البداية
بعد أن تأكدت من أن العمال قد ا نتهووا من أعمالهم.... و رحلوا ... دخلت غرفتها ... و هي ترتب أفكارها ...و تفكر بما ستبدأ أولا ...
فتحت الدولاب ... أخرجت بسرعة سروال جينز أبيض ... و قميصا واسعا أبيض ... كانا قديمين بعض الشيء ... و مناسبين للعمل في تنظيف الشقة ...
جمعت شعرها الطويل على شكل ذيل حصان ثم ضفرته حتى لا يزعجها أثناء العمل ... ثم غطته بشرشف خفيف حماية له من الغبار...
فتحت جميع النوافذ و باب الشقة كذلك فالمكان كان محتاجا لكثير الكثير من الهواء النقي ...
و بدأت أعمال التنظيف و هي واضعة كمامة على فمها و أنفها ... تقاوم رغبتها في الإستفراغ ... و تحاول التركيز مع سورة البقرة ... التي كانت سمية قد نصحتها بتشغيلها في الشقة عندما كلمتها قبل قليل تشرح لها الظروف و تعتذر لعدم حضورها...
أحست بالهدوء و الراحة...و هي تتمعن في كلمات السورة...
بعد ثلاث ساعات من العمل المتواصل ... نظرت سلمى حولها و هي تشعر نوعا ما بالرضى ... المكان نظيف جدا مقارنة بحاله قبل قليل ...
اختفت رائحة السكير و كلبه ... بعد أن غلبت عليها رائحة المنظفات و المطهرات ... قامت بمسح النوافذ كلها ... و ركزت كثيرا على غرفته ... التي كانت حالها أسوء من حال زريبة الحيوانات ...
كانت الشقة إجمالا مكونة من غرفتين ... صالون صغير ... و مطبخ مطل على الصالون ... حمام...
و بلكونة صغيرة ... كانت كافية لوضع طاولة و ثلاث كراسي ...
نظرت لساعة يدها ... الواحدة بعد الظهر ... ليس عليها الآن سوى تضع الستائر ... و باقي المناشف و المناديل في الغسالة ...
تتوضأ و تصلي ... ثم تخرج للتبضع ... فالثلاجة فارغة تماما ... و هي لم تأكل شيئا منذ البارحة....
* * * * * *
كان جالسا على مكتبه ينهي كتابة تقارير مرضاه لهذا اليوم ... و هو يفكر هل قرار عودته للبلاد صحيح ...
أم أنه من الأفضل له البقاء هنا للأبد... يعرف أنه جبان ... هارب من واقع حياته ... لكنه لا يستطيع غير ذلك ...
لا يريد أن يرى ابنته طوال الوقت أمام عينيه ... سيقسو عليها... سيحرمها من حضنه ... لأنه يرى فيها ... أمها ...
كلما نظر إليها تذكر هدى ... تذكر حب حياته ... التي بقدر ما جرحته و ظلمت حبه ... لا يستطيع أن يكرهها ... ربما لذلك يحاول الهرب من ابنته ...حتى يحاول النسيان ...
لقد مل فعلا حياته هنا ... كاندوما يحلم بأن يدرس ... و يتدرب في أشهر المستشفيات في فرنسا ... ثم يعود إلي أهله و بلده ...يحقق نجاحه هناك ... و يفيد الأطباء الشبان بما تعلمه هو هنا ....
لكن هدى هدمت أحلامه ... صدمته ... مثلت عليه البراءة و الطهر ... إلى أن أيقن أنه من المستحيل
أن يعيش بدونها ...
لم يفكر في العواقب ... لم يهتم إلى كونها متحررة و ألفت حياتها هنا لدرجة أصبحت تزور أهلها في الكويت لمدة لا تتجاوز الشهر...
ظن أنها تحبه ... و مستعدة للتضحية بالغالي و الرخيص لأجله ... لكنه كان أعمى ... أعمته أنوتثها و دلالها ... تخدر عقله تحت تأثير عذوبتها و جمالها ... كانت حبه الأول .... و ستبقى حبه الوحيد ...
لن ينساها صاحبة العيون الساحرة ... أحيانا يندم على قراره بأن يطلقها ... أحيانا يتمنى لو طاوعها و عاد إلى فرنسا ...
على الأقل لأجل ابنته ... سارة التي تعيش الآن يتيمة و والداها على قيد الحياة ... لكن هول الصدمة عندما عرف من الطبيب المشرف عليها أنها أجهضت عمدا ... جعلته يفقد أعصابه ...
قتلت ولده ... الولد الذي لم يعلم بوجوده إلا بعد موته ... حينها عرف أنها لا و لن تكون أما صالحة ...
هي تماما كأمه ... تحيى لنفسها فقط ... و حتى لو لم يطلقها آنذاك ... كانت ستتركه و ترحل هي يوما ما ...
ليته فقط يمحو ذكراها من عقله ... الذكرى التي تعرقل حياته ... و تبعده عن ابنته ...
* * * * * *
انتهى دوامه لليوم ... كان تفكيره خلال الساعات الفارطة منحصرا على إنسانة واحدة ... حبيبة قلبه ... شهد ... كيف سيدبر لها سكنا...
