كاتب الموضوع :
تيتوف بارة
المنتدى :
كتب الأدب واللغة والفكر
بدلاً من خاتمة:
جماليات وشواغل روائية
الزمن الروائي بين الواقع والتاريخ ـ
محاولة تأنيث
مقدمة
يأخذ النظر إلى التاريخ في هذه المساهمة، بما هو وقائع منقضية، وبما هو معرفة شفوية ومكتوبة بتلك الوقائع، مع التشديد على:
1 ـ الهامش الغائب والمغيّب في المكتوب، وبالتالي عدم الاكتفاء بالتاريخ الرسمي.
2 ـ عدم الاكتفاء بالمكتوب الرسمي أو الهامشي، بل الأخذ بالشفوي أيضاً، ومنه الحكايات والأساطير والمرويات الجزئية أو الكاملة التي ترمم أو تضيء أو تنقض النص المكتوب.
3 ـ المنظور المضمر أو المعلن في تقديم التاريخ، أيَّاً يكن النظر فيه.
4 ـ اكتناه التاريخ للأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، مهما يكن من تعلقه أو تعليقه بالماضي.
ويأخذ النظر هنا في الواقع على أنه جسد الفرد والعالم، مادياً، واجتماعياً، مع التشديد على أنه إذا كان زمن الواقع يبدو وحده الزمن المعيوش: الحاضر أو الراهن، فإنه أيضاً يكتنه الزمنين الآخرين: الماضي والمستقبل، أي التشديد على اكتناه الواقع للتاريخ، كاكتناه التاريخ للواقع.
ومهما يكن النظر إلى الواقع والتاريخ، فهو يتعلق بالزمن. وإذا كان الخُلْف بالقول في التاريخ أو الواقع كبيراً، فهو في الزمن أكبر، حيث لا يكاد المعلوم يُذكَر، ويطغى المجهول، سواء بالقياس إلى الواقع والتاريخ، أو بعامة. لذلك سأكتفي بهذه القراءة الحديثة لما قدمه عبد المالك مرتاض في أمر الزمن، وهو ما قدم به لقوله في الزمن الروائي، وأوله شبحية مفهوم الزمن، وكون الزمن إثبات للوجود وإبلاء، لكأنه الوجود نفسه، فهو موكل بالكائنات والكون والوجود، ولكنه كالأوكسجين لا يُرى ولا يُسمع ولا يُشم ولا يُلمس، بل تُحَسُّ آثاره فقط، فالزمن "خيط وهمي مسيطر على كل التصورات والأنشطة والأفكار"(1).
ويلفت في هذه القراءة ما لحظتْ من متابعتها في المعجمية العربية للزمن، من علاقة الزمن بالمكان، كما يشير اشتقاق الأَزْمَنَة بمعنى الإقامة ـ ومنه قولهم: رجل زَمِنٌ وقوم زَمْنى.
يعدد مرتاض الزمن الفلسفي والزمن المتواصل (الكوني السرمدي الأكبر الطولي الذي يظرّف الأحياء والأشياء)، والزمن المتصل والزمن المتعاقب (الأصغر الحلزوني الدائري المغلق وإن بدا طولياً) والزمن المتقطع أو المتشظي (الطولي غير التعاقبي) والزمن الغائب (زمن اللا وعي) والزمن الذاتي النفسي (المناقض للموضوعي): "إن الزمن في كل أطواره، موضوعي في ذاته، وإنما صورة التعامل هي التي تعمل على تحويل موضوعيته إلى ذاتية"(2).
أما النظر إلى الزمن في هذه المساهمة، فسيأخذ بالقول:
1 ـ مع أفلاطون، حيث الزمن كل مرحلة تمضي لحدث سابق إلى لاحق.
2 ـ ومع الأشاعرة، حيث الزمن متجدد معلوم، يُقَدَّرُ به متجدد موهوم.
3 ـ الزمن الروائي كشبكة أزمنة ومن ذلك:
أ ـ الزمن التاريخي (الماضي) الذي يناديه الحاضر لواذاً به أو فحصاً له، أو كقيمة مستقبلية.
ب ـ الزمن الجواني، النفسي، والذاتي، حيث العيش المباشر (الحاضر)، وغير المباشر، وحيث حيوات، لا حياة (أزمنة الحلم والتوهم والاستذكار والاستباق).
ج ـ الزمن الموضوعي الطبيعي والخارجي حيث العيش المباشر (الحاضر)، والحياة الواحدة.
ولئن كان القول هنا يمضي أيضاً إلى زمن الكتابة وزمن التجربة وزمن الحكاية، فالتشديد في كل حال هو على الزمننة الروائية للأحياء وللأشياء والأحداث، وعلى امتصاص الزمن الروائي لأي زمن، وعلى تعالق الزمن باللغة، وبالتالي: تعالق الأزمنة باللغات، ما دامت الرواية لغة مكتوبة.
من المستحيل، ومن غير المجدي أيضاً تحديد مفهوم للزمن ـ باسكال ـ وفي الآن نفسه، فالزمن ضرب من التاريخ، كما هو التاريخ ضرب من الزمان ـ مرتاض ـ ولكن ذلك ليس بكل شيء، لأن الرواية ـ ببساطة وبتعقيد، بوضوح وبغموض ـ هي فن الزمن، كالموسيقا (لوسينق). ولأن الزمن الروائي "نسجٌ، ينشأ عنه سحر، ينشأ عنه عالم، ينشأ عنه وجود، ينشأ عنه جمالية سحرية أو سحرية جمالية... فهو لحمة الحدث، وملح السرد، وصنو الحيّز، وقوام الشخصية"(3).
