كاتب الموضوع :
تيتوف بارة
المنتدى :
كتب الأدب واللغة والفكر
الفصل السابع:
التعبير الروائي في سورية
عن الحرب اللبنانية
مقدمة:
لعل الحرب، سواءً أكانت أهلية أم ضد عدو خارجي، تكاد أن تكون الهواء الذي يتنفسه واحدنا، ليس في بلاد العرب وحدها، بل في أرجاء العالم.
والحرب ـ كفعل سياسي ـ تستند على المتخيل الذي يرسم علائق الجماعة بالسلطة والدولة والمقدس، وبالمعايير الخارجة عن معايير المجتمع، وبالطبع: علائق الجماعة ببعضها. ولعل هذا وحده يوفر للرواية أن تلعب دوراً كبيراً في نقض ورسم القيم(1). بيد أن المزالق تحف هنا بالرواية، حيث ـ كما يعبر ارفنج هاو بصدد الرواية السياسية بعامة ـ يمكن أن يكون للأفكار السياسية دور غالب، فيما الرواية تكابد أن تكون شهادة، وحلبة أو معرضاً للأطروحات وللصراع الأيديولوجي. وقد لاحظت ذلك وسواه في الكثير من الروايات العربية التي اشتغلت على الحرب، مما صدر في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي(2). وفيما يعني التعبير الروائي في سورية عن الحرب اللبنانية التي شبت في أواسط سبعينيات القرن الماضي، واضطرمت بخاصة حتى النصر في الجنوب اللبناني، يُلاحظ أن الصدى الروائي لهذه الحرب قد تردد فوراً في سورية، عبر ما كتبت غادة السمان وقمر كيلاني وياسين رفاعية. وقد تنبهت غادة السمان لما يثار في مثل هذه الحال عن حاجة الرواية بعامة إلى النأي عن حدث كالحرب. بدعوى التخمّر، ودرءاً للهاث خلف المرحلي، فقالت بصدد روايتها (كوابيس بيروت)(3): "إن ولادة هذه الرواية في لحظة الصخب والعنف، لا يعني بالضرورة أنها غير مختمرة، كما إن إصدارها ـ أو حتى كتابتها ـ بعد عشرات السنين، لا يعني بالضرورة أنها
اختمرت"(4).
غير أن صدى الحرب اللبنانية أخذ يندر في المشهد الروائي في سورية، فهل كان ذلك لانصراف الشطر الأهم من ذلك المشهد، خلال العقدين الماضيين، إلى الحفر في زمن أبعد من زمن الحرب اللبنانية، أم لأن هذه الحرب اشتبكت في صدر الكتابة الروائية بما تفجر به العقدان الماضيان، عربياً وكونياً، أم لماذا؟
غادة السمان: ليلة المليار
توالي رواية (ليلة المليار)(5) لغادة السمان الاشتغال على الحرب اللبنانية، عبر المفصل الحاسم في الصراع العربي الإسرائيلي صيف 1982. ولئن جاءت رواية (بيروت 75)، فجر الحرب، ورواية (كوابيس بيروت) صبيحة الحرب، فقد جاءت رواية (ليلة المليار) ظهيرة الحرب، بعد أربع سنوات من ذلك المفصل الذي جعلته الرواية زمنها: 1982. وكما فعلت الكاتبة في الرواية الأولى، تنكبت للسيري الذي آثرت في الرواية الثانية. وكما فعلت في الروايتين السابقتين، تابعت في الثالثة لعبة التداعي المنظم، إذ ميزت دخيلة الشخصية الروائية من تأملات ونجوى واسترجاع لقصص الماضي، بالحصر بين الأقواس وبسواد الخط. وقد بدا ذلك أقل إقناعاً وأكبر اصطناعاً كلما تعلق بالماضي، أو سرد قصة شخصية ما، فتطاول مذكراً بفعل القصة القصيرة في الرواية، على غير النحو الذي تبدى ـ غالباً ـ في رواية (كوابيس بيروت). وبما أن الفعل الأساس في الحاضر الروائي هو حفلٌ ما (ليلي غالباً) فقد صحّ في بناء (ليلة المليار) ما قاله رغيد الزهران: "لكل سهرة أقصوصة لطيفة.. والمسلسل لا ينتهي" (ص188). وقد ذيلت الكاتبة كثيراً من ذلك بعبارة تؤكد أن راوي الأقصوصة ـ المونولوج لم يقل شيئاً، كأنما تذكر القارئ بأن ما تقدم ليس غير تداعٍ.
تبدأ رواية (ليلة المليار) بمقتطف من التعاويذ السحرية التي ستتوالى منها مقتطفات أقصر وعديدة طوال الرواية. وقد أثبتت الكاتبة في خاتمة الرواية ما سمته بـ (إقرار بأسماء المراجع) مبينة أن سائر التعاويذ السحرية في الرواية منقولة حرفياً عن أصولها في المكتبة الشعبية العربية، وهي: (النور الرباني في العالم الروحاني ـ الجواهر اللماعة في استحضار ملوك الجان في الوقت والساعة ـ تسخير الشياطين في وصال العاشقين ـ اللؤلؤ والمرجان في تسخير ملوك الجان ـ الكباريت في إخراج العفاريت).
أما المقتطف الأول والأطول (ص7 ـ 8) فقد جاء كفاتحة للرواية، سرعان ما سيتبيّن غرضها، في تقديم العالم الروائي اللامعقول، كمرجعه، بينما اقترنت المقتطفات التالية بشخصية الفلكي والساحر والمنجم (وطفان). وتبدو (ليلة المليار) في هذه الممارسة للعبة التناص ـ وفي سواها المحدود بشعر البياتي وأغنية ومثلين شعبيين ـ متواضعة، شأنها في لعبة التداعي، مرجّعةً بدايات الرواية الحداثية، حيث ينتأ النظام في التداعي، وتظل المتناصات ناتئة، فلا تندغم في النسيج الروائي.
إثر المقتطف التعاويذي ـ الفاتحة، ترسم الرواية مشهد هرب خليل الدرع وزوجته كفى البيتموني وولديهما من بيروت، في السابع من حزيران 1982. وتوقّع للمشهد لازمة (إنهم يطاردونه)، كما ستوقّع لـه فيما بعد لازمة أخرى، ولسواه لازمة جديدة، فالكاتبة حريصة في رواياتها جميعاً على توفير هذا الإيقاع.
لقد رفض خليل الدرع الفرار عند نشوب الحرب اللبنانية عام 1975. لكنه منذ نجا من مجزرة المقبرة، ركبه الإحساس بالمطاردة، حتى إذا جاء الغزو الإسرائيلي للبنان (1982), وتفاقم إلحاح زوجته على الهرب، اندفع إلى المطار متسائلاً عما إن كانت ستقتله قذيفة العدو أم رصاصة الصديق، وممتلئاً بوحدة الجميع، الصديق والعدو، في مؤسسة واحدة ذات فروع. وحين ينتهي تعذيب المطار بين إغلاق وانتظار وطيران، يصادف في الطائرة نديم الغفير، وهكذا نتعرف على ثلاث من شخصيات الرواية الكثيرة، والتي ستبدأ بالظهور فور الوصول إلى جنيف، وتشتبك حيواتها خلال صيف الحرب، وهو زمن الرواية الذي سيبطئه السرد حتى تقارب الرواية نهايتها، فتشرع تلاعبه برشاقة، عبر رحلات خليل من مدينة إلى مدينة، ومنذ فجر ليلة المليار إلى صبيحتها، إلى نهايتها.
والحق أن رسم تلك الشخصيات يبدو إنجاز الرواية الأكبر. فنديم الغفير ثري مغترب يبيع كل شيء: الأسلحة والشعوب والطائرات والنفط.. وهو ذراع رغيد الزهران، ابن التاجر الشامي سامي الزهران الذي صعد في سماء المال والأعمال، منذ التأميمات التي شهدتها سورية خلال الوحدة مع مصر (1958 – 1961).
يعيش رغيد الزهران تحت وطأة التوهم بسعي أحد لقلته. وفي قصره الذهبي (الرحم الذهبي ـ قلعة الذهب..) في ضاحية جنيف تقوم الأحداث الروائية الكبرى، من حفلات ومؤامرات. ولئن كانت الرواية قد قدمت الكثيرين من الأثرياء العرب المهاجرين، فقد جاء رغيد الزهران كشخصية رئيسة، يدور حولـه الآخرون في ذلك العالم الفاسد المفسد، وتتعلق مصائرهم به كمصالحهم، مما عرته الرواية في تصويرها لخبايا النفوس ولعلاقات أولاء فيما بينهم، ومع سواهم، وفي بلدانهم وسواها.
جنى رغيد مليونه الأول من شرائه تمثالاً لجمال عبد الناصر، صنعه الفنان السوري مفيد النيلي، وجاء رغيد بمن صنع نسخاً منه، وباع النسخ إلى كبار التجار، ثم قتل الصانع والبائع، وانطلق إلى ملياره الأول الذي تحقق مع بداية الرواية نحو ليلة الاحتفال.
بهذا الإنجاز تمضي الرواية موازية بين خط الإعداد لليلة الموعودة، وخط الحرب ـ الحاضر، وخط الحرب وغير الحرب ـ الماضي. هكذا نتعرف على دنيا ثابت التي كانت دارسة للفن ورسامة ترسم أجساد الرجال العارية، فيتصدى النقاد لها، ويناصرها أمير النيلي. لكنها بزواجها من نديم الغفير، تدير ظهرها لذلك كله ثمانية عشر عاماً، قبل أن تصحو على إدمانها لماء النار ـ الكحول ـ وفقدانها للجوهر ـ الحوار، وغربة ولدها وابنتها عنها، وتعلقها بتعويذات وطفان، فتحاول في الحاضر الروائي أن تنقذ ما أمكن من نفسها وأسرتها.
وهكذا نتعرف على ليلى السباك التي تزوجت من فرنسي وطلقته كما طلقت ماضيها الثوري وحبها لأمير النيلي، لتغدو (للي سبوك) المتفرغة لرغيد الزهران، والمنظمة لحفلة ليلة المليار الأول. وكما برعت الرواية في تصوير تعقيدات وثراء شخصية ليلة السباك ودنيا ثابت، ستوالي في تصوير شخصية كفى التي تتحول في فضاء رغيد الزهران إلى كوكو، وهي تجري خلف نداء المال ونداء الجسد، وتتطوح من حضن شاب إيطالي عابر، إلى حضن نديم الغفير فالثري الآخر عادل فالشيخ صقر، فيما يتواصل العجز الجنسي لزوجها خليل، منذ أذاقه الأصدقاء الثوريون في الوطن ما أذاقوه.
بالبراعة نفسها جاء تصوير الشخصيات الأخرى من الرجال. فالشيخ صقر يجدد شباب رغيد في هوسه بالذهب وفي إذلال الآخرين، كما يجدد شباب أبيه الشيخ صخر في جنون اللذة وهدر الثروة. وعلى النقيض منهما يبدو الشيخ هلال ـ شقيق صخر. أما أمير النيلي الذي باع أبوه التمثال لرغيد، كي يمكن الابن من مواصلة التعليم، فهو المفكر الوحدوي الذي تربى خليل الدرع على مؤلفاته، والذي رفض أن يعمل لدى رغيد في المجلة التي كان يعتزم إصدارها لتدجين المثقفين والتحلّي بزينتهم. وأمير النيلي ينظم في جنيف تظاهرة عربية احتجاجاً على غزو إسرائيل للبنان، وعلى الصمت العربي، وستشارك في التظاهرة دنيا ونسيم، بينما ترفض ليلى ذلك، فيكتمل يأس أمير منها.
