لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القسم الادبي > منتدى الكتب > كتب الأدب واللغة والفكر
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

كتب الأدب واللغة والفكر كتب النحو والصرف والأصوات والمعجم والبلاغة واللسانيات المعاصرة - الأدب العربي القديم - والنقد الأدبي القديم والحديث- أدب الطفل- وكتب الأساطير والغرائب - كتب الفلسفة و المنطق - الدراسات الفكرية - كتب الفكر الإسلامي


إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 18-10-07, 12:29 PM   المشاركة رقم: 11
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Aug 2006
العضوية: 9261
المشاركات: 1,076
الجنس ذكر
معدل التقييم: تيتوف بارة عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدNauru
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
تيتوف بارة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : تيتوف بارة المنتدى : كتب الأدب واللغة والفكر
افتراضي

 

الفصل الثالث:
التجريب الروائي في تونس


مقدمة
وسم التجريب اللحظة الروائية العربية منذ بدايتها، فجاءت ريادة فرنسيس مراش ونعمان القساطلي وزينب فؤاد ومحمد حسين هيكل، بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، تجريباً في كتابة تختلف أو تقطع مع موروثها في السرد واللغة، بفعل فواعل شتى، ثقافية وغير ثقافية.
بعد عقود قليلة شرع السبيل يتباين بين رواية تقليدية ورواية حداثية، وشرع التجريب يغدو علامة فارقة للحداثة الروائية. ولئن كان ذلك بدأ بقوة في ستينيات القرن الماضي في مصر وسورية بخاصة، فقد بدا بقوة أكبر في تونس، ولكن منذ ثمانينيات القرن الماضي، بعد التوكيد على الريادة التجريبية الحداثية التي كانت من قبل لمحمود المسعدي (حدث أبو هريرة – السدّ) ولعز الدين المدني (الإنسان الصفر)، وحيث يمكن تشخيص العلامتين الكبيرتين اللتين ستسمان التجريبية الروائية في تونس، وأعني: البحث في التراث السردي واستثماره (المسعدي) والانفجار الشكلي وتفجر الذاتية (المدني).
هكذا تواترت روايات مصطفى المدايني (الرحيل إلى الزمن الدامي –1981) وهشام القروي (ن-1983، أعمدة الجنون السبعة-1985) وعروسية النالوتي (مراتيج- 1985، تماسّ- 1985) وفرج الحوار (النفير والقيامة –
1985) وسواها.
إبان ذلك كان التأزم يعاجل الحداثة الروائية العربية، من الفخامة والصخب إلى التتقين واختزال الراهن ونرجسية الذاتية والغنوصية.. وإبان ذلك أيضاً كان قد غدا للحداثة الروائية منجزها الكبير، من تهشيم العمود السردي إلى التلاقح مع الفنون (السينما والتشكيل والغناء والموسيقى) ولعب الضمائر والأزمنة والتهجين اللغوي والنصّي..(1) وفي الأمرين معاً: أمر المنجز وأمر التأزم، كان التجريب علامة فارقة، فماذا كان للرواية في تونس منهماً؟
السيرة النصيّة:
استيعاءً للمنجز الحداثي العربي وغير العربي في الشكل الروائي، بما يعنيه ذلك أولاً من تفجير للمنجز التقليدي، وبما يعنيه من سؤال الذات المبدعة، أخذت الرواية في تونس تمعن في مسائلة شكلها، وبالتالي في الانكتاب في العراء أو على المكشوف، أي في ممارسة اللعبة الروائية أمام القارئ، وكل ذلك مما أدعوه بوعي الذات المبدعة، أو بوعي الذات الروائية، كما يتجلى في كتابة النص لسيرته.
من ذلك أذكر ما جاء في رواية كمال الزعباني (في انتظار الحياة)(2)، حين يختفي الصحافي عيسى الشرقي تاركاً للفنانة التشكيلية فادية ظرفاً فيه من مراسلاتها، وفيه – كما نقرأ- فقرة من رواية أو سيرة ذاتية وخواطر أسفار وتأملات فنية أو فلسفية متنافرة، ومذكرات شخصية غير مؤرّخة، ونص أو عدد من النصوص المتداخلة تقدم تفصيلات عن سمية وعائشة..
تغوي الرواية بأن يراها القارئ في محتوى الظرف نصاً هو – كما نقرأ- جملة المقاطع المتفاوتة التي لم تستطع فادية ربطها إلا اعتماداً على لون الخط وحجمه، وعلى الورق، فيما يتراوح النص بين سرد أحداث قريبة، واستحضار مشاهد وصور وحالات من شخص يتماهى مع الكاتب حيناً، فيأخذ النص شكل سيرة ذاتية قائمة على الاعتراف والتداعي، وينفصل عنه أحياناً، فتتحول الكتابة إلى ضرب من التحليل أو التخييل الروائي.
يحتوي الظرف العتيد على رسالة يوصي عيسى فيها فادية بتسليم الظرف إلى كمال الزعباني، وبألاّ تحاوره، لأنه سيحاول إقناعها بأنه كاتب الرواية "وبأننا نحن جميعاً، لسنا سوى كائنات وهمية اختلقها خياله المريض خلال عزلته شبه الكلية التي امتدت أربع سنوات..". وستلتقي فادية بجار كمال الزعباني في سعيها خلفه. وستصفه الرواية بالكاتب العنكبوتي الذي ينسج ذلك التعقيد. وفي المحصلة، لن تفتأ الرواية تجرب في تقنية الكابوس والتقرير والسيناريو وفي السرد الكثيف وملاعبة الإيقاع والذاكرة والمتناصات الشعرية والغنائية، حتى ينهض بنيانها أمام القارئ وبمشاركته في اللعب، موهمة بـ/ ومستثمرة ومعرية للسيرة الروائية ولقدسية وباطنية الكتابة.
وفي رواية محمد الباردي (حوش خريّف)(3)، تجريب آخر لكتابة السيرة النصيّة، يقوم على الحضور المباشر للسارد، والمسافة التي يجلوها بينه وبين الشخصيات الروائية، بينما الرواية لا تفتأ تجرب في تقنية الوصف والتشذير والتقرير والتصوير الفوتوغرافي والسينمائي.
ففي فصل (شذرة- فقرة): (ارقصي ع الرنّة)، وحيث يصوّر فتحي الأرتيست في معرض الأزياء التقليدية، وبحضور فضيلة وهاجر، يخبرنا السارد أن تحت القطع الخارجية من اللباس، والتي تلتقطها عين فتحي، ثمة قطعتان داخليتان لا يمكن أن يرسمهما إلا "سارد متطفل مثلي يريد أن يكون محايداً ولم يفلح".
وفي عنوان فصل سابق نقرأ: "فصل من تقرير خبير اليونسكو نقله إلى العربية سارد لبيب". وفي فصل تال هو (ما خفي من خبر سارة حوحو) يتابع السارد أحوال هذه المغنية، ويتوحد بالكاتب وهو ينفصل عنه، فنقرأ: "ولكنني في هذه اللحظة، وأنا أصوغ كتابي هذا، وأتخيل الصورة كما رسم ملامحها رواتي، لا أستطيع أن أحدد تحديداً دقيقاً في أية زاوية كانت تجلس السيدة، فلماذا؟".
لأن الرواة كما يخبرنا السارد لا يعرفون التفصيل، ويختارون التعميم "ولذلك فأنا أسعى إلى تركيب المشهد، وأتخيل الزاوية التي يمكن أن يقف عندها الرائي ليصف ما يرى". وفي الفصل نفسه، يقدم السارد لما يورد من المتناصات الشعرية بأنه ليس من الحفّاظ "على الرغم من أن شعر العرب رتيب ووزنه، سهلٌ حفظه، ولكن رواتي سجلوا لي هذه الأبيات..".
ويلعب السارد هذه اللعبة أيضاً في فصل (عرس النار) فيقول: إن ما استطعت أن أدركه من أخبار سارة حوحو من خلال نتف الجرائد والصور الشخصية والأخبار المقطعة، متشابه، ولست مستعداً الآن لأن أتحول إلى إسكافي يرتق الوقائع ويصل بين ما تقطع، فلأمضينّ في اللعبة الخطيرة، ولأبلغنّ منتهاها". وفي هذا الفصل يصارح السارد قارئه بأن علاقته بحوش خريّف وبسارة حوحو قد تحوّلت إلى علاقة شبقية غريبة. كما يصارح بما عاش وبلغ من كتابة هذه الرواية، حيث رواته وخياله، و(أسطورة) الحوش التي جاء ليعقلنها، عقلنة العالم الخبير، فإذا بها تبلعه وتدخله في منطقها الخاص.
ومحمد الباردي يعدُّ روايته هذه – كما نقرأ على غلافها - نقلة نوعية في كتابته، تتبنى مشروع بحث عن رواية المكان، ويكفي منها وفيها أنها (رواية تجريبية). ومهما يكن من قراءة الكاتب لروايته، فالباردي في (حوش خريّف) لا يجرب فقط لعب السارد على المكشوف، وبالتالي تقديم شطر من سيرة النص، بل هو يجرّب أيضاً السخرية والتشذير واستثمار الغناء والرقص.
وتلك هي أيضاً رواية إبراهيم الدرغوثي (الدراويش يعودون إلى
المنفى)(4) التي تبدأ بهذه العبارة: "لم أكن أريد قبل هذا اليوم كتابة هذه الرواية". ويعلل الراوي ذلك بخوفه القلم والقرطاس منذ حرقِ كتب ابن رشد إلى منع (ألف ليلة وليلة) في القاهرة قبل سنوات معدودات.
لكن درويشاً يهدد الراوي: "إن لم تكتب هذه الرواية سأقتلك شر قتلة"، والرجل ليس غير كاتب هاو، حاول في القصة القصيرة والمقالة ما لم يلتفت إليه نقاد الدرجة الثالثة. وهكذا يتعاور الراوي ودرويش على اللعب، فالدرويش سيتولى الإملاء، والراوي الذي يستشير القارئ "ما رأيك صديقي القارئ.." سيتولى النسخ وهو يعود كل حين إلى القارئ: "قد يقول بعضكم ما هذه بالرواية" لأنها تفتقد الرابط وتخبط، لكنها حقيقة الحقيقة، كما يؤكد راويها –كاتبها، وهو – هي- يمعن في اللعب على المكشوف.
السيرة الروائية:
بالإضافة إلى وشائج وتباينات السيرة الذاتية والرواية، تواتر وتنامى وتعقّد سؤال الذات الكاتبة في الرواية، تحت وطأة النبذ المؤسّسي للمثقف إلى الهامش، والعوامل الثقافية والاجتماعية التي غذت الفرادني وعقّدته. وباشتباك ذلك مع المغامرة الحداثية، شرع كتّاب يجربون في سيرة روائية مختلفة، أمثّل لها بما راد لـه غالب هلسا منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، وتابعه فيما تلا حتى وفاته، وأعني حضوره باسمه الصريح في الرواية، أي حضور الكاتب كشخصية روائية، مهما يكن من اعتماد المروي على السيري، وهو ما جرّبته في رواية (المسلّة- 1980) فقط. ومن آخر – وربما أفضل - ما أشير لـه في هذا الصدد رواية حليم بركات (طائر الحوم) ورواية خليل النعيمي (الخلعاء).
أما في تونس فقد مضت الرواية سريعاً وبعيداً في تجريب السيرة الروائية، عن مألوفها الذي نراه – مثلاً- في رواية عروسية النالوتي (مراتيج).
هكذا جاءت رواية حسونة المصباحي (هلوسات ترشيش)(5)، وحيث اكتفى الكاتب بإشارتين، أولاهما هي التصدير المقتطف من كتاب (المسالك والممالك) حول تسمية مدينة تونس بترشيش، والثانية هي الإهداء، (إلى أمي التي مضت دون أن تتذكر موضع مولدي).
فإثر ذلك، وفي السطور الأولى من الرواية، تشير الأم إلى الفضاء مخاطبة ابنها: "وضعتك هناك"، وهي لا تذكر بالضبط، وهذا ما يعذب راوي الرواية الذي يتوسل ضمير الغائب، كما يليق بالرواية غير السيرية، كي يستذكر ويستذكر، والذاكرة عتلة الرواية السيرية والسيرة الروائية بعامة.
وقد يجد قارئ في تسمية الكاتب لبطل روايته (قمح أفريقيا)(6) لحمدي رجب – والاسم الثلاثي للكاتب هو محمد رجب الباردي – تكأة للسيرية، لكن صلاح الدين بوجاه لا يكتفي بمثل هذه التكأة، مهما تلاعب بالضمائر أو غامر في التخييل والتركيب. ففي رواية (التاج والخنجر والجسد)(7) ثمة صاحب المخطوط الذي يكشف السارد خفايا لعبة السرد لديه. وصاحب المخطوط- كما يقول السارد للقراء في فصل: السيف- "قيّمٌ على أمري وأمركم جميعاً". وفي فصل (هبة المغرب إلى أفريقيا) نقرأ ما ورد في "كتاب (حمام الزغبار) الموروث عن الأجلّ الأكبر أبي يسر صلاح"، والكتاب من مؤلفات صلاح الدين بوجاه، والنص إذن وهو يلعب، يكتب سيرته أو منها، مما سنجده أكبر وأجلى في رواية بوجاه (النخاس)(8).
تقوم هذه الرواية على سفر الكاتب تاج الدين – هل يحق لنا أن نشير إلى الوزن مع الاسم الأول المركب للكاتب: صلاح الدين؟ - بحراً من مدينة القيروان – مدينة الكاتب - إلى جنوا. وعلى السفينة تتفرع الحكايات، ومنها حكاية الإسبانيولية التي علمت تاج الدين النخاسة، ولعبا معاً لعبة (التاج والخنجر والجسد). وفي حقيبة تاج الدين التي توصف بالجنون، وتتكدس فيها مخطوطات هي من مؤلفات صلاح الدين بوجاه: المستجاد في أخبار الجموع والآحاد – أسفل خط الجحيم - حمام الزغبار.
هل للقراءة إذن أن تمضي إلى الكاتب من الكاتب النخاس في الرواية، الجوال أبداً، الذي يتخذ ألف شكل وشكل، الحلزون التائه والزاحف في دنيا الناس؟ وهل الذي يجريه الكاتب في بناء الرواية كما تأتي الإشارة في الرواية (النخاس) إلى (المستجاد..) كطلسم مرصود يرتق فتق المدينة الرابضة كالمومياء، غير قادرة على الانبعاث، وغير موقنة من قوتها؟
اللغة بين التتريث والتهجين:
يندر أن وقعت لغة الرواية في تونس في مزلق الشعرية – نسبة إلى الشعر- كما شهدت الحداثة الروائية في مصر وسورية، منذ بديع حقي إلى حيدر حيدر وإدوار الخراط، حيث يترامى المزلق من فيض اللغة على المتطلبات السردية إلى الإصاتة.
وبالمقابل، تنتأ تأثيرات لغة المسعدي في اللغة الروائية لخلفائه من الكتاب التونسيين. ومن هنا، أو بدونه، ينتأ حضور التراث اللغوي الفصيح المتعالي في روايات تجريبية شتّى، حتى ليغدو ذلك ميسماً للغة صلاح الدين بوجاه وللغة فرج الحوار التي مضت إلى مضارعة اللغة القرآنية، حتى في الفواصل بين الآيات، مما نجده في روايته المخطوطة (طقوس الليل)، وهي التجربة التي نراها أيضاً في الرواية القصيرة – أو القصة الطويلة - (رؤيا) للكاتب الأردني هاشم غرايبة.
يرفد هذا التجريب لدى بوجاه والحوّار قاموس الرواية اللغوي بمفردات وصيغ شتّى، على الرغم مما ينأى بها عن لغة العصر نحو المبالغة في الحفر اللغوي في التراث، أي نحو: التتريث، الذي نجده لدى بديع حقي وإميل حبيبي أيضاً.
غير أن التهجين اللغوي الذي يمارسه بوجاه والحوّار وحبيبي ينزل بالتتريث اللغوي من عليائه ونخبويته واستفاضته، فتظل للشخصية الروائية حيويتها وخصوصيتها، بينما يغلّ التتريث هذه الشخصية في رواية محمود طرشونة (المعجزة)(9)، كما غلّها في روايات بديع حقي، على الرغم مما يجربه طرشونة في تعدد الأصوات، وفي التهجين النصّي وملاعبة الضمائر.
وفي سبيل آخر تمضي اللغة الروائية لمحمد علي اليوسفي ومحمد الباردي وكمال الزعباني وإبراهيم درغوثي وظافر ناجي وحسونة المصباحي وسواهم، حيث تنشط الفصحى غير المتعالية أو النخبوية، بقدر ما ينشط التهجين بالعامية التونسية، وأحياناً بالفرنسية وسواها، هنا أو في روايات بوجاه والحوّار.
على أن الأهم بصدد التهجين ليس ما يتعلق بالعامية التي قد تستغلق على قارئ غير تونسي، بل هو ما يوفّره تعدد الرطانات المهنية أو الاجتماعية، مما يخصّص لغة الشخصية الروائية، فيخصصها هي. وهذا ما قد يشتبك مع التتريث، لتنتسج البلاغة الروائية التي كثيراً ما يجري خلطها بالبلاغة الشعرية.
التتقين:
استجابة لما يتفجّر في الذات وفي الآخر – من الجار التونسي إلى العدو الصهيوني- واستجابةً لتفجير الشكل الروائي التقليدي، والشكل الروائي الحداثي أيضاً، يتوالى التجريب في بناء روائي مختلف، منه ما سبق في لعبة السيرة النصية، وما سبق في التهجين، ومنه استثمار التراث السردي العربي، الرسمي والشفوي، والأسّ في ذلك كله هو ما يسمح به مفهوم الرواية من المغامرة التجريبية التي لا تنتهي وهي تبدع شكلاً فشكلاً.
وهنا تأتي استراتيجية الكتاب التي تناجز مفهوم الرواية لدى فرج الحوار في روايته (التبيان في وقائع الغربة والأشجان)(10)، حيث يجبهنا منذ البداية هذا التحذير: "هذا الكتاب خيال قحّ". والاستراتيجية عينها نجدها عند صلاح الدين بوجاه، وإن كان كل كاتب يفعّلها بطريقته. فرواية بوجاه (النخاس) يتصدرها مقتطف من كتاب ابن النديم (الفهرست) يومئ إلى ما يروم الروائي من أن يكون في روايته أخبار الأمم ومصنفيها، ومن الاكتفاء بالكلمة الدالة. وفي نهاية فصل (عودة القرش وطير النوء..) نقرأ: "هذا فهرست ليلتنا"، ثم يلي فصل الفهرست الأول "في أخبار النخاسين الغرباء..". وستأتي هنا لعبة الفهرست – اللفافة ذي الصفحات العشرين. وسيعنون الفهرست فصلاً آخر من الرواية هو (الفهرست الكشاف في أخبار العرب..) وفيه وصف للفهرست الذي عثر عليه كافينالي في غرفة تاج الدين. وتتعنون نهاية رواية (النخاس) بـ(أطراف الكتاب) كما تعنونت بدايتها بـ(صدر الكتاب). وكما يظل السؤال في النهاية معلقاً (هل تتم الروايات أبداً؟) فإن ضفر البداية إلى النهاية يعلن المرام في أن تكون الرواية كتاباً، بما يعني ذلك من عصيان على التجنس، ومن أمداء التجريب.
ها هنا يخرج التجريب بالبناء الروائي عن أليفه التقليدي والحداثي، فنراه يترجرج أو يتفجر. ولعل ما جاء في رواية بوجاه (القاع) عن هيئة الدار، أن يرسم مقاربة أخرى للبناء الروائي، حيث تتكاثر الأشكال في تعاريج الرسوم ورائحة الدبق، فيدعو بعضها بعضاً، وحيث سيرك خفي ومتوثب، فيه الدائرة، والدائرة المنفتحة، والشمس، والشمس التي تتفرع أشعتها كي تنتهي بصليب أو هلال، والشمس المنقوطة، والشمس الفارغة، والمثلثات المتكافئة، والنجوم الخماسية والسداسية، وفيما بعد يتصادى لغو الجن والتخاريف والأحلام والطلاسم والهلوسة.
يستدعي التتقين تفعيل التقنية، سواء أكان ذلك بمهارة وسلاسة أم بتمحّل وتكلف. وفي روايات فرج الحوار بعامة ينحو التتقين هذا المنحى، فرواية (التبيان في وقائع الغربة والأشجان) – مثلاً - تتعنون في مفتتحها وفي ختامها بـ(في البدء)، وتراها وهي تروم الحفر في المقدس التاريخي والراهن، تتشذّر. واستراتيجية التشذير كاستراتيجية الكتاب، تناديان التراث. والأولى، فيما يبدو، مغوية جداً للتجريب الروائي في تونس، فعليها تقوم وبها تتصل الحكايات في رواية محمد علي اليوسفي (شمس القراميد)(11) والتي نقرأ فيها للراوي: "أخرجُ من زمن الأسلاف أولاً، لأخرج من تربتهم لاحقاً، وأروي على لساني كل ما جرى بشأني". واستراتيجية التشذير هي أيضاً ما يصدعنا في رواية إبراهيم الدرغوثي (الدراويش يعودون إلى المنفى)، وبدرجة أدنى في رواية محمد الباردي (حوش خريّف).
خاتمة:
بالطبع، لا يستوفي ما تقدم في السيرة النصية والسيرة الروائية والتتريث والتهجين والتتقين تجريبية الرواية في تونس. فثمة أيضاً توزيع المستويات السردية بالاستعانة بنوع الحرف الطباعي، كما فعل فرج الحوار في رواية (التبيان..) حيث خصّ بالأسود ما يتصل بالعلوم والتكنولوجيا – هل هذا ما يصلنا بعصر ما بعد الحداثة؟ - ومونولوج المحظورات، والكتل السردية الكبيرة والكثيفة التي تلخص تجربة الصحراء الدائلة مقابل البحر. وثمة أيضاً في هذه الرواية الرسائل التي تصل الحفر في تاريخ المقدس – كما فعلت رواية رجاء عالم: (حبّى) – بحرب الخليج الثانية. وفي أية رواية تقريباً تأتي لعبة الضمائر الثلاثة، وبالتالي لعبة الأزمنة الثلاثة. وإذا كان المرء يفتقد هذه اللعبة الصوفية المتفشية في التجريب الحداثي الروائي العربي بعامة، ففي رواية (شمس القراميد) لفحة من ذلك، وتتصل بذلك من طرف أو آخر استراتيجية الغرائبي أو العجائبي أو الفانتازي التي لا تكاد تغيب عن رواية تجريبية في تونس.
وهذا كله وسواه، وكده هو في القاع الاجتماعي، وفي الذات المهمّشة والمعصوبة. غير أن ناقداً مثل عبد الحميد عقّار، يرى أن التجريب لدى الكتاب وبعض النقاد بلغ في تونس خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي درجة من السعة والامتداد تجعل منه حركة نظيرة لما يشبه حركة الطليعة أو النزعة العصرية في الأدب. ويعد عقّار من بين مؤشرات هذا المنحى "حدة التمرد المعلن على القوالب والأشكال القائمة، وما يكتنف الكتابة أحياناً من غموض مبالغ فيه يكاد يتحول إلى ما يشبه الاستيحاء السوريالي دون سياق مقبول"(12). وإذا كان عبد الحميد عقّار يتلمس في ذلك صدى عز الدين المدني وكتابته الريادية عن الأدب التجريبي، فإنني أرى أن قول العقار ينسحب من ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إلى فورة الرواية في تونس في العقدين التاليين. ولقد كان ذلك – فضلاً عن العجز عن الإحاطة - سبب اختيار المدونة هنا من نصوص العقد الماضي، لعله يساعد على تبيّن ما بلغت تجريبية الرواية في تونس، وما تومئ إليه، كفاصل من فواصل الحداثة الروائية العربية في راهنها وفي أفقها، وهي تتأزم وتروم منعطفاً جديداً يستثمر ما أنجزت الرواية العربية وغير العربية، ويجرب في تجاوزه.