لقد أخطئا حين استأجرا شقة صغيرة ... سعود سيعود للبلاد لكن بعد شهرين ... و دراستها ستبتدئ بعد أسبوعين ...
تمنى لو كان بإمكانه أخد عطلة و الذهاب للبلاد و إقامة حفل الزواج حتى يمكنها أن تسكن معه ... في غرفة واحدة ... لكن ... صعب ...
خطرت بباله فكرة ... أجل ... أفضل حل ... لو أن سعود فقط يوافق ... و يتحمل ... يعرفه ... و يعرف عناده ...
سيسأله الآن حالا ... أجل عليه أن يعرف رأيه قبل إتخاذ القرار ... فهو أولا و قبل كل شيء شقيق شهد ... و ابن عمه الأكبر سنا ...
أخرج هاتفه النقال من جيبه ... و اتصل بسعود ... الأمر لا يحتمل التأجيل ... شيء طبيعي ... فهو لا يريد لحبيبته أن تتأخر في دراستها ...
جائه صوت سعود العميق: ألووو ... أهلا سالم ...
سالم : أهلا سعوود ... هل أنهيت عملك ...؟؟
سعود : ليس بعد ... لكني لن أتأخر اليوم ... ساعتين بالكثير و أكون في المنزل .... لماذا ؟؟
سالم : في الحقيقة ... أريد أن أقترح عليك شيئا بخصوص سكن شهد ...
سعود : هل وجدت سكنا مناسبا..؟
سالم : امممممم ... ليس بعد ... لكن ما رأيك في أن تسكن بجوارنا ... أقصد مع جارتنا... سلمى...
سعود بصوت حاد: آسف سالم ... لا أريد لأختي أن تسكن مع تلك الفتاة ... لن ترتاح معها ... لن تتوافقا ...
سالم : بالعكس يا ابن عمي ... إنها هادئة ... و مؤذبة تماما كشهد...
سعود: ربما ... لكن ... أنت لا تعرف مثل هذا النوع المتحرر من البنات ... كل شيء عاد ... و مقبول لديهن ... و شهد ليست متحررة ... و تربت في بيئة غير بيئة جارتك...
سالم و قد مل من ابن عمه الذي يرى الدنيا من ثقب ابرة: سعووود ... ألا تلاحظ أنك تحكم على البنت من منطلقك الشخصي .... أنت حتى لم تكلمها كيف تحكم عليها ... و كأنك تعرفها منذ زمـن؟؟؟
فهم سعود قصده ... أو ربما هيء له ذلك ... ربما لأنه يعرف نفسه ... و يعرف أنه علق حياته كلها على هدى ... لكن لا يحق لأحد لومه .... تنهد بعمق و قال : لا بأس سالم ... كما هي أختي ... هي زوجتك ... افعل ما تراه مناسبا و لائقا بزوجتك .... ركز على كلمته الأخيرة ... ليحسسه بقدر المسؤولية الملقاة عليه ...
سالم : طبعا لن أفعل إلا ما أراه لائقا بزوجتي... و جارتنا إنسانة محترمة ... و أي إنسان آخر سيحكم عليها أنها محترمة ... الا أنت ...
سعود: أرى أنك تدافع عنها بعد يوم واحد... الله أعلم بما ستفعله بعد شهر ...
سالم : سعود... آسف يا ابن عمي لكنك تافه ...
ضحك سعود بقوة على ابن عمه الذي يرتفع ضغطه بسرعة... ثم أنهيا المكالمة ... بعد أن أكد له انه موافق طالما ستكون شهد قريبة منهما .... هكذا يمكنهما حمايتها و رعايتها... و أقنع سعود نفسه أنها مدة قصيرة ... إلى أن يعودوا جميعا للسعودية و يتزوج سالم و شهد...
* * * * * *
كانت سـارة تلعب أمام عينيه ... بكل هدوء ... تذكر كيف كانت تنادي والدها ليلا ... ليس بالأمر الجديد ...هي دائما تناديه و هي تحلم... لكنه تأثر بالأمس أكثر من العادة ...
ربمالأنه فكر في جنين زينب ... هل كتب له الحياة... ذكر هو أو أنثى .. كيف يعيش ... و كيف يكفر هو عن ذنبه ... سامحها الله أمه التي جعلت منه إنسانا بلا بصيرة....
يا ترى ما مصير زينب وسط إخوتها ... هو يعرفهم ... قلوبهم قاسية و لا يهمهم شيء كثر ما تهمهم سمعتهم وسط الناس و في السوق ... لابد أنهم قتلوها و قتلوا طفلها ...
رده صوت سارة العذب إلى الحاضر : بابا تركي ... أتسمعني؟؟
: نعم حبيبتي ... ماذا قلتي ؟
سارة: متى يمكنني أن أذهب لأمي روضة و عمي ناصر ؟؟
:بعد أن يرتاحا من السفر... لكن هذه المرة العشرون التي تسألين فيها ...حملها فوق ركبتيه و سألها : لما الإصرار؟؟
سارة: اشتقت لهم...قالتها ببرائة ... لكن جدها يفهمها ... كيف لا و هو من رباها ... : فــقــط؟؟؟
ابتسمت سارة ببرائة: و لأحضر هداياي من عند أمي روضة...ضحك تركي على أفكار حفيته المتعلقة بالهدايا و الحلويات و الألعاب ...