تجعل الرواية من أمير قطباً معارضاً لرغيد، فهما يتنازعان العديد من شخصيات الرواية. وإذا كان طموح ليلى في أن تكون رجل أعمال ـ لا امرأة أعمال ـ ينجز ارتدادها عن ماضيها وعن أمير بالانتماء إلى رغيد، فإن فعل أمير يجعل دنيا تتراجع عن طريق رغيد في تحولات عسيرة ترصدها الرواية بدقة، وبخاصة في محاورات ـ نجوى دنيا وفتاة اللوحة التي رسمت فيها نفسها عندما كانت الفنانة الشابة النقيضة لعالم رغيد ولعالم زوجها نديم.
وكذا نرى أمير يستقطب نسيم الذي يعمل في خدمة رغيد، ويواصل دراسته الجامعية بعون من أمير، ويتوعد في سره رغيداً بالقتل. ولأن أمير كان نقيضاً لأمثال رغيد في الوطن، فقد حاول أولاء اغتياله في سويسرا، لكنه نجا، فحاول رغيد من بعد اغتياله، ونجا ثانية، بينما قضى بسام دمعة بدلاً منه، وهو المحامي الذي جرّ عليه الأذى في الوطن ما كتب بعد هزيمة 1967 (كتابه: نقد العقل السلفي) وفرّ في بداية الحرب عام 1975، مسكوناً بهاجس الموت، فعطله الهاجس عن تحضير الدكتوراه، ثم ظفر به في جنيف.
أما خليل الدرع فهو القطب الروائي الآخر الذي تقدمه الرواية بامتياز، منذ كان (مبدع قراءة) يعمل في مكتبة، ويرفض دفع الخوّة لعصابات الأصدقاء والأعداء، متمسكاً بالوطن والاستقلالية وأولوية الديمقراطية، فيناله من شر الجميع نصيب، ثم يتلوث بمستنقع رغيد، ويعمل سكرتيراً للشيخ صقر، ويرافقه من مدينة أوروبية إلى مدينة، حتى تأزف ليلة المليار، ويأتي نبأ مصرع ابن الشيخ صخر في انهيار المدرسة التي شيدها رغيد في بلد الشيخ، عندئذ يطلب رغيد من خليل أن يحل محل نديم الذي سيكون عليه أن يتحمل عبء انهيار المدرسة، لكن خليل يرفض، كما يرفض أن يمد يده إلى يد رغيد الذي أصابته الذبحة القلبية، فارتمى في مسبحه الذهبي، وقضى. أما خليل فلن يلبث أن يعود إلى بيروت مع ولديه، تاركاً زوجته التي ترفض أن تعود "قبل أن تعود بيروت إلى نفسها". وسوف يرى خليل وولداه قرب شاطئ بيروت باخرة تقل مهاجرين آخرين فيقول: "أين المفر؟ هربت مثلهم وانتهى الأمر. ركبت ذلك الاتجاه، وهرولت صوب الشاطئ الآخر للدنيا، ولم أغادر حلقة الكوابيس.. كنت كمن يتأرجح في المسافة بين كابوس وآخر" (ص489). وفي بيروت، وإذ يصادف خليل خيط الحاجز الإسرائيلي، يرى نفسه بين مئة وسبعين مليون عربي أمام الحاجز، ويتساءل عما إن كان ذلك الخيط الرفيع ـ الحاجز سيتابع نموه عبر شوارع مدن أخرى، ويستحيل شبكة عنكبوتية.
عبر شخصية خليل تواصل (ليلة المليار) إبداع صورة الحرب في (كوابيس بيروت) ككابوس. فخليل يسمي العيش اللبناني في الحرب بكرنفال من الكوابيس، وبالكرنفال المتوحش، ومنذ البداية يقول: "سقطنا في الحلقة المفرغة، وعاد الحلم ليلد كابوساً فكوابيس جديدة.. لقد صادروا الحلم وزوجوه القمع، فكانت الكوابيس نسلهما الأكيد"(94). وبيروت كما يرسمها خليل رقعة شطرنج، مقبرة، سويسرا الشرق التي تحترق، وهي، كالفضاء العربي، مسرح اللامعقول، ولا فكاك لأحد فيه من الجنون.
بين نشوب الحرب والحاضر الروائي سبع سنوات فصلت بين عامي 1975 – 1982، وصنعت، بحسب الرواية، مجتمعاً يبدو من الخارج مثل قطيع من النمل يدوسه عملاق، ومن لا تصيبه الضربة القاتلة يتابع دربه ضاحكاً، لكنه يستمر. وسنرى خليل في نهاية الرواية يضفر بين قوسين كلمة (الأهلية) كصفة للحرب، وهذه هي المرة الوحيدة التي تظهر فيها هذه الصفة، وعلى هيئة متشككة في كونها (أهلية) ومؤكدة ما تواصل طوال الرواية من عبارة (الحرب اللبنانية)، حيث تستبطن الإشارة إلى عروبة الحرب، وهو ما ستقلّب الرواية فيه القول كما في الحرب نفسها، على ألسنة الشخصيات جميعاً، وباختلاف مواقفها، ليصفع السؤال الأكبر من يتحدثون أعواماً عن عروبة لبنان، فماذا عن عروبة بقية العرب؟.
إن بيروت هي الجحيم بالنسبة لكفى. والفلسطينيون في لبنان هم العدو الأول لرغيد. وبحسب الشيخ صقر، فالكل مخدر. وبحسب السيرك العربي الذي ترسمه الرواية في المدينة الخامسة من المحطات السياحية للشيخ صقر وخليل، فالمثقفون والمثقفات الذين يصدحون لنصرة فلسطين ولبنان (الشاعر أرشيد النعيماقي والمفكر الوحدوي منير النوادمي) يتمرغون في ركاب المخدرات والملذات التي يوفرها لهم المال العربي في المهاجر الأوروبية. وباختصار لا تبدو الغربة أهون شراً من عيش الحرب في الوطن. وإذا كانت هذه الحرب سوق السلاح لرغيد وأمثاله من أثرياء العرب المهاجرين، وسبب غربة الجميع، فهي تلاحق الجميع في ملجئهم السويسري. وكما تعري الرواية الأثرياء والزعماء المتقاعدين ونجوم الثقافة، من عرب المهاجر، تعري الآخرين. وسيأتي ذلك بخاصة عبر شخصية الشابة بحرية الزهران التي أودى القصف الإسرائيلي بذويها، وجاء بها نديم إلى جنيف، توهماً بقرابتها لرغيد. فمجيء بحرية سيخضّ الجميع، من دنيا التي يذكرها فيها شيء ما بشبابها وبفتاة اللوحة، فتسعى لحمايتها، إلى رغيد الذي لا يرد لها طلباً، وقد شعر معها بأميته الإنسانية وبحاجته إلى لغة مختلفة، لكنه كلما غمرها بالذهب ذعرت وأمعنت في خرسها... إلى الفلكي وطفان الذي يخشاها ويحاول حرقها، فيقضي في النار وتنجو. وليس نسيم الذي يتعلق ببحرية آخر من ستشغله من شخصيات الرواية، وهي التي فرضت بحضورها أخبار بيروت، مما كان نسيم وخليل وأمير يتنسمون، بينما كانت كفى ـ مثل ليلى ودنيا ـ تتهرب منها، لكن حضور بحرية جعل بيروت حاضرة، من أخبار التلفزيون ـ هل نتذكر الإذاعة في رواية كوابيس بيروت؟ـ إلى انصعاق سهرة رغيد بالشابة التي تلفع عريها بجراحها، والتي سيقايض رغيد عليها أخيراً الشيخ صخر مقابل صفقة إنشاء المطار، لكن تضافر نسيم ودنيا وأمير ينجو ببحرية، لتتلامح لخليل في نهاية الرواية، وهي تركض بين خرائب بيروت مثل الطائرة الورقية.
لقد جعلت الرواية من شخصية بحرية رمزاً مشعاً، كما جعلت من تمثال جمال عبد الناصر الذي سيفلح نسيم أخيراً في سرقته وردّه إلى أمير النيلي. والمهم هنا أن بحرية جاءت كياناً حياً بخرسه وجراحه وسلبيته، بقدر ما جاءت رمزاً يفعل فعله العجائبي في الآخرين، وعلى رأسهم الفلكي وطفان، والذي تقدم الرواية قصصه (شقيقة الفدائي غيلان وأمه المجنونة وحبيبته عنبرة وشقيقاه كنعان وبرقان اللذان صرعتهما الحرب...)، وتُلْبس الرواية غيرته من بحرية بالحب، والقتل بالانتحار، متوجة البوليسية التي تنتأ، كما ينتأ الحرص على إرسال القول في دوائر الحرب، مما تكرر نعته ليلة وكفى ودنيا بالكلامولوجيا. ولعل هذه الكلامولوجيا هي ما جعلت خليل بخاصة يخطب مرة بعد مرة، ففي عشاء (الأنتيم) يصرخ بالمحتفلين: "لقد ساهمتم في تدمير بيروت لخلق نموذج تخوفون به شعوبكم" ثم يبلبلهم بإنشاده (يا ظلام السجن خيّم). وفي هذياناته تحت وطأة الكوكائين كما في صحواته الصامتة الصاخبة، يعلل الحرب بالخطة المحكمة لتكفير الناس بمقدساتهم تمهيداً لمرحلة الاستسلام، حيث يهرب واحد إلى السحر وآخر إلى المال وثالث إلى المخدرات ورابع إلى الغربة، فثمة قناص في غير بيروت، يترصد قلب كل عربي منتظراً لحظة ضعف تسلل عبرها رصاصة لا مرئية. ولا يفوت خليل أن يرسل القول في العالم الذي يتابع هذيانه العصري والعصر ـ وسطوي، ولا يبالي بالقيم الإنسانية التي يتشدق بها.
وقد يكون نتوء هذه الكلامولوجيا جاء أقسى فيما تكرر من ابتداء عباراتها بأدوات التوكيد (إنّ: مفردة أو مشفوعة بالضمائر: إني، إنه ـ لقد)، وبخاصة في حوارات الشخصيات، لكن التعويل الكبير على الحوار الدقيق والرشيق، خفف من وطأة الكلامولوجيا ومن وطأة السرد بعامة، وإن كان إقناعه ظل يتخلخل كلما طال في تداعيات الشخصيات. ويبقى أن نشير إلى أن (ليلة المليار) بفضائها السويسري، تنضاف إلى الروايات العربية التي اشتغلت على وعي الذات والعالم في فضاء الآخر الأوربي. واللافت هنا ما جاء على لسان دنيا من أمر عقمها وزوجها بعد الهجرة من الوطن، ومن أمر عقم معظم المهاجرين. ولنتذكر ـ بالمقابل ـ إصابة خليل بالعجز الجنسي في الوطن، واستمرار العجز في سويسرا. وخليل نفسه يقول عن سويسرا "هذه جنة مستعارة لا نستحقها لمجرد أننا ندفع ثمنها من نقود بقية فقراء الشعب العربي"(ص132).
واللافت هنا أيضاً أن بديع وندى، صديقي خليل وكفى، وفي رحلة الأسرتين إلى (أنسي)، سيكشفان عن نموذج آخر من فعل فضاء الآخر في الذات. فبديع قرر مقاطعة الوطن، ولن يعود إليه، بينما ترى ندى سويسرا جحيماً ـ كما ترى كفى بيروت ـ وتفضل عليها العيش في أي مكان. وإلى ذلك، نرى أمير النيلي، إذ يفتق في سوءات الغربة في سويسرا، يخاطب نفسه: "لا تكن جاحداً. لا تفتش عن العيوب في كل مكان غير وطنك (...) لولا أمنها لذبحك الجلاد الجوال". وفي المحصلة، تبدو (ليلة المليار) أهجية وتعرية بامتياز لمآل ذلك الشطر من الذات (الأثرياء والمثقفون) في فضاء الآخر الذي لم ينج هو نفسه من الأهجية والتعرية، شأنه شأن الذات والوطن.
