خلف نافذة الكنيسة المحطمة تسلّلت بقايا خيوط شمس الصباح الذهبية ..
و بين جدرانها الأربع المتآكلة كانت ساحة " المذبح " شاسعة مُهيبة سقفها دائري مماثل للقُبّة .. تكسوها غلالة من الظلال المتدرجة الألوان ..
منتدى ليلاس الثقافي
ظلالٌ انعكست على الزجاج المتناثر لتتداخل ألوان الطيف في مزيجٍ بديعٍ من الأصفر الفاقع و الأخضر الزاهي و الأحمر القرمزي ..
في وسط الغرفة .. و أمام تمثال العذراء ... بقيت شمعة وحيدة معلقة على عود شمعدان فضي تتدلى عليه خيوط عنكبوت ، ضوء الشمعة الخافت يهتز و يتراقص .. تعبث به أكفّ الريح ..
و مع تمايل لهيب الشمعة تتطاير خصلاتٌ حريرية لها لونٍ أسود فاحم كظلمة اللّيل ..
خصلاتٌ كثيفة انفلتت من قمة رأسٍ ملفوف بوشاح أحمر بلون الدم القاني ..
رأسٌ صغير لجسدِ فتاةٍ مرميّة على أرضية الغرفة .. غارقة في بركة من الدماء .. بلا حراك ...
عيناها فارغتان غائرتان ..
تحدقان في سقف الكنيسة ..
كان الوجه مهشماً شديد التشوه لدرجة يصعب معها تحديد هوية صاحبة الجثة ...
لكنهُ هو .. هو من عرفها ...
من عينيها !!
كانتا بالأمس تلمعان كدوائر من نور تضيء مساحات وجههـا...
و اليوم يراهما خرزتان جامدتين تلاشى بريق الحياة منها ...
كم مضى من الوقت و هو يحدّق بها هكذا؟
عجز عقله الخَدِرْ عن تحديد المدة ...
لكن الألم الشديد الذي داهم أطرافه أنبئه أنه كان زمناً ليس بالقصير ...
لم يعد يذكر شيئاً في هذة اللّحظة ...
كل شيء تبخّر .. كما تتبخر قطعة سكر غمرتها موجة بحر عاتية ..
كل الصور و الروائح و الأسماء تلاشت .. و لم يبقَ بين دهاليز الذاكرة سوى ذكرى مشوشة ...
ذكرى ابتسامة خجولة ارتسمت على محياها بعد أن ودعها و ضمّها إلى صدره للمرة الأخيرة ...
ابتسامة عذبة شعر بوهجها يلمع في عينيه ..
"وداعاً يا صغيرتي .. كوني حذرة و أنتِ تقطعين الطريق ، اسلكي المنعطف على يمين البوابة و احذري ألا تتجاوزي السياج و تسقطي في البئر! "
هزّت رأسها طائعة و كادت تهمّ بالرحيل عندما أوقفها بغتة ..
"انتظري! .. نسيتِ وشاحكِ!"
سحبَ من على الشماعة وشاحاً سميكاً ذا لونٍ أحمر ناري ...
انتفض جسدها النحيل للحظة ، انعقد حاجبيها و ضاقت عينيها و هي تُحدق بالوشاح ...
ضحكَ من أعماق قلبه ... كان يعلم مقدار كراهيتها و اشمئزازها لذلك الوشاح ...
أخبرته ذات مرة بأن لونه الأحمر يذكرها بلون الدم ..
كانت تمقت الدماء .. تمقت لونها و منظرها و رائحتها .. إذ تصيبها بالغثيان ..
زمّت شفتيها بإمتعاض فربتَ على رأسها الصغير بحنو و همس لها :
" ارتديه الليلة فقط .. سيقيكِ من البرد ، كان بودي لو اصطحبتكِ بنفسي إلى هناك .. لكن ألم المفاصل عاودني قبل أيام ... و جورج المسكين مُصاب بالحمى كما تعرفين "
و بحركة سريعة لفّ الوشاح على جانبيّ وجهها ليغطي عنقها و رأسها ...
وضعتْ الفتاة راحتيها على كتفيه القويتان ثم رفعت أطراف أصابع قدميها قليلاً .. حتى أصبح طولها موازياً لطوله .. لتطبع شفتيها على خده قبلة وداع رقيقة ..
ابتسم و هو يراها تحرّك يديها و أصابعها له في حركة يفهم معناها جيداً ...
" و أنا أيضاً أحبكِ يا جولي " ...
اتسعت ابتسامة الفتاة الخرساء من جديد ...
و لوّحت له مودعة قبل أن يتضاءل طيفها و يتلاشى خلف الأفق ...
بالأمس ... خرجت "جولي" من منزله بعد تناول العشاء ، الطفلة اليتيمة الخرساء التي تعمل عنده خادمة في النهار و تعتكف في الكنيسة لعبادة ربها من مغيب الشمس و حتى شروقها ...
بالأمس ... ودعها و أعطاها ذلك الوشاح ...
و بالأمس ... نسيَ أن يغلق باب الكنيسة ورائه ...
بصفته قسيس الكنيسة كان دوماً يحذرها من عواقب الخطيئة و عصيان الرب .. و من النسيان ...
لا تنسي تناول الإفطار .. لا تنسي إطعام أطفال الملجأ .. لا تنسي تنظيف الصحون .. لا تنسي ترديد أدعية المساء قبل النوم ...
و لا تنسي الأجراس ...
لا تنسي أن تقرعي الأجراس إن حاول أحد اللّصوص اقتحام باب الكنيسة ...
لا شك أنها لم تحس بقدومهم نحوها ... لم تشعر بهم يتسلّلون خلفها ...
لم تدرك وجود شبح الموت الجاثم داخل الكنيسة .. داخل ملاذها و ملجأها ...
المكان الذي اختزل كل معاني الأمان و الطمأنينة ..
أصبح مسرحاً لجريمة بشعة لم تكن وحدها ضحيتها ...
عندما دخلَ الكنيسة مع بزوغ الفجر .. و وجدها هكذا ...
مخنوقة بوشاحها الأحمر و تسبح في بركة من دمائها ...
و قد اختلطت دمائها بلون وشاحها ..
شلّته الصدمة و أفقدته الشعور بحواسه ...
لم يشعر إلا بمثل الوتد السام يخترقه و يطعنه في الصميم ..
بلهيب مُستعر يحرق صدره و يخنق أنفاسه ..
ندم ينهشه حيّاً .. و ألم يتآكله من صميم فؤاده ..
لم يصرخ .. لم يبكي .. بل لم يحرّك عضلة واحدة من جسمه ..
لقد مات قلبه معها ...
و هل للميت أن يصرخ أو يبكي أو يتحرك ؟!
تمت بحمد الله