و هو يتسائل كيف حرم نفسه من هذه المتعة عندما كان أولاده صغارا بسنها .... لكن كل ما يخطر بباله هو ... أن سامحك الله يا أمي....
و عاد شبح ابن او ابنة أخيه ليداهمه ... هل كان له من الهدايا و اللعب ما يكفي... أم أنه رمي في دور الأيتام ... لستر الفضيحة ...
كيف لأمه أن تكون قاسية لدرجة أن تتقبل بسعة صدر أن يكنى حفيدها باللقيط ... أحيانا يحمد الله أنها ماتت قبله ...
لأن بعدها عنه يجعله إنسانا بضمير ... كباقي الناس ...
منذ وفاة أمه و هو يفكر في الموضوع ... يحاول في كل مرة استجماع شجاعته و مصارحة والده ... لكن الأمر ليس بالسهل ...
صعب أن يقف أمام أخيه المريض ... والده ... اخواته ... ابنائه ... ابن أخيه ... و يقول بكل بساطة ... أن زوجة ناصر ... عفيفة ... و أن كل ما حدث آنذاك ... كان من تخطيط أمه ... و تطبيقه هو ...
و مساعدة نورة زوجته ... و حصة أخته ... صعب ... أن يظهر الحق ... بعد أن دفنه بيديه ... لكنه نادم ...
و لكم يحس أن هذه الكلمة غير كافية للتعبير عما يحسه...
* * * * * *
دخلت وهي تدفع كرسي ناصر أمامها ... و ورائها الخادمة لورا... تحمل هدايا سارة ... التي اعتاد جميع أفراد العائلة إسعادها بهدية ...كل يوم ... بمناسبة و بدون ...
رغم أنهم يعلمون ... أن ذلك لن يعوض غياب الأم الجاحدة ... و الأب الهارب ... و كانوا هم الكبار يتحملون خطأ أبنائهم و يراعون سارة ...
حتى عائلة أمها تحبها ... و يحاولون مع ابنتهم بجميع الطرق أن تزور ابنتها ... لكنها أهملتها كما سبق و أهملت والديها و إخوتها ...
سارة ... سارونة ... أين أنت ؟؟؟ نادت روضة ... ولم تنتظر كثيرا حتى خرجت لها سارة بفرح و هي تصرخ : بابا تركي .... لقد جائوا إلي ... عمو ناصر و أمي روضة .....
ثم قفزت بقوة لأحضان ناصر الذي فتح لها ذراعيه الذان كان بالكاد يستطيع تحريكهما .... قبلته بقوة ثم قفزت بنفس القوة لأحضان روضة ...
لكنها بعد أن لمحت الأكياس في يدي لورا ... فقدت التركيز ... و تبثت نظرها على الأكياس ... فضول طفلة بريئة ..
متشوقة لمعرفة ما تحمله تلك الأكياس ... متلهفة للعب بأشياء جديدة ...
ضحكت روضة على سارة التي كانت تكلمها و عيونها معلقة هناك حيث تقف لورا في مدخل المجلس ... رحمت حالها ... لأنها تعلم كم هي خجولة ... و لا تحب أن تطلب شيئا من أحد ...
أخذتها من يدها و تقدمت إلى حيث تقف لورا ...
أخذت منها الأكياس ... ثم التفتت لسارة ... التي لاتزال تنظر بصمت و خجل لروضة ...
كم هي جميلة عيونها الواسعة ... المتدفقة بالبراءة ... و المرح ... لا عجب أن الجميع ... صغيرا و كبيرا ... يسعى لرسم بسمة الفرح ...على شفتيها ... و نظرة الرضى ... في عيونها ...
هل تعلمين لمن هذا كله ؟؟
سارة و قد بدأت تحرك قدمها في عدة اتجاهات
عشوائيا ، و لم تجب ...
روضة : إذا لم تخبريني ... فلن أفتح الأكياس... و لن تري ما بداخلها ...
سارة : هي لي أنا ...
روضة: ههههههههه ... يا واثقة ... و كيف عرفتي ؟
سارة و قد وضعت يدها الصغيرة على خصرها ... و تكلمت بعفوية ... بعد أن عرفت أن الهدايا لها ...: لأنه لا يوجد غيري هنا ... أنا الوحيدة التي تلعب بألعاب و دمى ...
* * * * * *
دخل المجلس على صوت ضحكات حفيدته ... فوجئ بوجود أخيه و زوجته معها ... التي كانت تلاعب سارة ...
يشعر بالإمتنان نحو هذه المرأة ... ابنة عمه ... التي كان ... في الماضي يحتقرها ... حتى عندما كانوا مجرد أطفال كان دائما يضربها ... لأنها كانت ضعيفة البنية ... و كان ناصر يدافع عنها باستماتة ...
هذه المرأة التي ربت أولاده بعد أن تركتهم أمهم ...
التي صبرت لظلم أمه لها ... حبا في زوجها ... و احتراما لعمها ...