ياسين رفاعية: الممر
كنقلة غادة السمان من القصة القصيرة إلى الرواية، تأتي نقلة ياسين رفاعية في رواية (الممر)(6). ومثل روايات غادة السمان، تتوسل (الممر) الأقواس والسواد لتمييز التداعي. وقد استبد السرد بهذه الرواية، فشكّل فصليها الأول والثالث عشر، وغالب فصولها الخامس والتاسع والثاني عشر والسابع عشر، وعلى نحوٍ نحا بالرواية صوب التقليدية، كلما أضاء الوصف ـ وهو الغالب ـ ولم يكد يدع عتمة في النص.
يتحدد فضاء الرواية بالممر من بيت محمود شرف، مدرس اللغة العربية المسلم العازب، والذي يسمي الحرب بالجنون، كما فعلت (كوابيس بيروت)، وكما ستفعل روايتا مروان طه مدور (جنون البقر) وأحمد يوسف داوود (فردوس الجنون). وبالنسبة لمحمود، فطرفا القتال مغرر بهما من جهات خارجية معادية، والحرب بالتالي هي "حرب لا غالب ولا مغلوب، وهي أتعس الحروب وأشدها انتحاراً، إذ لا ينتصر أحد الفريقين على الآخر، ولا يخسر إلا الأبرياء مثلنا" (ص56).
تلجأ إلى بيت محمود مضطرة (رنا) الشابة المسيحية المتزوجة من مديرها السابق (ميشيل)، حيث يُقتل السائق الذي يقلها، فتقودها المصادفة إلى ذلك البيت الذي يقع في منطقة الوسط، كبيت رواية (كوابيس بيروت). وكرواية (كوابيس بيروت) ستكون الأذن وسيلة الاتصال بالخارج، وليس العين. وسيفعل الحصار بهاتين الشخصيتين فعله عبر الزمن الروائي الذي تباطأ به السرد، فجعل لثلاثة أيام ثلاثة أرباع الرواية، وترك الربع للأيام الباقية.
أما محمود فيتحول من الموقف الحيادي والسلبية تجاه الحرب قائلاً: "إنني نادم الآن لأني عاملت الوطن بحياد تام، لم أنتسب إلى حزب، لم أحاول أن يكون لي رأي ما. كنت أحب الوطن حباً عذرياً كما يقولون. أحبه هكذا دون أن أسهم ولو بنذر يسير في واجب حمايتي لـه. لو أننا نحن الذين نعاني عشقاً مع الوطن نظمنا أنفسنا لما حدث كل ما حدث. لكن مصيبتنا نحن الأكثرية الصامتة أننا على الحياد (...) لو أتيح لي أن أخرج حياً هذه المرة، لكان هذا الممر سهماً للتغيير، للثورة الحقيقية على الطائفية، وحكم الست والجارية"(ص 108 – 109).
وأما رنا المعجبة بنفسها، والتي تنشد إعجاب الآخرين، ولا يشغلها في بداية لجوئها إلا زوجها وابنتاها، فلن يلبث الحصار أن يوحّد جسدها بجسد محمود، فينجلي ذلك الترميز للممر بالسهم، حيث معادلة الحب والجنس بين المختلفين طائفياً، والتي لعبتها من قبل رواية قمر كيلاني (بستان الكرز) وسواها.
لقد قُصف البيت أخيراً، فاضطر محمود ورنا إلى الخروج، وسرعان ما صُرع محمود، ليختم التعبير المتواضع لهذه الرواية عن الحرب اللبنانية، وبخاصة فيما جربت أن تلعب من التناص، إذ خصّت الفصل الحادي عشر للمقاطع المنقولة من رواية باربوس (الجحيم)، وفيما يعادل عشر الرواية تقريباً. وقد يكون في ذلك، وفي غلبة قصر الجملة وتدافعها، ما يومئ إلى محاولة الرواية في أن تملص من التقليدي، لتنحو منحى الحداثي، لكن جملة اللعبة الروائية في السرد والزمن والخطاب، غلَّبت على الرواية التواضع.
ياسين رفاعية: رأس بيروت(7)
تتعنون هذه الرواية باسم واحد من أحياء مدينة بيروت. ومنذ البداية إلى النهاية ستؤكد ما يومئ إليه عنوانها من انتساب إلى تلك الفئة من الروايات التي تشتغل على الحي أو الحارة، وهو ما كان العلامة الفارقة في الهرم الروائي الذي شاده نجيب محفوظ، فضلاً عن أن رواية ياسين رفاعية (رأس بيروت) كثيراً ما تتركز في البناية التي يقيم فيها الراوي ـ البطل، من ذلك الحي.
وبضفر ما هو متوفر من سيرة الكاتب، إلى ما سنرى في الرواية، تبدو بامتياز كرواية سيرية، مثلما هي رواية حي، وهذا ما تؤكده كلمة الغلاف الأخير للرواية، فيما تذكر من عيش الكاتب السوري ياسين رفاعية للحرب اللبنانية في بيروت التي قطن منها حي رأس بيروت منذ عام 1970.
قسم الكاتب روايته إلى ثلاثة أقسام هي: ماذا فعلت بنا الحرب؟ ـ سرداب أبو الجماجم ـ الحصار. ولم تأت القسمة متوازنة، فالأول يقارب نصف الرواية. ولعل القسمة لم تكن تعني الكثير للكاتب في تنظيم الرواية، فساق الفصول متسلسلة دون اعتبار للأقسام. وإذا كانت البنية العامة للرواية قد قامت على السيري وعلى الفضاء (الحي والبناية)، فقد غلب على البنى الجزئية للفصول تعلقها بحدث محدد. وقد يستغرق حدث أكثر من فصل، كما تتناثر أحداث ثانوية في بعض الفصول على هامش الحدث المركزي، لترسم جملة الفصول في الأقسام حيوات الشخصيات الكثيرة، الأساسي منها والثانوي، في زمن الحرب، ودوماً تحت مظلة الراوي بضمير المتكلم.
تبدأ الرواية بالتذكر الذي يستدعي السيرية كما تستدعيه، ويحرض عليها كما تحرض عليه، فنقرأ: "ما زلت أذكر ذلك الحزن الذي انتابنا يوم اختفى ذلك الطفل"(ص13). وإذا كان حدث اختفاء الطفل عبد القادر الذي يوزع الصحف على سكان البناية، سيشغل الفصل الأول، فالذاكرة ستبدأ بالاشتغال منذ هذه البداية، مرسلة الحنين إلى الماضي في شعبتيه: شعبة ما كانته بيروت عندما اختارها الراوي وطناً بعد سورية، وعندما كانت اليوتوبيا التي يحلم بها الفنانون، وشعبة طفولة الراوي عندما كان يأتي من دمشق إلى بيروت ليبيع فيها الكعك، ولم يكن من حدود بين البلدين. أما الوصل بين فعل التذكر والفعل السيري في الرواية فيبدأ أيضاً من هنا، فبائع الكعك صار كاتباً من غير أن يقصد، والآن هو يتفجع على تعاسة الكاتب، العامل ابن العامل. والآن أيضاً يرسل الراوي الكاتب نبوءته، فمنذ بدأ يقرأ ويفهم صار يرى المستقبل مظلماً، وها هو الإنسان قد صار خرقة معصورة، وغصناً مكسوراً ورقماً هامشياً بيد السلطة.
في الفصل الرابع عشر تأتي نهزة الراوي ليسرد قصة حياته عبر الحوار الذي استغرق الفصل، بينه وبين المحقق أبي الجماجم الذي يبادر الراوي في بداية الفصل: "قصّ لي قصة حياتك". وقد استطاعت مكْنة الكاتب من صياغة الحوار وإدارته، أن تنأى بالفصل عن بعض ما آذى مواطن الاستذكار الأخرى، سواء في المباغتة التي تغدو استطراداً، أو في طغيان النوستالجيا والتقريرية السردية، كما بدا في استعادة بداية الحرب في بيروت، وبما خُص به حي رأس بيروت من ذلك، أو في استعادة صورة بيروت قبل الحرب في الفصل الثامن، بالمقارنة مع ما آلت إليه، ومن ذلك مشهد القمامة في حاضر الحرب. وكما سنرى، كان المرحوم مروان طه المدور، الكاتب السوري، قد أبدع في استثمار (القمامة) في روايته عن الحرب اللبنانية أيضاً (جنون البقر) والتي صدرت عام 1990، قبل رواية رأس بيروت بسنتين.
في هذا التعالق بين السيرة والذاكرة، يأتي من الحاضر دوماً ما يستدعي الماضي، فميل الراوي أثناء اختطافه وسجنه إلى البدوية عايدة ـ التي تطهو طعام السجناء، ويحرم عليها الخروج من السجن كيلا يفتضح أمره، وهي أيضاً إذن سجينة ـ هذا الميل يستدعي قصة حب الراوي لابتسام في عهده الشامي ثم لقاؤه بأمنية التي ستغدو زوجته: "راحت الذاكرة تمد أمامي شريطها الطويل، تذكرت ما لم يخطر على بالي من قبل"(ص228). وحاضر السجن، كلحظات شتى من حاضر الحرب، يتطلب النوستالجيا: "هل كنا نحلم؟ كانت بيروت القديمة جوهرة، تذكرت أيام عزها.. تذكرت ممارستنا الكاملة للحرية التي افتقدناها.."(ص244)، وكذلك: "كانت بيروت واحة ديمقراطية حقيقية في تلك الصحراء الشاسعة.. أين هي بيروت؟ هل كنا نحلم"(ص245). ومن الطريف أن الراوي نفسه، عندما يُفرج عنه ويمضي مع الرائد الفلسطيني زكريا، يندهش للأحياء الفقيرة التي يرى، والتي لم يكن يعرف أن في بيروت مثلها، على الرغم من إقامته الطويلة فيها وعشقه المشبوب لها. والراوي كالرواية، يكرر بذلك معزوفة التأسي على البهاء والديمقراطية في بيروت الماضي كما شاعت في مبدعات جمّة، ولكن ثمة بالمقابل ما مضى إلى نقضها بتقشير السطح والحفر في الأعماق، كما فعلت روايات غادة السمان وأحمد يوسف داوود ومروان طه المدور من الكتاب السوريين، وسواهم من الكتاب اللبنانيين.
ليس فعل التذكر في رواية (رأس بيروت) وقفاً على بطلها (أبي بسّام) الذي ضنّ باسمه واكتفى باللقب. فالدكتور أسعد يتذكر ما عاش منذ الطفولة مع الجار المسيحي أبي جميل، ويتذكر نشأة بنت هذا الجار (سوزان) مع وليد، ابن الجار المسلم أبي إبراهيم. والحاضر هو الذي يستدعي تلك الذكريات، إذ يهدد مجهولون أبا جميل بالرحيل عن الحي المسلم، ويخطفون بكره ويقتلونه عندما يتريث في الرحيل. ووليد وسوزان الجامعيان عاشقان بمعرفة الجميع، يهدد الرحيل خروجهما على سكاكين الطائفية. والملحوظ هنا أن سلطة الراوي ترمي بوطأتها على الدكتور أسعد إذ يتذكر، بخلاف ما يبدو مع ذكريات شخصية أخرى هي أبو زهير. ولعل السر أن يكون في طبيعة هذه الشخصية، كما سنرى.