فلنتبينْ الزمن الروائي بين الواقع والتاريخ، في روايتي أهداف سويف (خارطة الحب)(4)، ورجاء عالم (حُبّى) (5)، ولعلّ تعليل هذا الاختيار سيبدو من بعد، كما ستبدو محاولة التأنيث في هذه المدونة للزمن الروائي بين الواقع والتاريخ.
***
أهداف سويف : خارطة الحب:
يمكن تصنيف الطبقات السردية في هذه الرواية، ضمن مجموعتين، يعنون التاريخ واحدة، ويعنون الواقع واحدة.
1 ـ التاريخ:
وتستعين الكاتبة بالطباعة للتمييز بين الطبقات السردية التاريخية، فنرى:
1 ـ الطبقة الأولى، وهي الأكبر، وقد جاءت بالحرف المائل الصغير، وتتضمن مذكرات الإنجليزية آنا ونتربورن، أرملة الضابط الإنكليزي إدوارد ونتربورن، والتي تعيش مع حميها السير تشارلز، حتى تأتي إلى مصر في رحلة، وتلتقي بشريف باشا البارودي وتتزوج منه، وتنجب بنتاً (نور الحياة).
2 ـ الطبقة الثانية، وهي الأصغر، وقد جاءت بحرف الرقعة الغامق الصغير، وتتضمن مذكرات ليلى شقيقة شريف باشا، وجدة الساردة الأولى أمل الغمراوي.
3 ـ الطبقة الثالثة، وتأتي بحرف الطباعة العادي، وتتكون من تعليقات أو تدخلات أو إضافات أو شروح أو تساؤلات الساردة الأولى أمل الغمراوي صاحبة ضمير المتكلم، والساردة الثانية صاحبة ضمير الغائب.
4 ـ الطبقة الرابعة، وتأتي بحرف الطبقة الثالثة، وتتكون من نتف من تقارير أو وثائق أو مراسلات أو شذرات تصدّر أغلب الفصول.
2 ـ الواقع:
1 ـ الطبقة الأولى، وتتضمن مذكرات أمل الغمراوي.
2 ـ الطبقة الثانية، وتتضمن ما تبقى للساردتين: أمل الغمراوي وصاحبة ضمير الغائب.
3 ـ بناء الرواية:
لا يتوقف تعدد أصوات ولغات رواية (خارطة الحب) على هذا العدد من الطبقات السردية، بل يطّرد مع تلك الأصوات واللغات في الطبقة الواحدة. فبالإضافة إلى ترجمة الإنجليزية التي كُتبتْ بها مذكرات آنا ونتربورن وما تضمنته من مراسلات، وبالإضافة إلى بعض الوثائق، تأتي العربية التي كُتبتْ بها مذكرات ليلى، ويأتي الشعر والعامية المصرية في الحوار والأغاني، وثمّة ـ بالعربية وبالترجمة الإنجليزية إليها ـ ما يفرّد كل شخصية من الشخصيات الرئيسية والثانوية، على كثرتها.
ونتوقف هنا لنبيّن أن رواية (خارطة الحب) قامت على ما يتصل باللعبة الروائية الأليفة: الوقوع على مخطوط أو أكثر. فالصندوق الذي جاء من لندن إلى القاهرة، ثم عاد إلى نيويورك سنوات، ثم حملته الصحفية الأمريكية إيزابيل باركمان، من حبيبها عمر الغمراوي في نيويورك إلى شقيقته في القاهرة ـ أمل الغمراوي ـ هذا الصندوق خبأ ـ إلى أشياء أخرى ـ مذكرات آنا ونتربورن ومذكرات ليلى: إنه صندوق العجائب ـ الكنز، كما تعدّه أمل التي تقول: "هذه ليست قصتي، هذه قصة وجدتها في صندوق". وكما كان دور ليلى قبل مئة عام في مذكراتها: أن تروي قصة غرام شقيقها شريف باشا بآنا، هو دور أمل الغمراوي الآن (1997ـ 1998): زمن الكتابة المعشّق بزمن القراءة الراهنة: أن تروي قصة غرام شقيقها عمر بالأميركية إيزابيل.
من مخطوطتي صندوق العجائب اللتين تغطيان بخاصة العقدين الأول والثاني من القرن العشرين، إلى ما تتولاه أمل الغمراوي والساردة بضمير الغائب في نهاية القرن العشرين، تقوم السلاسل الأسرية التي تقرب وتباعد بين الشخصيات الأساسية الميتة والحية، ومن ذلك الجذر الفلسطيني في أمل الغمراوي، من جهة الأم مريم الخالدي، وانتساب إيزابيل إلى جدتها آناً من جهة الأم... لكأن ذلك توسّلٌ لروابط الشخصيات، وعقلنةٌ للمصادفات منذ لقاء شريف باشا بآنا حتى لقاء عمر الغمراوي بإيزابيل، والخوف من أن تكون علاقته بأمها ـ هو خمسيني وإيزابيل عشرينية ـ قد جعلت الحبيب أباً.
