كاتب الموضوع :
ربيع عقب الباب
المنتدى :
خواطر بقلم الاعضاء
اقتباس :-
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ربيع عقب الباب |
آخر الشياطين
[right]كشهاب مجنح اندفع صوب السماء ، يبخ شظاياه فى كل اتجاه ، تلك الشظايا المتلاحقة – فى كثافة – التى كانت تذوب وتختفى بمجرد انفصالها عنه ، مثيرة شعورا ما بالتورط وربما الحزن ، وفى لمح البصر كانت عصافير تجد فى إثره ، وتلاحقه كأنها دخلت معه فى سباق .. فتعبره مزقزقة .. بعيدا إلى رحاب علوية مخلفة صاروخ " شعبان " يترنح هابطا ، ونحن نتابعه شغوفين ، وأقدامنا تهتز مضطربة ، راصدين سقوطه المنتظر على سطح دارنا العالى .
كان آخر مامع شعبان من صواريخ ، بعد إلحاحى المتكرر أشعله ، وبرمية متقنة من ساعده طوح به عاليا ، وكل انتباهى مركز حول سطحنا المزدحم بالحطب و القش ، شأن الأسطح المتاخمة ، فهوى على سطحنا ، لكن الله كان هناك فرصده ، وأحبط نار الشيطان قبل انهياره كطائر جريح ، وفوت عليه ألاعيبه ، ولم يحدث شىء إلى الآن .. منبهرا تنهدت :" أما لو كان حرق السطح .. كنت ....".
ارتبكت لا أعرف لم .. واحتوت رجفة خوف جسدى ، وناقما وجدتنى أحاصر وجه شعبان ، سرعان مانظرت بعيدا متابعا الأثر – مرة أخرى – الذى سوف يحدثه الصاروخ ، وبعدطول انتظار انفرط خوفى ، وتهالك بعيدا .. بعيدا ، وبلا روح نرتمى نابشين أظافرنا فى فجوات أحجار البازلت – حديثة العهد – والتى تركتها البلدية دون رعاية – تعانى من الفوضى و الإهمال .
متوعدا تفرست فى وجه شعبان ، وخطوت ميمما شطر الباب ، هاهى ذى عمتى على تنادى ، وقبل عبورى عتبة الدار دوى صوت قوى ، أرعد بدنى ، جفلت دائرا حول نفسى كممسوس :" يا أبا السيد .. ياحاج عبده .. حريق .. حريق ".
عبر صوته أفئدة الدور المتلاصقة ككيان واحد ، ولمسافة طويلة كان يمتد ، تتعانق أحمال الحطب والقش و انخفاض دور كامل كان يتخلل هذا البحر الوسيع ، ومع ذلك لا تحس مطلقا أن ثمة قطعا فى التحامات القش و الحطب .. حكت جدتى عن عمتى بسيمة :" كانت تنط عابرة هذه الأسطح .. رغم انخفاض بعضها هاربة بـ " مقروطة " أبيك حين يداهمنا جنود البوليس ". وفى الليالى الأشد حلكة كانت تعود بفخذين ملتهبين ؛ فالحاجة " نجية " جارتنا تتعمد وضع بلاليص الجبن لتعتق فوق سطحها الملاصق لسطح دارنا ؛ فهى امرأة شريرة ، أبدا لا تتمنى لنا الخير ، وكثيرا ما رأتها جدتى تلاحق بهائمنا ومواشينا بنظراتها الحاسدة من خلف بابها .
انتفضت الدور بناسها ، وعلت الأصوات .. والنداءات ، ودوى صراخ نساء الحى مفتتا جسدى الصغير ، فدورت مسحورا ، وأنا أبكى ، أبحث عن شعبان الذى انشقت عنه الأرض ، ولم أعثر له على أثر .. عالية توهجت ألسنة اللهب ، وهى تزغرد حمراء فى فرح ، مسودة وجه السماء ، مظللة الدور بغمامة كثيفة .. راحت تتسع رويدا .. رويدا .. بينما الرجال من كل جهة يقبلون مهرولين ، وأنا أتابعهم ، وفى حمية يهاجمون النار بعبوات المياه .. بالعصى الغليظة مثل ناف الساقية ، وعروق تشبه عروق خشب سقف حجرتنا .. على كتل القش المتوهجة يشنون حملاتهم ، وأنا أرتجف مبتعدا . والنسوة بهمة عجيبة ، وبينهن أمى ، تصنعن خطا من البراميل عبر طلمبة البلدية العمومية .. الحى يكاد يفتت دارنا ، يبركها كجمل عجوز .. أسمع للسطح دويا مرعبا ، وللسلالم المتآكلة أنينا كالبكاء .
