من جروح صارت بقلبي تلـــوع
و من هموم أحرمت عيني المنــــام
انطفت في دنيتي كـــــل الشـمــــوع
و الهنـا مـا يـــوم في دنياي دام
غربتي طالــت متى وقــت الرجـــــوع
كـل عام أمنـــي أحلامـي بعــام
و إن شكيت الناس زادونــي همــوم
طــال صبــري و الزمـــن عيــا يطــوع
و الرجــا باللي عيونه مـــــا تـنام
بقدر ما كانت حزينة لأنها سترحل بعد سويعات قليلة، و تترك أمها مرة أخرى وحيدة و حزينة لفراق وحيدتها، بقدر ما كانت سعيدة لأنها عائدة مجددا لتنغمس في حياتها الخاصة بعيدا عن عيون أمها الحارسة و حنانها المبالغ فيه، مع مرور الأيام صارت سلمى تعشق مدينة ـ تولوز ـ بكل حالاتها، في بردها و دفئها في ليلها و نهارها، بنت لنفسها هناك شخصية جديدة تتماشا و طبيعة الناس الغريبة المتقلبة، كانت بعيدة كل البعد عن ما هي عليه، و من لا يعرفها يحكم عليها بأنها قاسية، جريئة، أنانية، هي تعلم أنها أوصاف لا يفتخر بها أحد و لكن الحياة غابة يمكن لفتاة و حيدة أن تحطم و تؤكل من ذئابها في أي لحظة، كانت تملأ و قتها قدر الإمكان لتبتعد عن نفسها و أفكارها، تحاول أن تكون نشيطة لأقصى حد، مرحة و غير مباليةأيضا،، تكابر مشاعرها و ضميرها المؤنب و هي لا تعلم إلى متى ستستمر في هذا الدور و متى تخونها سلمى الحقيقية و تظهر لمن يعرفها هناك،،
بعد ساعات من الأرق و التقلب على السرير، استسلمت سلمى للنوم أخيرا بهدوء بعد أن شغلت المسجل بسورة يوسف ،، هي تحب هذه السورة، تجعلها تحس بأن حزنها تافه و أنها أحيانا تبالغ فيه عندما تسمع قصة نبي الله يوسف، لا يبقى لها خيار غير أن تبتسم برضا و ترفع كفيها للسماء و تقول بكل راحة و اقتناع ـ الـــــحــــمــــد لـــلــه ـ
الأعمى يتمنى أن يشاهد العالم، و الأصم يتمنى أن يسمع الأصوات، و المقعد يتمنى المشي خطوات، و الأبكم يتمنى أن يقول كلمات، و أنت تشاهد و تسمع و تمشي و تتكلم،،، فلما الحزن؟؟؟
و في الغرفة المجاورة، المظلمة إلا من نور أبجورة ظئيل جدا، كانت زينب لاتزال جالسة على سجادها، رافعة يديها للذي لا تنام عيناه، تدعوه و تترجاه الإستجابة، تتوسل إليه و تطلبه الرحمة، : ربي إني لا أسألك رد القضاء لكني أسألك الرفق فيه، ربي ارحمها برحمتك و لا تكلها إلى نفسها طرفة عين،، قالت كلماتها هذه و دخلت دوامة نحيب و آلام لا يعلم مدى قوتها إلا الله...