و ها هي ذي الآن تعمل على إبهاج حفيدته بعد أن تركها والداها ... كل منهم لسببه التافه ... الأم تريد الحرية ... و الأب يبحث عن النسيان ...
أبو سعود: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... أطلتم الغيبة هذه المرة ... اشتقنا لكم ... انحنى على أخيه المقعد ... قبل على رأسه ... و عانقه بقوة ... كأنه يؤكد له مدى اشتياقه ... رفع رأسه اتجاه روضة...: كيف الحال يا أم سالم ؟
روضة: الحمد لله و الشكر ... أين أهل البيت ... أراه خاليا...
أبو سعود ..: أبي سينزل حالا ... حصة أبناؤها لم يعودوا بعد من سفرهم ... عليا و شهد خرجن للسوق ... لم يبقى الكثير لشهد حتى تسافر...
روضة :حسنا ... سأذهب أنا لأحضر بعض القهوة ... ثم التفتت لسارة :هل تأتين معي للمطبخ سارة..... ساااارة .... سارونة....
ابو سعود: ههههههههه ... لا حياة لمن تنادي ... الأميرة الصغيرة مشغولة بلعبها الجديدة ...
تقدم تركي لكرسي أخيه دفعه لداخل المجلس ... و جلس مقابله ... يسأله كيف كانت رحلة العودة ... و كيف هي نفسيته الآن... كانت كل ردود ناصر ... متشابهة ...
ليس على لسانه سوى كلمات حمد و شكر ... كان سعيدا لمجرد أنه عاد لبيته و أهله ...
يحس بالراحة إلى جانب أخيه الذي تغير كليا بعد وفاة أمهما ...
و إلى جانب والده الحنون ... الطيب ... رغم مرضه و ضعفه ...
هو شاكر لله بلا حدود أن له أسرة تعينه و تحبه ...
أما تركي فقد كان يدقق في ملامح شقيقه الأصغر ... و يكلمه بكل حب ...
و هو يتمنى أن لا تنتهي هذه اللحظات ... لحظات قربه من ناصر و كلامه معه ...
ربما لأنه قد حسم أمره ... بأن يخرج المدفون في ظلام أعماقه ... للنور ...
حسم أمره بأن يترك للسانه أخيرا حرية الكلام ... توكل على رب العباد ...
و قرر أن يتكلم ... و يحكي لأبيه عن الحقيقة كلها ...
يخاف أن توافيه المنية ... و يذهب إلى الله حاملا على كاهله ذنبا عظيما ...
و يكون عذاب الآخرة أشد من عذابه في دنياه ...
* * * * * *
بعد أن أنهت صلاتها ... و دعت ربها ككل مرة ... أن يعينها ... و يثبتها ...
فتحت حقيبتها ... لترتب ملابسها و أغراضها كل في مكانه ...
ابتسمت و هي ترى كم أن ملابسها جد مرتبة ... و معطرة ... داخل الحقيبة ...
لم تكن لترتب أغراضها بهذا النظام و الحب أبدا ... لفت إنتباهها كيس صغير بين الملابس ... عليه ورقة صغيرة ...
كتبت عليها ملاحظة ( لابد أن رائحة الرطوبة قد ملأت غرفتك بعد شهر غياب ... اسمعي كلامي هذه المرة فقط و بخريها ... فرائحة البخور تدوم عكس تلك الروائح الإصطناعية ..) ...
الكلمات عادية ... مجرد ملاحظة ... مخطوطة على قطعة ورق ...لكن سلمى و بعد أن قرأتها ... ضمتها إلى صدرها بقوة ...
كم هو مطمإن الإحساس بأن هناك من يرعاك... و يهتم لك ... حتى و هو بعيد عنك ...
لم تكن من محبي المباخر ... و الدخان ... لم تجرب أن تعد المبخرة أبدا ...
لكن أمها كانت معتادة على ذلك كل يوم تقريبا ... بمناسبة و بدون ...
قربت الكيس من أنفها ... نفس الرائحة ... و كأنها عادت إلى هناك ...
إلى الشقة الصغيرة ... الدافئة .... التي جمعتها بأمها لسنين ... رائحة أمها تفوح من هذا الكيس الصغير ...
سبب واحد ... جعلها تندفع بسرعة تجاه خزانتها تبحث عن مبخرة صغيرة كانت قد أهدتها لها ياسمين ... بعد أن عادت من تونس ...
لم تخذلها ذاكرتها ... و وجدت المبخرة ...
كانت صغيرة ... و مخصصة في الواقع للديكور ... لكن لابأس ستجربها اليوم ... علها
تخدمها و لا تخذلها ...
* * * * * *
فتح باب المصعد و خرج منه ... كان قد حسم الأمر و قرر أن يكلم سلمى في موضوع السكن ...
لمح باب شقتها مفتوحا ... لا يعلم إن كانت هي من بالداخل أم أن ذاك المجنون لم يرحل بعد ...
لكن رائحة بخور ... قوية ... عطرة ... أكدت له أن هي من بالداخل ...
مسكينه لابد أنها تعبت اليوم و هي تنظف المكان ...
فكر هل يتطفل و يكلمها الآن ... أم يؤجل الموضوع قليلا ... وصله صوتها ... و هي تدندن بكلمات أغنية ...
