المنتدى :
خواطر بقلم الاعضاء
سعد الغجرى
سعد الغجري
كسهم كان يمرق بين العطف المتعانقة الأسطح ..
يلتوي فى سرعة كاسحة مع انحناءاتها ..
يصطدم تارة بالمصاطب الطينية ..
الخالية من شاغليها فى هذه الساعة ..
وكتل الزلط ..وكمرات الحديد المغروسة
كمفاتيح للجدران المتهالكة .
ضاغطا على أنفاس مفاتيحه المعهودة
بطرف جلبابه ما استطاع
...وإن ظل صوتها يصلصل ،
وينحت رأسه المطارد بالفزع ..
على كتفه الأيمن يتدلى طوقه الحديدي ،
مزدحما بشتى أنواع
المفاتيح لأقفال وكوالين ..وخزائن ..وسراديب ؛
حتى أن صبيان البلدة السذج يظنون ، بهذا الطوق
مفتاح الكنز المخبوؤ فى سرداب جامع " الشوافعية " ،
حيث كان الشيخ رجب على وشك العثور عليه ، لولا
خادم الشوافعية ، الذي ابتلاه بريح قوية كادت تعصف به ،
وهو يخوض عبر بوابات السرداب ،
فزعق خارجا ، وأقسم
أن حية عظيمة ذات ثماني رؤوس تسكن السرداب ،
ولابد من ردمه ......
كان الأولاد دائمي التحرش به
– خاصة فى الوقت الذي صدر فيه
الأمر من كبير المنطقة بالردم –
محاولين سرقته المرة بعد الأخرى ،
لكنه سرعان ما ينفلت مخلفا إياهم ،
يضربون طواقيهم وشالاتهم بالأرض ...
من فرط الجنون الذي تركهم عليه .
وهنت الكتف الأخرى ، وأصابها الإنهاك ..
تحت وطأة الصندوق المدلى بها ،
أحس بها مفككة
.. تزحف بها جيوش من نمل ،
والعرق يغمر جسده تماما
، ويحوِّل الأشياء أمام عينيه خيالات بلا معالم ،
ورؤوسا..
لا تجد قرارها ، وضحكات ماجنة .. ولهاثا كلقلقة القرب
الطافحة ،
ودقات صدره بندول ساعة تراكم عليها صدأ السنين .
واصل جريه المؤلم حتى أصبح في الخلاء ،
توارى خلف المبنى الممتد للمعهد الديني ،
وترك لجسده حريته ، فاساقط على الأرض ممددا .
كان ينهى إصلاح " الكالون " بمهارته المعهودة .
ومن ركنها المعتاد كانت عيناها تتابعانه ،
و" اللبانة " بين شفتيها المكتنزتين ،
لها حركة الردفين القلقين ،
والعينان واسعتان ،
يظلهما شحوب له رائحة نَمِرَة ..
الوهج المذاب فى زئبق الحدقة ،
يشيع فى خلاياه طعم البارود المحترق .
انحسر جلبابه ، فاشتعلت زهرة الأشواق
عبر عمرها المنفلت والآتي ،
الدماء تتدفق ...
فى الرأس و الوجنتين ،
تستضيق الأوردة ،
تنفرج .. تتضخم ، فترفرف نشوة جسور
..دنت منه حتى لامسته ..
صاحت كأنها ما رأت الصندوق فى طريقها
..ابتعدت فى خفر مفتعل ..تداخل فى بعضه
..انكمش به فأر الحياء ..
انداحت فوق رأسه أبراج من تعاويذ وحكمة والده
.. اعتصرته حتى اختبأ كقنفذ مداهم .
عادت السيدة متخففة من ثيابها ،
سعت إليه ،
ارتمت أمامه مباشرة .
:" أنت بتبين زين ؟ ".
:" هذا عمل النسوان .. أنا أقرأ الكف و الطالع ".
تحاول امتصاص دوى الحمحمة
التي أصبح لها صوت بداية الزلزال ،
طلبت منه قراءة الطالع ،
مدت يدها
.. منحنية إلى الأمام .. وسر مدينة
اللذة يبدأ من رعفة الطائرين ...
حين انفلاتهما من وطأة الأسر ....
قرأ بيد مرتعشة ، وعينين مسبلتين فى فراغ
، وهى تتلوى ..تختلج مستهينة بشأنه
– هو الغجري الأجرب –
نافثة فى جسده زعاف ما تتلظى ....
وكان يحترق ،
وتراب الأرض سخين تحت قدميه العاريتين
...وشعور بالدونية مازال يستنزفه ..