لقد حفلت الرواية بعشرات الشخصيات الثانوية العابرة التي ندر أن كان لحضورها جدوى، إلا أن تشتت السرد وتوقعه في الاستطراد وتثقل عليه. وعلى عكس ذلك كان حضور وتميز أغلب الشخصيات الأساسية، على الرغم من تفاوت أدوارها ومن تظللها جميعاً بمظلة (أبي بسام).
وأول ذلك يأتي في شخصية ابن العاشرة عبد القادر الذي يبدو في غيابه أكبر حضوراً من سواه في حضوره العابر أو غير العابر. فالرواية تبدأ باختفاء هذا الطفل الذي بات ينوب عن والده في توزيع الصحف على سكان البناية التي يقطنها الراوي. ويقوم الفصل الأول من الرواية على وقع اختفاء ـ اختطاف الطفل على الآخرين. وعبر ذلك تترامى أشتات الحرب في الخاص والعام من العيش. فاليوم تمضي به طاولة الزهر، والجريدة صارت كل شيء في حياة سكان بيروت. على العكس من عصبوية إذاعات الميليشيات المتكاثرة ـ وبالمناسبة: يلعب المذياع والإذاعة دوراً حاسماً في رواية مروان طه المدور: جنون البقر ـ. أما القتال المتبادل فمستمر "وليس في هذا النفق الأسود أي أمل"(15). إنها ـ بحسب الراوي ـ حرب غير مبررة، وعبث وموت ودمار، ولا من رادع، وقد تسللت إلى الطفولة، ليس باختطاف عبد القادر وحسب، بل بلعبة الحرب التي يلعبها ابن الراوي (بسام) مع أقرانه، فالحرب تملأ حاضر هذا الطفل وترسم مستقبله: "عندما سأكبر سأذهب إلى الحرب".
بقدر ما ينظم هذا الفصل الأول من الرواية حدث اختطاف عبد القادر، بقدر ما يشتته تقديم الجميع ونثار الذكريات: من محي الدين صديق الطفولة والبدايات في دمشق والذي أعد الدكتوراه في بيروت (هل هو الناقد المعروف محي الدين صبحي؟) إلى أبي إبراهيم المؤمن المحبوب والدكتور أسعد ولوريس ومنير وأبي زهير و.. ولن يكون لحضور الحرب في استهداف مركز الأبحاث – رغم الدلالة هنا على وحشية الحرب المستهدفة للثقافة – أو اكتشاف الناس لخبرة التمييز بين الأسلحة من أصواتها، من فعل غير التشويش على الحدث المركزي: اختطاف الطفل. وإذا كان زمن هذا الفصل (يوم واحد هو يوم الاختطاف) قد ساعد على ضبط أفعال التشتيت، فهو سيعينها في فصول كثيرة تالية، كلما تقافز أو انبهم وغدا: ذات ليلة، ذات يوم، في صباح أحد الأيام، شهور عديدة، ذلك اليوم.. وسيبدأ هذا الأمر منذ الفصل الثاني الذي يتابع ذيول اختطاف الطفل عبد القادر إلى الحدث المركزي التالي، وهو محاولة اختطاف طفل الراوي (بسام) نفسه، ولأن الخطف سمة كبرى لهذه الحرب العمياء، فسيعاود في الفصل الثالث عبر اختفاء الجار (أبو المجد)، إبان دخول القوات السورية إلى لبنان وتوقف الحرب لفترة عادت بعدها أكبر شراسة.
يظل حضور التدخل السوري عابراً في هذا الفصل وفيما يليه، على العكس مما نرى في روايتي قمر كيلاني (بستان الكرز) وأحمد يوسف داوود (فردوس الجنون). بالمقابل ينشغل الفصل الثالث بتنظيم سكان الحي لحراستهم له، ولسكنى أسرة مهجرة مطرح أبي المجد الذي يظهر فجأة، ولكن في أحسن حال. وسنرى بين فصل وآخر كيف سيتردد على بيته، وكيف تثور شكوك الحي حول عمله الجديد وثرائه، وحول علاقته بالمهجّرة (أم خالد) التي شغلت البيت، وصولاً إلى زواجهما، ثم اختطافه واختفائه مرة أخرى. وفي هذا الخط الفرعي من خطوط الرواية يرتسم بقوة ملمح من ملامح تطور الشخصيات بفعل الحرب التي أشاعت التهجير وتجارة المخدرات وأمر المافيات والعصابات. وفيما يخص (أبو المجد وأم خالد) يأتي ذلك بأقل قدر من الكلام، تعويلاً على الإشارات والأفعال، ولعل في ذلك سر الرسم البارع لتطور الشخصيتين بفعل الحرب.
أما أبو زهير الذي يتلبسه أخوته من الجن والعفاريت، فيبدو أكثر شخصيات الرواية تميزاً. فمن حكاية ربحه لورقة اليانصيب إلى حكاية سيارته إلى دوره في حاضر الحيّ، تنهض شخصية دينامية، كان قميناً بالرواية أن تستثمرها لتفجير السرد وإطلاق المخيلة، كي تعيد تركيب الواقع ـ الحياة اليومية في الحرب، بدلاً من الانجرار إلى التقريرية والشرح في غير موضع. ولقد قال الراوي نفسه في أبي زهير إنه كان "في كل مرة يروي حكايا يسرح فيها خياله كما يشاء، وفي كل مرة يتذكر ويضيف أحداثاً أخرى. كان بارعاً في الرواية".
حين ينشب القتال بين منظمتين في حي رأس بيروت، ويُقتل من أبنائه خضر الشاب، يأتي بجثته أبو زهير مردداً من لغة الجن والعفاريت ما يحفظ، ومذكراً بالمتناصّات الطويلة العديدة من هذه اللغة في رواية غادة السمان (ليلة المليار). لكن هذا المؤاخي للجن والعفاريت يتقدم إلى نهايته التراجيدية في الفصل الأخير من الرواية ـ بعدما اقتحم الإسرائيليون بيروت ووقعت مجازر صبرا وشاتيلا ـ معتلياً صخرة الروشة الشهيرة قبالة الشاطئ، مردداً على من اجتمع حولـه يقينه بفناء البشر وخلود الصخرة، ثم ينقذف إلى البحر منتحراً، فينقذ خاتمة الرواية من لهاثها خلف أحداث الحرب عام 1982، كما أنقذ الفصل الرابع بنقله لجثة خضر، والفصل السادس بذكرياته. وكأن الراوي لم يستطع الخلاص من سطوة أبي زهير، فكانت آخر عبارة في الرواية ترجيعاً ناتئاً لما قال في الصخرة، في محاولة زائدة للترميز الذي أجهضه الشرح، إذ نقرأ وقد عادت الحرب للاشتعال: "إلا أن صخرة الروشة ظلت في أعماقنا رمزاً بأن الحياة أبقى وأقوى"(ص345).
مثل هذا الأذى الذي تسببه سلطة الراوي يبدو بخاصة مع شخصية الدكتور أسعد. فعندما يدفع أحد طفلي القصاب (الجزار) الشاب أبي علي شقيقه من الشرفة العالية، وتهز الفاجعة الأبوين وجيرانهم، تنطلق محاضرة الدكتور أسعد حول النسيان. ولا يخفف الحوار من وطأة المحاضرة، كما لا تخفف من وطأة الراوي قصة موسى والخضر والتناص الطويل مع القرآن.
وهنا يلتمع في الرواية مثل ما كان مع شخصية أبي زهير. فالخبل يظهر على أبي علي، والرواية تقنع بالقليل مما يفتحه ذلك لها من إمكانية تطور هذه الشخصية. وإذا كان الأمر عينه يظهر مع شخصية المسيحية الشابة (ريتا)، فقد ظل حظها أكبر.
في الفصل الثامن، وقد توقف القتال وعاد الراوي إلى عمله في المجلة في الحي المسيحي (الأشرفية)، تدعو الجارة إيفون إلى عشاء يحضره صديقا الراوي: الضابط الفلسطيني أبو محمد والكاتب الفلسطيني (أبو الطيب) وآخرون من الجيران بينهم سكرتيرة في شركة سياحية، تومض بينها وبين المسلم أبي الطيب شرارة الحب، على وقع المدافع التي عادت تقصف أثناء العشاء.
في الفصل الحادي عشر، وقد أغلقت المجلة وانتقل الراوي إلى العمل في معهد أكاديمي لأحد معارفه، يلتقي أبو محمد مصادفة مع أبي الطيب وريتا. ومن المطعم إلى البار ـ حيث متنفس الشباب والرقص لكأنه ليس في البلد حرب ـ ترتسم شخصية ريتا كما يرتسم الحب، على الرغم من أن أمها لا تريد لها أن تهوى رجلاً من غير دينها. لكن ريتا الفلسطينية الجذور، كما ترسمها الرواية، مستقلة وشجاعة، لذلك يحسبها الحي لعوباً. وريتا ترى أن الذين يذبحون البلد منقادون إلى مؤامرة خفية، وأن الجميع متورطون. ولأن أبا الطيب اصطحبها إلى الخطوط الأمامية، ولغرابتها، فحص أبو محمد شكه بجاسوسيتها حتى نقضه. وسيظل العاشقان يمضيان نحو الزواج، على الرغم من التناقض الطائفي، حتى تبدأ حرب 1982، وتستشهد ريتا في المستشفى الذي قصفه الإسرائيليون، فينطوي أبو الطيب على الفقد، وهو الذي كان في بداية تلك الحرب يصيح بالراوي في مقر الإذاعة المتنقلة: "هذه حربنا الأولى معهم. في كل مرة يحارب العرب نيابة عنا ويهزمون"، فإذا به بعد فقد ريتا، ينيخ للهزيمة التي أعلنها أخيراً رحيل المقاومة الفلسطينية عن بيروت.
تصرّ الرواية على مناجزة الطائفية، فوليد وسوزان يتزوجان ويبحران إلى قبرص، وتندحر الطائفية التي انتصرت برحيل أبي جميل المسيحي من الحي، بعد تهديده باختطاف ابنه وقتله. وتنتصر الطائفية مرة أخرى عندما يصطحب الراوي بسيارته جاره المسيحي جوزيف في العودة إلى الحي، فيعترضهما حاجز مسلم وقد جن جنون القتل على الهوية، ويقتل شاب ذلك المسيحي، لأن أحداً مسيحياً قد قتل أبا الشاب وأخاه، فَحُقَّ في هذه الحرب قول الدكتور أسعد للراوي إنها ليست من صنع الله "إنها حرب الشيطان لأنها حرب لا عدالة فيها، وحرب لا إنسانية، واستمرارها استمرار للعبة الشيطان".
هذه النقدية للحرب بعامة، وللطائفية من عناصرها، تغدو أكبر حضوراً في القسم الثاني من الرواية، والذي يبدأ بسفر زوجة الراوي الشاعرة إلى لندن وعودتها، وبالاستطراد إلى قصة والدها وقصة الجارة الأرمنية.. ثم يكون اختطاف الراوي، حيث تتألق الرواية في رصد دخيلته وهو يكابد الخوف، ويقلب أسباب اختطافه ما دام لا يتعاطى السياسة، وعمله الصحافي فقط في الشؤون الثقافية، وما دام لم يعلن رأياً بالحرب، وشأنه شأن عامة المحسوبين على (الأكثرية الصامتة). وحين يبدأ التحقيق ترتسم بخصوصية وحذق شخصية المحقق (أبو الجماجم) الذي ينتفض: "هؤلاء الذين يشكلون الخطر.. الكتّاب والشعراء.. هل تعتقد أن العمال وكناسي الشوارع وبائعي البرتقال يشكلون خطراً.. هؤلاء الناس مساكين.. الخطرون هم المثقفون"(ص166).