ولئن كانت سردية الواقع تستوي الآن في دور أمل والساردة بضمير الغائب، مستعينة بالزمن الحاضر ـ الراهن، بزمن ما يخص أمل وإيزابيل وعمر وسواهم من التجربة، فسردية التاريخ لا تستوي في مفكرتي آنا وليلى. ولذلك يفعل الحاضر فعله في الماضي، ويأتي صنيع أمل من بداية الرواية إلى نهايتها، أي تأتي كتابة الرواية على المكشوف، أمام القراءة، فالرواية لا تأتي وقد انتهت أمل من المفكرتين ـ المخطوطتين ـ الصندوق، بل تأتي وأمل تقرأهما.
فإذا كانت القصص، بالنسبة لأمل، تبدأ من أغرب الأشياء ـ الغرائبية والاستحواذ والتشويق... ـ فإن "قصتنا هذه تبدأ بصندوق" كما تقول أمل، ثم: تملأ الفراغات، وتجمع أجزاء قصة متناثرة، ولذلك تقصد دار الكتب ومحلات بيع الكتب القديمة وأرشيف الأهرام... وترتب الأوراق حسب تسلسلها، وما أُغْفِلَ تاريخه منها، تستقرئ موقعه بالمقارنة...
تدرك أمل أن المصادفة تبهظ البناء الذي تشيد، وهو ما يتجلى بصدد احتمال أبّوة عمر لإيزابيل، حيث تشكو أمل لأخيها: "الحكاية مليئة بمصادفات أكثر من اللازم، بدون هذه الإضافة"، وتتساءل عما إذا لم يكن كافياً أن إيزابيل التقت بعمر، ثم وجدت الصندوق عند أمها، واتضح أنهما أقارب، فيسأل عمر شقيقته: "يكفي لماذا؟ للتكوين الفني للرواية؟ هل هذا ما تعنين؟"
ويحدو لأمل فيما هي تبني ـ تكتب الرواية هذا التصدير من أقوال يعقوب أرتين عام 1905 للفصل الثالث عشر : "هناك نوع من الحكايات خالصة المصرية، وهي تتميز بثلاث خصائص، فهي حكايات عمودها الفقري الرحلة، وبطلاتها من النساء، وتوجهها الديني يشمل الطبيعة كلها". وتلك هي رواية (خارطة الحب) تحاول التميز بالخصائص الثلاث، لتكون حكاية ـ رواية مصرية خالصة. لذلك، ليس مهماً أن تُعرف النهاية سلفاً "فنحن دائماً نعرف نهاية القصة، أما ما نجهله فهو ما يحدث في الطريق إلى النهاية".
وفي الطريق إلى ذلك أيضاً "نقلب الصفحات لنعيد النظر في البداية. نسرع إلى الأمام فنعرف النهاية. ونحكي القصة التي لم يتح لأولئك الذين عايشوها وعاشوها أن يحكوا منها إلا أجزاء". وأخيراً ـ وليس بآخر ـ فإن أمل توفق الأجزاء وتكمل الصورة وتستنتج ما حدث، مما لم يكتب في المذكرات، فيقول عمر ـ وهو الموسيقي والمؤلف: "عظيم. دعي خيالك يشطح بك، اتركي لـه العنان".
4 ـ الواقع والتاريخ:
مهما يكن فيما تقدم، مما يضيء لعبة رواية (خارطة الحب) بين الواقع والتاريخ، فمن المهم أن نضيف أن الرواية تستحضر العديد من الشخصيات المعروفة تاريخياً، وتجعلها تعيش الرواية، مثل محمد عبده وإسماعيل صبري ومحمود مختار وقاسم أمين وسواهم من مطلع القرن العشرين، ومثل نصر حامد أبو زيد وأروى صالح من زماننا. وإلى ذلك كله ـ وما فاتنا في تبيّن البناء الروائي ـ تنهض استعادة أمل لتساؤل إيزابيل: "مادام الناس يتراسلون عبر المسافات، لماذا لا يستطيعون التراسل عبر الزمن كذلك؟". وإذا كانت أمل قد أضافت التساؤل المعجز: "كيف نكتب إلى الماضي"، فرواية (خارطة الحب) قد اجتهدت في جواب، لأنها شيدت تاريخاً روائياً وواقعاً روائياً، وشبكتهما بالزمن الروائي، فبات الحاضر يكتب للماضي، والماضي يكتب للحاضر، والحاضر والماضي يكتبان للمستقبل. ومن أجل ذلك نجد تعالقاً بين نهاية يومية ما من يوميات آنا، وتاليتها من يوميات أمل أومن سرديتها، وبالعكس. كما نجد في يوميات أمل أو سرديتها أو سردية الساردة بضمير الغائب ما يصل زمناً بزمن، دون أن يتوقف ذلك في الماضي عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بل قد يمضي إلى أخناتون ونفرتيتي.