لم يستطع تمييز ما تقوله ... لكنه تراجع ... مخافة أن يحرجها ... ضحك بخفة و هو يفتح باب شقته ... يبدو أن جارته منسجمة مع أغنيتها و هي تدور بالمبخرة في أرجاء الشقة ...
تحول ضحكته لإبتسامة واسعة ... و هو يتخيل شكل شهد ... تبخر المجلس ... و صوت الموسيقى يصل لآخر ركن في البيت الكبير بيت عمه ...
و هي تغني و تتمايل على موسيقى عود محمد عبده ....
كانت العائلة برمتها معتادة على طقوسها تلك ...
و لكم اختلس هو النظر إليها ... دون علمها ... حتى و هي زوجته ... لأنه ببساطة يعرف أنها قد تذوب أمامه من قوة حيائها ...
رمى بحقيبته على المكتب ... و أخد صورتها ... ثم رمى بنفسه على السرير ...
و هو يتأمل وجه حبيبته شهد ... و يفكر في كلام سعود ... أنها لن تتوافق و سلمى في السكن ... ربما كلامه صحيح ...
لكن إحساسه يقول غير ذلك ...
بعد أن توضأ ... و صلى فرضه ... عاد و ارتدى معطفه.. و حذائه ... سيمر على جارته أولا ... ثم يذهب لتناول شيء خفيف في الخارج ...
أخذ مفاتيحه و هاتفه ... ثم خرج من الشقة ...
كانت واقفة أمام المصعد تنتظره ... منشغلة بأزرار معطفها ...
لا يدري كيف سمح لنفسه بتأملها ... يعلم أنه خطأ ... لكن ... هذه الإنسانة ... ليست كالباقيات ... هو لم يعرفها و لم يرها ...من قبل أبدا ... لا يعرف عنها شيئا ...
لكنه يحس أنها دخلت قلبه من أول لحظة ... حين كانت تتنازع مع حقيبتها الثقيلة و درجات مدخل العمارة ...
أحس ببرائتها ... حركاتها ... طريقة كلامها ... ظفيرة شعرها الطويلة تلك ...
طفلة صغيرة ... لا يضنها تجاوزت الثامنة عشر من عمرها ...
لكن ما يحرق أعصابه ... هو كيف يتركها إخوانها هكذا وحيدة وسط هذه الدنيا الغريبة...
لو كان له أخت كهذه الدمية الصغيرة ...
لوضعها وسط عيونه و أغلقهما مدى الدهر ... ليحميها ...
:السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... ايقضه صوتها و أعاده لأرض الواقع ... خجل من طريقة وقوفه أمام باب شقته و هو يبحلق فيها ...
فكر أنها أسائت الظن ... و تظنه الآن ... عديم الإحترام ...
و عليكم السلام و الرحمة ... تردد قليلا ... ثم إقترب لمكان وقوفها .... كيف الحال؟؟
سلمى: بخير لو أن المصعد يسرع قليلا فقط...
ألقى سالم نظرة تجاه المصعد ...:كم من الوقت انتظرته؟؟
سلمى: عشر دقائق على الأقل ... يبدو أن أحدهم محتفظ به لنفسه ... ادري يفعلها الكثيرون ...
كانت تتكلم و هي عاقدة حاجبيها ... و شبح ابتسامة على شفتيها ... تماما كما الأطفال ....
تشجع سالم ... و دخل معها في موضوعه بلا مقدمات ... : أخت سلمى ... الحجرة الثانية فارغة الآن ؟؟
سلمى: نعم ...
سالم : في الحقيقة ... نحن نبحث منذ مدة على سكن لزوجتي ... التي هي أخت سعود ابن عمي ... إذا لم يكن هناك من حجز الغرفة فإني أحجزها الآن ...
ابتسمت له سلمى ... ثم قالت: أكيد بمكانها السكن في تلك الغرفة ... سيسعدني ذلك ... لكن عليك أن تجهز الغرفة بنفسك ... لأنها الآن بلا أثاث ... طلبت من العمال التخلص منه ... فقد كان في حالة سيئة...
ابتسم سالم برضى : من جهة الأثاث لا عليك ... هذا أمر مفروغ منه ... لكن متى يمكننا الذهاب لصاحب السكن لتوقيع العقد ....
أحست سلمى باللهفة التي تخللت صوته ... لا يلام ... مشتاق ليرى حبيبته أمامه بأسرع وقت ... : عادي متى ما تريد ... أعلمني فقط بيوم قبل حتى أرتب أموري ...
سالم : شكرا لك ... و أتمنى أن نذهب في أقرب وقت ... ربما يوم الإثنين ... فدراستها ستبدأ بعد أسبوعين ... لم يبقى الكثير من الوقت ...
سلمى: و أنا حاضرة ... يوم الإثنين لكن صباحا ...
سالم : اتفقنا ... شكرا لتعاونك أختي...
سلمى: لا شكر على واجب ...أعتقد سنضطر للنزول على الأقدام ...
سالم : أجل ... لابد أنه معطل ...
* * * * * *
الهدوء يعم غرفة المكتب ... صمت لا تخترقه سوى دقات ساعة الحائط المنتظمة ...