ليس أبو الجماجم سوى محقق فلسطيني كما سينجلي بعد نقل الراوي إلى سجن أبي أكرم، تحت الأرض. أما التهمة فهي الخيانة والعمالة، لأنهم ضبطوا تسجيلات للراوي مع مثقفين كان حاورهم بمقتضى عمله. لكن السر الذي سيطلق سراح الراوي حين ينجلي، هو ما دس به على الراوي لدى المنظمة الفلسطينية، جاره أبو توفيق الذي يعمل مخبراً للمنظمة. ولذا سيردد الراوي على الرائد زكريا الذي يعتذر لـه أن الثورة مثلها مثل بقية الأنظمة.
وقد رسمت الرواية في سجن أبي أكرم صورة أي من سجون أي نظام عربي عتيد، وحققت الصورة خصوصيتها بما مر من أمر البدوية الطباخة عايدة مع الراوي.
لقد داهم الراوي في زنزانته كابوس الدم: "بدأ بحر الدم يمشي إلى أن بلغ صخرة الروشة. رأس بيروت الصخري المشدود كالعملاق وسط البحر.. غمر بحر الدماء البحر الأزرق، وسرعان ما اصطبغ بلون الدم. لكن الصخرة ظلت مشرئبة بعنقها مشدودة إلى أعلى.. وكذلك ظللت أنا طافياً، أرى هذا المشهد ولم أمت، فصرت أبكي (...) الدم.. الدم. هذه مدينة ستغرق بدماء أبنائها.. فكن شاهد هذا العصر أيها الشهيد.. كن شاهد هذا العصر"(ص215). ولئن كانت الحرب قد توقفت في الداخل لتتواصل على الحدود في الجنوب اللبناني حتى التحرير، فالراوي الذي لم يصر شهيداً، قدم شهادته على ما عاش من الحرب منذ بدايتها حتى ذروتها عام 1982، فكانت رواية (رأس بيروت) تجاوزاً كبيراً لما سبق للكاتب أن كتب عن الحرب اللبنانية في رواية (الممر)، وإضافة هامة إلى المدونة الروائية للحرب اللبنانية بخاصة وللحرب بعامة.
أحمد يوسف داوود: فردوس الجنون:
جاءت رواية أحمد يوسف داوود (فردوس الجنون)(8) بعد سنوات من توقف الحرب اللبنانية، لتشتغل عليها، كما على مقدماتها وملحقاتها، في لبنان وفي سورية، ولتترك علامة فارقة في كتابة صاحبها الروائية وغير الروائية ـ فالكاتب أيضاً شاعر ومسرحي وناقد ـ ولعلها أيضاً علامة فارقة فيما تنعطف به الرواية العربية منذ عقد على الأقل، نحو أفق آخر.
تعلن (فردوس الجنون) منذ البداية عن مغامرتها الفنية، عبر فصلها الأول (بيان الأبطال)، حيث مشاركة القارئ في اللعبة، ولعبة السارد الجماعي، ولعبة استئجار كاتب لتدوين الرواية، وسوى ذلك الكثير من اللعب الذي ينشط في حالة ـ حالات الجنون، ويرمي بطرف خيط أغلب عناصر الرواية التي ستشتبك فصلاً بعد فصل، قبل أن يبلغ الجنون تمام العيش السوري اللبناني، على تخوم قرن جديد وألفية جديدة.
ومنذ هذه البداية تشتغل الميتا رواية، فترى الرواة يعتذرون منا ـ من القراء ـ عما يسمونه (الحذلقة) التي قد نجدها في الرواية، وفي حواراتهم على وجه الخصوص، يرد الرواة هذه (الحذلقة) إلى الكاتب (المستأجر). وفي موقع آخر يخاطبنا الرواة موضحين أن إحدى سقطات هذه الرواية هي أن الجنون فيها يبدو لأبطالها سخيفاً إلى درجة محزنة، لهول الجنون الواقعي. وفي موقع ثالث نرى الرواة يبحثون عن ربط منسق، يحكم أوهامهم كي تجيء روايتهم مسلية، لكنهم يعترفون لنا ـ نحن القراء ـ أنهم لم يصلوا إلا إلى تفكيك خاسر، وهنا يدفعون بالسؤال الحاسم: "تفكيك أي شيء؟" و"أي تفكيك؟".
هل هو زمن الحرب وفضاء الحرب المنداح من لبنان إلى سورية ومن سورية إلى لبنان، ومنهما إلى العالم في نهاية القرن العشرين؟
هل هو أيضاً تفكيك البنية الروائية التقليدية، وتوسل تعددية الأصوات واللغات والتهجين والذاكرة والعجائبية والشهرزادية، من أجل بنية روائية جديدة بالغة التفكك وبالغة التماسك، تسخر من الفلتان النقدي ـ تيمّناً بالفلتان الأمني إبان الحرب ـ وتستدعي رعب المؤسسة الكافكاوية بقدر ما تستدعي رعب المؤسسة الغيطانية (في رواية جمال الغيطاني: حكايات المؤسسة) وسواهما من الأعمال البالغة الواقعية والبالغة التخييل، وكيف جاء ذلك كله؟
يقرر الرواة في بيانهم الافتتاحي أن تكون الرواية رواية (بليغ) تقريباً. وهذه الشخصية الروائية (بليغ حمود) ستتولى أمر الرواية ـ تقريباً ـ ولكن من دون أن تكون (البطولة الروائية) لها أو لسواها، فالحرب اللبنانية هي البطل الذي ينازعه البطولة العيش السوري، فبليغ حمود سوري ريفي، يفرض عليه الشبح الذي يقبض على الخناق السوري أن يعمل في ركابه، في قوافل التهريب، فيفرّ بليغ من هذا الذي تكتفي الرواية بلقبه (الأستاذ) وبلقب من صاهر: (البابا) الذي يتربع على رأس السيبة، كما تنقل الرواية من المسرحية الرحبانية الشهيرة.
لقد هرب بليغ من جنون ليقع في مصيدة جنون آخر. منذ أن تولى اللبناني (سرحان) تهريبه، فَغَدَوَا مطاردين في الجرود، حيث يحرص سرحان في واحدة من إشاراته الساخرة للقوات السورية، على "أن نتجنب شرطتكم وعسكركم ورصاص رشاشاتنا ومدافعنا وبقية ألعابنا المضادة".
في حمأة الحرب، حيث القوات السورية وجميع الأطراف اللبنانية، والفلسطينيون، يقود سرحان بليغاً إلى ضيعته. وعبر ذلك يقص سرحان قصته، منذ دراسته الفلسفة وتخصصه في ديوجين الكلبي، إلى أن نشبت الحرب وجاءه الإسكندر المكدوني معجباً به، بعدما تخلى عن معلمه أرسطو، وقال له: اطلب، فطلب: "أريد أن تحل عن خلقتي أنت والميليشيا التي معك".
تكاثُرُ (السكندرات) جعل سرحان يعود إلى ضيعته متسائلاً عما يفعل بالفلسفة في عالم صار فيه العقل عار صاحبه. لكن الضيعة أنكرته، إذ سلّحه اسكندر الضيعة، وأمرهُ أن يطلق، فالطوائف اختلفت، والأوامر "تقتضي بالإطلاق على ثلاث طوائف في ثلاث قرى مجاورة، ولكن بكل الحنان الأخوي اللازم، يعني إلى القلب مباشرة". ثم تعقدت أوامر الإطلاق واتسعت فشملت الفلسطينيين والجيش السوري والجار القريب والآخر البعيد، وخصوصاً خصوصاً: "سائر الكائنات التي لا تطلق معنا، أو تقصر بواجب الإطلاق في جبهتنا التي صارت وطناً لا ينقصه إلا نشيد ليدخل في الجامعة العربية".
رفض سرحان الحرب وصاح" "هذه قذارة سياسية"، ولبى نداء جميلة التي رملتها الحرب. كان سرحان مختفياً في شجرته، فلجأ إلى بيت جميلة، وباتا امرأة ورجلاً وحيدين في حضرة الموت، كأنهما الشاهدان الأخيران على العالم "يدفعان الموت عنهما بالإمتاع والمؤانسة، فيما هما يرتجفان.. ثم ينتهيان صديقين، مهمتهما تجديد الحياة، حسبما فعل آدم وحواء في بداية الخلق".
كانت جميلة تطبطب على عضو سرحان قائلة في إشارة إلى أطراف الحرب: "أليس أهم من كل انتصاراتهم؟". لكن مجزرة البلطة تقع وتودي بكثيرين، فيدرك سرحان أن شايلوك وحده من يسكن قلوب وضمائر الاسكندرات وأزلامهم، ويتساءل "أي رب محارب هذا؟ رب غريب محارب لم أجده إلا في كتب اليهود": ويطلق النار.
يوم المجزرة حملت جميلة من سرحان. لكن فرحته التي أطلقت رصاصته، قتلت جميلة، وعصف الجنون بسرحان، فطرد (القشة) مجنون الضيعة، لأن الضيعة لا تتسع لمجنونين. ونقرأ: "ولأن الرب المحارب هو الذي قام بقص الأشرطة الحريرية على سائر الجبهات، إيذاناً بحرية انطلاق كل ميليشيا في مستنقع الدم الذي تختاره بحثاً عن التعايش الأخوي الديمقراطي: من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ومن أدنى "تحت" إلى أعلى "فوق" مرسوم في أغنية وديع الصافي (لبنان يا قطعة سما)، فقد تهيأ لي أن القشة ربما كان مبعوثاً سماوياً لتقصي مدى الإخلاص في مجرى الحقائق الملعونة".
قرر سرحان أن يفتح جبهته الخاصة: جبهة عشق، فوجّه بارودته إلى جميع الجبهات، لكن الجبهات وضعته مرغماً في الحياد، وبات معروفاً، يتنقل بينها، حتى كانت حرب 1982، فيشكر سرحان اليهود على اجتياحهم، لأنهم منحوه أفقاً صالحاً لجبهته "وإلا لما عرفت بتاتاً ـ وسط العرير الأخوي ـ إلى أين يجب أن أوجه رصاصي، دون أن يقتلني تأنيب الضمير".
جاء اسكندرات اليهود، كما يروي سرحان لبليغ، لاغتيال مطارات هذه الأرواح، بحجة أنها أرض ميعادهم، وقد قضوا ثلاثة آلاف عام وهم "يظبطون الأسس الفلسفية لأصولية الحروب". وبمقتضى فلسفة الأرض المحروقة التفوا حول الضيعة إلى بيروت، فأخليت الضيعة، وتمترس سرحان في مطار الروح ـ بيت جميلة، يقاتل وحيداً. منتصراً بهزيمته، وضد نظام عالمي برمته، وظل صامداً على الطريقة العربية الفولكلورية.
قبل خروج سرحان من الضيعة شرّفها (الأخوة) باعتبارها نقطة قنص "وكادوا يديرونها حرباً عالمية لبنانية حول من السبّاق إلى تحرير الضيعة، ثم اُتفق على إبقائها منطقة محايدة، حتى لا يعرقل أهلها عمليات القنص الأخوي في الأماكن الأخرى".