بهذا التعالق أو الاشتباك تقوم المستوطنات في فلسطين قبل مائة عام مثلها اليوم، ويجعل وصفُ آنا لمذكرات وكتابات الإنجليز آنئذٍ، يجعل أمل تفكر في العاملين اليوم في السفارة الأمريكية والوكالات الأمريكية. ولعل غاية هذا التعالق أو الاشتباك أن تكون في:
1 ـ اختطاف آنا على يد مجموعة من الشباب الثوريين بعد اعتقال حسني بك المحامي عن العمال، واعتراض شريف باشا على صنيع الشباب، لكأنما الأمر يتعلق باختطاف الطائرات أو بالعمليات الاستشهادية منذ ثلاثين سنة حتى اليوم. فإذا كان منطق الشباب هو الرد بالعنف على عنف الاحتلال، فشريف باشا يقول: "يجب أن تفهموا أن اختطاف الناس العاديين أو إيذاءهم بأي شكل ليس من البطولة في شيء (...) الإنجليز يريدون اتهامنا بالتطرف، إذا أعطيناهم مبرراً لهذا نخسر كثيراً".
وبالمقابل يأتي تمثيل رجال كتشنر بجثة المهدي في السودان، وقطع بيلي جوردون رأسه كي يستعملها الجنرال محبرة.
2 ـ وإزاء هذا وذاك تأتي رحلة أمل وإيزابيل إلى قرية الطواسي في قلب الصعيد (منطقة الإرهابيين) وحيث الحواجز وإلغاء الدولة لتجميد قانون الإيجارات، وارتهان أسرة الملاحَق حتى يسلم نفسه، والأحداث الطائفية التي شهدها الصعيد المصري على يد المتدرعين بالأصولية والإسلام. ويمضي هذا الخط في الرواية إلى حوادث الأقصر الشهيرة، وإلى بعض ماكان في القاهرة نفسها، وإلى حوارات أمل وأروى صالح وآخرين وأخريات في ظاهرة العنف تلك.
وبالمقابل، هذا هو حديث الإرهاب والإسلام في نيويورك، ورسائل التهديد الملغمة التي يتلقاها عمر الغمراوي الأمريكي الجنسية، لأنه فلسطيني ـ مصري ـ عربي ـ مسلم.
3 ـ إحالة ما كانت عليه الامبراطورية البريطانية في مطلع القرن العشرين، على ما آلت إليه أمريكا في نهاية القرن، ويأتي ذلك بخاصة على لسان السير تشارلز الذي يرى أن "هذا الاختراع ـ الامبراطورية البريطانية ـ سوف يدمر مكانتنا واحترامنا كأمة شريفة". كما يرى أن تلك الامبراطورية تستحق الفناء لما ألحقتْ من أضرار جسيمة بالبشر. وبالمقابل تستذكر إيزابيل ما قرأت من تشبيه أمريكا بالحياة في الفترة السابقة لسقوط الدولة الرومانية.
تأتي إيزابيل إلى مصر لإنجاز تحقيق صحفي حول الألفية الثالثة. وقد اختارت مصر، لأن ذلك يعني ستة آلاف سنة من التاريخ المسجل:"وكأننا نعود إلى البداية"، بينما الأمر في أمريكا: "هذه هي المرة الثالثة فقد التي نشهد فيها مولد قرن جديد، ولم نشهد ألفية أبداً فنحن ربما مثل الأطفال الصغار".
وبالمقابل يستشرف عمر الغمراوي المستقبل، فيرى أن اتفاق أوسلو لن يفلح ولا يمكن أن ينفذ. وتستشرف أروى صالح المستقبل بعدما تؤشر إلى التمويل الأمريكي لمجاهدي أفغانستان، فترى أن الأمور ستسير إلى الأسوأ: "نحن مقبلون على عصر هيمنة إسرائيلية"، وترى أن الثورة هنا ـ في مصر ـ ستكون إسلامية راديكالية، لأن كل أيديولوجية سواها أفلست.
ولعل الخلاصة تأتي في تساؤل أمل عن الفرق بين ما يحدث لنا الآن، وما حدث منذ مائة عام وفي قارة أخرى، وهو التساؤل الموصول بما عاش جيل أمل الغمراوي ـ جيل أروى صالح والستينيات المصرية ـ في زمن عبد الناصر ومن بعد في زمن السادات، وبخاصة مفصل هزيمة 1967، وهو ما يهون من قفز الرواية بين مطلع القرن ونهايته ـ ومن ذلك أيضاً مفصل حرب 1956.
رجاء عالم: حبّى:
إذا كانت بعض الروايات العربية قد جربت الانبناء من متن وهامش، كما فعل الياس فركوح في (قامات الزبد) وصلاح الدين بوجاه في (مدونة الاعترافات والأسرار)، فقد بلغ الأمر في رواية رجاء عالم (حبّى) ما يُلْبِسُ القول بكتابة رواية من روايتين، أو روايتين من رواية: واحدة يقدمها المتن ـ وهو الغالب نسبياً ـ والأخرى يقدمها الهامش المؤطر في حرف مختلف. وقد تصدرت رواية (حبى) باقتراح الكاتبة قراءة المتن مستقلاً عن الهامش، أو العكس.
1 ـ رواية الهامش : الطبقة السردية الأولى:
1 ـ 1 ـ مقام الأنوثة المقدسة:
لسيد قبيلة (الدروع) ومن أنثى رملية وُلِدتْ أميرة هي (حبّى). وعلى موعد مع بلوغها يأتي من لا مكان من يحمل كتاب أعظم ملوك (الباطن). ويفسر صاحب التلاوات (خردذبة) الكتاب: الملك طاسين يخطب الأميرة التي اشتغلت على (الباطن) وهزمت كل مشتغل على (الظاهر): هكذا ابتدأت الرواية في هامشها.
