المنتدى :
الارشيف
سأخون وطني
كتاب محمد الماغوط "سأخون وطني" الصادر عن دار الريّس عام 1987 كتاب طريف مليء بالسخرية السوداء..
الكتاب الأسود، الجميل، الممتع، المؤلم، الساخر، المرح، ينجح محمد الماغوط في الجمع على أرض واحدة بين الليل والنهار، بين الأمل واليأس، بين مرارة الهزائم وغضب العاجز، ليقدّم صورة لما يعانيه الإنسان العربي من بلاء من سياسييه ومثقفيه وجنده وشرطته وأجهزة إعلامية، مكثفاً ذلك البلاء الكثير الوجوه في بلاء واحد هو فقدان الحرية . هو كناية عن نصوص قصيرة تتضح حتى عناوينها بالسخرية: المواطن والكلب، سوبر ماركت الشرق الأوسط، وجبة اليوم وكل يوم، صلاة بيد واحدة، الكوميديا النفطية، جورج أورويل العرب: عام 1994، بروتوكلات حكماء العرب، الربابة هي الأولى، عربي في هايد بارك، كرومويل في برميل نفط، انطباعات عربي في لندن، وأفلت الزمان من يدي، مدينة المتعهدين، مريض نخب أول.. وغيرها...
فلنبدأ بـــ:
العرّاف
ما هذا ؟
أمة بكاملها تحل الكلمات المتقاطعة وتتابع المباريات الرياضية، أو تمثيلية السهرة ، والبنادق الاسرائيلية مصوبة إلى جبينها وارضها وكرامتها وبترولها.
كيف اوقظها من سباتها، وأقنعها بأن أحلام اسرائيل اطول من حدودها بكثير، وان ظهورها أمام الرأي العام العالمي بهذا المظهر الفاتيكاني المسالم لا يعني أن جنوب لبنان هو نهاية المطاف؟
فهي لو أعطيت اليوم جنوب لبنان طوعا واختيارا لطالبت غدا بشمال لبنان لحماية أمنها في جنوب لبنان.
ولو اعطيت كل لبنان لطالبت بتركيا لحماية أمنها في لبنان.
ولو اعطيت تركيا لطالبت ببلغاريا لحماية أمنها في تركيا.
ولو أعطيت اوروبا الشرقية لطالبت بأوروبا الغربية لحماية أمنها في أوروبا الشرقية.
ولو أعطيت القطب الشمالي لطالبت بالقطب الجنوبي لحماية أمنها في القطب الشمالي.
وملآت حقائبي بالخرائط والمستندات والرسوم التوضيحية ويممت شطر الوطن العربي أجوب ارجاءه مدينة مدينة وبيتا بيتا.
وحدثتهم كمؤرخ عن نوايا اسرائيل العدوانية وأطماعها التاريخية في أرضنا وأنهارنا ومياه شربنا. وعرضت عليهم كطوبوغرافي الوثائق والمستندات السرية والعلنية وباللغات العربية والانكليزية والتركية ... ولكن، لا أحد يبالي.
ثم تحدثت إليهم كفنان. وعرضت أمامهم أشهر اللوحات التشكيلية والرسوم الكاريكاتورية التي تصور اسرائيل كمخلب قط للاستعمار، كرأس جسر للإمبريالية، كأفعى تلتف، كعقرب يلسع، كحوت، كتنين، كدراكولا، كريا وسكينة ... تقتل وتفتك وتتآمر ... ولا أحد يبالي.
ثم تحدثت إليهم كخبير طاقة. وحذرتهم من أن منابع النفط هي الهدف التالي لاسرائيل. وأننا، كعرب، قد نعود إلى عصر الحطب في المضارب، ونفخ النار بالشفتين وطرف الجلباب ... ولا أحد يبالي.