 الهوامش:
(1)-انظر: نبيل سليمان، بمثابة البيان الروائي، مذكور سابقاً.
(2)-تونس 1998.
(3)-سراس للنشر، ط1، تونس، 1997.
(4)-دار رياض الريس، ط1، لندن-بيروت 1992، ودار سحر، ط2، تونس 1998.
(5)-دار طوبقال، ط1، الدار البيضاء، 1995.
(6)-دار الحوار، ط1، 1992.
(7)-دار سعاد الصباح، ط1، القاهرة، 1992.
(8)-سراس للنشر، ط1، تونس، 1999.
(9)-دار الجنوب، ط1، تونس، 1996.
(10)-دار الجنوب، ط1، تونس، 1996.
(11)-دار الجنوب، ط1، تونس، 1997.
(12)-عبد الحميد عقّار: الرواية المغاربية: تحولات اللغة والخطاب، ط1، شركة النشر والتوزيع، الدار البيضاء، 2000، ص84.

 
 

 

عرض البوم صور تيتوف بارة   رد مع اقتباس
قديم 18-10-07, 12:30 PM   المشاركة رقم: 12
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Aug 2006
العضوية: 9261
المشاركات: 1,076
الجنس ذكر
معدل التقييم: تيتوف بارة عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدNauru
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
تيتوف بارة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : تيتوف بارة المنتدى : كتب الأدب واللغة والفكر
افتراضي

 

