لا وجود له،،، لابد أنه نائم مرتاح الآن،،،هذا حال البيت دائما عندما لا يكون ناصر فيه،،، كل شيء صامت و هادئ،،، و كأن الأسرة تجتمع فقط لوجود ناصر،،، و يوم يرحل ترحل معه حياة القصر و يسكن الحزن و الكآبة أركانه،،،
حالك كحالي يا بيتنا العتيق،،،، خال ،،، موحش ،،، حزين،،، ،،، ،،،
و مع ذلك أنت أفضل مني ،،، أنت تجمع الأسرة و تأويها ،،،
و أنا أفرق الأحبة و أشتت شملهم،،،،
تنهد بعمق و هو ينظر حوله،،،لمح محفظته التي وضعها على الطاولة أمامه،،،،
مد يده مترددا،،، و شيطانه يوسوس له بأن يتركها و لا يقلب على نفسه المواجع،،،
لكن حنينه غلب شيطانه ،،،
حنينه الذي يدفعه إلى فتح المحفظة عشرات المراة في اليوم الواحد،،،، شوقه لعيون والده الراضية السعيده،،،
حنينه لحضن ناصر الأخ الأصغر سنا،،،
و شوقه لإبتسامة عليا البريئة،،،،
و نظرات حصة الشقية،،،
كم يحب تلك الصورة القديـــــمة،،، التي رغم أن لا ألوان فيها،،، تحمل كل ألوان السعادة و الرضى ،،
نــــاصر،،،لكم كرهته و احتقرته،،،
كان يغيضني عندما يلعب مع من هم دون مستوانا،،،
كان يغيضني التصاقه الدائم بأبي و أصحاب أبي ،،، كنت دائما أحتقره و اخجل من تعريف اصحابي عليه،،، كنت أخشى أن يضحكوا علي،،،،
أجل فكيف يكون شقيق تركي ال... الشاب الوسيم الغني الذي يتسابق الكل لمرافقته،،،
كيف يكون شقيقه بهذه البساطة و التواضع،،، يرافق الفقراء،،، يحترم الناس،،، و يمشي دائما و هو ينظر للأرض،،،
نـــاصــر،،، ورث كل صفات أبي الذي لم تغنه امواله و شركاته يوما عن حب الناس له و حبه للناس على اختلاف مستوياتهم ،،،
كنت أظنه الخاسر في النهاية،،، إلا أنه هو الرابح،،،، الرابح الوحيد،،
الذي تعلم من أبي الحب و الإحترام و نكران الذات، تعلم منه كل ما يقربه من الله و يحبب الناس فيه،،،
و كنت أنا حينها تحت سيطرة أمي،،،
تزرع في كل أنواع السموم والأحقاد و الشر،،،،
تعلمني كيف أذل الفقير و أهين الضعيف،،،
و عشت فخورا بنفسي،،، أنا تركي ال... أغنى أغنياء المنطقة،،، الناجح دوما،،، صاحب أكبر الشركات،،،
و كنت انت نــاصر أخي الوحيد الذي لازال يعيش تحت جناح والده،،،
يدير معه أعماله في الحلال،، الحلال الذي طالما سخرت منه،،،
و تزوجت أنا أجمل بنات العائلة،،، و أكثرهن دلالا،،،
بينما تزوجت أنت أختها المريضة العليلة و البسيطة مثلك،،،
و حسبتني مرة أخرى قد فزت عليك،،،،،
لكنك كنت الفائز دائـــــــما و أبـــــدا،،،
كنت يا أخي الحبيب أرى الحياة بعيني أمي و غرورها،،،
و كنت تراها بقلب والدنا و طيبته،،،،،
و كنت الفائز بالدنيا و ستكون الفائز في الآخرة،،،،،
الــلـــه أكـــــبـــــر،،،،الـــــــلـــه أكـــــبـــــر
أشــــــــهـــد أن لا إلـــــه إلا الـــــــلـــــــه