لم يجرؤ على رفع رأسه ... و النظر لأبيه ... لم يستطع مواجهته ... أكثر ... بعد أن فجر كل ما بداخله من كلام ... كل الحقيقة ... كل شيء... و ها هو ذا الآن ... واقف أمام القاضي ...
ينتظر الحكم ... هو راض بكل قرار ...
لكنه ... يأمل أن لا يقسو عليه ...
كان أبو تركي ... صامتا ... المفاجأة ... أكبر من أن يسطيع تقبلها ... الصدمة ... جعلت آخر ما بقي من حب و معزة لزوجته الميتة يندثر ...
يعرف أنها تغار ... يعرف أنها مغرورة ... تحمل كل طباعها الغريبة ...
صبر على أنانيتها ... على إهانتها... له و لعائلته ...
لكنه لم يتوقع يوما ... أبدا ... أن تصل بها الجرأة لأن تحطم حياة ابنها ...
أرادت الإنتقام منه و تحطيمه في شخص ناصر ... هذا جزائه ....
حافظ عليها و وهبها حياة هنيئة مريحة ... و كافئته بأن دمرت عائلة....حرمت ابنها من ضناه ... و رأته يعاني المرض ... و لم يحن قلبها ...
لا يستطيع أن يصدق ... ناصر ... لديه طفل آخر غير سالم ... زينب لم تخنه ... زينب عفيفة ... و حملها كان من ناصر....
رفع رأسه بضعف و تعب اتجاه تركي ... الذي لازال جالسا على نفس الوضعية ...
نادم ... نااادم لأنه أطاع أمه ... ما نفعه الندم الآن ... ماذا سيصلح الندم ...
خربت أمه أخلاقه ... و بدل أن تجعل من بكرها رجلا ... شهما ...
جعلت منه نذلا .. حقيرا .... خاتم شر في أصبعها ...
:لماذا يا تركي ... لما لم تحتفظ بهذه الحقائق لنفسك ؟؟ لما لم تسكت و تأخد معك الحقيقة لقبرك ؟؟ لما تعذبني الآن بهذا الكلام ...؟؟ ما فائدته؟؟
لا جواب ... لا تفسير ... لا أعذار .... مخطأ هو .... و كل محاميي العالم ... لن يستطيعوا تبرئته من جرمه ...
: لم السكوت ؟؟ أجب قل شيئا ... ماذا تعرف أيضا؟؟
تكلم تركي ... و بصوت باكي ... دون أن يرفع رأسه ... لا يستطيع النظر لملامح وجه أبيه المعذبة: لا أعرف ... لا أعرف شيئا ... لا فكرة لدي أين زينب ... و هل أنجبت ... أو لا ... إن كانت حية أو......
قاطعه ابوه بحدة : أو ماتت يا تركي ... أليس كذلك ... كيف طاوعك قلبك على أن تحيى كل هذه السنين ... و أنت تعلم ان لأخيك ابن أو ابنة قد يكون مرميا في إحدى دور الأيتام الباردة ... هنااااك ..بعيدا عن أهله... و يكنى باللقيط ...
أنت تعيش هنا بهناء ... أولادك حولك ... تعلموا في أفضل الجامعات ... و عاشوا في أفضل الضروف .....
كان أبو تركي يتكلم بانفعال ... عله يطفئ بعضا من النار التي تحرق جوفه ...
لكم فرح عندما تغير تركي و تاب لله ... كانت دموع الفرح تتسابق من عيونه و من قلبه ...
ذاك اليوم ... حين غاب تركي عنهم لأيام ... ظن أنه سافر كالعادة بحثا عن المتعة الحرام ...
لكنه أساء الظن به ... فتركي ... كان و لأول مرة منذ نعومة الأظافر في مكة ...
لكم حمد ربه الذي أحياه إلى أن رأى بكره ... يعود لطريق المسجد ... بعد أن ألفت قدماه طريق أصحاب السوء ....
و اليوم ... للأسف ...
عاد الإحساس بالخيبة لقلبه...
:اسمع يا تركي ... اعلم أني غاضب عليك ... آسف يا ولدي ... آسف ... لكن خطأك هذا عظيم عند الله ... و إن أردت أن أسامحك ... فابحث عن زينب و طفلها ... ان وجدته حيا ...فإني أريده هنا ... أمام عيني و عيني والده ... و إن كان ميتا ... أو مفقودا ...
فإني أنصحك أن تستغفر الله إلى أن يحين أجلك... عله يغفر لك .....
قال كلامه هذا بحدة ... و قد خنقته العبرة ... و تلألأت الدموع في عينيه ... لا يهون عليه إبنه ... لكنه أخطأ ... أخطأ بحق الكثيرين ... و كل مخطئ له عقاب...
حمل عصاه . وقف من على كرسيه ... ثم توجه للباب ... سيذهب لحديقته ... يريد أن يستنشق بعض الهواء ... يحس أن قوته بدأت تتلاشى ...
أوقفه صوت تركي : ابي ... هل ستخبر ناصر ...؟؟
: لا لن أخبره ... لن أزيده هما ... حين تجد طفله حيا ... أخبره ...