الفصل الرابع:
الحداثة الروائية في الجزائر


مقدمة
إذا كانت ريادة الرواية العربية - من نهاية القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين - قد ابتدأت مقلدة هذه اللحظة أو تلك من التراث الأدبي العربي أو من الرواية الغربية، فقد كان ذلك التقليد أيضاً تجريباً لشكل مختلف من الكتابة، بمستويات مختلفة، وإلى أمداء متفاوتة في تواضعها، أي إنه كان حداثة أيضاً، وبما هو عليه من تقليد. ولئن تمفصل تاريخ الرواية العربية من بعد، وطوال قرن مضى، على اللحظة التقليدية واللحظة الحداثية، فقد وسم التجريب اللحظتين معاً، وهذا من بين ما يفسر عدم استقرار اللحظة التقليدية على الرغم من استمرارها. أما اللحظة الحداثية فقد قامت وتأزمت، بالتجريب. وبالتجريب يبدو أن الحداثة الروائية العربية تمضي في منعطف جديد يتجاوز تينك اللحظتين بقدر ما يستثمرهما(1). وهنا، كما في اللحظة الحداثية، ما فتئ النقاد والكتاب يصدحون بحداء التجريب الذي يستعصي على حد جامع مانع- كما ترى هناء عبد الفتاح، فمثل هذا التحديد للتجريب يعني نهايته(2)- وإذا كان ناقد مثل جابر عصفور يُلْمع للتو بالسمات الفذة والآفاق غير المحدودة للتجريب(3)، فإن ناقداً وروائياً مثل أحمد المديني كان قد قرر قبل عقدين أنَّ "التجريب المستمر هو ما يهب الكتابة شرعيتها وتبريرها"(4). وقد بكر عز الدين المدني قبل ذلك بعقد آخر إلى قدر من التفصيل، فرهن التجريب للبحث، ولم يقصره على الشكل(5).
آنئذ، وفيما كان الحداثي الروائي يغذ الخطى على يد وليد إخلاصي وصنع الله إبراهيم وإدوار الخراط وإميل حبيبي... كانت الرواية في الجزائر تدشّن انطلاقتها على يد شيخيها: عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطّار. وسرعان ما سيغذ تجريبها الروائي الخطى أيضاً، وهو ما سيكون مدار القول، بعد أن ننوه إلى ما عناه ويعنيه الحداثي بعامة، وبصدد الرواية في الجزائر بخاصة، من موقف نقدي من راهن الكتابة ومن الكتابة، ينطوي على ما ينطوي عليه من تصور وفهم يتصلان بالمستقبل أيضاً. ولعل من المفيد هنا أن نستعيد قول الطاهر وطار: "وإذا سألنا ما هي الصلة بين اللامعقول والواقع، فإن الجواب مفجع. أنا أقول: إنهما على صلة حميمة، حيث إن واقعنا في العالم الثالث واقع لا معقول. وإلا ما معنى أن نسمع مثلاً أن رابطة من الضباط في بلد عربي تحرق ملايين الكتب، لتضع كتيباً صغيراً لا معنى لـه بديلاً لكل المعاني؟ هذا الواقع كنا نقرؤه في الميثولوجيات الرومانية والإغريقية. كنا نعرفه عن كاليغولا أو قاراقوش أو غيرهم. وها نحن نعيش ذلك اليوم في القرن العشرين، فبأي شيء أعبر عن اللامعقول إذا لم أوظف اللامعقول نفسه؟"(6). فهل تكون مرجعية الحداثي الروائي إذن فيما عصف بالجزائر منذ الثورة التي جاءت بالاستقلال، إلى الثورة الزراعية والتسيير الاشتراكي في سبعينيات القرن الماضي، إلى هبات 1988 وما أفضت إليه من بحر الدم في العقد التالي؟ أم إن التجريب كان فقط صدى أو تفاعلاً مع المشهد الروائي والنقدي العربي والعالمي، وسعياً - بالتالي- من الكاتب إلى تطوير كتابته؟
1-عبد الحميد بن هدوقة:
فلنبدأ من حيث لا يُتوقع أن يبدأ الحديث عن الحداثة في الرواية في الجزائر، من عبد الحميد بن هدوقة الذي أسرع يجرب تطعيم أو تلوين الإهاب التقليدي لروايته (ريح الجنوب)(7) وروايته (نهاية الأمس)(8)، متابعاً إخلاصه لذلك الإهاب، مما تعبر عنه روايته الثالثة (باب الصبح)(9)، حيث جرب الكاتب استثمار الحوار بخاصة، وجعله حاملها الأكبر في تعبيرها العام عن المسافة بين الجيل الشاب وجيل الشيوخ من رجال الدين، وكذلك في التعبير عن الطارئ في أمر المرأة. وإذا كان بن هدوقة قد دفع أبعد في هذه الرواية بعناصر المخيال الإسلامي التي تلامحت في روايته الأولى (النار- الجنة- النشر- البرزخ - القبر..)، وأطلق سخرية الشباب الناقدة من خطاب المشائخ عن تلك العناصر، فإن التعبير الطارئ عن أمر المرأة قد دفع برواية (بان الصبح) أبعد عن سابقتيها، وإن يكن الكاتب قد ظل يبدأ جملته بأدوات التوكيد (إنّ..)، كما ظلت الجملة تفتقر إلى ألفاظ الاحتمال، لتتواصل يقينية السارد في الرواية التقليدية. إلا أن الطالبة دليلة وسواها من الجيل الجديد الشاب، ستخلخل الإهاب التقليدي للرواية على نحوٍ أو آخر، ابتداءً من اغتصاب دليلة، أو من حمام النسوان والسحاقية، وصولاً إلى خروج دليلة في نهاية الرواية من قمقم البيت إلى الفضاء الأرحب الأعقد.
أما خطوة بن هدوقة التالية، فلعلها الأهم، إذ جرب في رواية (الجازية والدرويش)(10) استثمار الأسطرة والمخيلة الشعبية في بناء يسعى إلى مغادرة خطية البناء الروائي التقليدي. هكذا استحضر من التراث السردي الشعبي صدى الجازية في تغريبة بني هلال، وعجن الجازية الروائية من الفتنة نفسها ومن الذكاء والحزم والغموض والزئبقية، وأطلقها في فضاء قرية (السبعة) بين عشاقها: ابن الشامبيك الذي يدرس في أمريكا، عايد العائد من هجرته، الطيب بن الجبايلي، الطالب صاحب الحلم الأحمر والقادم من المدينة مع الطلبة المتطوعين... ونحن إذن في لجة ما طرأ في الجزائر المستقلة، عبر قصتين وزمنين يهندسهما التناوب المنتظم في ثمانية فصول: أربعة منها للجبايلي السجين الذي قتل الطالب المتطوع، وأربعة للحياة اليومية في قرية السبعة، وكل ذلك تمحوره الجازية.
بهذه الشخصية، وبهذا البناء، وبخصوصية لغة الدراويش- التحاور الرمزي- وبالمشهدية المترجحة مع الأسطرة - حفل الزردة ورقصة الجازية مع الطالب المتطوع - عبرت الرواية عن تجريب بن هدوقة لتطعيم وتلوين الإهاب الروائي التقليدي، فيما ظل السارد التقليدي ينتأ، كأن يرصد أصداء حفل الزردة بقولـه: "هذه هي التعاليق التي أخذت تنطلق من الأفواه" وسوى ذلك كثير. ولئن كانت تجريبية بن هدوقة عبر ذلك قد ظلت متواضعة وخجولة، فلعلها قد ساعدت على أن تأتي رواية (الجازية والدرويش) امتيازاً كبيراً لكاتبها.
***
وتتواتر في الرواية الجزائرية محاولات مماثلة شتى، كما في روايتي محمد العالي عرعار (البحث عن الوجه الآخر)(11) و(زمن القلب)(12) حيث جرب من مفردات الحداثة الروائية استثمار الحلم، مما لوّن اللغة وخلخل المنطق التقليدي الصارم في لحظات محدودة من الروايتين. وقد ساعد على ذلك في الرواية الأولى الوشاح الصوفي بين الراوي - بضمير المتكلم - وصاحبة اليد البيضاء، كما ساعد عليه التخييل في الرواية الثانية (الطبيب الذي يخترق البحر إلى عالم العرائس، حيث الكاهنة).
بمثل هذا التواضع في تلوين وتطعيم الإهاب الروائي التقليدي جرب أيضاً عبد الملك مرتاض استثمار ضمير المخاطب في رواية (صوت الكهف)(13) وجرب مرزاق بقطاش في روايته (عزوز الكابران)(14) استثمار تقنية التجريد أو اللاتعيين، حيث يبقى المكان والبطل- معلم القرية- بلا اسم ولا تاريخ.
على نحو مختلف يضاهي ما بلغه بن هدوقة في (الجازية والدرويش)، تأتي رواية الحبيب السائح (زمن النمرود)(15)، إذْ جربت استثمار التذكير والتداعي والحلم، وتطعيم الفصحى بالدارجة، والتناص مع الأغنية والمثل الشعبي، والانتقال بين الفضاءات، مما انزاح بالرواية عن النسب التقليدي إلى مدى أو آخر، على الرغم من تنضيد البناء بعامة من اللحظة التي سبقت الانتخابات البلدية- الماضي- إلى لحظة الانتخابات - الحاضر- إلى اللحظة التي تلت، كذلك على الرغم من هيمنة ضمير الغائب. وبذا تقطع السرد وتلاعبت أزمنة الثورة على الاستعمار وما طرأ في سبعينيات القرن الماضي بعد الاستقلال، حيث تطلق الرواية نقديتها في العالم الجديد: عالم الحلاليف وبني كلبون، مقابل من خيبهم الاستقلال من ذرية النمرود أو شياطين ابن باديس. ولئن كانت خلاصة ذلك تفضي إلى تبرئة الشيوعي زمن الثورة: "الشيوعي ما خان ما باع، استشهد كإخوانه المجاهدين" فإنها تطلق الصرخة النذيرة الملتاعة: "كولون نصارى خرجوا، كولون عرب دخلوا" و"الدنيا طلع لها الزبل للرأس، إما يقع التغيير وإما تخلط" (ص 22).
2-الطاهر وطار:
مع شيخ الرواية الجزائرية: الطاهر وطار، يستدعي الحداثي قولاً آخر. بالأحرى، مع الطاهر وطار، يغدو القول في الحداثي جدياً بما لا يقاس مع ما تقدم. فلنعد إلى ما تقدم من الطاهر وطار في استدعاء لا معقولية الواقع للامعقولية الكتابة، ولنثنّ بما صدر به روايته (تجربة في العشق)(16) حيث قال: "ومحاولة وضع قواعد لرواية جديدة، أو تقنين الكتابة بعناوين مختلفة، دعوة رجعية تقودنا، طال الزمن أو قصر، إلى المحافظة وإلى تقديس الشكل" (ص 7). وقال أيضاً معقباً على قول الياس خوري عن رواية (الحوات والقصر) بأن لهذا الكاتب طريقته الخاصة: "فأقول إنني كذلك في كل ما فعلت وما سوف أفعل، لكن ليس بمعنى التجريب المخبري، وإنما بمعنى إفساح المجال للمضمون ليتشكل، وللشكل ليتقولب مع المضمون، وليتحرر في نفس الوقت، من قالبيته" (ص 8).
قبل ذلك، ومنذ روايته الأولى (اللاز)(17) كان الطاهر وطار قد جرب تكسير استقامة الزمن، معتمداً فعل التذكر والاسترجاع كعتلة روائية. فالرواية تبدأ باسترجاع الشيخ الربيع للماضي، ثم تشرع وهي تمضي من نقد تاريخ جبهة التحرير الجزائرية إلى المغيّب من هذا التاريخ، عبر ذبح الشيوعي زيدان، فتفسح لكل شخصية فصلاً أو أكثر، كي تروي حدثاً أو جزءاً من حدث، مكملة ما سبقت إليه شخصية أخرى، أو تاركة لشخصية أخرى أن تكمل، مما يعدد زوايا ووجهات النظر. ولئن تلامحت في (اللاز) كما ستتلامح في أغلب روايات الطاهر وطار، شيات تقليدية، فقد بدأ منذ (اللاز) يجرب تقنيات الحداثة الروائية المختلفة، وهو يبدع من الشخصيات الروائية التي لا تنسى: زيدان واللاز. ومن تلك التقنيات استثمار اللقطة الوامضة والمركزة ليغدو الوصف في الرواية التقليدية صورة روائية، أو استثمار سجلات الكلام لتغدو اللغة الروائية التقليدية الواحدة لغات تتفاعل فيها العامية والسياسي والتراثي والكابوسي. وسيتابع الكاتب ذلك في الجزء الثاني من روايته الأولى (العشق والموت في الزمن الحراشي)(18)، وهو يرسم مآل الثورة بعد الاستقلال، عبر الاصطفاف بين الحركة الطلابية (الشيوعية جميلة واليسارية المتطرفة ثريا..) وبين من يتوسلون الدين ليجهضوا الثورة الزراعية ويجهزوا على التحول الاشتراكي.
لقد تابع اللاز حضوره في الجزء الثاني، ولكن الكاتب مضى في هذا الحضور يجرب استثمار الأسطوري في الروائي، فإذا باللقيط يصبح ولياً. وفي هذا الجزء أيضاً جاء الكاتب بالشخصية التي ستوالي ظهورها في روايات غالب هلسا والغيطاني والقعيد وسواهما، أعني حضور الكاتب نفسه كشخصية روائية. وكان الطاهر وطار قد جرب هذه التقنية من قبل، في روايته (عرس بغل)(19)، وحيث جرب أيضاً استثمار التراث السردي عبر شخصية الحاج كيان، وما يمور فيها من حمدان قرمط وزكرويه بن مهرويه وعبدان والمتنبي وسيف الدولة وأخته خولة... كما جرب الكاتب استثمار الفانتازيا الصوفية عبر زيارات الحاج كيان للمقبرة، وجرب ملاعبة الضمائر عبر تقلب الحاج كيان، ليس فقط في ماخور العنابية والهزيين والوهرانية وزمردة وحياة النفوس.. بل في ماخور الحياة خارج ذلك الماخور.
أما رواية وطار الثانية (الزلزال)(20) فلعلها المجلى الأكبر للحداثة في تجربة هذا الكاتب. فإذا كنّا - من جديد - سنقع على التقليدي في البطل الروائي (عبد الحميد بو الأرواح) وفي النسق الهرمي، فإن لمعمارية الرواية شأناً آخر، إذ جرب الكاتب بناء الرواية على هيئة المدينة: قسنطينة، فالفضاء يشكل الرواية في سبعة فصول تتعنون بأسماء جسور المدينة السبعة (باب القنطرة - سيدي مسيد - سيدي راشد- مجاز الغنم- جسر المصعد- جسر الشياطين- جسر الهواء)، فضلاً عن الصخرة وعن الوادي الذي يقسم المدينة.
تشتغل رواية (الزلزال) على ما استأثر بروايات الكاتب وبالرواية في الجزائر بعامة - بعد الثورة التي جاءت بالاستقلال- حتى يأتي العقد الماضي ببحر الدم، فيكون للرواية شاغل أكبر جديد. ونحن في (الزلزال) إذن أمام البطل العاقر الذي يقارف الثورة الزراعية ويتوسل الدين، وأمام المتدين الذي يصير شيوعياً بعدما رأى ما حل بالعمال في عهد الاستقلال (عيسى بو الأرواح). ولذلك وسواه يجرب الكاتب الحوار المسرحي، والتناص مع النص القرآني والخلدوني... لتجأر النقدية، ليس في الفضاء الجزائري وحده، بل في الفضاء العربي أيضاً، ونقرأ مثل هذه الأهجيات لزماننا: "لست أدري ما الفرق بين إسرائيل وبين كثير من الدول العربية. إسرائيل رأسمالية، معظم الدول العربية رأسمالية. إسرائيل عميلة للأمريكيين، معظم الحكام العرب عملاء للأمريكان. إسرائيل تقتل الفلسطينيين، معظم الحكومات العربية ضد الفلسطينيين." (ص 164). كذلك: "نحن هنا عرب لا ننتمي إلى عرب... بايعنا أبا بكر في السقيفة، ثم رحنا نهمس في آذان علي وأنصاره. بايعنا عمر وقتلنا عمر. نصّبنا عثمان وقتلنا عثمان. بايعنا علياً مليون مرة وقتلناه مليون مرة. نمدح معاوية ونذمه. نقيم المذاهب ونحطّمها. ننطلق من السنة وننتهي إلى البدعة".
مما تقدم ستستأثر عناصر بعينها في روايات الكاتب التالية، وبالطبع سينضاف إليها ما ينضاف، وسيتفاوت فعلها. هكذا تمضي رواية (الحوات والقصر)(21) في تجريد الفضاء، ليغدو سلطنة وغابة للوعول ووادياً للأبكار وسبع قرى بمسميات تليق بالغرائبي والعجائبي (التحفظ- الحظة- التصوف...). وهذا الغرائبي والعجائبي هو العنصر الذي سيجرب وطار استثماره من عناصر التراث السردي الشعبي والأدب الديني الشعبي، فتتوالد الحكايات وتتفجر المخيلة لتصنع من علي الحوات "ولياً من أولياء الله، بل رسولاً من رسله، بل إلهاً من الآلهة" (ص 66). وفي هذه الرواية يجرب الكاتب أيضاً استثمار الخيال العلمي في معمارية قرية الأعداء- مدينة الأباة، وفي إنجاز الحاسة السابعة عشرة (حاسة التزود الذاتي التي تغني الإنسان عن كل شيء) وفي العقار الذي يخترعه حكيم قرية الحظة، ليصير به الذكر خصياً دون ألم، ولتشربه الأنثى فتهتاج.
مع بحر الدم الجزائري في العقد الماضي، تتراخى تجريبية الطاهر وطار، وتتمحور الحداثة الروائية بخاصة على العنصر التراثي، ومنه بخاصة الصوفي. وهنا تبدو رواية (تجربة في العشق) علامة أخيرة يفتقد بعدها (جنون) الكتابة التي فرضها مجنون الرواية، كما يقول الكاتب في تقديمه لها، وكما سيجسد بناء الرواية في لوحات لا تأبه بنظام، ولا توفر نقديتها الجزائر ولا العروبة ولا فلسطين ولا الإسلاميين، ضاربة السخرية بالكوبسة بالجملة اللاهثة القصيرة بدفقات التداعي السردية بالأغنية... ويذهب بعضهم إلى أن ذلك التراخي يتأسس في تراخي النقدية الذي وسم روايتي (الشمعة والدهاليز)(22) و(الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي)(23). ففي الرواية الأولى، وحيث تتلون اللغة كما يليق بكاتب متمرس، بين الشاعر المثقف، ومهندس النفط: القيادي الإسلامي، يبدأ ما سينعته فاروق عبد القادر بالمراوغة الفكرية التي وسمت الرواية التالية، لأن الكاتب لا يقطع شعرة معاوية مع التيار المتلفع بالإسلام، فيما هو يخص بعضه بنقدات، ويسلق النظام بنقدات، كما فعل بشير مفتي في رواية (المراسيم والجنائز). وقد يكون في بحر الدم الجزائري ما يفسر استعادة الطاهر وطار للعنصر الصوفي من رواية (الحوات والقصر)، وما في هذا العنصر من الغرائبي والعجائبي، وما يتصل منه بالتراث السردي الشعبي وبالأدب الديني الشعبي، وذلك في رواية (الولي الطاهر...)، التي وصفها فاروق عبد القادر بالشطحة، ورأى شكلها مراوغاً أنتجته المراوغة الفكرية(24).
لقد ابتدأ الطاهر وطار من حروب الردة فيما صدّر به الرواية، ومضى ببطله الولي- وما يستدعيه رغم التخييل من السيرية - من صحبة خالد بن الوليد إلى الحرب في الأصقاع المعاصرة: أفغانستان والقاهرة والأقصر... وصولاً إلى حي الرايس في الجزائر، وكان التقمص والتوحد عتلة الرواية، يصنع شخصياتها وأحداثها، وليس فقط الولي الذي تتوجه أخيراً رشاشته ونقداته إلى القتلة، فهل يكفي ذلك كيما تُنقض دعوى المراوغة، مقابل مقام عباد الرحمن- مثلاً- ومن أقامه من الهاربين بدين الله إلى إنشاء الأمة المحصنة؟
3-رشيد بوجدرة:
منذ رواية رشيد بوجدرة الأولى بالعربية (التفكك)(25) يدفع الحداثي بالوثيقة وهي تشتغل على التاريخ - الثورة التي جاءت بالاستقلال. فمن المرجعية التاريخية للطاهر الغمري تطلع الشخصية الروائية محتفظة باسمها، ولكن لتكتب التاريخ المضاد للتاريخ الرسمي، كما فعل الطاهر وطار وكما سيفعل واسيني الأعرج. فبحسب روايات أولاء- ولا ننسَ الحبيب السائح أيضاً- فقد تجنى التاريخ الرسمي على الشيوعيين الجزائريين زمن الثورة. والتاريخ هو- كما نقرأ في (التفكك): "هذه الجزئيات البسيطة التافهة، ففيها يكمن الصدق التاريخي، ومنها يمكن أن تصنع مادته". ولقد غدا التاريخ بالنسبة للطاهر الغمري فاسداً بفعل ما طرأ بعد الاستقلال. وستقدح سالمة ذاكرة الطاهر الغمري ليتولى فعل الذاكرة تشغيل الزمن الأول - الماضي في الرواية عبر شخصيات الشهداء: بوعلي طالب والدكتور كينون وبودربالة الملقب بالألماني وأحمد أنيال. ومثل هذا الأمر نقع عليه في رواية (العشق والموت في الزمن الحراشي) للطاهر وطار، عبر قدح جميلة لذاكرة الشباح الملكي. وقد يلفت فعل الجنس فيما بين رواية وطار (اللاز) ورواية بوجدرة (التفكك). لكن هذا الأمر ليس وقفاً على تينك الروايتين، إذ يندر حضور الفعل الجنسي خارج الاغتصاب أو الشذوذ أو البغاء في أغلب الروايات الجزائرية. والمهم هنا هو ما يؤهب به ذلك إلى تفجير المنظومات المقدسة: منظومة الأعراف والأخلاق، كذلك المنظومة الروائية التقليدية، وهذا ما يبدو صارخاً في روايات رشيد بوجدرة، موفراً لها مستوى لغوياً خاصاً يمكن نعته بمستوى الحرام الجنسي، والذي ليس غير واحد من مستويات الحرام الأخرى التي يمعن الكاتب في تفجيرها اللغوي والقيمي، ابتداءً بالسياسة، وليس انتهاءً بالحاجات الجسدية الغذائية.