صراع الأخوة على الضيعة أخّر سرحان عن اليهود، فركب بارودته كجواد دونكيشوت، وكالقصبة التي تركبها أية شخصية في رواية (فردوس الجنون) في جنونها. وفيما تحول عم سرحان من محمود إلى الشيخ محمود، وصار يدعو الله كطرف محايد في الحرب، بجنونه الخاص، انطلق سرحان ليقذف اليهود في البحر "على طريقة أحمد الشقيري، وما حدا أحسن من حدا". إلا أن عصابة مهربين سوريّين اعتقلته، وأقنعه كبيرهم أن "التعاون العربي هو طريق النصر من الوجهة الاستراتيجية". وطلب منه أن يعمل كشافاً لهم في مسيرتهم إلى الحدود، ففر منهم مصمماً على أن يقتل بخاصة "أولئك الذي سيعترضون طريقي في اللحاق باليهود إلى بيروت".
في هذه الطريق يلتقي سرحان بزهرة عند النبع. وزهرة التي هرب زوجها إلى الحرب، وتخشى أن تكون هزمت إلى النهاية، تخترع الأعراس لتبقى متماسكة، فالحرب حاضرة دائماً في كل بيت، وبعض الناس شاخ دون أن يتجاوز الثلاثين، وبعضهم هلهله الحصار، لكنهم ليلة العرس قرروا أن يخرقوا الجدار ـ الكابوس.
يقول سرحان لزهرة: "أنا لست مرتزقاً فأعمل لحساب أحد، ثم إنني مستقل عن الحرب الأهلية"، ويقول: "أنا بصراحة أحارب الغزاة اليهود الآن"، فتقول زهرة: "وماذا لو قلت لك إن الغزاة جاؤوا من ضمائرنا الآن؟". وإذ يؤكد لها أن هناك من سيقف مع اليهود ضد لبنان، تقول ساخرة: "نصف من هذا الطرف ونصف من ذاك، ومجد الخراب الأخير للبنان، من واشنطن إلى المحيط فالخليج!.. لبنان صار "قطعة سما" فعلاً، ولكن بلا مخلص". وبدلاً من بيروت، تدفع زهرة بسرحان إلى سليمان، فمن هو هذا الراهب؟
إنه الأستاذ الجامعي للفلسفة، والذي جعلته الحرب يعتزل، ويكاد يكون التعبير الأكبر للفعل الفكري والصوفي في الرواية. فمنذ البداية، في (بيان الأبطال)، وجواباً على ما آلت إليه الحياة في هذا العصر "كمجمع قاذورات وفظاظات شيطانية" يقول سليمان: "فكر في قشرة الموز الأولى". ولئن كان الأبطال جميعاً في بيانهم، وبعضهم من بعد في بعض مواطن الرواية، لن يفتأ يبدي ويعيد في قشرة الموز والورطة الحتمية الأولى التي تذكّر بالوجودية العتيدة، فإن سليمان يظل "بطلاً" مثقفاً آخر، وهو الذي كان قبل الترهب والحرب مشغولاً بإيضاح أفكاره عن (فلسفة الخساسة العالمية) أو ما كان يسميه: (التصفية الفلسفية لارتقاء القذارة). لكنه مضى، أو مضت به الحرب، إلى معتزلـه، ليؤسس رهبانية جديدة مستقلة عن سائر الأديان والمذاهب والكنائس، معاتباً الرب ومعللاً صنيعه بقوله: "في أوطان لا تنتج غير أصناف العلكة الرديئة والزعامات ومحارم التمسيح، كيف يمكن حتى لأرسطو أن يتفلسف؟". ويرسم سليمان بانوراما للراهن العربي والكوني، معبراً بقوة وجلاء عن رؤية الرواية، في قوله: "أنا أرى الكائنات والأشياء كلها قد صارت مجرد نسخ بالفوتوكوبي عن أصول قليلة مخيبة.. العواصم.. البلدان.. النياشين.. المافيات.. الميليشيات.. الزعامات.. السجون.. أمجـاد المهربين.. ابتسامات الجلادين.. تقنين التصفيق.. مدائح الخصيان.. شوارب أشباه الرجال.. بيانات الرفاه.. طرق التنقيب في المزابل.. حنان الخيانة.. العار الذي لا تزيله إلا محارم نينكس.. قبور الحرية.. بطولة اللصوص.. جرائد الأحزاب.. بيانات الحكومات.. المثل العليا والسفلى.. الحريم والحريم المضاد.. أوسمة الجنرالات.. مثلجات التكتيك.. حرائق الاستراتيجية.. سفالات المواعظ.. المسيرات المظفرة حتى الجحيم".
وإذا كان ما تقدم يعني العرب اليوم وأشباههم، فليس الكون كله أحسن حالاً، حيث بات الإيدز موحداً ومجانياً وبالأقمار الصناعية، وحيث باتت الأمراض الخبيثة عميلة، وتخصصت بقتل من بقي في رأسه ذرة عقل، أو في روحه ذرة شرف. وكل ذلك يجعل سليمان يتساءل: "أية فلسفة في الدنيا يمكن أن تبرهن أن الذباب الذي يطن في خطب الرفيق ريغان هو ذاته الذي يغني في برامج القديس غورباتشوف، ويدندن في تراتيل أحبار السلام أو تسابيح ملائكة الحروب التحريرية التي يجب أن تبدأ بالتحرر من المواطنين؟! فظاعة يا..".
تواصل الرواية بثها على لسان الراهب الدكتور سليمان أثناء لقائه بسرحان. فعندما يقرر الأخير أننا من يشعل حرائقنا، ويسأل سليمان عن سبب رغبته في تشغيل الرب عامل إطفاء عندنا، يجيب سليمان: " من الذي خلق النار؟"، ويدفع بسرحان إلى تلك المجدلية من طراز هذا الزمان، والتي لم يؤلف لها أحد بعد أسطورتها: زهرة، إحدى التعبيرات الغامضة عن قوة الحياة. ولأن جمعية (الإصلاح العام للأخلاق والدين والمجتمع) تقتل لوريس (لولو) التي تخدم الراهب وتعيش معه، يحمل سليمان رشاشه، بينما يبلغ الأمر بسرحان أن يقفل جبهته، وينهي ما يقص على بليغ، في إشارة ساخرة أخرى إلى التدخل السوري، وإلى طول ما استبد بالسرد، فيقول: "حكاية مملة؟ احتملتك كل تلك الأيام وأنت لا تحتملني نصف ساعة (..) كم صار مزاجكم رهيفاً، أنتم هناك، أشقاؤنا وراء الحدود". وسيقول فيما بعد في واحدة من غمزاته من السوريين: "أنتم هناك لديكم حشرية غريبة. من تظنون أنه ينصب أحدكم قيماً على أقدار جيرانه، أو على أقدار المخلوقات؟".
إثر ذلك يتولى بليغ أمر الرواية ـ تقريباً ـ فيسرد قصة طفولته ونشأته ومطاردته مع سرحان، ويبدأ الالتباس المتعمد بين سرحان وبليغ والشيطان، كما سيلي مع زهرة وهالة عبر لعبة العجائبي والتقمص.
ومن شطر مما يسرد بليغ لسليمان، ومن شطر مما يسرد لزهرة، ومن أشطار يرويها لنا، تقوم قصة طفولته، وبخاصة بذرة الجنون في أسرته، ووفاة أمه، وتسجيله على اسم الأم الثانية ـ زوجة أبيه التي ستتحفه بالشقيق عادل. ومن الضيعة إلى المدينة البحرية التي لا تسميها الرواية، تغدو بيروت الشيطان الخفي الذي يركض دائماً في دخيلة بليغ، ليس فقط لأن عمال الضيعة الذين يعملون في بيروت، يصفونها كما لو أنها الجنة، بل لأن والده رهن شقيقتيه لدى خواجا بيروتي، فعادت واحدة هاربة وملتاثة، واختفت الأخرى. وسيغدو هذا الاختفاء العقدة – المهماز التي تدفع بليغ في مهاوي بيروت.
أثناء لقاء بليغ وسرحان بزهرة وسليمان، يقطع الأول سرد قصته ليصور حضور رجلين وهالة التي تتلبس بشقيقته المختفية وبزهرة. وفي هذا العبور يأتي حديث الحشيش والقتل، ويقول أحد الرجلين: "بصراحة يا مدام، إذا كنا ننقل الحشيش أو ننصب الحواجز الطيارة، فليس من الضروري أن نصير أثرياء.. المسألة في كل جوانبها عملية وطنية.. نعم..!.. من يستحق الموت يجب أن يموت، ومن يجب إفساده لا بد من إفساده"، فتصيح هالة: "طز في وطنيتكم السافلة من لجان الأخوة وحواجز الخوّة إلى جبهات التحشيش".
تترك هالة والرجلان وسرحان بليغاً، مأخوذاً بزهرة التي اشترت شيطانه، وشيطانه هو تاريخ شخصي وعام، كشيطان الحرب المجنونة. وهنا يضيء السرد في اضطرابه حد (الجنون) شخصية ورمزية زهرة التي درست التاريخ في الجامعة، وتروي حكاية زوجها الشاعر وولديها الذين قتلتهم الحرب، وبعدما خسرت كل شيء فجرت مقر المارينز، وفرت لأن أمريكا تريد رأسها، وقررت أن تنسى كي تعيش. وزهرة ترى بليغاً بطلاً من هذا الزمان، مستعيرة من الشاعر الروسي ليرمانتوف عنوان رواية له، فيما يراها بليغ ساحرة أو كذابة، وينشغل بها عن غبطته (أهو البطرك الماروني؟) وعن الجنرال (أهو عون؟)، ويجزم: "ليست غريبة عني بتاتاً.. لقد عرفتها جيداً في زمن ما.. في
مكان ما..".
يروم بليغ المسلم وزهرة المسيحية الزواج، ويقلبان القول في الزواج والدين، ثم تغيب تاركة لـه أقلاماً وأوراقاً لتتفقد المعابر على "خطوط التماس التي تملأ الأرض كلها". وإذ تعود تحكم باستمرارية الحرب، فلبنان كالعالم، يختنق الآن بالغصص من سفرجلة الكذب. وكما ترسم زهرة الراهن "أنا لبنانية وأنت سوري، وكلانا يغص الآن بالسفرجل الذي استعجلنا في قضمه" ترسم أيضاً المستقبل "سنعيد إنتاج كذبتنا القديمة بكل أدواتها"، وتخاطب بليغاً:
"تعرف حضرتك أي انفجار اجتماعي سينجزه التعمير على الأسس القديمة وكذبة سوا ربينا".
يواصل بليغ فراره: "أريد جهتي" إلى بيروت، حيث يواصل بحثه عن أخته المختفية - عقدته. ويتردى سنوات قبل أن يعود إلى ضيعته، فيدفن أباه، ويحتفي الناس نفاقاً بعودته، ويكون شقيقه قد غدا ضابطاً. وعندما يؤوب إلى بيروت يعمل حارساً لكاباريه (تامارا)، حيث يلتقي ببقية شخصيات الرواية من قمة الهرم ومن القاع الاجتماعي: الصديق القديم صاحب هذه البطاقة: "أبو الشبك وشركاه. قبضايات للإيجار. خدمات سريعة للمنازل. دقة وإتقان. تخفيضات للمشتركين"، وشندور سفير (السعدان) المفوض والسائق الخاص عند قاض كبير، القاضي نفسه وزوجته ميرنا التي تطرز خيطان القضايا الملوثة، ليغسلها الزوج الذي يتهم زوجته بالشيوعية والانحلال، ويمنعها من الإنجاب ولا يطلقها.. وكما ستقوم بين بليغ وميرنا علاقة، ستقوم مع زيزي العاملة في الكاباريه، ومع روز عشيقة الوزير (دال) التي يعمل بليغ سائقاً عندها، ويستدعيه السعدان (أرسين لوبين البيروتي) للعمل معه، ومثله القائد الفلسطيني الشهير (أبو الزعيم)، فيما منطق بليغ يغدو (أنا عليّ أن أعيش)، والأحداث تتلاحق به وبتلك الشخصيات الروائية، فالوزير يتعرض للاغتيال وينجو، لكنه يصير مقعداً، وروز تبيع ممتلكاتها وتسافر، وميرنا تهجر زوجها تاركة لبليغ شيكاً بعشرين ألف دولار، ويُقتل شندور، ويضيع أبو الشبك، والحزب الذي انتمى إليه بليغ يوماً يطلبه الآن، وهكذا ينتهي المطاف بصاحبنا إلى ضيعته: "إن وقت رحيلي قد حان، وإنه يجب عليّ أن أغادر بسرعة هذه الـ "بيروت" الجميلة المضيعة قبل أن يبدأ الجميع بمعاملتي- كل من موقعه- على أنني ممثل سري أو ميداني للردع.. أنا الذي لا مكان لي في أي مكان".