مجددا سعيت ملاحقا شعبان ، محاولا العثور عليه .. بعيدا .. بعدما قذفت بى أجسام الكبار القوية ، وأغرقت ملابسى مياه الإطفاء تكومت بعيدا .. بحيث أرى كل مايحدث .
كان الشيطان الذى أفزع الجميع مايزال فى عنفوانه ، قويا شريرا ، يرسل لهبا قويا ، ودخانا أسود محولا صفحة مابعد العصر الطرية إلى سماء حبلى بالغيوم .
كان شعبان الوحيد فى أصحابى الذى يشترى له أبوه البمب و الحبش و الصوارخ ، يطلقها فتتصدر أصواتا وأشكالا جميلة ، وتكون لها رائحة الأحجار حين نطرق عليها ، تتناثر ذرات النار هنا وهناك – فى وهج – فنخبىء وجوهنا ، ونتداخل فى بعضنا البعض كأن عفريتا على وشك الخروج منها . كانت جدتى دائما ماتحذرنى من اللعب بالشياطين – كما كانت تطلق عليها – وترفض رفضا باتا – لا رجعة فيه – التهاون فى هذا الأمر .. المرة الوحيدة التى استطعت فيها شراء البمب ، وأدت إلى صدور أوامر جدتى – بعدم إعطائى أية قروش – كدت أفقد فيها أخى إحدى عينيه ؛ لولا ستر الله .
كانت أصوات لطمات الأيدى على مطارح الخبيز تدوى فى أسماعنا ؛ فاليوم أجعل شعبان يندم على رفضه إعطائى صاروخا ، لن أعطيه قطعة من رغيف السكر الذى يقطر سمنا فواحا ، لن أعطيه ، سوف أغزو الدار الآن لأحضر الرغيف ، الذى صنعته لى عمتى وفدية رغم برمها بى .. واحمرار وجهها مثل نار الفرن ، حين طلبت من أمى واحدا .. وأنا مندفع غازيا عليهن المكان فرحا ؛ فـ" شعبان " لقاء قطعة يتركنى أطلق صاروخا . صرخت عمتى فى وجهى ، وزجرتنى قائلة :" الفرن حامى .. بعد قليل .. امش العب الآن ".ووجهها يفرز عرقا غزيرا ، وثمة دموع تتساقط من عينيها . خبت تلك الفرحة ، وباكيا درت على عقبى ، محتضنا جدار دارنا ، أشعر بخيبة أمل منداة كبكاء يمامة ، وبين لحظة وأخرى أطل متابعا شعبان ..وأنا مثقل بالإهانة أتوارى . حين ابتلعت حزنى تقدمت متضائلا ، وبعد قليل كنت أحاول إثناءه عن إشعال آخر صواريخه . ضاحكا منى كان يسخر بتلذذ . الآن أذيقه طعم البكاء كما بكيت .
مزق صراخ جدتى متاهتى ، فوثبت واقفا ، وتحركت متابعا مايدور . كانت النار أشد ضرارة .. والرجال منهوكى القوى يحاصرونها .. وأمى تهرول مبتلة الثياب و الرأس ، وقد التزقت ثيابها بجسدها النحيل .. بكيت .. فقد كانت عينا أمى حمراوين ، والدموع تتساقط منهما دون صوت ، بينما صوت جدتى المميز يجلجل – دون انقطاع – وقد علقت بملابسها قطع العجين البيضاء .. ترى أكان صاروخ شعبان ؟ لكننى تابعته فمافعل شيئا .. أم أنه الخبيز ، ونار الفرن التى كانت تزغرد فى عيدان الحطب .. وتحول وجه عمتى إلى لون النحاس الأحمر ؟ إن صاروخ شعبان صغير لا يقدر على إحداث هذا الحريق الشنيع .. إنه الفرن .. الخبيز .
فى العام الماضى كنا فى الغيط القريب من الطريق ، كنا فى العطلة الصيفية ، فجأة تغير لون السماء ، فهللت فى وجه عمى :" المغرب سوف يؤذن لها .. هيا بنا ياعمى .. آن وقت الرواح ".
تاه عمى فى صفحة السماء ، وحائرا لف حول نفسه . احتجبت السحب البيضاء ، التى كانت منذ قليل ترسم جمالا وأرانب وقططا ورجالا ، وحلت عتمة ورائحة خانقة ، ثم سمعت نواقيس تدق من بعيد ، كانت تعلو رويدا.. رويدا ، وتمرق السيارات متدافعة على الطريق ، عاليها رجال يلبسون خواذت واقية ، كان أحدهم يدق الجرس الكبير الذى كان أكبر من جرس مدرستنا .. وتوالت السيارات كثيرة – دون انقطاع – رحنا نتابع مسارها . أشار عمى :" هذه حريق فى الجابرية ". ولم أدروقتها من هذه ، غير أن السيارات ظلت فى تدفقها ، وكتلة شنعاء تعلو ذوائب الشجر ، وتكسو السماء بالغيم ، وعندما مر أحد الرجال صاح متأثرا :" بلد بكاملها احترقت ياشيخ محمد .. والبلد الثانية تشتعل .. الحمام .......". وراح متأسيا يحكى عن الأبراج المنتشرة فى البلدة تلك ، والرسائل النارية التى كان يطيرها فى سرعة وحذق من سطح إلى آخر كجسر جوى ، ثم مد هذا الجسر الزاجل إلى القرية المجاورة ، واختتم الرجل كلامه :" هذه مصيبة .. كارثة .. لا حول و لا قوة إلا بالله ".