منذ البداية، وفي الهامش كما في المتن، يتدافر الأسطوري، والصوفي. ومن جنون المخيلة ولعب اللغة يتسمّى البشر ويتعيّن الفضاء، ويكون للقراءة أن تلملم نثار المرجعي، لعل عسرها يتخلخل وتأويلاتها تتلامح ونظامها يقوم.
في الهامش، وعبر جبل السراة تمضي الأميرة في مروتها إلى خاطبها. ومن نهر (لار) العظيم ـ الذي سيتسمى بالبحر الأعظم أيضاً ـ حيث يتدارس الأطفال كتب العتم والماء، ومن مسخ القبائل التي ضلّ صغارها في تلقي السرّ المكنون في آبار أسفارهم، إلى القرية التي ستغدو الأميرة في ألواحها الفسيفسائية نقشاً (مجرداً) في نعش، إلى طور سيناء والجليل فبيت المقدس، مكان وقفة الصخرة، وبانتظار طيرانها في الإسراء، هكذا تتوالى رحلة وتحولات الأميرة، وتلتبس ناقة صالح بمائدة إبراهيم ومدفن الأبواء ومضارب السعدية وغار حراء وما حمّل المريدون الأميرة من دبشها: مخطوطات أجنحة جبريل والمواقف والمخاطبات ومنطق الطير ومن أثر ذي النون، وصولاً إلى وادي تصلال ولقاء الملك طاسين.
هنا تصير حبّى عين ماء، وفي (دهر التملي) لا يزيد ما بناه طاسين منها عن حجرة رمل جمد، وطاقة، ثم هوى به إليها توقه، وصارت القبائل تتحلق حول طاقتها، حتى جاء زمن أوصدت الطاقة فيه بلاطة منقوشة بكتابات، ثم أرخيت الأستار على البلاطة.
1 ـ 2 ـ رحلة العاشق:
بعد هذا العجائبي الذي أسس المكان المقدس في الأنوثة البشرية، توالي رواية الهامش أسطورتها في الخلق عبر شخصية (الفتى التابع) الذي أنجبته ابنة شيخ قبيلة (الدروع) في تيهها بالرمل، ثم ماتت. ولأن الفتى حلم بأنثى من جمر المرو، هي (حبّى) كما يفسر لـه خردذبة، فقد رحل متسمياً بحيان، ومر بمدينة إرم، وتبع قوافل يقودها أدلاء قبيلة (السعر). وفي قبيلة (القمر) الراحلة إلى وادي تصلال، تعشقه النساء، وينذرن قرانه على الأرملة (ماه سرمد) والتي مات كل من عقد عليها: إنها قرينة (حبّى) الأزلية، وقرينة كل إناث الصحراء. وإذ تقضي عشقاً لحيان، يقرؤون عليها (سورة الأعراف). ويعشرونها بسواد الثلث الأخير من شهر محرم. ويمضي حيان نحو حبّى في واديها (تصلال) موسوماً بالمعبد الحاوي لغياب (المطلق) الذي يشطره بين (الحضور والغياب).
انتهت رحلة حيان الأولى ببلوغ الطاقة، ليفك لـه صوت (حبّى) المكنون كلمات البلاطة، فيرى طاسين المتماهي بمعشوقته، ففيها تمام التذكير والتأنيث، ثم بدأ حيان رحلته الثانية ليتمرس بالعلوم، كي تحق لـه (حبّى)، وقد سكنه وسواس أن يعمّر منها مدينة لا كالمدن. وبلغ بلاد (أثلا) وعاصمتها (حياض مريم)، فأقام زمناً في حارة الصباغين يتعلم على الشيخ القرمزاني سرّ اللون، ويصد غواية الخنثى (ترنجان) الذي خرج من جنية الصخرة الحوراء.
من امتلاك سر اللون ينتقل حيان إلى حارة العطارين. وعلى يد الشيخ الكادي يتعلم سر العطر، وينقلب إلى حرفة المداوي، ثم ينتقل إلى حي الخشابين ليتعلم سرّ تشكيل الخشب على يد الشيخ الوردي وميلكان، ومن بعده سندر ساحر السطوح الصقيلة أو ساحر التقنيع. ومن طور إلى طور يحلم بحبّى: محارة الأذن منها قرص عسل مر، ويشكلها من شجرة، كما يطلع لـه ترنجان في هيئة الصبي الألعبان، وفي هيئة البدوية التي تتهمه بالتسلل إليها ليلاً. ثم يوالي حيان الرحلة إلى لبّ قاف حيث المملكة المخفية عند جبل القهرة بوادي الدواسر، فإلى عدن والمحارة التي يفك حيان لسانها، حيث يتتلمذ على أيدي الدراويش، ويشرع بتشكيل الكواكب والأيام وحبّى وقبتها والأبجدية العربية، حتى يتجلى للمريدين مقام الجبل الخفي في سورة (ق) فيشدون رحالهم إليه. وعلى يد شيخ المشايخ العلوية والسفلية (سيميائيل)، في (قاف القهار) يتلقن حيان قبل أن يعود من رحلته، وفيها تستوقفه (أملاً)، ليحترف الوشم، ثم يتبعها في مدينة النمل إلى أن يتقن هندسة الاختزال، ويؤوب إلى وادي تصلال متقمصاً طير الصدى، وقد خرجت لـه من طاقة حبّى صبية تنده: أنا (مقا) فأين أبي؟ ثم جاء زمان قامت فيه حول سور مقبرة حبّى أروقة، وحرم عليها حجاب وسدنة، كما تختم رواية الهامش.