على أن الحداثي في رواية (التفكك)، كما في رواية (ليليات امرأة آرق)
(26) أو في رواية (معركة الزقاق)(27) أو في رواية (فوضى الأشياء)(28) يمضي في انتهاك المقدس الفني، فيلاعب حد التفاصح المعجمية اللغوية، ويشعّب السرد حد التتويه، كما عبر الحبيب السائح بصدد رواية (معركة الزقاق) إذ عدّها "معركة التتويه ضد المتاهة"(29)، ولعل هذا التعبير يصدق في روايات بوجدرة جميعاً. ففي (التفكك) يتوزع البناء على أحد عشر فصلاً بلا ترقيم وبلا عنونة، ويمكن إعادة ترتيبها على غير النحو الذي جاءت به، كما هو الأمر في فصول رواية الطاهر وطار (تجربة في العشق) الثمانية عشرة، على الرغم من عنونتها. وفي رواية (التفكك) يجرب الكاتب استثمار الفن التشكيلي (الصورة التي تضج بالألوان وتعنى بالهندسة) ويمعن في تجريب استثمار لعبة الضمائر وتقنية التداعي وتوليد القصص، ويكثر من الأقواس والتكرار. أما في (معركة الزقاق) فيتركز الحداثي على استثمار تقنية التداعي (ذاكرة طارق) وتقنية الوصف، حيث تقابل المنمنمة هنا الصورة في (التفكك)، وتشتبك اللقطات القريبة والبعيدة والمتعددة بتعدد الزوايا، بتداعيات طارق التي تقلبه على نار الحرام. فمن صفعة الأم إلى صفعة الأب إلى دم النجاسة على خرقة الأم (دم الدورة الشهرية) يتشكل السؤال اللائب الذي سيُحل أستاذ التاريخ بن عاشور محل الأب. وليس ببعيد عن هذا الحفر في الحرام ما للطبيبة في الأمراض التناسلية التي تمحور رواية (ليليات امرأة آرق) سواء فيما يتصل بجسدها أم فيما يتصل بالدين، وهي التي يزعجها المؤذن كما يزعج المجنون في فصل (الكابوس) من رواية الطاهر وطار (تجربة في العشق).
4-جيلالي خلاص:
قريباً من هذا التجريب حد التتويه، تبدو روايتا جيلالي خلاص (رائحة الكلب)(30) و(حمائم الشفق)(31). ففي الرواية الأولى تتعنون فصول الرواية بالكلمة الأولى من كل منها، ويتشعب السرد وتتوالد القصص ويشتبك الزمن كأنما يروم أن يكون من تلك الزئبقية التي تشكل بها في رواية (التفكك). ومثل التيه في الرائحة (رائحة الكلب راكس أم الكلب طيو أم رائحة الكلس أم رائحة التراب أم رائحة الزيتون أم رائحة فاطمة الزهراء...) هو التيه فيما بين الطفولة القروية والحاضر المديني لذلك الكاتب العمومي الذي يروي ويتوسل أفعال التذكر والكوبسة والحلم والرسالة والحكاية الشعبية. وتنفتح الأقواس لتنقض السرد أو تسيل به إلى ذكرى، فيطول الاعتراض بين القوسين أو يقصر، ويندر الحوار، ويضارع وصف الفعل الجنسي أفلام البورنو.
وفي نهاية الرواية تجتمع الأشتات التي بثها الروائي حول ما سبق لـه أن كتب، فإذا بشبهة السيرية تكبر إذ نقرأ: "الليلة شرعت في تحبير تلك الرواية التي طالما حدثتكم عنها، وقرأت لكم بعض فصولها الوهمية، أو رأيتموني أعيشها بكل شغف" (ص 119) أو نقرأ: "والواقع أن كل ما عشته وفكرت فيه كان روافد ظلت تسيل وتسيل" (ص 119). وإذا كان هذا التساؤل "وهل تلك الرواية إلا حياتي" (ص 120) يجلو شبهة السيرية، فالأمر كله يظل يترجح بين تقنية حضور الكاتب في الرواية وبين السيري.
في الرواية التالية (حمائم الشفق) يجرب الكاتب استثمار تقنية التجريد، فلا يعين المدينة التي يكتب تاريخها خلال خمسة قرون. وفي تشييد المدينة يجرب الكاتب استثمار تقنية الأسطرة، فتأتي المدينة شبه أسطورية بمعماريتها الغرائبية وعشق الراوي لها حد الصوفية. ويتابع الكاتب في هذه الرواية تجريب الاستغناء عن الحوار، مضيفاً الاستغناء عن التداعيات، تاركاً للسرد أن يروي تاريخ المدينة بتعقيد اقل مما سبق في (رائحة الكلب). ولعل غاية ما حقق التجريب في (حمائم الشفق) قد جاء في اللغة أولاً، وحيث مستويات الدارجة والحكاية ولغة الأغنية العربية الفصحى والأغنية الشعبية والأغنية الأجنبية... وثانياً عبر شخصية الفنان التشكيلي الساهي الذي تغضب لوحاته سلطة المشيخة، فتأمر السلطة بخطفه وبتجنين رفيقته جميلة ابنة (أبو جبل) المناضل زمن الثورة.
5-واسيني الأعرج:
بعيداً عن حد التتويه، ولكن بمضارعة في المغامرة، يأتي الحداثي في رواية الزاوي أمين (صهيل الجسد)(32) إذ تنقض الحرام الديني، والحرام اللغوي بخاصة من بين مفردات الحرام الفني. وعلى هذا النحو يأتي أيضاً الحداثي في روايات واسيني الأعرج كسمة أولى لمغامرته الحداثية.
ها هنا نبدأ بالتذكير بما تقدم في التاريخ- الثورة التي جاءت بالاستقلال، في روايات الطاهر وطار ورشيد بوجدرة. ففي رواية الأعرج (ما تبقى من سيرة لخضر حمروش)(33) يشخب دم الشيوعي (لخضر) الذي نفذ الحكم بذبحه ذلك المجاهد البسيط زمن الثورة (عيسى). وعيسى يذكر زيدان والطاهر بطلي روايتي وطار وبوجدرة، فالجذر هو هو: النظر النقدي للتاريخ الرسمي، واجتراح نقيضه، عبر تحول عيسى إلى فلاح صغير يروي في الحاضر الروائي أغلب الرواية.
يبدو الحداثي حيياً في هذه الرواية، سواء في ثنائية المعلم والتلميذ أو التلقائي والعقل، كما مثلها لخضر وعيسى، أو في صراع العدوين: الحاج المختار والشيخ عبد الوهاب ومدير التعاونية ورئيس البلدية وسواهم ممن يغتصبون الاستقلال، وبالمقابل: المتطوعون. لكن شخصية البغي (مريم الروخا) والفعل الجنسي الشاذ (اغتصاب المختار لزوجة عيسى أو مضاجعة الكلب الألماني- برغبة المختار- لزميلة مريم..) يطلق التجريب في بناء الشخصية وفي اللغة. وعلى أية حال يظل الأمر في هذه الرواية أدنى منه في سابقتها (نوار اللوز أو تغريبة صالح بن عامر الزوفري)(34) حيث يستثمر التناص مع تغريبة بني هلال مع كتاب المقريزي: (إغاثة الأمة بكشف الغمة) وذلك بالمفارقة عبر المعارضة التي تقول فيها سيزا القاسم: "المفارقة عبر المعارضة وسيلة من وسائل كسر تقديسه (التراث السردي- نبيل) ورفض وطأة التقاليد، ولذلك نجد في هذه المعارضة نوعاً من التحرر من وطأة هذا التراث دون إنكار ما لـه من قيمة"(35).
بين مدينة أمسيردا من جزائر الاستقلال والثورة الزراعية والتحويل الاشتراكي، وبين فضاء التغريبة، تبدأ لعبة المفارقة عبر المعارضة، لتتواصل بين بني هلال وبني كلبون الذين يعنون السلطة الاستقلالية (لنتذكرْ اسمهم هذا في رواية زمن النمرود)، وهكذا يقابل صالح بن عامر السبايبي مرة أبا زيد الهلالي ومرة الحسن بن سرحان، وتقابل لونجا (حبيبة صالح الزوفري) الجازية الهلالية التي سبق أن رأينا مقابلتها للجازية الروائية عند بن هدوقة. وكل ذلك وسواه يأتي فيما بين نمط التغريبة المتعلق بجماعة، ونمط الرحلة المتعلق بفرد هو صالح الزوفري الذي تحول من مجاهد في الثورة إلى مهرب على الحدود الجزائرية المغربية يجأر: "بيار راح وموح جاء" (لنتذكرْ زمن النمرود ثانية).
عبر هذا التجريب في استثمار التراث السردي يأتي التناص مع أشتات من تغريبة بني هلال، ومع اللغة الهلالية، كما يأتي تعدد الرواة في تداخل وانفصال الراوي مع صالح الزوفري، مقابل تداخل وانفصال القوال مع أبي زيد في التغريبة. ويدفع ذلك باللغة - مع المثل والأغاني واليومي- إلى تعدد المستويات.
بعد قرابة العقدين سيعاود واسيني الأعرج هذا التجريب بامتياز في روايته (حارسة الظلال أو دونكيشوت في الجزائر)(36). وانشغال الكاتب بدونكيشوت قديم يعود إلى رواية (مصرع أحلام مريم الوديعة)(37). لكنه ثمة انشغال عابر، بينما هو أساسي في (حارسة الظلال...).
فقد شيدت هذه الرواية من قصتين، أولاهما هي قصة الصحافي الإسباني فاسكيس سيرفانتس دالميريا الذي يفضل أن ينادى: دونكيشوت، لانتسابه إلى الكاتب الشهير ميغيل سيرفانتس الذي أبدع رواية (دونكيشوت بلامانتشا).
كان رياس البحر قد أسروا ذلك الجد البعيد، فقضى في الجزائر خمس سنوات. وها هو الحفيد يتعقب آثار جده زمن إعلان الجماعات الإسلامية عزمها على قتل الأجانب. هكذا تبدأ رحلة البحث في حي شعبي وفي المتحف ومزبلة السمار العمومية. وباختطاف هذا العالم السري الذي يتضافر فيه اللصوص والقتلة والمتنفذون... للصحفي الإسباني، تبدأ قصة - حسيسن- حسان الموظف في وزارة الثقافة، والذي رافق الإسباني، فقادته الرفقة إلى عالم سري آخر في دهاليز المحققين.
من نمط الرحلة إلى المذكرات إلى السرد العاري إلى الوشاح البوليسي، تعددت تقنيات الكتابة، على إيقاع بحر الدم الجزائري الذي جرّ على حسيسن قطع لسانه وعضوه، ولا ننسَ هنا أن علي الحوات في رواية الطاهر وطار (الحوات والقصر) كان قد جأر: "هكذا قطعوا لساني ثم أمروني بالكلام". لكن علي الحوات استعاد في النهاية أعضاءه المقطوعة - إذ تبدد القصر وتحقق حلم المتصوفين، والقطع لم يكتف باللسان - بينما ظل حسيسن محروماً من الكلام والإخصاب.
بالعودة إلى رواية (مصرع أحلام مريم الوديعة) سنرى فيضاً من اللغة المتشعرنة قد نجا من الهدر اللغوي الذي مارسه الآخذون بهذه اللغة من الروائيين، وبخاصة من ينسب منهم إلى التجريب والحداثة. ولعل نجاة لغة رواية (مصرع أحلام...) - شأن رواية الزاوي أمين (صهيل الجسد) - قد كانت بفعل اشتغالها على التفاصيل من جهة وعلى الجسد من جهة وعلى الراوي المتلبس بالكاتب تلبّس الرواية بالسيرية، كذلك على أسطرة شخصية مريم صاحبة الوجه النبوي التي خرجت من موجة تكسرت على صخور الشط، وسقط أخوتها السبعة على مشارف البلدة في الحرب الضروس التي أكلت أحلامهم، كما نقرأ في الرواية.
يظل الراوي في هذه الرواية بلا اسم، فيضيف بتجريده إلى صوت السيري في الرواية صوت السارد وصوت الجماعة، كما يأتي إلى الرواية صوت التراث السردي، وإن يكن خافتاً، إذ يُستدعى الملك خازوق من (ألف ليلة وليلة) إلى الحاضر الروائي الذي يزج بشرطي (سفيان الجزويتي) في عقل الراوي، ليراقب ما يكتب، فيمزق - الراوي- أشعاره وتشتبك فيه الأزمنة، من زمن الجد المفقود، زمن الدونكيشوت، إلى الحاضر المأزوم والفائر.
لقد تركز الحداثي في هذه الرواية على اللغة بخاصة، ولذلك نقرأ: "كنت أبحث عن شيء غامض ينام بين الأبجدية العربية للكتابة". وسيغدو ذلك علامة فارقة في أغلب كتابة واسيني الأعرج وجيلالي خلاص والزاوي أمين ورشيد بوجدرة، مثلما هو الاشتغال على الجسد وعلى المثقف في الحاضر المأزوم والفائر. وسيقترن الحداثي في أغلب هذه الروايات بالنقدية والمغامرة المفتوحة. هكذا تأتي روايتا الأعرج: (ضمير الغائب أو الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر- 1998) و(رمل الماية أو فاجعة الليلة السابعة بعد الألف- 1990)، بل هكذا تبدو سيرة واسيني الأعرج منذ فاتحة أعماله حتى (سيدة المقام: مرثيات اليوم الحزين(38). ولئن كانت الفاتحة تسم بميسم البداية العناصر الأساسية في تجربة الكاتب، فرواية (سيدة المقام..) تجلو ما وصلت إليه تجربة الكاتب من الامتياز والاستواء، بعد تدرج وتفاوت من رواية إلى رواية، كما يبدو أن (سيدة المقام..) قد دفعت بمغامرة الكاتب في أفق آخر، وهو ما ستؤكده الرواية التالية (حارسة الظلال..).
تتقدم رواية (سيدة المقام..) إلى الحداثي في استثمار الفنون، من لوحات محمد بن خدة إلى رقصة شهرزاد إلى باليه البربرية... ومن غناء الشيخ عبد الغفور وعبد المجيد مسعود إلى موسيقى سترافنسكي وتشايكوفسكي وكورساكوف وموزارت وبرليوز وفاغنر، إلى أجساد راقصات الباليه: إيكاترينا ماكسيموفا ومريم التي يصمها حراس النوايا (حراس الإيمان- فقهاء الظلام) بالشيوعية، ويرمون رأسها برصاصتهم في يوم الجمعة الحزينة، لتدع الراوي العاشق- الأستاذ الجامعي غارقاً في بحر الدم الجزائري ومشبوحاً بين القتلة وبين سلطة بني كلبون.
في ذلك البحر يلاعب الحداثي العنصر الأثير للكاتب: التراث السردي، كما ترمز لـه ندهة شهرزاد في الرواية: اعتقني للكلام. كذلك تقوم في الرواية ملاعبة السيرية، والشعر (شخصية الشاعرة صفية كتّو) واللغة الفرنسية واللغة المثقفة في الحوارات حول الفن والموسيقى- الحضارة. ومن ذلك أيضاً ملاعبة الوثيقة والشهادة على الحاضر المأزوم الفائر الذي يعصف: من مجلة الجهاد الأفغاني إلى حلف حراس النوايا مع بني كلبون إلى من تسميهم الرواية بديمقراطيي هذا الزمن الذين يغازلون حراس النوايا ويقومون كوجه آخر لعماء السلطة.
6-أحلام مستغانمي:
مع التوكيد- الذي تأخر- على أن في هذا النظر في الرواية الجزائرية من القصور ما فيه، يلح على المرء، أن يمضي إلى الثنائية الروائية (ذاكرة الجسد)(39) و(فوضى الحواس)(40) لأحلام مستغانمي، لعل المآل الحداثي- بعجره وبجره- يزداد وضوحاً.
لقد دفعت الكاتبة بتقنية حضور المؤلف إلى مدى أبعد، في التجريبية التي يتواتر تداول الرواية العربية لها: من غالب هلسا وعبد الحكيم قاسم إلى الطاهر وطار وحليم بركات وخليل نعيمي وكاتب هذه السطور وسواهم، وهي التي تفتح القول في الروائي السيري على أفق أرحب وأعقد.
في تلك التقنية يقوم الرهان الحداثي لروايتي مستغانمي، كما لدى مواطنها بشير المفتي في روايته (المراسيم والجنائز)(41) وليس في شعرنة اللغة - بصدى نزار قباني بالنسبة لمستغانمي وبخاصة في الجزء الأول- ولا في التناص الغزير حد الإبهاظ، أو غيره من مفردات التجريب الأخرى التي اشتغلت عليها الرواية في الجزائر، وإن تكن تقنية حضور المؤلف، كما لعبتها روايتا مستغانمي، قد استدعت بعض مفردات التجريب تلك.
فراوي (ذاكرة الجسد) الرسام خالد الذي بُترتْ ذراعه زمن الثورة التي جاءت بالاستقلال، يبدأ اللعب الروائي من الالتباس السيري بين اسم (حياة) كما سمى بنت صديقه وقائده في الثورة: سي الطاهر، وبين اسم (أحلام) كما سمى الأب ابنته، وهو الاسم الأول للكاتبة.
بعد انقطاع تشب فيه حياة - أحلام سيلتقيها خالد ليلتبس بين الأب والعاشق. وسيتفاقم هذا الالتباس ملاعباً أفق الانتظار والغموض في (فوضى الحواس) التي سترويها حياة - أحلام بعد الزواج من ضابط فاسد. وها هنا تلاعب الكتابة التلقي وتشتبك الشخصيات والأحداث في تخييلية ماكرة بقدر ما تبدو منفلتة، فالراوية هي كاتبة أيضاً. ومن قصتها القصيرة سيخرج عبد الحق، فتخون حياة - أحلام زوجها معه، لكنها ستكتشف أن من أحبت ليس هذا الخارج من القصة، بل صديقه وصنوه الذي أخذ العسكر يده اليسرى في أحداث 1988 والذي سيودي به بحر الدم الجزائري.
إنه تجريب يذكّر بالتتويه الذي ذكرنا بصدد جيلالي خلاص ورشيد بوجدرة، بالإضافة إلى مساءلة الرواية لنفسها. ففي (فوضى الحواس) نقرأ: "كيف لي بعد الآن أن أكون الراوية والروائية لقصة هي قصتي، والروائي لا يروي فقط. لا يستطيع أن يروي فقط. إنه يزوّر أيضاً، بل إنه يزور فقط، ويلبس الحقيقة ثوباً لائقاً من الكلام" (ص 95). ومنذ مطلع (فوضى الحواس) نقرأ: "لم أكن أتوقع أن تكون الرواية اغتصاباً لغوياً، يرغم فيه المؤلف أبطاله على قول ما يشاء هو" (ص 28)، كما نقرأ: "وهل الرواية سوى المسافة بين الزر الأول المفتوح وآخر زر يبقى كذلك؟" (ص 36).
خاتمة:
في الغلبة لما بين مناوشة الحرام الجنسي والديني والسياسي والفني، وبين تفكيك ونقض ذلك الحرام المشتبك والكثير، قادت الحداثة الروائية في الجزائر- في الغلبة أيضاً - إلى الخروج من أسر اللغة الواحدة إلى أفق التهجين والتعدد، مما ساعد على تنويع الأساليب وتحقيق درجة أعلى من الحوارية، وكل ذلك أثر في العناصر الروائية الأخرى كما أثرت هي فيه، فتعقد السرد وتصدع وتوالد، وتبدل الوصف، وتكسر الزمن، وتخلخل الميثاق السردي، وساءلت الكتابة نفسها، واشتبكت الخطابات، وسربلت العتامة إلى مدى أو آخر البنية، كما كان مع اللغة أو مع الشخصية... وليس ذلك وسواه - التداعي، تجريد المكان أو الشخصية، استثمار التراث السردي...- سوى علامات اللحظة الروائية الحداثية، كما عرفتها الرواية العربية بعامة خلال العقود الماضية. فحديث التجريب الروائي العربي يقترن بالحداثة الروائية، وإن يكن لا يوقفه عليها، لأن اللحظة التقليدية لم تفتأ تحاول بقدر متواضع أو آخر من التجريب أن تجدد نسغها، وبخاصة بفعل اللحظة الحداثية طوال العقود الأربعة المنصرمة.
ولئن كان على المرء هنا أن يشدد على قِصَر اللحظة التقليدية في الرواية في الجزائر، فإن هذه الرواية قد عرفت ما عرفته الحداثة الروائية العربية بعامة من تأزم، جراء وهم اللغة الشعرية- من الشعر- أو الغموض أو التتقين بعامة. غير أن منعطفاً جديداً ابتدأ في الرواية العربية - ومنها الجزائرية - منذ حين، يروم أن يتجاوز ما أزم اللحظتين السابقتين: التقليدية والحداثية، وأن يستثمر منجزاتهما في آن، والتجريب في أس هذا المنعطف، كما هو في أس أية انعطافة في تاريخ الأدب والفن، والتي قد تكون سالبة أيضاً.



