المنتدى :
خواطر بقلم الاعضاء
البهلوان
[CENTER]البهلوان[/CENTER]
بعد فشل منى به معظم الرجال الذين تقدموا لشغل منصب وزير السلطنة ، أحس السلطان " معروف " بخيبة أمال مريرة ، لم يشعر بها من قبل حتى في أسوأ الظروف التى مرت به ،وكان يردد :" شرطي ليس مستحيلا00نعم ليس مستحيلا إلى هذه الدرجة"0
كان يقف هناك بعيدا ، في برج قصره العالي ، وهو يفكر ، ويتأمل ببصره أرجاء سلطنته المترامية ، يشهد البيوت ، والمساجد ، والكنائس ، والحقول هناك ممتدة تفرش دنيا المملكة بسندس أخضر لا ينقطع حتى يعانق مفازة السماء ، يخترقها شريط لا يكاد يرى من البرج ، إنه النهر العظيم ، هبة الله 00وأسفاه 00 إنه على وشك الجفاف 00 والجفاف يعنى القحط ، والموت للزرع والطير والحيوان والإنسان !
يضرب السلطان كفا بكف ، عجبا وسخرية بما سيؤول إليه الحال ، وعاد بتابع وهو ينفس كل همه وألمه :" هذه المملكة الواسعة 00 هذه البيوت والحقول والمساجد والمصانع جدباء 00لا يمكن 00 إنها ملئى بالرجال القادرين على تحقيق شرطي المتواضع "0
نعم 00 إن البلاد فى حاجة ماسة إلى وزير من هذا الصنف ، ليعبر بها الأزمة التى تكتمل حلقاتها يوما بعد يوم 0
كان غضب يكاد يعلو وجه السلطان حين أحس بقدمين تتحركان خلفه ، فاستدار بإهمال ، وسرعان ما أبصر زوجته أمامه 0
تكلف ابتسامة 00 ابتسامة حاول أن تكون رائقة وطبيعية ، وقال :" أهلا بك 00 أرأيت ما حدث يا أم الرجال ؟ "0
بشت السلطانة في وجهه ، وربتت على صدره لتهدىء من روعه ، ونبست برقة :" إلا اليأس يامولاى 00 نحاول مرة أخرى 00 نحاول !!"0
طوح السلطان رأسه ، ثم تمايل على السياج الزجاجي :" أخشى أن أكون مبالغا فى شرطي يازوجى الطيبة "0
تتسع بسمة الزوجة الطيبة، وتسرع نحوه ، تطيب خاطره :" لا 00 لم تكن مبالغا يا سلطان البلاد 00 هذه البلاد قادرة على إنجاب من يستطيع تنفيذ شرطك "0
كان شرط السلطان فى وزيره ، أن يكون قادرا على حمل كوب من اللبن ، والسير به على حوائط بيوت الميدان الكبير ، دون أن يهتز أو تنسكب منه قطرة واحدة ، وخرج المنادون ، وأعلنوا هذا في أرجاء السلطنة كلها ، فتقدم الرجال ، تقدم الكثير منهم ، لكنهم فشلوا ، وراحت محاولاتهم سدا !
ربتت الزوجة على كتف السلطان ، فتطامنت روحه ، وأسرع معها إلى أسفل ، وهو يردد :" ولم لا 00 فلنعاود الكرة غدا ، وإن غدا لناظره قريب !!"0
فى الصباح التالي ، أقبل رجل في مقتبل العمر ، تبدو عليه سيما الفطنة والذكاء ،أوقفه الحراس ، وطالبوه بالإفصاح عن حاجته ، وسبب مجيئه ، فأجابهم :" أرغب فى شغل منصب وزير السلطنة "0
قهقه الجمع ، وسخروا منه بشكل يحمل الكثير من الفظاظة والاستهانة ، لكنه لم يهتز ، كأنه لا يسمع ولا يرى ،ثم أعادماسبق قوله على مسامعهم فى ثبات :" أرغب فى شغل منصب وزير السلطنة "0
فرض ثباته وجدته عليهم الاحترام ، فخجلوا من أنفسهم ، وتقدموا به صوب الديوان ، وهناك كان حاجب السلطنة 0
قابله الحاجب بنفس السخرية والاستهانة ، بل زاد عليها قوله :" اذهب إلى حال سبيلك 00 كان غيرك أشطر !!"0
ظل على موقفه وإصراره كأنه ما سمع من كلام الحاجب شيئا0
استغرب الحاجب ، ودهش كثيرا ، وظنه معتوها ، فأعاد عليه قوله :" كفانا منكم ما رأينا 00 هيا انصرف ؛ فالسلطان اليوم ليس على ما يرام "0
لكن الرجل لم يحرك ساكنا ، وظل على ثباته 0
ارتبك الحاجب ، وهنا لم يجد أمامه بدا من الإذن بالدخول على عظمة السلطان ، وإخباره بأمر هذا الرجل العنيد !!
هتف السلطان :" صفه لى !!