كان اللهب يخبو ، والرجال فى سباق .. سباق بالفعل ، وكانت الحاجة نجية على سطحها الواطىء تصرخ ، وتنتفض مذعورة ، ومحاولا تخويفها ومنعها من الصراخ أطل عليها أحد الرجال الأقوياء ، وشاغلها بإلقاء بعض عيدان الحطب المحترق ، فتنعق كغراب ، وتحط على العيدان ، وبجنون كانت تحاول إعادتها إلى السطح العالى .
والحمام يشاغلنى . ماذا لو فعل أفاعيله ؟ لقد أتى على قريتين ، قدمهما لأحضان اللهب المدمرة ، ودفع حياته ثمنا باهظا على رسائله المميتة ، أبكى الأولاد ، ودفعهم إلى النوم فى العراء ، فريسة الندى و الطل ، وأسكن الناس خياما . كيف طاوعته نفسه ؟ كان صاحب البشارة وغصن الزيتون ، يتغنى ببكمته فيقول :" وحدوا ربكم .. كوكو .. كو .. كو .. وحدوا ربكم " . ولكنه دفع الحكومة إلى بناء دور جديدة ، دور جميلة ، دور أجمل من دارنا تلك .. ماذا لو أكلت النار دارنا ؟ هل تصبح لنا دار جديدة ، لا تكون قريبة فيها البهائم والدواب من حجرة نومنا .. و لا يكون الفرن والزريبة ودورة المياة فى ظلام دائم ، تسكنها العفاريت ليلا و نهارا .. ليس فى الحى إلا أبراج قليلة .. هاهى ذى بعيدة .. إنها فى الشوارع الخلفية .. لماذا لا يكون عندنا حمام ؟ لكن هذه الدور سوف تحترق .. دار أم حليمة التى تتركنى أدير لها دولاب الغزل ، ودار أبى حسن الإسكافى الطيب الذى يحكى لنا حواديته بحانوته ، ودار الحاجة نجية التى أسطو على بلاليص جبنها القديمة .
راحت عيناى تبحران عبر الدور ، باحثا عن شعبان ، أشعل النار ، ومضى ، والنار تأكل دارنا ، ستحترق العشة التى أحبها ، وكثيرا مالعبت فيها ، ولذت بها ، فتوارينى حين أهرب من أبى و أعمامى القساة . كنت أجد فيها مايفرح جدتى ، فرحا أزعق و أدبدب إذا ماوقعت عيناى على بيضة أو بيضتين ، أنطلق إلى جدتى مفعما ، أعطيها البيض الذى تقلبه فرحة بين أصابعها . لا .. لا يجب أن تحترق دارنا .. الدار الجديدة لن تكون بها عشة مثل عشتى .
من حولى التف رفاق الحارة ، ما إن أحطت بوقوفهم بكيت ، وسائلا عن شعبان حدقت فى وجوههم ، قالوا :" شعبان اختفى .. و لا ندرى أين هو .. اختفى العفريت ".
آه .. هرب بعيدا بعدما فعل فعلته ، الجبان . سددت نظرات قاسية تجاه دارهم ، وكراهية عنيفة تنتابنى ، وتدفعنى إلى مهاجمة المكان بالحجارة . كانت أشباح الرجال تنسحب مغادرة دارنا بينما دخان متناثر ، مازال ينبعث من هنا وهناك ، بعد قليل خبا ، ورنين قوى يقترب ، ويدوى من بعيد ، إنها نفس الأصوات التى سمعتها فى العام الماضى ، الرنات تقترب ، وتعلو ، وترتفع أصوات مرددة :" المطافىء جاءت .. المطافىء ".
اكتظ الشارع بالأولاد .. والرجال .. والنساء ، ومطيحا فى الناس كان أحد جنود حملة الإطفاء يمسك بحزام عريض ، يسرعون مبتعدين ، ثم يتحركون مقتربين . وجدتى تصرخ مولولة :" هذا موت وخراب ديار .. ياخرابى " . أبى رجال الإطفاء إلا مد خراطيمهم ، وغزو الدار . راحت أمى و نساء أعمامى يصطنعن سدا أمام الجنود ؛ فالعجين كالميت – كما سمعتهن – و لا يصح كشف عورته أمام غريب ، كما أنهم سوف يفتكون بدارنا ، ويسقطون سقفها ، ونبيت فى الشارع .. فاضت المياه ، حولت الشارع إلى بركة ، وانسحبوا بعدما سجلوا محضرا بالواقعة . كتب هذا كبيرهم فى دفتره .. ذاكرا أن سبب الحريق هو الخبيز .