*** *** ***
قبل صلاة الفجر بقليل دخلت زينب بهدوء غرفة سلمى لإيقاضها، و كالعادة استغرقت المهمة مدة لا بأس بها
فتحت سلمى عينا واحدة و نظرت لأمها تتأكد من أنها لا تحلم ثم نهظت بسرعة و هي تحاول التبرير،لكن زينب قاطعتها بحب: نومك ثقيل حبيبتي لا مفر من هذه الحقيقة،
سلمى ـ و هي تنظر بريبة لأمهاـ: ماما ما بك؟ هل أنت مريضة؟ لون وجهك شاحب،
حاولت زينب إبعاد نظراتها عن سلمى و جاوبت بهدوء و برود:لا حبيبتي أنا فقط لم أنم جيدا، هيا انهظي صلي و عودي لنومك فأنت من تبدو شاحبة،، و انصرفت بسرعة تاركة سلمى في ريبة من أمرها،
*** *** ***
عادت سلمى و فتحت حقيبة يدها الصغيرة لتتأكد من أوراقها الضرورية، من حسن الحظ أن أمها قد اهتمت بملابسها و كتبها حقيبتها الكبيرة جاهزة و ليست بحاجة للمراجعة، لن تكون حريصة على نفسها و أغراضها أكثر من أمها ،،
زينب: هيا سلمى لقد تأخرنا، و سائق التاكسي يكاد يحرق الجرس من كثر ما دقه،
مرت سلمى أمام المرآة الكبيرة ووقفت قليلا تنظر لشكلها العام
زينب: سلمى حبيبتي هيا، لست بحاجة للمرآة، أنت أجمل ما رأت عيني،
ابتسمت سلمى على كلام أمها، لقد اعتادت على سماع هذه الجملة بالذات منها، و في ا لواقع لم يكن كلامها مجرد إطراء فسلمى جميلة فعلا، مهما حاولت إخفاء جمالها تحت ملابسها العادية جدا ، كانت صورة من أمها طولها متناسق جدا مع جسمها الرفيع، شعرها الطويل الأسود كسواد الليل و الذي تجعله دائما على شكل ظفيرة تجعل منظرها طفوليا،
عيناها ليستا بواسعتين بينما لونهما الداكن و رموشها الكثيفة جدا تجعل منهما في منتهى الروعة، لكنها تخفيهما دائما تحت نظارتها الطبية، و ابتسمت بسعادة أكبر حين تذكرت أن لها لون شعر أبيها و نفس عيونه
خرجتا من الشقة بسرعة، و سلمى تحاول ضبط دموعها ، عليها أن تكون قوية، لن تسمح لأمها برؤية الدموع على خديها، خاصة و هي تحس بأن شيئا ما ليس على ما يرام مع أمها، حزينة، أجل إنه الحزن على الفراق،( لا عليك أمي سأجعله سهلا عليك اليوم، و دموعي لن تريها بعد اليوم، لقد أحزنتك بما فيه الكفاية، لكن ليس اليوم)
وصلتا إلى السائق الذي فتح فمه ليبدأ في الصراخ و الإحتجاج، إلا ان زينب سبقته واعتدرت منه بأدب و لباقة، ركبتا في المقعد الخلفي ، و انطلقت السيارة في اتجاه المطار،
استغلت سلمى سكوت أمها التي لم تكن تحب الكلام في وجود أغراب، و أخدت تتأمل تلك المناظر التي ألفتها ، تعرف كل ركن في المدينه و كل الأركان تعرفها صحيح انها لا تملك جنسية مغربية ـ لا تملك أي جنسية أخرى ـ و كل من عرفتهم طوال حياتها ليست في نظرهم أكثر من حامله لبطاقة إقامة مؤقتة، ربما يصفها آخرون ب ـ النصف مغربية ـ لم يحسسها أحد بانتمائها لهم و لهذا البلد، أخرجت تنهيدة راحة من أعماقها و هي تنظر للسماء و البحر الذان يلتقيان بكل حب و انسجام في الأفق،، أجل الطبيعة، البحر السماء جدران المدينة رمال الشاطئ، الرباط كلها بشمسها، بسحبها، بقمرها و نجومها تشهد لها بالإنتماء،´
(يكفيني هذا الإحساس)،
وصلتا أخيرا للمطار، أسرعت سلمى بسرعة إلى الداخل و هي تجر ورائها حقيبتها بإهمال لتنهي إجراءات السفر بسرعة،بينما كانت تتفق زينب مع السائق و تطلب منه انتظارها على ان تزيد أجره،لعلمها صعوبة إيجاد مواصلات يوم الجمعة،
بعد إنهاء الإجراءات، ذهبت تبحث عن أمها، وجدتها أخيرا جالسة في إحدى المقاهي الصغيرة داخل المطار، كان منظرها حزينا جدا، ( لا هذه ليست نفسها أمي القوية التي تعودت منها أن تودعني و الإبتسامة تعلو شفتيها، و دعواتها تتسابق من قلبها لتسبقني و تسهل على حياة الغربة)
سلمى بهدوء:أمي لقد أنهيت معاملات السفر، لم يبقى الكثير على الرحلة، الحمد لله أني لم أتأخر،، كانت سلمى تتحدث بسرعة،حتى لا تمنح فرصة لدموعها للتتدخل.