أجاب الحاجب :" لم أر مثله فيمن تقدموا قبله ياسيدى "0
قال السلطان :" ثم ماذا ؟ "0
أجاب الحاجب :" مشدود القامة 00 رزين النظرة كمقاتل شريف "0
عاد السلطان يقول :ط ثم ماذا ؟"0
ويجيب الحاجب :" عنيد كصخرة "0
هتف السلطان :" ثم ماذا ؟"0
يتنهد الحاجب قائلا:" قليل الكلام ، لا يهتم بمايقال ، وكأنه أصم !!"0
حين انتهى الحاجب من إجابته ، كان السلطان يترك كرسيه ، ويأمر الحاجب :" لتخرج فى الحال ، وتعلن عن التجربة الجديدة فورا 00 ثم تعود على وجه السرعة ، ومعك كوب اللبن مملوء إلى حافته 00 إلى حافته 00 هيا "0
ينسحب الحاجب لتنفيذ الأمر ، ويتحرك السلطان دائرا حول نفس كرسي العرش منفعلا ،شاعرا بحلمه يتحقق ، وأن شروطه لم تكن مستحيلة ، ينتظر مثول الرجل بين يديه ، وهو لا يهدأ ، ولسانه يردد :" نعم يازوجتى الحبيبة 00 أرضنا خصبة بالرجال "0
بعد ساعتين تقريبا كانت الساحة المحيطة بالقصر تمتلىء بالخلق ؛ فقد سار المنادون في أرجاء السلطنة ، وأعلنوا الخبر ، و أعلموا الأهالي بضرورة التواجد فى الميدان الكبير ، أمام قصر السلطان ، فاحتشد الناس ، منتظرين ما تسفر عنه هذه المحاولة 0
حين ظهر الرجل يحمل كوب اللبن ، قهقه الجميع ، كل الناس ، ضحكوا فاهتز الميدان ، وترددت الأصداء ، وتمايل القوم من شدة الضحك ، لكن الرجل لم ير شيئا من هذا كله ، بل كان يندفع بمهارة فائقة كبهلوان ، ويتسلق حوائط البيوت حائطا 00 حائطا ، والناس في ذهول 00 اتسعت أفواههم، وألجمت ألسنتهم ، وبلغت قلوبهم الحناجر ، وكلما قطع شوطا ، كان الخوف يتلبسهم ، ويشفقون عليه ، أصبحوا لا يتمنون فشله وإخفاقه ، ثم فجأة صفق الناس ، صفقوا جميعا ، صفقوا بلا توقف كأنهم لا يريدون له النجاح فى تجربته ، أو أن أحدا أرغمهم على هذا الفعل ، وبالفعل كانت التجربة تشمل هذا المحك !!
ظل الشاب منطلقا ، لا يعيرهم التفاتا ، والسلطان يتابعه من شرفة البرج العالي ، مبتهجا إلى أقصى درجة ، وزوجه السلطانة لا تقل عنه إعجابا ودهشة !!
هتف السلطان فجأة :" مستحيل !!"0
افتر ثغر السلطانة عن بسمة وضيئة ، حين أحست بسعادة زوجها ، وقالت :" والمستحيل حدث 00 هاهو يقترب من نهاية التجربة "0
كانت التجربة بالفعل قد أشرفت على النهاية ، فارتفع إصبع السلطان ، والتقطت الإشارة عين قائد الحرس ، وفى الحال أعطى أوامره إلأى الحرس ، فانطلقت المدافع ، تزمجر ، وتدوي دويا عاليا ، فتهتز المباني ، وتكاد الأسقف تحط أرضا ، مرة 00 اثنتان 00 ثلاثة 00 أربع ، والدوى يطمس على العقول والقلوب ، وبالفعل انهارت بعض المباني ، والشاب يندفع كأنه راقص مدرب في سيرك ، لم يهتز ، لم تتحرك شعرة واحدة برأسه ، واللبن إلى حافة الإناء كما هو !!
هنا تعالت الأصوات :" آه 00 إنه أصم 00 أصم "0
كان التصفيق عاليا ، والحزن يعم جموع الناس 00 سينجح ، ويكون وزيرهم أصم 00 لا يسمع شكواهم 00 لا يسمع أنينهم وبكاءهم ، لقد ساعدوا السلطان فى التآمر على حياتهم هم !!
هبط السلطان فورا؛ ليستقبل وزيره الجديد ، الذي سار بكوب اللبن على كل حوائط بيوت الميدان الكبير ، فلم يهتز ولم يسكب اللبن !!
دنا أحد رجال الصحافة ، وقال لعظمة السلطان :" إنه أصم 00 كيف ستتعامل عظمتكم مع وزير أصم ؟"0
قهقه السلطان، ورحب بالشاب " الوزير الجديد " ، وأثنى عليه ، وهو يقول بفرح :" سوف تخرج البلاد من محنتها على يديك "0
فقط انحنى الشاب بكياسة ، ولم يقل شيئا ، وهنا كانت الحيرة ، وكانت التوجسات !!
حين تقدم به السلطان ، وبدأت مراسم تقلده الوزارة ، خرج الشاب عن صمته :" حين تجعل كل تركيزك في مسألة ما ؛ فأنت قادر على حلها ، نعم ، لست أصم 00 ولم أكن لا عبا في سيرك ، لكنني حاولت بجدية أن أنال هذا المنصب الخطير ، وأحظى بهذا الشرف ؛ لأخدم وطني ، وأسعد أهله "0
تهلل القوم ، وارتفعت أصواتهم ، فبلغت عنان السماء ، وترددت الأصداء عالية ، كأن السماء سعيدة هى الأخرى بهذا الاختيار الشعبي الفريد فى نوعه 0
|