صحت مرتجفا :" لا .. الولد شعبان هو الذى رمى الصاروخ مشتعلا على السطح ".
لكن الكبير اكتفى ، ولم يعرنى أدنى اهتمام ، فطفقت أعيد :" الولد شعبان .............." . انتهرنى عمى بقسوة :" اسكت .. ولا تتدخل فيما لا يعنيك ". حزنت ، وأسرعت مختبئا .
حينما احتوتنا حجرة النوم قلت لأمى :" الولد شعبان هو الذى ألقى بالصاروخ مشتعلا على السطح ".
قالت فى أسى ، ودون اهتمام :" إياك أن تقول هذا ثانية .. الحكومة قالت الخبيز .. والحكومة تعرف أكثر منا .. إياك ". ثم أردفت ، ودون اهتمام أيضا :" عمتك كانت على غير العادة هذا النهار .. جعلت الفرن كأنه الشيطان .. منها لله ".
فى الصباح رأيت دارنا ، ومافعله بها الحريق ، ورجال المطافىء . كانت مثل الأرض القريبة من البلدة ، ويطلقون عليها مستنقعات ، ومرة أخرى العفشة . حملنى على كتفه أبى نازلا بى السلم ، ورغم الحرص المتوخى إلا أن قدميه كانتا تسوخان فى الوحل ، فيتئد محجما .. ملتقطا أنفاسه المبهورة ، ثم يعاود النزول ، ونصبح فى مستنقع صحن الدار .
بحت لأبى بما كان من أمر شعبان ، وصاروخه . وبوجه ناقم حزين زعق ، ولطمنى . تألمت منسحبا إلى حيث كانت جدتى تعد أوعية اللبن حانية طيبت وجعى ، لكنها قالت مثلما قال أبى :" هيا إلى مدرستك .. هيا امش حالا ".
كمنت بجوار المدرسة ، باحثا عن بائع الصواريخ ، المطرود مثل بائعة المأكولات المكشوف ، فما كانت الناظرة لتسمح للبائعين بالوقوف أمام المدرسة ، لكنهم كانوا هنا دائما ، وعندما كشفت موقعه ، سعيت إليه مبتهجا ، وأشتريت واحدا ، وبسرعة كنت أخبئه فى مريلتى ، وأنا أتلفت هنا وهناك ، وعدوت مسرعا أسابق الريح ، ودار شعبان بسطحها العالى تستحوذ على تفكيرى .
بلهفة طوحت بالحقيبة فى صحن دارنا ، وواصلت السير ، لا بد أن يدفع شعبان ثمن ما نالنا ، ومانالنى أنا من تنكيل و سخرية ، عرجت نحو دارهم ، فإذا به مطروحا على الأرض يصرخ بفزع ، وبقع من دمه تلون ثيابه ، ورفاق الحى يكيلون له الضربات ، ويمرغون وجهه فى التراب ، أحسست بشفقة وعطف عليه ، ووجدتنى أندفع محاولا إبعاد الرفاق عنه ، فما استطعت .. احتضنته .. وأنا أزيحهم عنه .. كنت أعرف أنهم يصرعونه لأجلى ، لكننى لم أقصد ضربه . باكيا ردد :" هو كان قصدى .. والله ماكان قصدى .. والله لم أقصد ".
كانت دموعه كثيرة .. وساخنة ، بينما غصة تزاحم أنفاسى ، تحسست جيبى ، سحبت الصاروخ ، ورحت أمزقه ، أدمر عبوته البارودية ، وإحساس بالأسف يدفع الدموع فى عينى . تصالحنا .. بعدها تألق ، وراح يحكى الحكاية – وهو يزيل دموعه ودمه المتجمد بكمه – التى رآها بالأمس فى دار السينما ، وقد تعلقت عيناى بعيدا ، بالصاروخ الصاعد كشهاب مجنح نحو السماء ، يبخ شظاياه - فى كل اتجاه – والتى كانت تذوب و تختفى بمجرد انفصالها عنه ، مثيرة شعورا ما بالتورط وربما الحزن ، وفى لمح البصر كانت عصافير تجد فى إثره .. وتلاحقه كأنها دخلت فى سباق معه
|
قصتك جميله ربيع ولن ازيد عما ذكره من قبلي ...فقد اعطوا قصتك جزأ من حقها ..تقبل مروري
|