 الهوامش:
(1)-انظر: نبيل سليمان: بمثابة البيان الروائي، فصل: لأجل منعطف روائي عربي جديد، مذكور.
(2)-مجلة فصول، المجلد 14، العدد 1، القاهرة ربيع 1995.
(3)-المصدر السابق.
(4)-مجلة الطريق، العدد 3-4، بيروت 1981.
(5)-عز الدين المدني: الأدب التجريبي، الشركة التونسية للتوزيع، ط1، تونس 1972، وبخاصة ص 130 منه.
(6)-مجلة الحياة الثقافية، مذكور.
(7)-الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الجزائر 1971.
(8)-الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الجزائر 1975.
(9)-الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الجزائر 1980.
(10)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1983.
(11)-الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الجزائر 1981.
(12)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1986.
(13)-دار الحداثة، الطبعة الأولى، بيروت 1986.
(14)-لافوميك، الجزائر 1989.
(15)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1985.
(16)-مؤسسة عيبال، الطبعة الأولى، نيقوسيا (قبرص) 1989.
(17)-الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، الجزائر 1972.
(18)-دار ابن رشد، الطبعة الأولى، بيروت 1980.
(19)-دار ابن رشد، الطبعة الأولى، بيروت 1978.
(20)-بيروت، ط1، 1974.
(21)-مذكور.
(22)-دار الهلال، ط2، القاهرة 1995.
(23)-الجاحظية للتبيين، ط1، الجزائر 1999.
(24)-وجهات نظر، أغسطس، القاهرة 2000.
(25)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1982.
(26)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1985.
(27)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1986.
(28)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1990.
(29)-مجلة المساءلة، العدد الأول، الجزائر ربيع 1991.
(30)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1985.
(31)-المؤسسة الوطنية للكتاب، الطبعة الأولى، الجزائر 1986.
(32)-دار الوثبة، الطبعة الأولى، دمشق 1983.
(33)-دار الجرمق، الطبعة الأولى، دمشق 1983.
(34)-دار الحداثة، الطبعة الأولى، بيروت 1983.
(35)-مجلة فصول، المجلد 2، العدد 2، القاهرة 1982.
(36)-دار الجمل، كولونيا (ألمانيا)، الطبعة الأولى، 2000.
(37)-دار الحداثة، الطبعة الأولى، بيروت 1984.
(38)-دار الجمل، الطبعة الأولى، كولونيا (ألمانيا) 1995، وانظر دراستنا لها في: الرواية والحرب، مذكور.
(39)-دار الآداب، الطبعة الأولى، بيروت 1993.
(40)-دار الآداب، الطبعة الأولى، بيروت 1998.
(41)-منشورات رابطة الاختلاف، الجزائر 1998.