2 ـ رواية المتن: الطبقة السردية الثانية:
أما رواية المتن فتبدأ من حيث انتهت رواية الهامش التي تذكر قبيل نهايتها، وفي غمرة تشكيل حيان لمقام حبّى، كلمة (سارح): إنها اسم بطل المتن، البدوي الدروعي الذي سمع حكيم القبيلة خردذبة يهمس لشيخها بطلوع حبّى كل قرن لتأخذ قرباناً من فتيان القبيلة، هي الأنثى الأسيرة في قصر مشيد في مقا، خطفها ملك، وبنى من جسدها مدينة.
كذلك يرحل سارح في أثرها، كما رحل حيان، لكن الرواية لا تروي رحلة الأول، لأنها رحلة الثاني، فطيّ الزمن والتحولات ـ التقمصات من المفردات الكبرى في لعب الرواية. كذلك يوقَف المتن على حياة سارح في مدينة مقا، وإن تكن رحلات أخرى لـه ستكمل ما تقدم من رحلتي حيان ورحلته هو، بعدما يرميه السيل من حضرة حبّى إلى الوديان، فتتقمص في ريم ويسميها (غزلان). وبعد عودته إلى مقا وصيرورته (العارف)، وظهور المبرقع البدري من الملوك الزيدية، يتنقل سارح مع هذا الذي صار قرينه بين قبائل السراة، وينزويان في كهف الثلاثماية ظبية بجبل (السبت بحبونا)، ثم يتجدد السيل الذي يرمي بسارح ـ العارف في وادي إيشام، وتتجلى لـه غزلان في هيئة بشر، فيعقد لـه عليها شيخ العطارين، لكنها تختفي والقرين.
2 ـ 1 ـ تاريخ من الأسطورة:
يضاعف الهامش ما تقدم من أسطرة البشر والمكان والزمن والطبيعة والكائنات والأحداث. وإذا كانت الأسطرة ستشتغل أيضاً في المتن بمقدار فوق مقدار، فإنها تبدو، من تحديد الفضاء إلى البشر والأحداث، كأنما تنحو بالأسطرة نحو التاريخ، أو بالتاريخ نحو الأسطرة.
فهي ـ الأسطورة، وكما عبر شتراوس ـ تاريخ بلا سجلات وتراث لفظي وتكوين فوضوي ونسق مغلق، هي تاريخ أفول يرهن المستقبل بالوفاء للماضي، ويرمينا بالسؤال عما إذا كانت القصص التي ترويها الأسطورة حقائق تاريخية ثم تحولها، وتحولنا معها بطريقة ما.
وهو: التاريخ، يملص من التعيين، ملوحاً بما رأينا من نثاره المرجعي في الفضاء الصحراوي أو في فضاء أم القرى من الجزيرة العربية، مما يذكر بصنيع عبد الرحمن منيف في خماسيته (مدن الملح). ولسبب من ذلك أحضرت رواية (حبّى)الاصطخري ليكون أشهر مؤرخي مقا، يكتب قول أميرها (صون)، كما أحضرت لمنازلة أشعر الجن صاحب الأبرص (هميد) وصاحب الكميت (راغم) و..
لقد بدأ المتن من رواية (حبّى) بإطلالة سارح على مقا من جهة بوابة (المناسكة) المنذورين لحرم المقام في قلب المدينة، والمعروف منذ الأزل بقصر حبّى. وعلى قمة جبل شاهق يبني سارح غاره. وفي المدينة يعمل مع الحجارين حتى يشتهر بصفة القراري، ويدخل إلى المقام فيرى نقش (طاسين)، وتهوي حبّى إليه كالجوارح بقبسات من فيروز سيناء وجلاميد تدمر وغرانيت الفرات ومرابض الجذع اليماني وقبسات من أبي قبيس ـ وفي مكة، كما في سهل الغاب وسط سورية مقام بهذا الاسم ـ فهل هذا تشكيل عربي إسلامي لحبّى؟.