ويفتك بخصيتيه المحتدمتين .
طوى جلبابه .. مرره على وجهه ..
أزال العرق المتجمد بالغبار ..
قام برأسه ..
راح يتحسس الصندوق الملقى بجانبه
..اعتدل ..
قلب أشياءه التي كانت تحوى إلى جانب المفك والمنجلة والمبرد الحدادى
قارورة المخدر ... والقطن ..وسوارين ذهبيين ..
أخذهما بين كفيه متنهدا ...
صاعدا بوجهه للسماء .....وهو مغمض العينين .
:" سوف أقتلع هذه يا حمامة ، وأبنى بيتا من الطوب الأحمر ، لو أن الأمر بيدي لفعلت الآن ..لكن الصبر طبيب يداوى الجراح ..أشترى أولا قطيعا من الأغنام بما معي .........".
:" نهرب يا سعد من هذه المرأة – أمي – التي تلهف شقاى ،
ولا تترك لى شيئا ،
حبا فى العجل – زوجها –
الذي يقعد أمام الدار كبغل السرجة ،
معطيا تصاريحه للسابلة و المراهقين ،
ولا يكتفي .... إلا وقد ساخت روحي ، وماتت أعضائي ".
:" هانت يا حمامة .. هانت ".
:" لم لا أقتله يا سعد ، وآخذ صرة الفلوس المعلقة برقبته ،
ونهرب ، بلاد الله واسعة ".
:" بلاد الله واسعة نعم ...لكن بلاد الله تعرفنا .. ولابد من تدبير أنفسنا ".
راحت دموعه تنحت فى طبقة التراب
التي تغطى وجهه ،
وصوت حمامة الحزين يطارده ،
مدويا فى كيانه ،
وهى تتكىء على ساقيه وبطنه شبه منومة ،
زاحفة فوق هيكله المشدود ،
تمرغ وجهها فى صدره وتحت إبطه .
:" سآتي المرة القادمة .. وسوف نرحل .. تعبت يا سعد ..نتزوج ..أرمى أحزانى وأوجاعي فى أحضانك ..أشكو لك ، وأحلم معك ، وأقول هذا مهري يا سعد ..هذا تعبي الذي نهبه زوج أمي ..نهرب إلى أي مكان ...نبنى بيتنا بالطوب والأسمنت ، ونغطس بين الفلاحين ونعيش عيشتهم ..أفعل كل ما تطلبه منى ..أضرب الودع ..أشرط الجيوب ..أخدر النسوان ..أدور على الأبواب.. أرقص ..أغنى ..أبلف المحرومين ".
ثم تنسحب مترنحة برأسها الثقيل .. وقلبها الهائم فى نشوته ..
ومن بين دموعه راح يردد :" نعم .. الآن نرحل يا حمامة ..ما عاد لنا عيش فى هذه البلدة ..الآن كتب علينا الشتات ..
وماذا كنت أفعل .. كثيرا ما اقتحمت البيوت ،
وسرقت الأشياء التافهة ... عشرون سنة
...ما رأيت وجه سيدة أو هانم من الهوانم إلا أنت يا حمامة
... لكن هكذا شاء القدر".
لملم أشياءه ، وبتراخ زحف تحت جنح الليل ،
عيناه سهمان مدببان ، ينفذان إلى مابين الأسوار و البيوت والعتمة ..
يرشقان بطن السماء ، قتساقط الظنون ثقيلة فوق صدره الواهن .
كان دلها قاسيا لا حد له ....وكان صبره مميتا داميا ...
نبش فى صندوقه بأظافره ..وبخفة التقط قطعة شاش ...
بللها بالمخدر ، ثم بحرص شديد ورغبة محمومة
أغمد نصل فحولته ككلب في العراء ..
اخترق مدنا وأسوارا لبلدان لم توطأ بعد ..
وانبرى ثعبانا همجيا مشبوب العاطفة ،
دبت فيها الروح ، قاست مرارة الألم ،
ورهج كيانها محاولا الفكاك من الأسر ...
تنشب أظافرها فى وجهه ،
مطوحة برأسها – التي كانت تحت أسر المخدر _
وأنينها المحموم يتعالى ..يتحول لصراخ خافت ...
عندما كان عليه أن ينطلق هاربا ....
كانت قطرات من الدماء
تتساقط من أسفلها .
:" سحرتني يا سعد كما سحرت الناس ...
أحبك بألآعيبك وأشيائك ..بطوقك وصندوقك ...