 
 

 

عرض البوم صور تيتوف بارة   رد مع اقتباس
قديم 18-10-07, 12:31 PM   المشاركة رقم: 13
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Aug 2006
العضوية: 9261
المشاركات: 1,076
الجنس ذكر
معدل التقييم: تيتوف بارة عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدNauru
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
تيتوف بارة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : تيتوف بارة المنتدى : كتب الأدب واللغة والفكر
افتراضي

 

الفصل الخامس
الرواية الحداثية والتقليدية
في الكويت


مقدمة
آلت التجربة الروائية العربية خلال قرنها الأول المنصرم إلى تسيد الحداثي. وفي السبيل إلى ذلك كان التجريب هو العلامة الفارقة. فحتى التقليدي جرّب أن يمتصّ من الحداثي. ولقد جرب الحداثي أن يمتص من التقليدي، وهذا ما سميته منذ عقدين: تقليدية الرواية الحديثة- الحداثية(1). على أن التجريب كان بخاصة سمة الحداثي، سواء بتقفيه واستثماره للمنجز الروائي الغربي، أم بتقفيه واستثماره للمنجز السردي التراثي، وقبل ذلك وبعده الكثير.
ولعل السؤال عما تبدى من ذلك فيما بلغته التجربة الروائية في الكويت، أن يضيء لها فيما آلت إليه التجربة الروائية العربية، وأن يضيء أيضاً لهذه التجربة نفسها، وبخاصة أن السؤال هنا سيتعلق أساساً بروايات صدرت في السنوات الأخيرة.
1.الحداثي:
1-1-إسماعيل فهد إسماعيل: سماء نائية(2):
تنتمي تجربة إسماعيل فهد إسماعيل منذ البداية إلى الحداثي، حيث خوّض الكاتب في رواية تلو الرواية عبر السيرورة الحداثية للرواية العربية، ابتداءً أو انتهاء بمساءلة الذات أو تهشيم الزمن أو اللعب بالضمائر أو تعدد المستويات اللغوية وزوايا النظر أو تلوين السرد والمنْتَجة...
ولعل صنيع إسماعيل فهد إسماعيل قد بلغ غايته في روايته (سماء نائية)، إذ توسل ضمير المخاطب (أنتَ) منذ السطر الأول إلى السطر الأخير، فجاءت الرواية أشبه بحوارية بين المخاطب والمتكلم، بين الأنت والأنا، فكان للرواية ساردان: أولهما صاحب ضمير المخاطب الذي رجّع في الرواية أصداء ضمير الغائب (هو)، من حيث علمه المحيط وتحريكه للشخصيات، وثانيهما ضمير الأنا الذي اضطلعت به الشخصية المحورية في الرواية (المعلم) والذي رجّع في الرواية الأصداء السيرية، من حيث توسل الاستذكار والاسترجاع. أما الناظم للعبة برمتها فقد كان إيقاع الصفعتين اللتين كال بهما حلمي شقيقه وتلميذه، واللتين تشتبك بهما صفعة الاحتلال العراقي للكويت. أما الصفعة الأولى للشقيق، فهي الأقدم، عندما كان الصافع في العشرين والمصفوع في العاشرة. وأما الصفعة الأخيرة، وهي الأحدث، فقد ناجز فيها الصافع خمسينيته، لابن العاشرة أيضاً، والذي سينجلي في خاتمة الرواية ابناً لشقيق حلمي الذي نفر من أسرته وتزوج في تخفيه من فلسطينية، وقد سبقت الصفعة الأخيرة صفعة الاحتلال العراقي بقليل.
وبلمساته الدقيقة المعهودة، وبالاقتصاد اللغوي الذي اشتُهِرتْ به الكتابة الروائية- والقصصية إلى حد كبير- لإسماعيل فهد إسماعيل، يرسم في رواية (سماء نائية) شخصية المعلم المعتلة روحاً وجسداً، ونقيضها في شخصية الشقيق، وصنوها ونقيضها في شخصية الضابط العراقي الاحتياطي المعلم أيضاً، كبطل إسماعيل فهد إسماعيل.
بيد أن ما أحسبه من ضغط الأيديولوجي على الفني آذى الرهافة الإنسانية المتعلقة بالموقف الدقيق بين حلمي والضابط العراقي. كما آذت المصادفة والإخبارية المتعلقة بالحرب البناء الروائي حتى عادت به إلى الزمن الخطي. ولئن كانت لعبة الاستذكار قد كسرتْ هذا الزمن فيما تقدم الحرب، وهو الغالب من الرواية، فإن ضغط الاستذكار قد تضافر مع هيمنة ضمير المخاطب في إيذاء البناء الروائي أيضاً. ولعل (سماء نائية) تندرج، فيما يتعلق منها بالحرب، في المعهود من الرواية العربية المتعلقة بالحرب. كما لعل (سماء نائية) تندرج بعامة في السلسلة الروائية التجريبية العربية التي عانت ولا تزال من ضغط الحداثي، والتي أخذ شطر منها في السنوات الأخيرة يروم ما دعوته وأتطلع إليه من (المنعطف الروائي الجديد).


1-2-طالب الرفاعي: ظل الشمس(3):
إذا كان ضمير المخاطب قد تفرد برواية (سماء نائية) فضمير المتكلم قد تفرد برواية طالب الرفاعي (ظل الشمس). غير أن الإيحاء السيري الملازم لضمير المتكلم، ينتقض في هذه الرواية، على الأقل بلعبة حضور الكاتب (طالب الرفاعي) في الرواية، وصدْع القارئ من حين إلى حين بما ينأى به عن السيرية، وبما يسائل التخييلي والوقائعي.
فالشاب المصري المدرس يقصد الكويت ليغرف من كنوزها الموعودة ما يكفيه الحاجة التي أنهكته في مصر. وفي الطائرة يجاوره طالب الرفاعي، ويقرأ الشاب في قصاصة للكاتب اسمه هو: حلمي، واسم معشوقته نعمة، والشخصيتين اللتين ستقلبان مصيره في الكويت: المهندس رجائي ومنال، كما يقرأ حلمي في القصاصة: "ظل الشمس مشروع رواية". وسيترجع في حلمي ما قرأ بعدما يبلوه الزمن الكويتي بالعيش في حي خيطان وبالبطالة وبتدمير الحلم بالكنز الموعود، سواء في ترتيبات الإقامة وشركة (أبو عجاج) أم في العمل مع المهندس رجائي الذي سيهرب بالرواتب، وخلال ذلك وبعده: في تدريس منال، ومضاجعتها، ومحاكمته – أخيراً - بتهمة الاعتداء على قاصر.
في هذه التعرية والهتك لعيش الوافدين إلى الكنز الكويتي الموعود، يرسم طالب الرفاعي برهافة شخصياته، ويكسّر الزمن بألمعية، فيأتي ماضي حلمي بخاصة، وأبو عجاج وأكرم شاه ومنال وسواهم، كسرةً فكسرةً، عبر الزمن الحاضر لحلمي.
وهكذا نرى علاقاته بأبيه المعارض لهجرته وبزوجته سنية وبمعشوقته نعمة وزوجها. وينظم هذا التكسير الإيقاع الذي تتوزعه عبارة الوالد من الماضي (لن تجني شيئاً من الكويت) وهذه العبارة - المتناص (ما الذي قد صنعت بنفسك؟).
ولعل الكاتب قد أفاد مما سبق روايته الأولى من تجربته القصصية. والإشارة هنا بخاصة هي إلى مجموعته (متتاليات قصصية- 1995) والتي تستدعي لعبة إدوار الخراط الروائية - القصصية في المتتاليات. وعلى أية حال، فلعل مما توفر لرواية (ظل الشمس) من التوازن الدقيق بين الوصف والسرد والحوار، ومن الاقتصاد اللغوي، ومن التوشية بالعامية، ومن التعمق في الشخصية، ومن النظر النقدي الجارح في تسعينيات القرن العشرين المصرية والكويتية؛ لعل كل ذلك قد جعل للرواية نسبها الحداثي بلا صخب. وحسبي أن أعدد هنا اللعب بضمير المخاطب (الإيقاع الثاني في مقاطع شتى) والغائب والمتكلم، وتداخل القصص الفرعية، والرسوم التي قدمت الأسرة المصرية (الحماة وكنتها: أم حلمي وسنية زوجته) والغبار والطوز والجوع الجنسي في كويت الأحلام وكويت الوجع ونقائض حي خيطان وحي النزهة ومشروع القرين وسوى ذلك مما يدمر حلمي وينتهي به - وهو في الثامنة والعشرين- إلى السجن خمس عشرة سنة، فإلى أي مآل تنتهي سلسلة الممنوعات التي تجبه حلمي خلف القضبان، وآخرها هذا الذي جأرت به الرواية: "ممنوع الكويت؟".
2.التقليدي:
2-1-حمد الحمد: زمن البوح:
على النقيض من الروايتين السابقتين، تعلن رواية حمد الحمد (زمن البوح)(4) تقليديتها، وبخاصة في زمنها التعاقبي، وفي هيمنة السارد بالضمير الغائب (هو).
فهذه الرواية المبنية في فقرات معنونة، تبتدئ بتقديم جلّ شخصياتها في حفل عيد الميلاد العاشر لجريدة (شروق) الكويتية. وتوالي الرواية توسل عين الكاميرا وتدخل السارد في لا وعي الشخصية، وتمعن في التقلبات العجولة وغير المقنعة للشخصية، كما جاء فيما بين تحريض عبد الهادي لوليد عبد الله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم تهدئته، أو في أخذ وليد بأسلوب زميلته المتدربة مثله - منال مشاري بالحوار.
ولا يخفى امتصاص التقليدي في هذه الرواية للحداثي، عبر استثمار الحوار (الفقرات 6- 7- 8 على سبيل المثال). كما تتقد في (زمن البوح) لحظة أخرى من لحظات العيش الكويتي بعد الحرب، وحيث يترجع سؤال رواية (سماء نائية) عن البنية البشرية التحتية. لكن السؤال المعلق في (سماء نائية) يتحدد في (زمن البوح) بلحظة بروز التيار السياسي المتلفع بالإسلام، والرطانة المتداولة بالإرهاب والإرهابيين، وهي اللحظة التي تشتبك فيها علاقات الصحافيين في جريدة (شروق)، من الصحافي الكويتي إلى الصحافي العربي العامل في الصحافة الكويتية، ومن المؤهلة على الطريقة الغربية (منال) إلى المؤهل على الطريقة الإسلامية. ولقد خلصت الرواية من كل ذلك إلى تليين موقف وليد الإسلامي باتجاه العصرنة والغربنة والدمقرطة التي تنطوي عليها منال، وبالعكس، لترسل الرواية أطروحتها في المعادل العاطفي الإيجابي الذي آل إليه وليد ومنال، كتعبير عن مزاوجة الأسلمة بالغربنة في مشروع زواج الصحافيين الشابين المذكورين، كما هو مألوف في التراث الروائي التقليدي.
2-2-ليلى العثمان: المرأة والقطة(5):
مقابل الروايات الثلاث السابقة التي صدرت بين 1998-2000، ومن أجل تبين الحداثي والتقليدي في التجربة الروائية في الكويت، تأتي هذه العودة إلى رواية ليلى العثمان (المرأة والقطة) والصادرة عام 1985، وهي التي توسلت ضمير الغائب وضمير المخاطب في الزمن الروائي: زمن التجربة أو الحاضر، بينما توسلت ضمير المتكلم في الماضي، وبالطبع: بالاستذكار والاسترجاع اللذين رأينا طغيانهما في رواية (سماء نائية).
لقد توشى الحوار في رواية (المرأة والقطة) بالعامية - وكما في روايتي إسماعيل والرفاعي- بأقل مما كان في رواية (زمن البوح). ولئن كان ذلك في رواية حمد الحمد إشارة إلى امتصاص التقليدي للحداثي الذي يهجن اللغة الروائية، فهو في رواية ليلى العثمان يشي بالعكس، شأنه شأن الوصف.
وكما ينتأ العلمنفسي في رواية إسماعيل، ينتأ في رواية العثمان، ويتحدد فيها بما بين العمة وزوجة أخيها، كما يتحدد في رواية الرفاعي فيما بين الحماة والكنة. فسالم في رواية (المرأة والقطة) معتل بعقدة خنق عمته للقطة دانة، وبسطوة عمته على أبيه حد تفريقه عن أم سالم. وهذه العقدة تبلغ بسالم حد العجز عن التواصل الجنسي مع زوجته حصة، إلى أن تحمل هذه، وتتلبس الرواية بالبوليسية: ممن حملت حصة؟ ومن الذي قتلها جراء شبهة الحمل سفاحاً؟ هل هو سالم الذي يواجه حبل المشنقة بتهمة القتل؟ أم هو الأب الذي يُوسْوَس لسالم أنه من حملت حصة منه؟ أم القاتل هو العمة؟
يتفرد ضمير المتكلم بين صفحتي 15-46 بتذكّر سالم للقطة دانة، ولكره عمته لأمه التي أحبها أبوه، لكن العمة فرضت عليه تطليقها، كمن سبقنها. وتتناسل القصص هنا، لتقدم تعلق الطفل سالم بالمكان الذي واقع فيه الهر القطة دانة، أو لتقدم قتل العمة لدانة ومحاولة سالم إنقاذها... وبعد ست صفحات من العودة إلى ضمير الغائب الذي يرصد حال سالم في المستشفى بعد اتهامه بقتل زوجته وانهياره النفسي، يعود ضمير المتكلم والاستذكار في شطر كبير آخر من الرواية، ليرسم زواج سالم من حصة، وحيث ينتأ استبطان النظر الذكوري للجنس فيما ترسم الكاتبة: حصة قلعة محصنة وسالم هو الفارس، وحصة هي الأشرعة والريح وسالم هو البحار، وجسد حصة هو الأرض وسالم هو الفأس..
تنتأ البوليسية فيما يبدو من تدبير العمة لقتل حصة الحامل سفاحاً بحسبانها وحسبان الأب الخنوع. وهنا ينازع الضمير الغائب ضمير المتكلم، فينضاف عضد آخر للقول بتقليدية الرواية الحديثة - الحداثية في (المرأة والقطة). فلئن كان ضمير الغائب سيد الضمائر، بل حتى إن كان- بحسب بارت- هو الرواية نفسها، وهو زمنها ومحفز السرد فيها، ومن دونه يعتور الخور الرواية..، فإن توسل هذه الرواية له - وبتمثيليته مقابل شهادة ضمير المتكلم - وكذلك توسله في (زمن البوح) يعود بنا إلى بداية لعبة الضمائر التي مضت فيها التجربة الروائية العربية أبعد فأبعد، حتى بلغت ما رأينا من أحادية الضمير المخاطب في (سماء نائية).
خاتمة:
من المعلوم أن استخدام ضمير المتكلم والمخاطب قد جاء في سياق تطور السردانية منذ بروست وجيد وكافكا وهمنغواي. وفي تلك الآونة من القرن العشرين- إبان الحرب العالمية الأولى- كانت الرواية العربية بالكاد تعلن بداياتها. وها نحن، وبعدما دار القرن دورته، وبعد ما كان للرواية العربية ما كان من اللعب المقلد والمجتهد والمستخذي والمبدع، نرى بعض ما بلغنا، عبر ما يخص الشطر الكويتي منها، التقليدي والحداثي وما بينهما. ولئن كان ما تقدم، قد تابع بخاصة لعبة الضمائر من بين مفردات اللعب الحداثي، ولئن كانت العينة فيما تقدم محددة، فلعل قولاً آخر سيلي بالنظر إلى نصوص أخرى مما أبدعه آخرون، أو بعض أصحاب العينة أيضاً.