* * * * * *
بعد أن عادت من الخارج ... و كانت قد قررت ما الذي ستطبخه ... كانت فعلا تشعر بالجوع ... خاصة بعد يوم متعب ... غيرت أولا ملابسها... ارتدت لها بيجاما مريحة ... و خفيفة .... بما أن الشقة دافئة ....
أحست بالراحة و الرضى و هي ترى أن المكان قد أصبح فعلا نضيفا ...
دخلت المطبخ ... و حضرت بعض الخضر ... و اللحم ... و سلطة خفيفة ... حاولت أن تسرع ... بما أنها لم تعد قادرة على تحمل الجوع ...
استيقظت صباحا ... و هي تشعر بألم في كل أنحاء جسمها ... الدلال الذي اعتادته لدى أمها ... جعلها ضعيفة جدا ...
حتى أن مجرد تنظيف بسيط هد جسمها .... جلست على السرير و هي تتمطط و تحرك رقبتها في كل الإتجاهات ... اليوم يوم عمل ...
عليها أن تكون نشيطة بعض الشيء ... قامت من مكانها ... جهزت ملابسها ... ثم قصدت المطبخ تحضر قهوتها ذات الوصفة السحرية...
قهوة العم عبد الله ... مجرد رائحتها كانت كفيلة بأن تبث النشاط فيها ...
هي فعلا لا تشبه تلك القهوة التي يصنعها هو ... لكن مع المداومة على تحضيرها قد تصبح مثلها....
على الساعة الثانية عشر بالظبط ... كانت أمام مطعم حسين ... لقد اشتاقت لهما ... لنقاشتهما التي لا تنتهي ... دخلت بهدوء ...
كان المطعم لايزال فارغا نوعا ما ... عادة ما يكتض بالناس ابتداءا من الساعة الواحدة بعد الظهر ...
بما أنه اليوم يوم أحد عطلة الأسبوع ... فالكثير من العائلات و الطلبة العرب يأتون هنا ...
: أهلا أهلا أهلا بسلمى العزيزة ... الآن فقط نور المحل ... لقد مللت دونك....كان هذا صوت سمية ... صوت رفيع و عال ... لا علاقة له بشكلها ... فقد كانت مثينة بعض الشيء ...
التفتت سلمى لمصدر الصوت ... كانت جالسة في مكانها المعتاد ...أمامها طاولتها الصغيرة ... التي تضع عليها فنجان قهوتها ... و مجلاتها المفضلة ...
و موسيقى عبد الحليم الهادئة تملأ المكان دفأ و تعطيه جوا حميميا ....
الأثاث الشرقي ...
والديكورات الفرعونية...جو بعيد جدا عن فرنسا و بردها ...
تماما كما لو أنك تتجول في إحدى شوارع الأسكندرية العتيقة ...
لهذا تحب سلمى العمل هنا ...
حيث تنسى لسويعات ...مهما قلت ... أنها في الغربة ...
ابتسمت لسمية بحب ... و اتجهت اليها تسلم عليها ... بشوق ... أجل بشوق ... أصبحت تشعر بالإنتماء لها لحسين و للمكان كله...
* * * * * *
حكى له سالم عن كل شيء بخصوص استئجار السكن المقابل لشهد ... و أخبره بأنه سيوقع العقد غدا ... في الواقع لم يكن مرتاحا للأمر ...
لا يدري لما لا يستطيع تقبل سلمى ...
لا يدري لما تقتحم صورة هدى مخيلته كلما فكر في سلمى ...
لا يستطيع تقبل فكرة أن تعيش أخته معها ... و لو لفترة محدودة ...
لكنه سيحاول ظبط نفسه ... و الإهتمام بأخته ....
: سالم .... اينك .... بسرعة يا أخي ....كل هذا تلبس .... مدعو لعرس حضرتك...؟؟
خرج سالم من غرفته و هو يلبس جاكيته ... :آسف لم أعرف أنك تنتظر ... ثم لما الصراخ... كنت أكلم شهد ... أخبرتها أن تحجز تذكرة للأسبوع القادم ...
: بهذه السرعة ؟؟... تأكد منها أولا إن كانت راضية على أن تشارك السكن مع أخرى...
سالم: سألتها و حكيت لها عن سلمى أيضا...
نظر سعود إلى سالم و هو يديق عينيه: هل تعلم أنك لا تستحي...تحكي لزوجتك عن أن جارتك طيبة ....و ....
سالم: عادي يا أخي .... أختك واثقة من أني أعشقها ... و نيتها ليست سيئة مثلك...
: أقول .... تحرك هيا بنا ... أشعر بالجوع ... و مزاجي اليوم سيئ .... و لا يسمح لي بسماع
اتهاماتك....
* * * * * *
تعمل بجد و نشاط ... هي هكذا ... تحب أن تثقن عملها ... مهما كان بسيطا ... ترى رغبات الضيوف ... و تلبي طلباتهم ...
و بين الفينة و الأخرى ... تجلس إلى جانب سمية ... يضحكن ... ويتبادلن أطراف حديث شيق ...
كانت سلمى تحب خفة دم سمية ... و لهجتها المصرية الخفيفة ...