غير أن غربة بليغ في ضيعته ستكون أكبر، فالشقيقة الملتاثة ماتت، والشقيق الضابط لهط ما لشقيقه العائد، و "الأستاذ" يريد بليغاً في ركبه، وسورية تغيرت بسرعة تثير الدوار، وليس أمام بليغ إذن إلا أن يعود إلى بيروت، ليلتقي شقيقته الضائعة وزوجها وولديها في احتفال ختامي يضيق بالبوليسية والميلود درامية.
عبر هذا التخييل (المجنون) لجنون الحرب، ترتسم صورة بيروت، فبليغ يرسمها كواحدة من لوحات فسيفساء الموت المكثف والمتشابه في سائر المدن والعواصم. وإذا كان الرواة منذ البداية سيشككون في أن بليغ هرب البتة إلى لبنان، وقضى فيه نصف عمره مطارداً، وهو الذي لم ير بيروت إلا على الخريطة، فإن بليغ الذي يتظلل به الكاتب، يتساءل: "وهل يجب أن أكون خبيراً في الجغرافيا كي يحق لي أن أتخيل؟"، كما يرد على روز التي تتساءل عن جهله ببيروت: "اتركيني الآن أخترع ما يناسبني، وإن لم تقتنعي بأن "بيروتنا" هي كل بيروت ممكنة في الدنيا، فافصليني من الرواية".
وبمثل هذه الميتا رواية يخاطب الرواة: "سأستمر في خلق ما أحب من تخيلات، وسأرش بعضاً من بهار الحقائق عليه.. وسنرى إلى أين سنصل أخيراً مع هذه الـ "بيروت" التي تطلبون مني اختراعها، والتي لن أجعلها أقل من تلخيص محكم لكل هذا "الشرق الأوسط" أو الأدنى الذي طالما انخدعت بعظمته". فلبنان بحسب بليغ لا يختلف عن أي بلد من بلدان عالم الجنوب، بلدان الفخاخ المصلية لاصطياد الإنسان.
على النحو نفسه، كما على نحو آخر، ترسم الشخصيات الأخرى بيروت، فزهرة تراها مسيرة ما لا تستطيع حسابه من الكمائن والألغام والأعلام والأناشيد والخيبات والشعارات والمؤتمرات والمذابح والمدائح والأوسمة والخطب والأكاذيب والآباء: "يا لطيف، كم صارت بعيدة هذه الـ.. بيروت!!". وزهرة ترى بيروت أيضاً كذبة حرية، بالوناً، واحة، مستنقعاً من وحول الهجانات، مخبأ لصعاليك "ملفلفين بأحجبة الوطنجية وبخور العروبية وبوهيمية التقدم والأنترناسيونالية" ممن عادوا إلى أوطانهم ليكرروا لعبة اضطهادهم. أما الشاعر زوج زهرة فيرسم بيروت طاحونة لا تناسبه، وعاهرة لا يريد أن يثبت رجولته معها، لذلك يعود إلى الضيعة، وحين تعصف الحرب يشبه بيروت بسدوم العاهرة - أين فرح الدوماني في رواية غادة السمان: بيروت 75؟ - التي دمرت نفسها بعدما أنهكتها الملذات، ثم التحق بالحرب قائلاً: "فأنا مثل كل هذه الحرب، بلا قضية".
من مقدمات الحرب – حيث يرى الراهب سليمان أن اليهود لم يكونوا ليبلغوا بيروت لولا أنها مهزومة منذ دهور – إلى لجة الحرب، ترسم الرواية تلك الرسوم (المجنونة) لبيروت ولبنان وسورية والعالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. ولعل السخرية الكاوية قد تبدت من خلال العرض المفصل السابق، فالرواية لا تفتأ ترسل سخريتها الهجائية المريرة بالمفارقات والمبالغات وبالتكبير والتصغير، ملاعبةً الشهرزادية - فسرحان يقتل الدجالة شهرزاد مائة مرة كل يوم – والفاوستية - سرحان وبليغ والشيطان –والدنكيشوتية - من القصبة لكل مجنون إلى لوحة دونكيشوت الآن في فيللا سليمان – والصوفية - كان سليمان في أستذة العقل المصنوع فمضى إلى تلمذة الروح الحرة - والتقمص، وصولاً إلى التهجين بالمفردات والصيغ العامية، وبأغاني فيروز والأمثال الشعبية، وإلى توسّل الحوار المسرحي بخاصة، والتناص مع التراث السردي، كما هو الأمر في عنونة أغلب الفصول (الزوابع والتوابع في بدء استراحة اليوم السابع- طوق الحمامة- الفصول والغايات في إعمار العواصم بالقبضايات...)، ومن ذلك كله، ومن سواه، قامت (فردوس الجنون) كعلامة فارقة في كتابة صاحبها، ولعلها قامت، كذلك أيضاً، في المنعطف الروائي العربي الجديد.
مروان طه المدوّر: جنون البقر
لم يكن ينقص روعة ذلك الصباح الدمشقي الصيفي إلا أن تصادف زكريا تامر على ذلك الرصيف. كنا – وليد إخلاصي وأنا - نمضي إلى المعهد الفرنسي، غير مصدقين أن عاقلاً سيأتي إلى ندوة عن الرواية أو سواها، في التاسعة من صباح العطلة الأسبوعية (الجمعة 26/5/2000).
في المساء غافلني وليد وانفرد بزكريا. وفي الصباح التالي نقل لي وصية زكريا بقراءة رواية مروان طه المدوّر (جنون البقر) التي كانت تقبع منذ صدورها عام 1992(9) في رف ما من مكتبتي، ولم أقرأها. لكن قراءتها جعلتني أدرك فداحة التقصير، وبخاصة أنني كنت قد حاولت للتوّ تقصي وتقري التعبير الروائي في سورية عن الحرب اللبنانية، عبر مساهمتي في المؤتمر الثاني حول الأدب العربي المعاصر، والمنعقد في الجامعة اللبنانية الأميركية –بيروت، حول الرواية والحرب اللبنانية (2 و 3 من شهر أيار- 2000). ولعل غفلتي عن رواية (جنون البقر) كانت مبعث وصية زكريا تامر الذي نقل وليد إخلاصي عنه أن كاتب الرواية كان موظفاً ومات. وقد تابعت السعي خلف أثر للكاتب المجهول، وسألت عدداً من الكتاب المسنين أو المقيمين في دمشق (ميخائيل عيد- ناديا خوست - غازي أبو عقل- خيري الذهبي- محمد كامل الخطيب..) لكن أحداً منهم لم يكن قد سمع بالكاتب ولا بالرواية، إلى أن أفادني عبد الرحمن الحلبي أنه كان قد قرأ للرجل كتاب (الأرمن عبر التاريخ) الذي صدر في طبعة لبنانية وأخرى سورية، في سبعماية وعشرين صفحة من القطع الكبير. وإثر قراءته للكتاب، زار الحلبي مروان طه المدور في غرفة متهالكة على سطح مبنى يرجح أنه لوزارة التموين، وأقرأه المدور فيما بعد مخطوطة رواية تحفل بالفانتازيا، و (جنون البقر) هي كذلك، وشكا المدور الأبواب المغلقة في وجه مخطوطاته، ثم انقطع تواصلهما، حتى باغت الحلبيَّ سؤالي. وهكذا إذن، ضنّت حياتنا وذاكرتنا الثقافية بمطرح على من ترك بصمته برواية، ليس فقط لإهمال أو تقصير، بل لقلة وفاء أيضاً، كما كان نصيب المرحوم صباح محي الدين (حلب) الذي يكفيه أنه قدم رواية (الغائب) قبل أربعة عقود، وليت الأمر كان وقفاً على هذا أو ذاك، في الرواية وفي سواها، فلندع ذلك عالقاً، ولنمض إلى رواية (جنون البقر).
***
لقد كتب مروان المدوّر في هذه الرواية سيرة الحرب بالتعشيق مع السيرة الشخصية لبطله (رؤوف يمّوت)، فكانت السيرتان السيرة اللبنانية، وبخاصة خلال العقدين السابع والثامن من القرن الماضي. وكما يليق بالسيرية، تولى السرد رؤوف بضمير المتكلم، ابتداءً بالقبر وانتهاء به، متوجهاً منذ السطر الأول إلى المتلقي بالنداء الذي سيتكرر: (يا سيدي)، وسيغدو أحياناً الخطاب الذي يتكرر (لكم). وبذلك وبسواه (سأحكي لك..- سأحكي لكم..) يبرم الحلف السردي المكين، وهو يلاعب الكتابة والقراءة بالعناصر جميعاً. وقد يكون من الأولى لتبيّن ذلك أن نفكك البناء السردي الذي قام على شبك الحاضر بالماضي من تلك الحفرة – البؤرة التي رمت الحرب فيها رؤوف يمّوت صريعاً، قبل أن ينقل إلى القبر.
هذا الميت يتوسل فعل التذكر، ويسوق الماضي فيما بعده (خواطر وهواجس وكوابيس وأحلاماً وأحلام يقظة) وينثر ذلك بفوضى تكسر الزمن مستبطنة في الآن نفسه نظاماً دقيقاً، فنرى رؤوف يتذكر إصابته للتو، أو شجرة الجميز التي ظللت نشأته وشهدت قراره بمن سيكون، أو رحلته مع سلمى في بوادبست، وسير علاقته بسلمى وفشله الجنسي معها وابتزاز أنيس لـه بسبب هذه العلاقة، أو قتله لأنيس وحلول عامر محله، وعلاقته المثلية بهما... ومن حين إلى آخر ينثر رؤوف اسم شخصية أو بداية حادثة أو نهايتها، ثم يعود إلى ما سبق نثره، ثم يقطعه ليتابع نثرة أخرى أو يبدأ بنثرة جديدة، متنبهاً - منبهاً إلى استطراد الذكريات، ومذكراً بعنواناتها، كأنما يتحوط لتيه القارئ ويحفزه في آن على موالاة اللعب. وبذا تشتبك ذكريات عنف الأب وسكره، وعمل رؤوف كحارس للاعب الدحاحل الأرمني اسكندر، وعمله في بيع أوراق اليانصيب، وإعانته لأسرته، وعشقه لكوثر ثم زواجه منها، وتهريبه للمخدرات إلى الأردن، ووشاية شريكه وصديقه عدنان، والرشوة التي أفرجت عنه، واستيلائه على ثروة كوثر ومصرعها، وإدارته لأعمال سلمى التي ترملت لرجل أعمال في الخليج، وإدخاله لأخوته في المدارس الرفيعة، ونقله لأسرته إلى الفيلا... ومن ذكرى الفلفل الحار المنشط للباه، إلى ذكرى مشاهدة المباريات في دارته وممارسة الجنس الشاذ والجماعي أثناء ذلك، إلى تشغيل اسكندر كوكيل لأعماله، إلى التدرب في نادي الوثبة الرياضي على يد صديق الوالد: خضر، إلى العمل بالصيد في البحر، إلى تجارة الأسلحة قبيل وأثناء الحرب اللبنانية، إلى التجارة بالمياه المعدنية في نيجيريا وتهريب المخدرات داخل حيوانات السيرك إلى عاصمة دولة أميركية لاتينية، إلى الزواج الثاني من نجوى وشكه في أبوته لوحيده غانم، وعلاقة نجوى بعشيقها أدهم واعتقال الإسرائيليين لرؤوف أثناء اجتياح الجنوب اللبناني صيف 1982، وتبرعه بالسلاح للحركة الوطنية اللبنانية، وانتساب ابنه إلى تنظيم ديني ثم مصرعه، وفضائح أخيه مجد في السرقة واللواط ومصرعه..، هكذا تقوم حياة رؤوف، وصولاً إلى ذروتها وقد غدا صاحب شركات متعددة الجنسية، وأقام مستشفيات ومستوصفات ودور عجزة، وأوفد طلاباً للدراسة في الخارج، وأسس جمعية الرقي بشباب لبنان، كل ذلك ليغطي أعماله الأخرى. وكما يليق بهذا النجم الصاعد أسس حزباً، وبات صوتاً مسموعاً في الأزمة – الحرب، وصار وزيراً للعدل ثم للشؤون الاجتماعية، وطمح بالرئاسة، لكن القيود جعلته يكتفي بنائب رئيس مجلس النواب.