كي يخلص سارح من علائق الرمل ويفتح مغاليق المدينة، يلج حي الجنائز فدرب الندابات، حيث تستولي عليه (نور) بنت النائحة الكردية التي ستعينه ناظراً على أملاكها، فيسكن ربع القنوات، ويتحرى مقام الأمير صون في قصر السعادة، والسوق الذي يعبث فيه فيل الأميرة: أين لعبة سعد الله ونوس في مسرحية (الفيل يا ملك الزمان)؟
في مقام حبّى يلتقي الشيخ القبورجي، ويعمل تحت إمرة قائم مقام القناديل الشيخ ملاّ صيني، وتغدو حوطة القربى ومقام الأموات ـ الأحياء، كالمدينة: مسرح الحكايات المتناسلة والمتشابكة: حكاية المجنون (قا) الذي ينقذ الأمير فيبني لـه قصراً ـ حكايات بناء الأمير لقلعة (أمهار) وقتله للشيخ المحجوب كبير السدنة على باب (حبّى)، وغيرته من عشاقها، وصراعه مع الشيوخ وصناعة السبح وثورة الأمير طامي على الأمير صون وقدوم جند من الأناضول بقيادة قانص، وقتلهم لطامي وعودة الأمير صون وفيله، وتوزير السائس (كورمحموس) والثورة عليه ـ حكايات السيول التي تداهم المدينة ـ حكايات ولادة بنت الأمير لصون السادس وحيد العين الذي ستدك حاشيته مقا، فلم يعد يسكنها حتى الصدى، كما يختم المتن، تاركاً ـ مثل الهامش ـ للقارئ فك اشتباك الأسطورة والتاريخ.
3 ـ بناء الرواية:
أثث التخييل عالم الرواية بدقائق وتفاصيل لا تنتهي، وتنمّ عن خبرات شتى في اللون والعطر والخشب والسبح والندب... ومتح التخييل من العجائبي والغريب في التراث الأسطوري والديني الشعبي، الشفوي والمكتوب، وفي ذلك كان استثماره للصوفي كعنصر أساس، ابتداءً باسم الملك طاسين ـ أين طواسين الحلاج؟ ـ فالدرويش والمجاذيب والشطح... وصولاً إلى صيرورة سارح عارفاً، يهتف أمام مريديه: "أعرف أنه لا حيّ إلاها"، فيهتفون: "إياك خذ بيدي يا حبّى يا سندي"، ومن ذلك ملاغاة القوارير الخضر ليلة التحنين "يا بحير أرسلني يا بحير/ أرسلني/ في جلوسي مع البشر أنا خارج الله". وقد كان العشق قوام الصوفي في الروح والجسد، مما جعل الرواية تحتشد بنصوص عشق حيان لحبّى وعشق ترنجان لـه كالمريميات والمغنية الحائلية والأرملة ماه سرمد، كذلك عشق سارح لنور وحبّى، وما يلم حيان في فن العشق بعمله من سر العطر وسر الخشب، وتصنيف الرواية للعشاق والمباح لهم سكنى المعشوقة، وتعداد مراتب العشق بين العامة والخاصة. أما الأهم من ذلك فهو قيام طاسين في معشوقته حبّى المقبورة في عشق، وامتزاج ظل حيان بظلها وكشفه أنها أكبر ممالك ذاته وتجليه الأمثل. فإذا أضفنا إلى ذلك لعبة الخنثى في شخصية ترنجان، أدركنا الإشارة إلى تمام التذكير والتأنيث في حبّى، ونشدان الوحدة الأصلية، دون أن يفوتنا ما في حوار حبّى مع حيان من تساؤلاته عن قدرة الأنثى على غلبة الطوطم، أو قدرتها على التخلي عن جسدها الخرافي وعن اقتران جسد الأنثى بامتلاك العالم والتدمير.
يفنى حيان في حبى لتعود الصورة لأصلها ويتم كماله، ويقوم هيكل حبّى المقدس. وفيما يتبادل مع حبى من الكتابة في نهاية الرواية تكتب له: "ما يحدثك مني ليس طوطم القبيلة، ولكن المعشوقة التي صاغها حيان الدروعي وسارح العارف وطاسين...". وإذا كان كل ذلك ينادي (طوق الحمامة) وسواه من نصوص العشق في تراثنا، فلعبة الخنثى تنادي من رولاند بارت جنوسة النص. وعلى أية حال فقد وسم العشق والصوفي بعامة لغة الرواية، كما وسمها العجائبي والغرائبي، والتخييل بعامة. واللغة من أخطر حراس حبّى، وفي طبعها المخادعة، كما تقول لحيان. وعلى القراءة إذن أن تكشف من المخادعة ومن الغياب ما وسعت. فهذه لغة تتوسل الشعرية ـ نسبة إلى الشعر ـ لكنها تقع في مماهاة لغة زمنها بالتضبيب والترثنة، وتنوء بالزوايا الظليلة حد العتمة ـ الغموض. ولا تكاد تتهجّن كما ينبغي للغة الروائية، سوى بالنزر من العامي ومن التناص (الغناء البدوي والأهازيج والرقية). إنها لغة ثرية ومغوية لكنها مستوية، كما يليق باللغة المتعالية في غنوصيتها ، ونبويتها، مما سبق أن تطوحت فيه ـ دون البلاغة الروائية وروائية الرواية ـ روايات حداثية جمة. ولئن كانت رواية (حبّى) تبدو هنا منازلة بجدارة لامتياز روايات إدوار الخراط، فهي تبدو وبجدارة أكبر منازلة لروايات إبراهيم الكوني في العالم الصحراوي الأسطوري الذي شيدته. ومن منازلة إلى منازلة تنتزع رواية (حبّى) ركنها المكين في التجربة الحداثية الروائية العربية.