و هناك دائما عيون ... تحرسها و هي تشتغل و تتحرك بين طاولات المطعم ....
عيون حسين ... الذي كان يخاف من أن يعاكسها أحد ... كان دائما مستعدا للتدخل ...
بمجرد أن يلاحظ ... أن وجه سلمى قد اعتلته الحمرة ...
هو لم يعتد بعد على فكرة أن تعمل لديه ... و يحس نفسه مسؤولا عليها ...
إلى أن ينتهي دوامها و ترحل ... يخاف عليها كما لو كانت إبنته حقا ...
تقدمت من الشاب الجالس على طاولة في ركن المطعم ... و الذي يبدو أنه لم يطلب بعد ... ولأنه كان يعطيها بظهره ...
تفاجأت حين وجدت أنه ليس إلا سالم ... ابتسمت له عندما رفع رأسه يرى من وقف عند طاولته ....
:أهلا و سهلا ... كيف الحال؟
ناظرها سالم بدهشة و استنكار : بخير الحمد لله .... هل تعملين هنا ... ؟؟
:نعم...
سالم : ظننت أنك طالبة ...
: فعلا أنا طالبة ... لكني أعمل هنا يومي السبت و الأحد ... و احيانا بعد الظهر وسط الأسبوع...ها ما طلباتك؟؟؟
ابتسم سالم ... و هو في الواقع ... غير راض ... لا يهمه أمرها ... هي حرة ... لكن ... تبدو ضغيفة وصغيرة ... على تحمل الدراسة و العمل معا ....لكن هذا ليس من شأنه ... طلب له و لإبن عمه الذي تركه و ذهب للحمام ...
فوجئ بالواقفة أمام سالم ... تتكلم ... و ابتسامتها ... الرقيقة ... غمازة على خدها الأيسر ... تبرز مع كل حركة ... مع كل كلمة تنطق بها ...
فتاة أكثر من عادية ... ربما أقرب إلى طفلة ... منها إلى فتاة شابة ...
لكن صورة هدى يأتي من جديد ... يفرض عليه المقارنة الصعبة...
كم هن كثيرات من رأى و عرف بعد هدى ... لكن هذه بالذات ... تستفزه ... و تجبره على التفكير في هدى بعد ...أن بدأ ... في محاولة النسيان....
كان يتقدم من طاولته ... و عيناه لا تريان أمامه ... غير صورة هدى و شبح صورة سلمى ...
انتهت من تسجيل طلبات سالم ... استدارت من مكانها تود الذهاب للمطبخ ليعملوا على تجهيز الأكل ...
لكنها و بعد النصف خطوة الأولى ... اصطدمت بجسم قوي ...
لا تتذكر أنه كان هنا قبل برهة .... و نظرا لسرعة حركتها و خفة جسمها ... كادت أن تسقط أرضا ... لولا أن تلك الكثلة الجسدية التي صدمت بها تحركت و أمسكتها من كلتا ذراعيها ...
استطاعت أن تعيد توازنها ... رفعت رأسها و فتحت عينيها اللتان كانت قد أغلقتهما بشدة ... بعد أن أدركت أنها واقعة لا محالة ...
كانت ستفتح فمها ... لكن الكلام بقي معلقا ... لا ... إلا هذا ...
يكفي أنه ينظر ليها باحتقار كلما قابلها ... حاولت سحب ذراعيها من يديه ..
و هي تتمتم بصوت جدا منخفض: شكرا... آسفة ... لم أنتبه...
كأي شخص آخر مكانها ... وقع في نفس الموقف ... انتظرت منه أن يعتذر هو الآخر ... ثم ينتهي الأمر ... و تفتك من حرجها الذي تحسه ...
سعود: مرة أخرى ... حاولي أن تنتبهي أكثر ... لو سمحتي... كان صوته حادا ... و خشن ...
تقدم ناحية كرسيه ... و انحنت هي تحمل مذكرتها الصغيرة ... و ذهبت للمطبخ ...
أعطتهم ورقة الطلبات ... دخلت بسرعة لحمام المطعم ...
نظرت للمرآة ... بنظرات ساهمة ... فتحت الماء البارد ...
و بدأت تغسل به وجهها ... في محاولة لإطفاء حمرة و حرارة وجهها...
و كل تفكيرها يصب في بحر واحد...
هل هي المخطأة ... أم هو؟؟
* * * * * *
من أين سيبدأ ؟؟... على من يعتمد؟؟... كيف يجدها ؟؟...
كان رأسه على وشك الإنفجار...
شرط أبيه معجز ... صعب تنفيذه ... صعب إصلاح ما هدم بعد عشرين سنة ...
من يساعده...
و إن وجدها ....
ماذا عليه أن يقول...؟؟
هل تسامح...؟؟
أم تعاند... و تحرمه سماح والده له ...؟؟
صلى له ركعتين يستخير ربه ..... و يستعين به ....
و لم يجد في باله فكرة ... أفضل من أن ...يسافر هو بنفسه... و يبحث ...
كما سبق و سافر خصيصا .... و في نيته شر....
سيسافر الآن ....
و هو يأمل من الله كل خير...
* * * * * * * * *
قراءة ممتعة
إلى الملتقى