أشـــــهــــد أن مـــــــحـــمدا رسـول الـــــلـــه
أيقضه صوت المؤذن من سرحانه،،، قام من مكانه قاصدا غرفته ليتوضئ و يذهب للمسجد ليصلي،،،
ليذهب ككل يوم مع والده للصلاة،،،
و هو يتحسر في قلبه على كل السنين التي انقضتــ ،،
و لم يكن يعرف الدرب للمسجد خلالها،،،
الـــلــهــم إنـــي ظـلـمـت نـفـسـي ظلــما كثــيرا،، فاغـفر لـي و ارحــمنــي،،، إنــك انت أرحــــــم الراحـــــمـــــيـــن
*************** ************ ************
مدت يدها له لتصافحه شاكرة ،،، لم يكن الأمر صعب التوضيح ،،، أكد لها أنه مجرد سوء تفاهم،، لم يكن هو من وقع على عقد الإيجار،، بل كانت السكرتيرة التي عوضته أثناء أجازته،،، و لكي يطمإنها أكثر اتصل بالساكن الجديد يوضح له المسأله،، و طلب منه إخلاء الغرفة خلال اليومين القادمين،، على أن يتكلف هو بمصاريف النقل للسكن الجديد الذي سيكون جاهزا الجديد الذي سيوفره له،،،،
خرجت من مكتب السيد لوك و هي مرتاحة جزئيا... فعليها الآن أن تفكر أين ستقضي ليلتها هذه بانتظار الغد و متاعبه،،،
تمنت لو أنها تجد الآن نفسها أمام سريرها المريح الدافئ،،، تتغطى بلحافها ،،، و تستسلم لنوم عميق ،،، لكن هيهات،، أين هي و أين الراحة؟؟
ليس لديها خيار غير أن تقضي ليلتها هذه في فندق،، ليس لديها معارف كثر،، و هي لا تحفظ رقم يـاسـمين،، جوالها مازال داخل حقيبتها الكبيرة،، و من سابع المستحيلات أن تطرق باب جيرانها ،، كفاهما إزعاجا منها لهذا اليوم،،
آآآه يا يــاسمين، في أي موقف محرج وضعتني، كان بإمكانك الإتصال بي و إخباري أنك ستغيرين السكن،، لما تركتني أواجه كل هذه المفاجآت،، كل هذا التهرب لكي لا أمنعك من السكن مع صديقك،،،سامحك الله،،
وقفت تنتظر الحافلة لكي تتوجه لوسط المدينة هناك فقط يمكنها إيجاد فندق ملائم لها ماديا، و حتي تكون قريبة من مكان عملها، حتى تتمكن من الذهاب باكرا و الإعتذار لحسين و سمية،،، فهي تحتاج على الأقل يوما كاملا لتنظيف الشقة،،،،
تأخرت الحافلة،، و سلمى تحس بتخدر قدميها و يديها من شدة البرد،، لم تكن مستعدة لهذه الورطة و إلا كانت أخدت احتياطها و ارتدت ملابس ثقيلة،،، لكن عليها أن تصبر اليوم،،، و الغد اصبح قريبا جدا
و أخيرا وصلت الإغاثة،،، تقدمت سلمى بخطوات أقرب إلى الهرولة منها إلى المشي و ركبت الحافلة بسرعة بحثا عن الدفء،،،
ناولت تذكرتها للسائق ليتأكد منها، و تقدمت بسرعة لداخل الحافلة، وهي تضع البطاقة داخل حقيبتها،،،ثم جلست إلى أقرب كرسي لها،،،تحركت الحافلة ، ، ،
رفعت رأسها لتنظر من النافذة،،، لكن نظراتها بقيت معلقة،،، آخر من كانت تتوقع رئيتهم الآن،،، تمنت لو تعيد الوقت للوراء و تنزل من الحافلة بنفس السرعة التي صعدتها بها،،،