4 ـ الواقع والتاريخ:
ينبني التاريخ الروائي في رواية (حبّى) بالأسطرة والأساطير، كما رأينا. ويبدو الواقع الروائي كذلك، فأين هو إذن الواقع كجسد للفرد وللعالم المادي والاجتماعي، متعلق بالزمن المعيوش ـ الحاضر؟ وبالتالي: ما الزمن الروائي في رواية (حبّى)؟
بتقفي الإشارات المرجعية وسط الحمى والضبابية الأسطوريتين، يطلع طور سيناء والجليل وبيت المقدس وجبل أبي قبيس وغار حراء ووادي الدواسر والصخرة وعدن وتدمر والفرات، كما يطلع الأصطخري وجبريل وبحير (الراهب بحيرا؟)، وسورة الأعراف وسورة ق (القرآن) والنفري ومنطق الطير وشهر محرم والقبائل (وإن تبدلت أسماؤها).. وبذلك وأصنائه ـ وبفعل إشارات المكان بخاصة ـ يحيل الزمن الروائي على الزمن التاريخي العربي الإسلامي في الجزيرة العربية وبلاد الشام، ويحيل التاريخ الروائي على التاريخ العربي الإسلامي، وصولاً إلى ما لعله الهيمنة العثمانية عبر جند الأناضول بقيادة قانص. ولعل الدلالات إذن تمضي إلى/ وتتركز في الوثنية الأولى للكعبة، والقدسية التالية لها، مما يعني زماننا وبالفعل فيه أيما فعل. ولئن صحّ ذلك أم لا، فللمرء أن يتساءل عن الفعل الإيماني ـ الإسلامي في زماننا ـ واقعنا، وفي مستقبلنا، وحيث يصير دهر التملّي زمناً روائياً يشبك بالأنوثة الماضي بالحاضر والمستقبل.
محاولة تأنيث:
من الأرملة ماه سرمد قرينة (حبّى) إلى نور بنت النائحة الكردية، ومن الخنثى ترنجان إلى تمام التذكير والتأنيث في (حبّى) تنهض الطوطمية، فتتأله الأنثى وتتقدس، وتكون جنوسة النص. ومحاولة التأنيث، تقوم إذن في رواية (حبى)، في الأس والبداية والنهاية، في المنظور والقوام، في تشكيل التاريخ وهندسة البناء، بينما لا تتخصص جراء ذلك مفردات البناء بعلامة أنثوية.
وبخلاف ذلك يبدو صنيع رواية (خارطة الحب)، حيث العلامات الأنثوية في مفردات شتى من البناء الروائي، وأبرزها ما يتعلق بالشخصية الروائية، كالامومة في آنا وفي ليلى (الرضاعة ـ مشي الطفل) أو كالعلاقة بالزهور (أمل ـ آنا) أو كالحب (حب إيزابيل لعمر وحب أمها ياسمين لأبيها جوناثان) والزواج والحمل والطلاق والانفصال بلا طلاق (أمل ـ إيزابيل ـ الجارة تحية)، ولعل غاية ذلك هو ما يتجلى في بناء الشخصيات النسوية من جمع قرية الطواسي إلى أروى صالح وإيزابيل وأمل وليلى وآنا وياسمين ومريم الخالدي، وسواء أكانت الشخصية مركزية أم عابرة. بيد أنه، وإضافة إلى ذلك تمضي في هذه الرواية محاولة التأنيث إلى ماهو أبعد وأشمل، مما يذكّر بالمحاولة عينها في الرواية السابقة، ولكن سبيل (خارطة الحب) إلى ذلك تظل محددة، كما في تقليب أمل للجذور اللغوية (الأم ـ المرأة ـ الجنين) أو في علاقة الكلمة بالبويضة، حيث تأتي الكلمة في حشد مثل البويضات الصغيرة والكبيرة التي تصحب ملكتها، ولا ينال الإخصاب سواها.
خاتمة:
منذ فجرت التجربة الروائية العربية (الرواية التاريخية)، وهي، بحفرها في التاريخ وفي الواقع، تزمننهما، وإن انحدت مرة بمرحلة بعينها (مثلاً: الغيطاني: الزيني بركات ـ بنسالم حميش: مجنون الحكم..)، أو شبكت الواقع بالتاريخ (مثلاً: إدوار الخراط وصلاح الدين بوجاه)، أو أطلقت العنان للأسطرة (إبراهيم الكوني مثلاً). وإلى ذلك تبدو إضافة رجاء عالم وأهداف سويف من الأهمية بمكان، كما تأمل هذه المساهمة أن تكون قد دللت، وبخاصة أن محاولة التأنيث، مهما تواضعت، تظل إشارة واعدة ـ بقدر ماهي هامة ـ إلى خلخلة الهيمنة الذكورية في الكتابة الروائية، وإلى تطعيم هذه الكتابة بجديد وخاص، كما تظل إشارة إلى تحرير المعنى، وإلى النقدي، وبهذا وذاك يتلامح الأفق الإبداعي والحضاري والجديد، في جملة من الجماليات والشواغل الروائية.
الهوامش:
(1) ـ عبد الملك مرتاض: في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد، صدر في سلسلة عالم المعرفة، العدد 240، ديسمبر ـ كانون الأول 1998، الكويت، والإحالة هي إلى المقالة السابعة، ص 202.
(2) ـ نفسه، ص 206.
(3) ـ نفسه، ص 207.
(4) ـ المركز الثقافي العربي، بيروت 2000.
(5) ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2001، (ترجمة: فاطمة موسى).
|