ثم تحدثت إليهم كطبيب، عن تسميم الطلاب والطالبات في الضفة الغربية، والجثث المفخخة في مجازر صبرا وشاتيلا. وعن التنكيل المستمر بأهلنا في الأراضي المحتلة، ومصادرة البيوت، وطرد السكان، وتحديد الاقامة، ومنع السفر، ومنع العودة، واغلاق المدارس، وتغيير المجالس البلدية، وقمع المظاهرات، واطلاق غاز الاعصاب، والقنابل المسيلة للدموع، والمسيلة للتخلف ... ولا أحد يبالي.
ثم تحدثت إليهم كأب. ونبهتهم إلى أن كل مدرسة في الوطن العربي قد تصبح مدرسة بحر البقر، وكل كاتب أو شاعر قد يصبح كمال ناصر أو غسان كنفاني. وكل رئيس بلدية أو دائرة حكومية قد يعود إلى بيته على عكازين كبسام الشكعة وكريم خلف ... ولا أحد يبالي.
ثم تحدثت إلى الفلاحين كفلاح. وإلى العمال كعامل. وإلى التجار كتاجر. وإلى اليمينيين كيميني. وإلى اليساريين كيساري. وإلى المزايدين كمزايد. وإلى المعتدلين كمعتدل. وإلى العجائز كعجوز. وإلى الأطفال كطفل ... وقلت لهم أن اتفاق شولتز مثله مثل اتفاقيات كامب ديفيد واتفاق سيناء وكل الاتفاقات التي تمت من وراء ظهوركم. فهو مصوغ بدقة متناهية كابتسامة الجوكندا بحث لا أحد يعرف إذا كان يبتسم لنا أم يسخر منا. ولذلك فان دولا عربية متخاصمة لم يكن يتصور أحد أنها يمكن أن تتصالح ... قد تصالحت بسببه. وأن دولا اخرى صديقة لم يكن يتصور أحد أنها قد تختلف، قد اختلفت بسببه ... ولكن للتحركات السياسية حدودا. وللجهود الدولية معايير لا يمكن الاخلال بها. وأن مؤتمر الشعب العربي الدائم وقضيته المركزية فلسطين لا يستطيع أن يستمر في عقد جلساته الطارئة إلى ما لا نهاية ما لم يلق استجابة من هنا أو دعما من هناك.
وان المقاومة الوطنية في لبنان مهما كانت باسلة، لا تستطيع وحدها القضاء عليه ما لم تعمم هذه التجربة في كل بلد عربي.
وقصصت عليهم أحسن القصص عن البطولة والفداء. والروعة في أن يكون الإنسان ثائراً من أجل وطنه ينصب الكمائن ويطارد الأعداء في شعاب الجبال. وفي فترات الاستراحة يضم بندقيته إلى صدره ويقرأ على ضوء القمر الرسائل الواردة إليه من الوطن، إذ في كل صفحة خصلة شعر من خطيبة، أو ورقة يابسة من حبيب.
وقرأت عليهم بنبرة مؤثرة وغاضبة أجمل قصائد المقاومة والنضال، لناظم حكمت ولوركا وهوشي منه ومحمود درويش وسميح القاسم... ولا أحد يبالي.
الكل ينظر إليّ تلك النظرة الحزينة المنكسرة كغصن وينصرف متنهداً إلى عمله.
ماذا أفعل أكثر من ذلك لأثير نخوتهم وغضبهم ومخاوفهم؟
هل أضع على وجهي قناعاً يمثل سنّي بيغن الأماميتين المشؤومتين؟ أم أضع عصابة سوداء على عينّي مثل موشي دايان، وأقفز حول أسرّة الأطفال في ظلام الليل؟
هل أعرض في الساحات العامة صورا شعاعية لما يعتمر في صدر شارون وبيريز وارينز وايتان وغيرهم من ضغينة وحقد على هذه الأمة وما يبيتون لها ولشعوبها من قهر وذل وجوع ودمار؟
هل فقدت الشعوب العربية احساسها بالأرض والحرية والكرامة والانتماء إلى هذه الدرجة؟
أم أن الارهاب العربي قد قهرها وجوّعها وروّعها وشرّدها سلفا أكثر بكثير مما فعلته وما قد تفعله اسرائيل في المستقبل؟
يتبع...
|