 الهوامش:
(1)-انظر: نبيل سليمان: حوارية الواقع والخطاب الروائي، دار الحوار، ط2 اللاذقية
1999.
(2)-دار المدى، دمشق، ط1، 2000.
(3)-ط1، 2000 (د.ن).
(4)-دار شرقيات، ط1، القاهرة 1998.
(5)-ط1، 1985 (د.ن).

 
 

 

عرض البوم صور تيتوف بارة   رد مع اقتباس
قديم 18-10-07, 12:33 PM   المشاركة رقم: 14
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Aug 2006
العضوية: 9261
المشاركات: 1,076
الجنس ذكر
معدل التقييم: تيتوف بارة عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدNauru
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
تيتوف بارة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : تيتوف بارة المنتدى : كتب الأدب واللغة والفكر
افتراضي

 

القسم الثاني




الفصل السادس
التعبير الروائي في فلسطين
عن مقاومة الاحتلال


مقدمة
تُعقّد الجغرافيا السياسية النظر في الحركة الثقافية الفلسطينية، ابتداءً بما أسفرت عنه الحرب العالمية الأولى من تشظية الفضاء السوري أو الشامي، ووصولاً إلى ما أسفرت عنه حرب 1967 من أمر الضفتين.
باعتبار ذلك، وبتحديد النظر في الرواية الفلسطينية، يبدو أن ولادة هذه الرواية قد جاءت في اللحظة الفاصلة التي أهلّتْ بها ستينيات القرن الماضي على الرواية العربية، والتي باتت تعرف باللحظة الحداثية، وصنعها من باتوا يعرفون بجيل الستينيات: صنع الله إبراهيم وعبد الحكيم قاسم وهاني الراهب و.. وغسان كنفاني. ولكن القول بذلك لا ينبغي أن يبخس الرواد الفلسطينيين حقهم، مثل محمد العدناني وكامل نعمة وعارف العارف وسواهم، في أربعينيات القرن الماضي.
لقد بلغت المدونة الروائية الفلسطينية خمسين رواية بين 1960-1970. ونافت هذه المدونة خلال العقود الثلاثة الماضية على مئتي رواية. وتقدم عدد من كتابها إلى صدارة المشهد الروائي العربي في لحظته الحداثية، على رأسهم جبرا إبراهيم جبرا (صدرت روايته الأولى: "صراخ في تاريخ طويل" عام 1955) وغسان كنفاني (صدرت روايته الأولى: "رجال في الشمس" عام 1963).
عبر ذلك كله كان السؤال الأكبر هو سؤال المقاومة، أياً تكن تلك المقاومة. ولئن تعلق السؤال في روايات عديدة بالحدث أو التأرخة أو الشهادة أو- اختصاراً - بما يعني الموضوع مرة والمضمون مرة، فالأهم والأعم هو ما يتعلق من سؤال المقاومة في الرواية الفلسطينية بتحرير المعنى، في غمرة تضبيبه وأدلجته، وصولاً إلى الحديث عن أفوله، وهذا ما يعنيه تشكيل الرواية الفلسطينية للمعنى، ما يدفع بإشكاليات شتى، ليس أولها ولا آخرها ما بين السياسة والفن.
والفيصل هنا ليس أن يقال: المقاومة هي المعنى، أو: المعنى هو المقاومة. ففي مثل هذا القول قد تستوي- مثلاً- رواية (الطريد- 1966) لنواف أبو الهيجاء مع رواية (ما تبقى لكم- 1966) لغسان كنفاني. بل الفيصل هو التشكيل الروائي للمعنى، والذي غدت فيه المقاومة عملاً فدائياً أو حجراً أو وعيا نقدياً أو عملاً سياسياً أو كتابة أو تعليماً أو غرساً لزيتونة أو انتفاضة أو مفاوضة أو حباً أو خصوصية فنية أو مغامرة إبداعية. وعندما يؤخذ الأمر هذا المأخذ فستصغر المدونة. ومع ذلك، لا أطمح هنا إلى النظر إلا في أمثلة محدودة، مما يتوخى فيها سطوع الدلالة على ما تقدم.
إميل حبيبي: إخطية:
أما المثال الأول فهو رواية إميل حبيبي (اخطية)(1) التي تعمق ما كان الكاتب قد قدم في تجربته الثرة الفريدة من استثمار التراث السردي، ومن استثمار العيش الشعبي في القاع، ما أسفر عن بناء روائي، لعله نسيج وحده، ينهض على تشغيل خاص للغة وللسخرية، كما ينهض بالخبرة في الشأن الصهيوني والشأن الفلسطيني، وبالحس الإنساني العميق والدافق والفاجع.
عبر ما تسميه الرواية بالسكتة القلبية أو بجلطة المواصلات في شارع هحالوتس، تشتبك إشارات وعناصر المعنى، إذ يستعيد الراوي الواقعة التي خلخلت الكيان الصهيوني، بعد عشر سنوات من زمنها. فهل تسبب بالواقعة مخلوق من الفضاء الخارجي؟ أم هو من شاهدته سائقة السيارة العجوز بلومنتا: "شاهدتْ مخرباً فلسطينياً شاباً متلثماً بكوفية فلسطينية، يتأبط كلاشين ويمر مسرعاً بين السيارات المنجلطة"؟.
يتفتق الاحتمالان كما تشاء المخيلة الساخرة، فيتوالى جلاء واشتباك عناصر وإشارات المعنى- المقاومة. وأول ذلك هو: الزمن. فكما في لغز الأمير الفاضل الذي تبتدئ به الرواية، سيكتشف الراوي بعد عشر سنوات من جلطة هحالوتس أن (الزمن) هو مفتاح اللغز: إنه مفتاح المقاومة ورافعتها والفيصل في الجلطة - خلخلة الكيان الصهيوني، أي إنه الحاسم في الصراع الفلسطيني الصهيوني.
تأتي الرواية في ثلاثة دفاتر، (شخوص- اخطية- وادي عبقر). ويتوزع كل دفتر على فقرات معنونة. ويشتغل التناص فيها جميعاً مع الشعر التراثي العمودي، ومع التراث السردي، وبخاصة منه (مروج الذهب) للمسعودي، و(ألف ليلة وليلة)، حيث المناط هو الفانتاستيك الذي يفجر المخيلة فيما هو فوق الطبيعي أو غير الطبيعي، لتعود الرواية به إلى واقع محدد في زمن محدد: الفلسطيني في مواجهة الصهيوني. ومن العلامات الفارقة في هذا البناء ما يمكن تسميته بالصراع على الاسم. فإذا كان شكسبير قال في روميو وجولييت "ماذا يهم الاسم"، فالاسم هنا هو صراع الأرض والتاريخ مع العدو الصهيوني، هو صراع على الوجود. ذلك أن الدولة - إسرائيل لا تني تحل الأسماء العبرية محل الأسماء العربية، فيما السخرية - المقاومة الروائية، تعري ذلك. ويكفي أن نمثل بشارع الصهيونية الذي يوهم بالنسب الجديد للمكان الذي هو أطلال عائلة بيت صهيون الحيفاوية العريقة.
وإذْ يعدد الراوي ساخراً أسماء صناديق القمامة في هذا الشارع (الصهيونية 13- الصهيونية 1..) فكأنما يرمي في هذه الصناديق بوهم الاسم الجديد. وإذ يتابع الراوي ساخراً السوابق واللواحق- البدايات والنهايات المجتزأة من اسم أمريكا، وهي (أم)، في أسماء الشركات، فكأنما يشخص العلاقة العضوية بين أمريكا وإسرائيل. كذلك نقرأ: شركة (أم بال) أي: (أمريكا بالستاين) أو شركة (إسرام) أي: (إسرائيل- أمريكا). ولا توفر السخرية الفلسطيني والعربي، حيث من يفضل الاختصار والتصحيف في أسماء الحركات السياسية، فتغدو- في مصر- الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني: حدتو، كما تغدو في فلسطين: حمير شوارع فلسطين: ح.ش.ف. وتتدافر العبودية في عشرات أسماء العلم العربية المركبة، فكلنا "عبد وعبده"، والرواية تسرد من ذلك عشرات الأسماء الحسنى.
من جهة أخرى، وعلى مستوى الاسم الروائي، نرى إميل حبيبي في هذه الرواية كما في رواياته الأخرى، كثيراً ما يبدو أنه يعود إلى الزمن الذي كانت فيه أسماء الشخصيات غير معنية بالكينونة المنفردة. وكما هو معلوم، ففيما قبل الرواية كانت تؤثَر الأسماء اللاشخصية. أما مع الرواية فقد بات الاسم معيناً على تحقيق الفردانية، وليس على تنميط الشخصية. غير أن إميل حبيبي، وهو يسمي بعض شخصياته الروائية، يبدو كمن يقلّب في ارتباط الذاتية الفردانية بالمنزلة المعرفية التي تحتلها الأسماء، إذْ تستحضر- حسب تعبير هوبز- مدلولاً واحداً، في حين أن الكليات تستحضر مدلولاً من مدلولات. والمآل إذن في لعبة إميل حبيبي باسم الشخصية هو تركيب الفرداني بالمعرفي، والذاتي بالموضوعي، والشخصي بالعام. وغاية ذلك تأتي في عنوان هذه الرواية- وهو عنوان الدفتر الثاني منها - حيث تتراوح الكلمة العامية الفلسطينية العربية (إخطية) بين اسم لطفلة في عامها الأول، واسم للفتاة التي اعتُدي عليها فولدتْ كسيحاً، واسم للخطيئة التاريخية التي يعبر عنها قيام دولة إسرائيل، واسم لما اغتصبت الصهيونية من فلسطين، واسم لأي من الخطايا - الهزائم في الصراع العربي الإسرائيلي، واسم لأي من الخطايا المشابهة في تاريخ البشرية. هكذا نقرأ: "هل أنت إخطية الأولى أم الثانية أم الثالثة أم.. العاشرة"، ونقرأ: "خطيئة إخطية وقعت قبل نصف قرن"، وإذ نبلغ نهاية الرواية، نقرأ: "ذهب الذين أحبهم وبقيت إخطية".
وفي لحظة من اللحظات، في شارع من شوارع حيفا، المكتظة بالسابلة وبالسيارات، خرجت العفاريت من الصدور، والتقت في وادي عبقر في رابعة النهار: كلُّ يسأل عن إخطية: كيف تركها، ولماذا تركها، وكيف حالها
من بعده؟" اخطية الكسيح لولا سروة. أخطية الخرساء لولا.. لولا
عبد الرحمن".
في رواية سميح القاسم (إلى الجحيم أيها الليلك ـ 1978) تشع شخصية حسن الكسيح بالدلالة على الكساح الفلسطيني فيما اغتصبت الصهيونية من فلسطين. لكن هذا الكساح ليس مؤبداً، لا في رواية القاسم ولا في رواية حبيبي، حيث يزداد عبد الرحمن تعلقاً باخطية بعدما ولدت كسيحاً: لو لم يكن الجبل كسيحاً لكرهناه. ولو لم يكن البحر كسيحاً لأغرقناه. ولا تتألق اخطية إلا لمن يحبونها".
من تشغيل الذاكرة، إلى ملاعبة ضمير المخاطب (لعبد الكريم في الدفتر الثاني) إلى التوقيع بهذه العبارة في الدفتر الثالث (ذهب الذين نحبهم)، تشبك رواية (اخطية) عناصر المعنى ـ المقاومة، كما تشبكك السخرية بالفاجعة، والزمن الفلسطيني بالزمن الصهيوني وبالزمن العربي وبالزمن الكوني، وكما تشبك استثمار التراث السردي بوعي الرواية لذاتها، من بين عناصر اللعب الحداثي المعاصر، حيث نقرأ أخيراً مخاطبة الروائي لمحمود: "كذبتُ عليك، يا محمود، كذبة بيضاء، كما الذاكرة، حين أبلغتك بأنني انتهيت من كتابة هذه الرواية، وأتممت نقمتها عليكم، فإني أجدها الآن، ما إن تشرف على النهاية، حتى تشرف على حديقة جديدة أو شاطئ جديد، فلا تستعجلوا عسى أنْ
لا يتعجلنا البين.
إن حالي فيها كحال الوالدة حين كانت تفك الكنزة الصوفية العتيقة التي خلّفها لنا زوجها الراحل، والدنا، خيطاً خيطاً".
أحمد حرب: الجانب الآخر لأرض المعاد:
ليس المعنى الفلسطيني منذ قرن غير المقاومة للمعنى الصهيوني. ولئن كانت رواية (اخطية) حددت من عناصر المعنى الفلسطيني عنصر الملثم ـ مثلاً ـ أو عنصر الفضاء الحيفاوي، فالتخييل شبكهما وسواهما بعناصر الزمن العربي وأمريكا والمؤسسات الإسرائيلية، في كتابة تتطوح بين الفانتاستيك والسيرية، كما سيلي في رواية إميل حبيبي: (سرايا بنت الغول ـ 1992). أما في المثال التالي فسنرى رواية أحمد حرب (الجانب الآخر لأرض المعاد)(2) تشتغل على العناصر عينها، وعلى سواها، ولكن في لحظة فاصلة من لحظات الصراع، هي الانتفاضة الأولى التي انطلقت عام 1987.
هذه الرواية هي الجزء الثاني من رواية أحمد حرب (إسماعيل ـ 1987). وراويتها كاتب يحمل الدكتوراه من جامعة أمريكية ويدرّس الأدب الإنكليزي. وليست تلك بالشيات السيرية الوحيدة في الرواية التي يمتد زمنها منذ الحرب العالمية الثانية، ليرتكز في السنتين الأوليين من الانتفاضة الأولى.
حملت الرواية عنوان فصلها الثالث الذي ينأى عن التعبير التوراتي عن فلسطين (أرض الميعاد). وتقوم الرواية على شبك عدد من القصص الفرعية، ابتداءً بقصة أبي قيس التي ترسم صوراً من التاريخ الفلسطيني، وقصة المحامي يعقوب أبو تايه الذي يكتب القصة والرواية، ثم قصة اليهودية اليمنية أرنونا التي تتزوج من هادي، وتُسْلم وتتسمى بإيمان. وثمة أيضاً سيرى الراوي (وحيد) نفسه. ويأتي سرده هذه القصص وشبكها على إيقاع يوميات الانتفاضة. حيث تتفجر الأسئلة الحارقة، وأولها سؤال المثقف والالتزام في زمن الانتفاضة. فالراوي المثقف وحيد الذي لم يتعود على المواجهة، يواجه دعوة أبي قيس لـه إلى العمل، بالقول: "اتركني وشأني أكرس قلمي لخدمة هذا الشعب. أنا أكتب عن الحدث ولا أشارك في صنعه". وبينما يصدعه أبو قيس: "أنتم المثقفون هكذا. يقتلكم خوفكم وتقتلكم حساباتكم"، يقرع الراوي نفسه أيضاً: "أنا أعيش الآن على فتات التاريخ بعد أن جف قلمي وانكسر معولي وربط لساني". إنه يحيا ازدواجية قاتلة، سيتخفف منها بعد استشهاد شقيقته وديعة، وانتقاله إلى قريته (العين) وانخراطه في يوميات الانتفاضة في هذه القرية.
تمور الرواية بأسئلة المعنى الفلسطيني، وأولها سؤال الوطن. فإذا كان المحامي يقول لإسماعيل المبعد عن فلسطين: "لا شيء يعدل الوطن" فإسماعيل يتفجر في هذا الاشتباك الحواري: "ما فائدة العيش في وطن محتل؟ شبعت وأتخمت من هذا الكلام. اقتلوهم بأظافركم وأسنانكم وعصيكم.
أظافرنا مقلمة وأسناننا مثلمة وعصينا ليست عصا موسى. حجركم صار كلاشينكوف. حجارتنا قطع جيرية لا توجع. النار النار من غزة لجبال النار. نارنا صارت دخاناً ورماداً. اصمدوا، صمدنا وتعذبنا واكتوينا بنار الذل والهوان. أرجوك يا صديقي لا تنصحني نصيحة الأغنياء للفقراء. الوطن أحمله معي. في قلبي وعلى كتفي. أحمله في حقيبتي. أحمله وأنا مسافر، وأنا نائم، وأنا منصوب القامة، وأنا أمشي أنا لن أعود إلى هناك. قل لي، ما قيمة العيش في وطن محتل؟ ما قيمة العيش تحت سوط الجلاد؟ جلاد هنا وجلاد هناك. جلاد في الأرض وجلاد في السماء"؟
يتشكل سؤال الوطن هنا مما يرسم سمات كبرى لأسلوبية الرواية، فالحوارات تتدفق بلا فواصل بين الأصوات التي تشتبك وتتمايز بلغاتها ورطاناتها، مثل المتناصات مع الهتافات الشعبية والأشطار الشعرية المغناة وغير المغناة. وهذا ما ينضاف إليه في مواقع أخرى عديدة متناصات من الشعر العمودي والحديث والكتب المقدسة والأمثال الشعبية والأهزوجات والأغاني الشعبية في الأعراس والطهور وجنازات الشهداء. وستتعدد اللغات والأصوات أيضاً بالخطابة (خطاب أبي قيس مثلاً في تشييع شهداء قرية العين) وفي الحوار ـ الاشتباك بين الجنود الإسرائيليين وضباطهم وبين الراوي وسواه، على الحواجز ونقاط التفتيش وفي المظاهرات والصدامات والتحقيقات، حيث يأتي نطق العربية مشوهاً بعبرية لغة المحتل.
أما سؤال الوطن فيظل لإسماعيل لوعته الكبرى، لذلك يكرر على مسمع وحيد في عمان عندما أرسلته المنظمة (فتح) إلى هناك في مهمة، فنقرأ أيضاً: "قتلتني يا وطني المحتل، قتلتني، لم يبق لي الآن إلا أغنية". وبالمقابل، فسؤال الوطن بالنسبة للسياسي هو ما يسمع وحيد في مكتب المنظمة في عمان: "يجب أن يعرف أبو قيس والشباب أن الوطن ليس حجراً أو زجاجة مولوتوف. الوطن قضية سياسية". ولأن الوطن هو كذلك فالسياسي يخطط لهجوم سلمي على إسرائيل.
لا يقوم سؤال من أسئلة المعنى الفلسطيني بمفرده، لا في هذه الرواية ولا في سواها، بل بالاشتباك مع سؤال أو أكثر، إن لم يكن مع الأسئلة جميعاً. فسؤال الوطن يتشكل أيضاً عبر سؤال الانتفاضة أو سؤال الزمن أو سؤال السلام، وأولاً وأخيراً، تتشكل الأسئلة جميعاً بسؤال الفن.
فالزمن ـ مثلاً ـ كما يحدث المحامي: "كالكرة أينما تضع إصبعك تكون نقطة الارتكاز". وعندما يستعيد أبو قيس قول المحامي على مسمع من وحيد، يبدل كلمة الزمن بكلمة التاريخ، مضيفاً: "ونحن ضربنا كرتنا بيد حائرة جبانة، وارتدت عن حجر صوان، وطارت بعيداً كأنها باز تحرر من سيطرة صاحبه".
أما الانتفاضة فهي بالنسبة للراوي ثورة بيضاء، والنجاح في معياره هو في إجبار العدو على خوض المعركة بشروطنا. أما بالنسبة لهادي صاحب مكتب الجسر للصحافة والإعلام، والذي تزوج من اليهودية اليمنية أرنونا، فالانتفاضة ليست للقضاء على الطرف الآخر (الإسرائيلي)، بل وسيلة لتحقيق المساواة معه، وقوتها هي باحتفاظها بصورة جوليات أمام داود.
من الانتفاضة الأولى إلى الانتفاضة الثانية الآن، يتصادى السؤال، ليس في التعبيرين السابقين وحسب، بل فيما يمايز بين ماجد القائد الفتحاوي في العين، وبين الراوي وحيد. فبالنسبة للأول: " الانتفاضة حياتنا. إذا ماتت متنا وإذا نجحت نجحنا". أما وحيد فيقول: "عشنا قبل الانتفاضة، وسنعيش بعدها سواء نجحت أم فشلت"، ويضيف، ولكن ليس على طريقة هادي داعية الجسر بين الشعبين، أن الانتفاضة "ليست إلا مرحلة من مراحل النضال يمكن أن تفشل كغيرها، ولكنها ستبقى إضافة نوعية إلى المخزون الثوري الفلسطيني". وإذا كان سؤال السلام يتشظى فيما تقدم، ولم تكن أوسلو قد أسفرت بعد، فهو على الطرف الآخر من الجبهة المحقق الذي يمثله ضابط المخابرات الإسرائيلي (أبو النمر) كما هو الخديعة التي يمثلها يوسي في استمالته لوديعة وجهارة دعواه: "السلام كالحب، يجب أن ينبع من داخلنا ولا يفرض بالقوة من قبل السياسيين". لكن يوسي يتكشف عن عميل للمخابرات الإسرائيلية، توسل حب وديعة والزواج منها ليخرق التنظيم، ويؤدي دوره في إجهاض الانتفاضة.
تجلو الرواية ما تجلوه من الماضي وبخاصة من حاضر الانتفاضة، عبر حيوات شخصياتها، ولتتدفق أسئلة المعنى ـ المقاومة في الحياة اليومية، فأبو قيس يحمل من ماضيه العبارة التي صفعته بها المرأة الروسية في تشرنوبل، عندما كان يحارب في صفوف الألمان: "أنا لست ضحية ولن أقبل الاستسلام". والشيخ عبد الله ضد الانتفاضة لأنها ليست على طريقته الإسلامية، على العكس من الشيخ محمد الذي كان يحب وديعة مثل ماجد. وهنا نعود إلى واقعة يوسي التي أرادت أن تكرر زواج هادي من أرنونا. فإذا كانت المخابرات الإسرائيلية أو سواها قد أجهضت حمل إيمان المسلمة ـ أرنونا اليهودية السابقة - من هادي، ثلاث مرات، كيلا ينجب زواج السلام هذا، فماجد الذي لم تستجب لـه وديعة، بسبب خبرها مع يوسي، يرفع الخيار بين الخيانة وحكمها (الإعدام) وبين تنفيذ وديعة لعملية ستؤدي إلى استشهادها، وهنا تترجع عبارة هادي الذي استنكر عملية قرية العين ضد العدو: "ما أسهل أن نتهم أحداً بالخيانة في هذه الأجواء المشبعة بالدم والكراهية والغاز المسيل للدموع".
هل أرادت الرواية أن تقول إن المرأة تدفع الثمن دوماً، وفي الأرضين: أرض الميعاد وأرض المعاد: وديعة مثل أرنونا؟
تلك هي تعقيدات الانتفاضة، لأنها تعقيدات البشر. فالجاسوس محمد الوهدان يُقبل منه ما لا يُقبل من وديعة على الشبهة والاحتمال. أيكون ماجد ينتقم منها لرفضها لـه؟ وماذا إذن عن العلاقة الحرة بين أم إسماعيل الملقبة بـ(أم الشباب) وأبي قيس، على مرأى من قرية العين، وبخاصة الشيخ عبد الله؟
إذا كانت الانتفاضة تعيد تشكيل البشر، فهي بخاصة قد أعادت تشكيل شخصية الراوي وحيد. فهذا الذي كان يردد: "لا أقدر على الالتزام"، لا بالتنظيم ولا في الأدب، هذا الذي خرج من السجن وآب إلى حي الروازن من قريته، بعد استشهاد شقيقته، مردداً: "أنا سجين: انتقلت من سجن إلى آخر، من دهاليز ذاتيتي إلى دهاليز العين"، هذا المثقف سيستجيب لأبي قيس في تحويل رواية غسان كنفاني (رجال في الشمس) إلى مسرحية. وستُعْرَض في المغارة، ووحيد ينخرط في تدبير الفخ ليوسي. وهو الذي يخطط لإفشال نسف الإسرائيليين للمغارة التي هي الماضي والحاضر ـ فلنتذكر مغارة يحيى يخلف في روايته (تفاح المجانين ـ 1982) ـ حيث يسفر المفصل في تحول وحيدة، بعدما تراكمت الخطى السابقة، وإذ بوحيد يعمل مع (فتح) مع أنه ليس منظماً فيها، ويأخذ بنظرية أبي قيس (الأدب في خدمة الثورة)، ويشارك ـ لأول مرة ـ في مظاهرة.
من قبل أهدى وحيد إلى أبي قيس لغته المكسرة، فهو كاتب يكسّر اللغة، كما يكسر أبو قيس الحقائق. يقول: "عربيتي ليست عربيتي. عربيتي تكسرت تحت جنازير الدبابات في عام الهزيمة". لكن الزمن فعل فعله فيما بين هزيمة 1967 وشباب وحيد، وبين الانتفاضة وكهولته. وها هو يعيد كتابة الإصحاحين الثالث والرابع من السفر التوارتي (راعوث)، ليتابع ما ابتدأه هادي بعدما أخفق جسره، وراح يكتب التوراة من جديد، مبتدئاً بالإصحاح الأول والثاني من ذلك السفر الذي يروي قصة إيمان التي تسمت هذه المرة بخديجة، فإذا بنا في زمن شارون ومكتب الجسر ولغة روائية أخرى، تنضاف إلى ما عددنا من لغات هذه الرواية التي تنكتب على مرأى من القراءة، ولا تخفي اللعب عنها. فمنذ البداية، يسجّل وحيد في مفكرته أنه وجد في قصة أبي قيس موضوعاً عظيماً لرواية عظيمة، وذلك في 1987/12/25 أي في مستهل الانتفاضة. أما تصور الرواية، فهو: "تبدأ الرواية من نقطة غامضة يجري استكشافها من خلال قصص حلزونية. دع صاحب النقطة واجلس أنت بعيداً، وقلّم أظافرك كإله جويس". وعلى وقع حكاية الأنفاق في قاع وادي قرية العين، يكتب وحيد في مفكرته أيضاً، عازماً على أن تكون الرواية أنفاقاً وجيوباً غامضة.
ولقد جاءت الرواية متصادية بقوة مع هذا التصور، سوى موقع الراوي، الذي لم يكن دائماً بعيداً كإله جويس، ولم يكن التصادي الذي جهر به الكاتب، مع رواية (لماذا نحن مباركون) لكوي آرمة، بأفضل حالة.
متابعة:
إذا كان المثالان السابقان يجلوان تشكيلين جماليين مختلفين للمعنى الفلسطيني، أي للمقاومة بما هي جسد وحجر وسلاح وسياسة وكتابة وأرض.. كما أسلفنا، ففي المشهد الروائي الفلسطيني تشكيلات أخرى، كثيرة متفاوتة، لعنصر ـ إشارة أو أكثر من عناصر ـ إشارات المعنى. ومن ذلك أذكر الشخصية الروائية: ابتداءً بالأم، من (أم سعد ـ 1969) في رواية غسان كنفاني التي تحمل هذا الاسم، إلى (أم الروبابيكيا) في (سداسية الأيام الستة ـ 1969 أيضاً) لإميل حبيبي، و(أم محمود) في رواية (العشاق ـ 1977) لرشاد أبو شاور، و(أم أمير) في رواية (الصورة الأخيرة في الألبوم ـ 1980) لسميح القاسم، و(أم الشباب: الست زكية) التي هي أم الجميع ومستودع الأسرار في رواية (باب الساحة ـ 1990) لسحر خليفة ـ وللتو رأينا أم إسماعيل التي حملت هذا اللقب في رواية أحمد حرب ـ و(أم عارف) في رواية (البدد ـ 1999) لنعمة خالد...
وهذه أيضاً شخصية البغي التي تسمت بخضرة في رواية سحر خليفة (عباد الشمس ـ 1980) وبسنيورة في رواية يحيى خلف (نشيد الحياة ـ 1985). وهذه شخصية الشابة المثقفة الثورية التي تسمت بشهد الصمادي في رواية ليانة بدر (بوصلة من أجل عباد الشمس ـ 1979) وزينب في رواية رشاد أبو شاور (الرب لم يسترح في اليوم السابع ـ 1979) وندى في رواية (بوابة الجنة ـ 1998) لحسن سامي اليوسف.
في التشكيل الروائي لكل شخصية من هذه الشخصيات ينبض المعنى الفلسطيني ـ المقاومة، من رشق الجنود الصهاينة بالحجارة إلى هتك القيم الذكورية، من الحب إلى الجنس إلى زغرودة الشهيد الزوج أو الابن أو الأخ أو الحبيب، إلى الاستشهاد، كما رأينا مصير وديعة. وإذا كان التشكيل الروائي لشخصية الفدائي قد كابد من ضغط الأيديولوجي على الجمالي، فقد تبدل الأمر مع الانتفاضة الأولى بخاصة، ليتابع ما أبدع أميل حبيبي في شخصية الملثم في رواية (إخطية)، وحسبي أن أذكر هنا الملثم حسام في رواية (باب الساحة).
لقد تواتر اشتغال الرواية الفلسطينية على القرن العشرين الفلسطيني، وتمفصل ذلك الاشتغال على المفاصل الفلسطينية الحاسمة في هذا القرن: من ثورة القسام (رواية وليد أبو بكر: الحنونة ـ 1985) مثلاً، إلى حرب 1948 (رواية يحيى خلف: بحيرة وراء الريح ـ 1991، روايتا رشاد أبو شاور: أيام الحب والموت ـ 1983 والعشاق 1977، رواية حسن حميد: السواد ـ
1988، رواية محمود شاهين: الأرض الحرام ـ 1983) إلى حرب 1967 (بوصلة من أجل عباد الشمس والعشاق أيضاً، رواية أفنان القاسم: الكناري ـ 1993، ثلاثية نبيل خوري: حارة النصارى ـ 1969، رواية توفيق فياض التسجيلية: المجموعة 778 ـ د.ت)...
وما دام الغرض هنا ليس التدقيق في ذلك الاشتغال الروائي، فلنعجلْ إلى الحرب الفلسطينية الإسرائيلية، إلى الانتفاضة التي أعطت لدعوى التخمر والمسافة عن الحدث في كتابة الرواية، معنى جديداً هو الامتلاء، فنجا أغلب ما جاء من الكتابة عنها روائياً مما وقع فيه أغلب ما جاء من الشعر، وكان ـ بالتالي ـ للرواية قول آخر في معنى الشهادة أو الكتابة عن زمن الكتابة والكاتب.
فبالإضافة إلى رواية أحمد حرب، تلك هي رواية عزت الغزاوي (الحواف ـ 1993) ورواية ادمون شحادة (الطريق إلى بيرزيت ـ 1989) بحدود ما توفر لي من الاطلاع على ما صدر في الداخل الفلسطيني ـ ورواية حسن سامي اليوسف (بوابة الجنة). ورواية يحيى يخلف: (نشيد الحياة)، وفي الصدارة: رواية (باب الساحة) لسحر خليفة التي رسمت منذ رواية (عباد الشمس ـ 1984) بنت أبو سالم وهي ترشق الحجر في المظاهرة، كما رسمت من يرى في ذلك عاراً وشناراً، ومن يقول "بعد شرف البلد والأرض لا قيمة لأي شرف".
في هذا الاشتغال على المفاصل التاريخية الحاسمة، قامت التعبيرات الروائية عن عناصر جمة، من اليهودي والصهيوني (رواية سميح القاسم: إلى الجحيم أيها الليلك، رواية حسن حميد: جسر بنات يعقوب ـ 1996، والمثالان اللذان فصلنا فيهما لإميل حبيبي وأحمد حرب) إلى استثمار العامية الفلسطينية (روايات سحر خليفة بعامة كمثل فاقع) إلى استثمار التقوقع الفلسطيني إزاء الفضاء العربي (طيور الحذر إبراهيم نصر الله مثل ثلاثية نبيل خوري) إلى المكان الذي هو كالعامية: وشم، وسواء أكان مخيماً في الداخل كما في الشتات، أم سواهما في الوطن.
خاتمة:
كل ذلك وسواه مما فاتنا، ومع التوكيد على محدودية التمثيل التي ضربنا، يؤشر بقوة إلى أن تحرير المعنى هو قوام الرواية الفلسطينية في فورتها الحداثية خلال العقود التي راد لها جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني، ليرفد الجمالية التي أبدعها المشهد الروائي العربي، ولاقى بها في مطلع القرن الحادي والعشرين، الرواية العالمية، أياً يكن شأن عقد الصغار والترجمة وسواهما من العقد التي تحكم مصيرنا كصراعٍ مع الصهيونية.