بعدستك التي بهرت بها الناس ..
ووقفوا كأن على رؤوسهم الطير ،
ساعة جعلت الشمس فى حجم رأس عود الكبريت
، وأشعلت النار فى الحطب ،
بسائلك الأبيض الذي يجعل للمليم الأحمر لون الفضة
، بورقك الملون الذي تغمسه فى مائك السحري
فإذا الأحمر أزرق ، والأزرق أحمر ..........
أتعرف ما قالت أمي :"إنها أفاعل يختص بها آل سعد المجانين "
...من يومها أحب الجنون ..واليوم الذي لا أراه فى عينيك ، أتمنى لو لم أرك فيه ".
زيادة فى الحيطة كمن بجوار عشته الصغيرة ،
بحيث يرى كل من يتجه إليها ، أو يحتمى بها .
:" حالا تأتى حمامة ..ولن أكون فى حاجة لهذا الجحر القذر،
الذي رأى معي الكثير ، وأورثني الكثير ،
رأى معي تلك السنين التي لا أنساها،
حين كثر الكلام عن التصنيع من الإبرة إلى الصاروخ ...
وقتها اجتنيت أموالا طائلة من تجارة الحمير ؛
فالحمار أجلبه هزيلا ...تلتف ساقاه إحداهما على الأخرى
، وبعد أسبوعين بالتمام و الكمال يركبه الشاري ،
فإذا به يركب مهرا طائرا ...
وبعد يومين من شرائه ...
تكون المطاردة ..
وأكون بعيدا عن المضارب ..
حتى يزهق ..
ولا يبق له إلا عض النواجز ،
واستعواض الله فى الحمار و ثمنه ..
وما كان الأمر ليكلفني كثيرا ،
حفنة من الفلفل أو الشطة الحمراء ،
أدسها فى مؤخرة الحمار ...
وتمر الأيام ..
ومرة تفوت ..ولا أحد يموت ...
عاش معي عشقي لحمامة ..
رأى دموعها ...
وسمع صوتها ..تنهداتها ...حار أنفاسها ...
جمال جسدها عندما تتعرى ..
وأتـعرى ...ونتدحرج فى محيطه الضيق ".
القلق وتر ينهك القلب والروح ،
ويدمى ثبات العصب ،
والخوف عند القمة كان مشنقة حول الرقبة
...وفى القدم سلاسل من حديد ...
جذبته الأضواء الذهبية التي كانت تسبح فيها ...
وراح إحساسه بالوقت يتضاعف
...النزيف لا ينقطع ...
والتأوهات مشارط تدمى عقله ...
بسرعة انبرى ..ينزع عنها حليها ..
أقل دبة قدم فى الحارة كانت بمثابة مطرقة ...
اكتفى بالسوارين ..وحمل أشياءه ...ومضى .
كان فى حاجة ملحة لفنجان من القهوة ...
وحبة من التهتورة التي ترقد فى قاع الصندوق ،
يُذهبُ بها هذا الشعور المزدوج من الخوف والبرد و القلق
، والفضاء من حوله ساكن هادىء ،
كأنه ينتظر شيئا يخرجه عن حالته ...
يرجع صدى نباح الكلاب فى المضارب
عن قرب ومن بعيد ،
والثغاء والنهيق يتخللان بين لحظة وأخرى .
تقدم بجسد أثقل من الملح ...
كلما خطا خطوة تقهقرها ...
وفى النهاية كان يوقد لمبة الجاز ،
ويرخى بوابة العشة – جوال الفل –
وبسرعة يعد فنجان القهوة ، ويحوجه بالتهتورة ...
وما أن هم برفعه على شفتيه
حتى كانت قبضة تحط على رأسه ...
وأخرى على فمه ...
وثالثة تسدد الطعنات ...
واحدة ..
اثنتين ...
ثلاث ..
أربع .
يتقدم شريط دم حارا سخينا
– دون توقف –
يعبر العشة ،
يتلوى متعرجا ،
و البطن على الأرض تنتفض ...
تفرغ آخر مابها ...
بينما خطوات حمامة تدنو ...
تدنو طائرة ترتجف بكيس الفلوس ، وتغنى هامسة
:" سعد يا سعد .. يللا يا سعد ..سعد يا سعد ".
..تتوارى في فضاء العشة ...
وحين كانت صرختها تلتحم خيوطها
للعبور ...
تكتمتها القبضة ...
بينما الأخرى تلحم الأمعاء بالأمعاء .....
ومن بعد تستدير للانفلات ، و بيدها ما خف حمله !!
|