بالاشتباك مع ما تقدم، وليس بالتوازي، يسرد رؤوف دقائق الحاضر الذي استغرق ما بين مصرعه وسقوطه في الحفرة إلى دفنه في القبر الجماعي مع الجثث التي نقلتها سيارة البلدية. ويتوسل هذا الميت هنا زوايا الرؤية التي تتقلب مع تقلب جثته جراء رفسة أو انفجار، كما يتوسل المذياع الصغير الذي استقر بجانبه، وظل ملازماً لـه بين انقطاع الإرسال وعودته. هكذا ترى الجثة من يفرغ جيوبها، والجرذ الذي ينهشها، وقَتْلَ قذيفة للفتى الذي كان يحمل المذياع، وتوالي القصف، وتضاجع عصبة من متعاطي الأفيون، ومضاجعة آخر لجثة رؤوف، وسقوط الثلج ودفق المطر، وانتحار حمار من الطابق الرابع، وعبور نعش يتبادل الميت الدور فيه مع الحيّ، وانتفاخَ جثة رؤوف وارتفاعها عن الأرض، ونزع الألغام من الساحة التي غدت نقطة ازدلاف لتجميع الجثث، وانفجار قذيفة بفريق وكالة ماغنوم الأميركية للتصوير الفوتوغرافي، أثناء تصويره للحرب في ساحة جثة رؤوف...
بعد العين والرؤية، تتابع الأذن والسمع سرد الحاضر عبر المذياع. وتبرز الوثيقة من بين مفردات اللعب، عبر أخبار الصراع بين طرفين: القوات اللبنانية وقوات العماد عون. وتشظّي لغةُ الوثيقة الإذاعية رسائل التطمين من حي لحي في المدينة المقسومة على بعضها. ومن لغة برنامج الأبراج وفقرة ظواهر النحس وأسبابه – التدميرية الذاتية أم الخارجية؟ - إلى لغة المقابلة الإذاعية بين اثنين من أبطال طرفي الحرب، أو لغة وصف طبخة الكوسا والرز، أو لغة المسابقة الثقافية بين ذكور وإناث من خريجي الجامعات اللبنانية حول أول قاتل في التاريخ، وحول من قال: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم، وما المقصود؟ من ذلك كله إلى سواه، سوف نرى كيف تتعدد اللغات والأصوات بلغة نداءات نجوى واسكندر لرؤوف المفقود، قبل العثور على جثته، ثم فقدانها في غمرة الجثث التي عبئت في أكياس القمامة وحشرت في القبر الجماعي، بينما يهدر المذيع بنبأ استشهاد المناضل رؤوف يمّوت، رئيس حزب الديمقراطية الجديدة ونائب رئيس الوزراء، بينما تتوالى برقيات التعزية من الرؤساء الهراوي والحص والحسيني وسمير جعجع والبطريرك صفير و... وإلى هؤلاء سمّت الوثيقة كثيرين من المواطنين الفارين من الشرقية إلى الغربية، وكثيرين من الأطفال الذين تفجر بهم الباص، فتبادلت القوات اللبنانية والجنرال عون تهمة الجاني. وكما في هذا الشطر من البناء الروائي، الخاص بالحاضر، عددت الوثيقة واللغة أيضاً في الشطر الخاص بالماضي. وكالوثيقة عددت الأمثال الشعبية اللغة الروائية، مثلها مثل وصف رائحة الطحين أو رائحة المني أو وصف الطعام (السحلب- الفول- الفلافل- كعك التماري..)، أو وصف مباراة كرة القدم بين البرازيل وفرنسا، أو وصف الأثاث والبناء وأفلام السينما والطبيعة وتفسخ الجثث والفعل الجنسي وفعل الدفن ونزع الألغام أو استخدام اللغة الإنكليزية في غير موضع... حتى ليمكن القول إن الوصف جعل من كل قصة فرعية أو فعل روائي صورة، لتبني الصور المشهد، بأسلوبيات متعددة ولغات متعددة، مما جعل (جنون البقر) رواية أصوات بامتياز، على الرغم من أن السارد هو صوت رؤوف وحده، وعلى الرغم من ندرة الحوار بين الشخصيات.
وسط ذلك كله تأتي المصادفة كعقل للعالم الروائي. ورواية (جنون البقر) تستثمر ذلك بالفانتازيا أيما استثمار، فمياه المحيطات تهرب باتجاه السماء، والحرب مثلها مثل الانفجار الكوني، وجثة رؤوف تسابق عضوها لتضاجع تلك الجارة البعيدة، و... حسبنا من ذلك كله تلك اللعبة الأساس: الميت رؤوف يتذكر ويعاين.
ولأنها المصادفة، ولأنها الحرب، يغدو العقل جنوناً، والعالم عبثاً، ويتساءل رؤوف في ملاعبة القارئ بدلالات الرواية عن "معنى هذه الهويات"، ولا يفتأ من البداية إلى النهاية يرمي بالجنون نفسه والبشر والحيوانات والأيام السالفة: مقدمات الحرب، والراهنة: الحرب، فنقرأ: "جنون! نعم! قلت لنفسي: هذا جنون، ثم أردفت أحادث نفسي: وإذا لم يكن هذا هو الجنون بعينه فماذا يكون ذلك الذي سيكون؟". ولعل الكفاية أن تكون في صورة ذلك الحمار الذي ينتحر جراء العبث الذي يلف حياته والحرب التي تمنعه من أن يكون كما يريد: حماراً لـه الحرية فيما يريد، فمع هذا الجنون العاصف جن مدركاً أن الحياة في محيطه مثل كل شيء في الحياة: "ذات جنون". ورواية "جنون البقر" تتقاطع في ذلك مع الجنون الصاخب فيما سبقها (روايات غادة السمان مثلاً) وفيما تلاها (رواية فردوس الجنون لأحمد يوسف داوود مثلاً).
لقد بنى مروان طه المدوّر شخصيات روائية بالغة التعقيد في عالم روائي بالغ التعقيد، ليقوم ذلك الشعور القاسي بالعدم، وذلك السؤال الذي يعقب غبّ رؤوف لكل لذة: ولكن ماذا بعد؟ ماذا بعد الحرب والجنون والبقرية؟ ولئن كانت الحرب قد مضت، ومروان طه المدوّر قد مات، فروايته ستظل تصفع قارئاً بذلك السؤال، وبسواه.
خاتمة:
سوى الروايات السابقة، يبدو صدى الحرب اللبنانية في الرواية في سورية نادراً ومحدوداً، ومنه ما جاء في رواية (الوطن في العينين)(10) لحميدة نعنع، حيث سمت بيروت (عنتاب)، ورسمت صوراً لها مما قبل الحرب، وبخاصة عبر وجود المقاومة الفلسطينية فيها، ثم جعلتها مآب بطلتها (نادية) بعد المقام في باريس، لتخلق ثورتها أو تموت.
ومن ذلك الصدى أيضاً ما جاء في رواية فيصل خرتش (موجز تاريخ الباشا الصغير)(11) حيث ينطلق بطلها الباشا باسم عثمان العايدي متدرعاً في جنونه السوري- في جملة ما يتدرع به - بعلاقته بتاجر السلاح بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية (أبو درويش). ونذكر أخيراً رواية حيدر حيدر (شموس الغجر)(12)، والتي يشكل فضاؤها البيروتي من شخصياتها (بدر الدين النبهاني وابنته راوية وحبيبها الفلسطيني ماجد زهوان) ما يشكل، قبل أن تتوزع بين الفضاء السوري والقبرصي، وارتداد الثوري (الأب بدر الدين) واستشهاد الفلسطيني في عملية انتحارية، وكل ذلك عبر خطاب روائي يضيق بالرطانة الثورية التي ضاقت بها التجربة الروائية العربية، وبما يذكر برطانة الخطاب الذي ضاقت به بخاصة رواية قمر كيلاني: (بستان الكرز).
ولعل للمرء أخيراً أن يلاحظ في التعبير الروائي في سورية عن الحرب اللبنانية، حضور المرأة المثقفة، وفاعلية الحب والجنس، وامتياز التجريبي على النمطي، والحداثي على التقليدي، وغلبة النقدية في المعالجة والأطروحة. وإلى ذلك يُلحظ بقوة ما بين توسل الأذن (كوابيس بيروت- الممر- جنون البقر) والعين (باقي الروايات) في وصف الحرب، وإشكالية الحياد بين أطراف الحرب، والانتماء إلى الوطن، وبخاصة في وجه الغزو الإسرائيلي. وهذه الإشكالية ستعبر عن نفسها في الحرص على تعبير (الحرب اللبنانية) مقابل مداولة تعبير (الحرب الأهلية).
وبذلك وبسواه، قد يكون التعبير الروائي في سورية عن الحرب اللبنانية، جاء محدوداً، بيد أنه، بما كتبت غادة السمان وأحمد يوسف داوود ومروان طه المدوّر، بخاصة، استطاع أن يقدم للمشهد الروائي العربي، إضافة روائية ثمينة.
الهوامش:
(1) انظر: تقديم محمد برادة لكتاب: لقاء الرواية المصرية المغربية، الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى 1998، ص 4.
(2) انظر كتابنا: الرواية والحرب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى 1999.
(3) دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى 1977. انظر دراستنا لهذه الرواية في: الرواية والحرب، مذكور، وفي: حوارية الواقع والخطاب الروائي، دار الحوار، اللاذقية، الطبعة الثانية 1999.
(4) جريدة السفير 23/4/1977، بيروت.
(5) منشورات غادة السمان، بيروت الطبعة الأولى 1986.
(6) اتحاد الكتاب العرب، ط1، دمشق 1977.
(7) دار المتنبي، بيروت-باريس 1992.
(8) مذكور.
(9) عن منشورات رياض الريس، ط1، لندن.
(10) دار الآداب، ط1، بيروت 1979، وانظر دراستنا في وعي الذات والعالم، مذكور.
(11) رياض الريس، ط1، لندن 1991، وانظر دراستنا لها في: الرواية العربية رسوم وقراءات، مذكور.
(12) مذكور.
|