ربــاه إلــى أيــن أهـرب؟؟ لا أي هرب ،،، لا أريد أن أكون قليلة الأدب،،،
ابتسم لها و هو يلقي التحية: السلام عليكم،، آمل أن تكون الأمور على ما يرام
بادلته سلمى الإبتسامة و ردت تحيته:و عليكم السلام و الرحمة، أجل كان مجرد سوء تفاهم،، و غدا تعود شقتي لي،، الحمد لله،،
سالم و قد فرح فعلا لكونها حلت المشكل بسرعة،، فمن الصعب على فتاة وحيدة، أن تتحمل مصاعب و مشاكل الغربة وحدها،:الحمد لله أختي، أهنئك،، و إذا احتجت أي مساعدة أخرى فأنا تحت أمرك،،
اخجلها بلطفه معها،، عادة تتضايق من الشباب الذين يفرضون أنفسهم بكل الطرق، و يعرضون المساعدة بمناسبة و بدون،،، لكنها لا تجد نفسها متضايقة من سالم،،،
ابتسمت له شاكرة ثم اشاحت بوجهها بهدوء ناحية النافذة تتأمل الطريق و المارة و البيوت،، مناظر متكررة،، ألفتها لدرجة أنه أصبح بإمكانها ملاحظة أقل تغيير ممكن في هذه المدينة،،،
************ ********* *********
لم يتحرك من مكانه منذ أن جلست مقابله،،لم يسلم،،، لم يهتم و لم يتكلم،،،،ولم تكلمه هي الأخرى،،،
تتجاهله هي أيضا،،، تتعمد تجاهله،،،
كيف لا و قد وجدت في سالـم صيدا سهلا،،، كان يصغي لكلامهما دون تعليق،،، لقد اعتاد من سالم عادته السيئة هذه،، يعرض مساعدته على الكل،،،
مسكين طيب القلب ،،، لكن طيبته زائدة،،، يعلم أن نيته حسنة،،،، و يثق به و بحبه الكبير لشهد ،،،
لكنه يعلم أيضا مدى دهاء البنات أمثال جارتهم،،،
حاول أن يسرق بعض النظرات لها و هي تتأمل الشارع،،، دون أن تلحظه،،،، و لم يكن ذلك بلأمر الصعب،،،، فقد كانت سارحة بعيدا بفكرها،،، تمنى لحظتها أن يعرف فيما تفكر،،،،
لابد أنها تخطط على سـالم،،،
هكذا هن،،،، يأتين وحيدات للغربة،،،، و عندما تغلبهم متاعبها،،،، يبحثن عمن يعينهن لنهاية الدراسة،،،، يلعبن دور المحبات المتيمات،،،،، ثم يرحلن كما حضرن ،،،، بصمت،،،،،
منظرها البريء خداع،،، قد يخدع الكثيرين،،، خاصة من هم بسن سالم،،،، شاب على أبواب الحياة،،،
استقرت نظراته على وجهها الذي لم يكن يلمحه إلا من جهة واحدة،،،،أنفها الدقيق و وجنتها اللذان تحول لونهما للأحمر،،، لابد أنه البرد بالخارج،،،،
رموشها الكثيفة الطويلة التي تكاد تغطي عينها،،،،، فمها الصغير،،،،،
وجهها الخالي تماما من أي أصباغ أو ألوان،،،، ظفيرة شعرها الأسود الطويل،،،،
ملابسها عادية جدا،،،إلى أبعد الحدود،،،، و كأنها ليست من هذا العصر،،،،
كل هذا يعطيها منظر طفلة ،،، طفلة،،،صغيرة،،، بريئة،،،،
لكن لا ،،،، لن يسمــح لها،،،، مهما كانت جميلة ،،، أو بريئة،،،، عليه أن يحمي سـالـم منها و من أمثالها،،، فهو بالأخير ليس مجرد إبن عم،،،، هو زوج أخته،،،
ولن يسمح لها بتحطيم حياة أخته التي لم تبدأ بعد،،،،،
******** ********* *********
للحكاية بقية