نظرت زينب لإبنتها بعطف و حب، و هي مرتاحة لأنها تأكدت من أن سلمى بدأت تعود على الوضع، على الأقل تعلمت كيف تصبر نفسها لحظة الفراق،،،
سلمى: أمي ما بك، أرى أنك سبقتني إلى تولوز،؟
زينب: أجل معك حق، المهم اعتني بنفسك حبيبتي،و لا تجهدي نفسك كثيرا،لا تهملي صحتك، تغذي جيدا........
تركت سلمى أمها تتكلم، نفس الوصايا، نفس الإهتمام، و نفس الدموع المحاصرة ،،( لا علي أن أذهب الآن لن أستحمل أكثر)
سلمى: لا تقلقي أمي، و ثقي بي، أريدك أن تعتني بنفسك فقط، و لا تنسيني من دعواتك، ثم عانقتها بهدوء، و هي تصارع آهاتها المكتومة،
بادلتها زينب العناق بقوة غريبة و كأنها تحاول منعها من الرحيل.
نهضت سلمى بسرعة حملت حقيبتها على كتفها، قبلت رأس أمها و يدها و هي تستنشق عبيرها الحنون بقوة،حاولت أن تقول كلمات وداع قليلة بسرعة، لكن كل ما استطاعت قوله هو: سأتصل فور وصولي، مع السلامة أمي،
هزت زينب رأسها بالإيجاب،و نظراتها تودع سلمى بصمت، و الدموع تتصارع على المرتبة الأولى ، و قالت بهدوء و بصوت لا يكاد يسمع: وداعا بنيتي، أودعتك الذي لا تضيع ودائعه،،
تحركت بتعب و قد بدأت الدموع تتسابق على خديها، وهي تفكر في قدرها في هذه الحياة الظالمة، و قدر وحيدتها، كيف لذلك الجسم الضئيل أن يحارب لأجل البقاء، كيف لتلك العينين الصافيتين أن تتحملا حرارة الدموع، كيف لأميرتها الجميلة أن تكون خادمة للغير؟؟ من المفروض أن تكون هي الحاكمة المحاطة بالخدم و الحشم،،،.
وصلت لسيارة الأجرة المنتظرة، ناولت السائق بطاقة صغيرة و طلبت منه بصوت غير مفهوم أن يوصلها إلى هناك،،،
لم يكن حال سلمى أفضل من حال أمها،لا تدري كم واحدا اصطدمت به في طريقها، لأنها ببساطة لم تكن ترى شيئا من بين دموعها،جلست أخيرا على كرسي في قاعة الإنتظار،في انتظار النداء للرحلة، أحست بعد لحظات بحركة خفيفة إلى جانبها رفعت رأسها ببطء لتفاجأ بفتاة صغيرة ارتسمت كل براءة العالم على ملامحها،وهي تمد منديلا أبيضا بيدها الصغيرة لسلمى،:أمي تمسح دموعها بهذه المناديل، وأنت لا تملكين مثلها،لذلك طلبت من أمي أن تعيرك واحدا..
(آآآآآآآه يال براءتك صغيرتي)
أخدت منها سلمى المنديل، و قبل أن تكلمها كانت الطفلة قد انطلقت مسرعة إلى حيث جلست امرأة شابة على ملامحها حزن و دموع،و حامل كما يبدو ، و إلى جانبها زوجها وقد أحاطها بذراعيه مواسيا لها بكل حب، لفت نظرها تلك الصغيرة التي تقدمت من أمها ووضعت رأسها على بطن أمها ثم قبلت بطنها بقوة و تلك الحركة كانت كفيلة بأن تخرج الأم من حزنها لتطلق ضحكتها الحنونة وهي تعانق ابنتها البريئة، أما الزوج فقد أحاط هذه المرة ابنته و زوجته وضمهما إليه و على شفتيه ابتسامة عريضة.
(عسى الله لا يحرمكم من بعض)،