المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
خلف جدران الصمت
لو قلتُ بأن طيفكَ يُلازمني كظلي فلن أكون صادقاً! .. فالظل يضمحل و يتلاشى حينما تغرق الشمس وراء الأفق البعيد لحظة الغروب مُخلّفة ورائها بقايا خيوطٍ من نور ...
بينما يطاردني طيفكَ في جوف الظلام الدامس و يتربص بي و يعدُّ عليّ نبضاتي كغولٍ يتستّر بالعتمة!
منتدى ليلاس الثقافي
أشعر به يتسلّل زاحفاً بين مسامي ناخِراَ عظمي بقسوة ساديّة و ناهشاً لحمي بشراهةِ كلبٍ مسعور ...
إنه يجري في عروقي مجرى الدم و يسبح عبر أَوْرِدَتي مع كُرياتي الحمراء و البيضاء ... يسري في كل ذرة من كياني و يتغلغل في خلايا جسدي كعدوى فيروسية لعينة!
يحاصرني من كل الجهات و الزوايا .. يحيط بي إحاطة القَيْد بالمعصم ، و يعصرني بين فكّيه كشرنقةٍ من حديد فيُكبّل كل إحساسٍ لي بالحياة ...
أقربُ إليّ من أنفاسي التي تحترق كجمراتٍ في صدري .. و أشدُّ التصاقاً بي من الجلد الأسمر الذي يُغلّف بَدَني الهزيل ...
أرى انعكاس صورتكَ في عيناي .. فأجدكَ حبيساً بين محجريهما .. تقبعُ هناك مدفوناً حتى يقذفك سيلُ دموعي خارجاً ...
أحياناً .. أحياناً فقط .. تطنّ ضحكاتك الساخرة الرنّانة في مسمعي فيقرعني صدى الذكرى .. و أجد قلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي هارباً منك .. و إليك ...
.. أحياناَ فقط .. أناديكَ صارخاً ليختنق صوتي و تضطرب الحروف بين شفتيّ .. فلا يخرج اسمكَ من حلقي إلا كهمسةٍ مخنوقة...
حين انتزعك الموت من بين براثن الحياة تجمّد بي الزمن..
يومها تزلزل عالمي و هزّتني رعدة ارتجفت لها أوصالي .. رجفةُ طيرٍ مذبوح يتلوى لافظاً أنفاسه الأخيرة ..
الغريب أنني لم أحزن .. لم أجهش بالبكاء .. بل لم تنحدر عبراتي على خدي ..
الصدمة كانت وحدها ما اجتاحني ..
و الصدمة هي وحدها ما يختلج بأعماقي الآن ..
لا أذكر كم مضى من الوقت .. يوم؟ يومين؟ سنة؟ لا أدري .. فقد غدرت بي الأيام و مرّت دون أن أحس بها .. دون أن تودعني حتى أو تلتفت إليّ ..
تماماً كما فعلتَ أنت!
لكني لن ألومك و لن أمنحك متعة السخرية بي .. فقد نِلْتَ كفايتها عندما كنتَ تسير على هذه الأرض! .. و الآن أنت مُسجّى تحت ترابها غارقاً في سباتٍ أبديّ ..
لا تشغلكَ شاغِلة و لا يخطر ببالك خاطر ..
تخدّرتْ أطرافك .. سكنتْ نبضاتك .. و تجمدتْ أنفاسك .. إلى الأبد ...
تتدافع الضحكات المريرة من جوفي كلما تخيّلتُ منظرك في هذه اللحظة .. أمر مضحك .. نعم .. مضحك! ... و لا شك بأنك ستضحك على حالك أيضاً .. فلطالما كنتَ تستمتعُ بغرائب النكت!
شابٌ في ريعان الشباب يضجُ بالحيوية و تتدفق الحياة في حركاته و سكناته و صوته و ضحكاته .. ينقلب حاله بين ليلةٍ و ضحاها إلى جثة هامدة متعفنة تتغذى عليها الديدان ... يا لسخرية الأقدار!!
لو قلتُ بأنني اشتقت لك و افتقدتُ وجودكَ فسأكون كاذباً مُنافقاً! .. و ما حاجتي للكذب و النفاق في غيابك؟؟ و ما جدوى الذكريات و الأشجان ؟؟ فكلانا يعلم أنك لم تفارقني لحظة ..
سكنَ طيفكَ وجداني ما أن افترقت روحك عن جسدك ..
فكيف لي أن أشعر بالحنين إليك؟؟
في يوم عزائك تمدّدتُ على سريركَ أحدّق في الفراغ .. انتفض جسدي فجأة و اغروقت عيناي بالدموع ضحكاً .. ضحكتُ .. و ضحكتُ .. و ضحكتْ ..
و حتى حين سمعني الحاضرون ظللتُ أضحك و أضحك بهستيريا غريبة .. لم أعبء بهمساتهم المذهولة و لا بصراخ أبي الذي استبّد به الغضب و الحرج .. و لا بنظرات الشفقة و الألم العميق التي أطلّت من عينيّ أمي عندما فتحت الباب و وجدتني هناك ..
اكتفتْ بأن تنهّدت و هزّت رأسها بأسى ثم خرجت و أغلقت باب الغرفة ورائها ...
دفنتُ رأسي تحت وسادتكَ بعد أن هدّني التعب و فقدتُ القدرة على الضحك ...
أغلقت عيناي بقوة حتى ابتلعني الظلام و استسلمتُ للذة النوم ..
لا .. لم أحلم بك .. لم يتراءى أمامي خيالك .. و لم يتردّد صدى صوتك في أذنيّ ...
كان كل ما رأيته هو الظُلمة .. و كل ما شعرتُ به هو البرد ... و كأن يداً عملاقة قد أسقطت حاجزاً سميكاً ثلجي البرودة على وجهي لتصيبني بالعمى ..
أتسائل ان كان هذا هو كل ما تراه و تشعر به أنت أيضاً!
عندما استيقظتُ أخيراً تثاءبتُ و جررتُ رجلي إلى الحمام ... غسلتُ وجهي و تركت قطرات الماء تنساب بين مسامي ببطء و كسل ...
نظرتُ إلى المرآة بغتة .. لا أدري ان كان ما رأيته هو دموعٌ أم قطرات الماء التي بللتُ بها وجهي قبل لحظات ..
وجدتني مرة أخرى أفكر فيك .. لا تفكير شوق و لا ألم .. بل مجرد تفكير ...
أحسب أن البعض سيتهمني بالقسوة و انعدام الإحساس .. و البعض الآخر سيشفق على "حالي" و يدعو لي بالرحمة و التماسك خشية أن أصاب بالجنون ..
لكنهم لا يفهمون .. لا أحد منهم يفهم .. و لا حتى أمي ...
صحيح أنكَ شاركتني كل شيء .. ملابسي و طعامي و أصدقائي و مدرستي و كتبي و أقلامي .. و حتى رحم أمي!!
صحيح أننا كنا نتشاجر كل يوم و نتخاصم لأسابيع .. لكن .. أليس هذا حالُ الأشقاء دائماً؟؟
كنا معاً منذ الولادة .. فكيف يفصلنا شيء تافه كالموت؟!
و على كل حال .. من المستحيل أن تشتاق إلى أخيك التوأم بينما بمقدورك رؤية وجهه كل يومٍ في المرآة!!
تمت بحمد الله
|