 الهوامش:
(1) منشورات بيسان برس، ط1، قبرص 1985.
(2) دار الأسوار، ط1، عكا 1990.

 
 

 

عرض البوم صور تيتوف بارة   رد مع اقتباس
قديم 18-10-07, 12:34 PM   المشاركة رقم: 15
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: Aug 2006
العضوية: 9261
المشاركات: 1,076
الجنس ذكر
معدل التقييم: تيتوف بارة عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 10

االدولة
البلدNauru
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
تيتوف بارة غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : تيتوف بارة المنتدى : كتب الأدب واللغة والفكر
افتراضي

 

الفصل السابع:
التعبير الروائي في سورية
عن الحرب اللبنانية


مقدمة:
لعل الحرب، سواءً أكانت أهلية أم ضد عدو خارجي، تكاد أن تكون الهواء الذي يتنفسه واحدنا، ليس في بلاد العرب وحدها، بل في أرجاء العالم.
والحرب ـ كفعل سياسي ـ تستند على المتخيل الذي يرسم علائق الجماعة بالسلطة والدولة والمقدس، وبالمعايير الخارجة عن معايير المجتمع، وبالطبع: علائق الجماعة ببعضها. ولعل هذا وحده يوفر للرواية أن تلعب دوراً كبيراً في نقض ورسم القيم(1). بيد أن المزالق تحف هنا بالرواية، حيث ـ كما يعبر ارفنج هاو بصدد الرواية السياسية بعامة ـ يمكن أن يكون للأفكار السياسية دور غالب، فيما الرواية تكابد أن تكون شهادة، وحلبة أو معرضاً للأطروحات وللصراع الأيديولوجي. وقد لاحظت ذلك وسواه في الكثير من الروايات العربية التي اشتغلت على الحرب، مما صدر في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي(2). وفيما يعني التعبير الروائي في سورية عن الحرب اللبنانية التي شبت في أواسط سبعينيات القرن الماضي، واضطرمت بخاصة حتى النصر في الجنوب اللبناني، يُلاحظ أن الصدى الروائي لهذه الحرب قد تردد فوراً في سورية، عبر ما كتبت غادة السمان وقمر كيلاني وياسين رفاعية. وقد تنبهت غادة السمان لما يثار في مثل هذه الحال عن حاجة الرواية بعامة إلى النأي عن حدث كالحرب. بدعوى التخمّر، ودرءاً للهاث خلف المرحلي، فقالت بصدد روايتها (كوابيس بيروت)(3): "إن ولادة هذه الرواية في لحظة الصخب والعنف، لا يعني بالضرورة أنها غير مختمرة، كما إن إصدارها ـ أو حتى كتابتها ـ بعد عشرات السنين، لا يعني بالضرورة أنها
اختمرت"(4).
غير أن صدى الحرب اللبنانية أخذ يندر في المشهد الروائي في سورية، فهل كان ذلك لانصراف الشطر الأهم من ذلك المشهد، خلال العقدين الماضيين، إلى الحفر في زمن أبعد من زمن الحرب اللبنانية، أم لأن هذه الحرب اشتبكت في صدر الكتابة الروائية بما تفجر به العقدان الماضيان، عربياً وكونياً، أم لماذا؟
غادة السمان: ليلة المليار
توالي رواية (ليلة المليار)(5) لغادة السمان الاشتغال على الحرب اللبنانية، عبر المفصل الحاسم في الصراع العربي الإسرائيلي صيف 1982. ولئن جاءت رواية (بيروت 75)، فجر الحرب، ورواية (كوابيس بيروت) صبيحة الحرب، فقد جاءت رواية (ليلة المليار) ظهيرة الحرب، بعد أربع سنوات من ذلك المفصل الذي جعلته الرواية زمنها: 1982. وكما فعلت الكاتبة في الرواية الأولى، تنكبت للسيري الذي آثرت في الرواية الثانية. وكما فعلت في الروايتين السابقتين، تابعت في الثالثة لعبة التداعي المنظم، إذ ميزت دخيلة الشخصية الروائية من تأملات ونجوى واسترجاع لقصص الماضي، بالحصر بين الأقواس وبسواد الخط. وقد بدا ذلك أقل إقناعاً وأكبر اصطناعاً كلما تعلق بالماضي، أو سرد قصة شخصية ما، فتطاول مذكراً بفعل القصة القصيرة في الرواية، على غير النحو الذي تبدى ـ غالباً ـ في رواية (كوابيس بيروت). وبما أن الفعل الأساس في الحاضر الروائي هو حفلٌ ما (ليلي غالباً) فقد صحّ في بناء (ليلة المليار) ما قاله رغيد الزهران: "لكل سهرة أقصوصة لطيفة.. والمسلسل لا ينتهي" (ص188). وقد ذيلت الكاتبة كثيراً من ذلك بعبارة تؤكد أن راوي الأقصوصة ـ المونولوج لم يقل شيئاً، كأنما تذكر القارئ بأن ما تقدم ليس غير تداعٍ.
تبدأ رواية (ليلة المليار) بمقتطف من التعاويذ السحرية التي ستتوالى منها مقتطفات أقصر وعديدة طوال الرواية. وقد أثبتت الكاتبة في خاتمة الرواية ما سمته بـ (إقرار بأسماء المراجع) مبينة أن سائر التعاويذ السحرية في الرواية منقولة حرفياً عن أصولها في المكتبة الشعبية العربية، وهي: (النور الرباني في العالم الروحاني ـ الجواهر اللماعة في استحضار ملوك الجان في الوقت والساعة ـ تسخير الشياطين في وصال العاشقين ـ اللؤلؤ والمرجان في تسخير ملوك الجان ـ الكباريت في إخراج العفاريت).
أما المقتطف الأول والأطول (ص7 ـ 8) فقد جاء كفاتحة للرواية، سرعان ما سيتبيّن غرضها، في تقديم العالم الروائي اللامعقول، كمرجعه، بينما اقترنت المقتطفات التالية بشخصية الفلكي والساحر والمنجم (وطفان). وتبدو (ليلة المليار) في هذه الممارسة للعبة التناص ـ وفي سواها المحدود بشعر البياتي وأغنية ومثلين شعبيين ـ متواضعة، شأنها في لعبة التداعي، مرجّعةً بدايات الرواية الحداثية، حيث ينتأ النظام في التداعي، وتظل المتناصات ناتئة، فلا تندغم في النسيج الروائي.
إثر المقتطف التعاويذي ـ الفاتحة، ترسم الرواية مشهد هرب خليل الدرع وزوجته كفى البيتموني وولديهما من بيروت، في السابع من حزيران 1982. وتوقّع للمشهد لازمة (إنهم يطاردونه)، كما ستوقّع لـه فيما بعد لازمة أخرى، ولسواه لازمة جديدة، فالكاتبة حريصة في رواياتها جميعاً على توفير هذا الإيقاع.
لقد رفض خليل الدرع الفرار عند نشوب الحرب اللبنانية عام 1975. لكنه منذ نجا من مجزرة المقبرة، ركبه الإحساس بالمطاردة، حتى إذا جاء الغزو الإسرائيلي للبنان (1982), وتفاقم إلحاح زوجته على الهرب، اندفع إلى المطار متسائلاً عما إن كانت ستقتله قذيفة العدو أم رصاصة الصديق، وممتلئاً بوحدة الجميع، الصديق والعدو، في مؤسسة واحدة ذات فروع. وحين ينتهي تعذيب المطار بين إغلاق وانتظار وطيران، يصادف في الطائرة نديم الغفير، وهكذا نتعرف على ثلاث من شخصيات الرواية الكثيرة، والتي ستبدأ بالظهور فور الوصول إلى جنيف، وتشتبك حيواتها خلال صيف الحرب، وهو زمن الرواية الذي سيبطئه السرد حتى تقارب الرواية نهايتها، فتشرع تلاعبه برشاقة، عبر رحلات خليل من مدينة إلى مدينة، ومنذ فجر ليلة المليار إلى صبيحتها، إلى نهايتها.
والحق أن رسم تلك الشخصيات يبدو إنجاز الرواية الأكبر. فنديم الغفير ثري مغترب يبيع كل شيء: الأسلحة والشعوب والطائرات والنفط.. وهو ذراع رغيد الزهران، ابن التاجر الشامي سامي الزهران الذي صعد في سماء المال والأعمال، منذ التأميمات التي شهدتها سورية خلال الوحدة مع مصر (1958 – 1961).
يعيش رغيد الزهران تحت وطأة التوهم بسعي أحد لقلته. وفي قصره الذهبي (الرحم الذهبي ـ قلعة الذهب..) في ضاحية جنيف تقوم الأحداث الروائية الكبرى، من حفلات ومؤامرات. ولئن كانت الرواية قد قدمت الكثيرين من الأثرياء العرب المهاجرين، فقد جاء رغيد الزهران كشخصية رئيسة، يدور حولـه الآخرون في ذلك العالم الفاسد المفسد، وتتعلق مصائرهم به كمصالحهم، مما عرته الرواية في تصويرها لخبايا النفوس ولعلاقات أولاء فيما بينهم، ومع سواهم، وفي بلدانهم وسواها.
جنى رغيد مليونه الأول من شرائه تمثالاً لجمال عبد الناصر، صنعه الفنان السوري مفيد النيلي، وجاء رغيد بمن صنع نسخاً منه، وباع النسخ إلى كبار التجار، ثم قتل الصانع والبائع، وانطلق إلى ملياره الأول الذي تحقق مع بداية الرواية نحو ليلة الاحتفال.
بهذا الإنجاز تمضي الرواية موازية بين خط الإعداد لليلة الموعودة، وخط الحرب ـ الحاضر، وخط الحرب وغير الحرب ـ الماضي. هكذا نتعرف على دنيا ثابت التي كانت دارسة للفن ورسامة ترسم أجساد الرجال العارية، فيتصدى النقاد لها، ويناصرها أمير النيلي. لكنها بزواجها من نديم الغفير، تدير ظهرها لذلك كله ثمانية عشر عاماً، قبل أن تصحو على إدمانها لماء النار ـ الكحول ـ وفقدانها للجوهر ـ الحوار، وغربة ولدها وابنتها عنها، وتعلقها بتعويذات وطفان، فتحاول في الحاضر الروائي أن تنقذ ما أمكن من نفسها وأسرتها.
وهكذا نتعرف على ليلى السباك التي تزوجت من فرنسي وطلقته كما طلقت ماضيها الثوري وحبها لأمير النيلي، لتغدو (للي سبوك) المتفرغة لرغيد الزهران، والمنظمة لحفلة ليلة المليار الأول. وكما برعت الرواية في تصوير تعقيدات وثراء شخصية ليلة السباك ودنيا ثابت، ستوالي في تصوير شخصية كفى التي تتحول في فضاء رغيد الزهران إلى كوكو، وهي تجري خلف نداء المال ونداء الجسد، وتتطوح من حضن شاب إيطالي عابر، إلى حضن نديم الغفير فالثري الآخر عادل فالشيخ صقر، فيما يتواصل العجز الجنسي لزوجها خليل، منذ أذاقه الأصدقاء الثوريون في الوطن ما أذاقوه.
بالبراعة نفسها جاء تصوير الشخصيات الأخرى من الرجال. فالشيخ صقر يجدد شباب رغيد في هوسه بالذهب وفي إذلال الآخرين، كما يجدد شباب أبيه الشيخ صخر في جنون اللذة وهدر الثروة. وعلى النقيض منهما يبدو الشيخ هلال ـ شقيق صخر. أما أمير النيلي الذي باع أبوه التمثال لرغيد، كي يمكن الابن من مواصلة التعليم، فهو المفكر الوحدوي الذي تربى خليل الدرع على مؤلفاته، والذي رفض أن يعمل لدى رغيد في المجلة التي كان يعتزم إصدارها لتدجين المثقفين والتحلّي بزينتهم. وأمير النيلي ينظم في جنيف تظاهرة عربية احتجاجاً على غزو إسرائيل للبنان، وعلى الصمت العربي، وستشارك في التظاهرة دنيا ونسيم، بينما ترفض ليلى ذلك، فيكتمل يأس أمير منها.
تجعل الرواية من أمير قطباً معارضاً لرغيد، فهما يتنازعان العديد من شخصيات الرواية. وإذا كان طموح ليلى في أن تكون رجل أعمال ـ لا امرأة أعمال ـ ينجز ارتدادها عن ماضيها وعن أمير بالانتماء إلى رغيد، فإن فعل أمير يجعل دنيا تتراجع عن طريق رغيد في تحولات عسيرة ترصدها الرواية بدقة، وبخاصة في محاورات ـ نجوى دنيا وفتاة اللوحة التي رسمت فيها نفسها عندما كانت الفنانة الشابة النقيضة لعالم رغيد ولعالم زوجها نديم.
وكذا نرى أمير يستقطب نسيم الذي يعمل في خدمة رغيد، ويواصل دراسته الجامعية بعون من أمير، ويتوعد في سره رغيداً بالقتل. ولأن أمير كان نقيضاً لأمثال رغيد في الوطن، فقد حاول أولاء اغتياله في سويسرا، لكنه نجا، فحاول رغيد من بعد اغتياله، ونجا ثانية، بينما قضى بسام دمعة بدلاً منه، وهو المحامي الذي جرّ عليه الأذى في الوطن ما كتب بعد هزيمة 1967 (كتابه: نقد العقل السلفي) وفرّ في بداية الحرب عام 1975، مسكوناً بهاجس الموت، فعطله الهاجس عن تحضير الدكتوراه، ثم ظفر به في جنيف.
أما خليل الدرع فهو القطب الروائي الآخر الذي تقدمه الرواية بامتياز، منذ كان (مبدع قراءة) يعمل في مكتبة، ويرفض دفع الخوّة لعصابات الأصدقاء والأعداء، متمسكاً بالوطن والاستقلالية وأولوية الديمقراطية، فيناله من شر الجميع نصيب، ثم يتلوث بمستنقع رغيد، ويعمل سكرتيراً للشيخ صقر، ويرافقه من مدينة أوروبية إلى مدينة، حتى تأزف ليلة المليار، ويأتي نبأ مصرع ابن الشيخ صخر في انهيار المدرسة التي شيدها رغيد في بلد الشيخ، عندئذ يطلب رغيد من خليل أن يحل محل نديم الذي سيكون عليه أن يتحمل عبء انهيار المدرسة، لكن خليل يرفض، كما يرفض أن يمد يده إلى يد رغيد الذي أصابته الذبحة القلبية، فارتمى في مسبحه الذهبي، وقضى. أما خليل فلن يلبث أن يعود إلى بيروت مع ولديه، تاركاً زوجته التي ترفض أن تعود "قبل أن تعود بيروت إلى نفسها". وسوف يرى خليل وولداه قرب شاطئ بيروت باخرة تقل مهاجرين آخرين فيقول: "أين المفر؟ هربت مثلهم وانتهى الأمر. ركبت ذلك الاتجاه، وهرولت صوب الشاطئ الآخر للدنيا، ولم أغادر حلقة الكوابيس.. كنت كمن يتأرجح في المسافة بين كابوس وآخر" (ص489). وفي بيروت، وإذ يصادف خليل خيط الحاجز الإسرائيلي، يرى نفسه بين مئة وسبعين مليون عربي أمام الحاجز، ويتساءل عما إن كان ذلك الخيط الرفيع ـ الحاجز سيتابع نموه عبر شوارع مدن أخرى، ويستحيل شبكة عنكبوتية.
عبر شخصية خليل تواصل (ليلة المليار) إبداع صورة الحرب في (كوابيس بيروت) ككابوس. فخليل يسمي العيش اللبناني في الحرب بكرنفال من الكوابيس، وبالكرنفال المتوحش، ومنذ البداية يقول: "سقطنا في الحلقة المفرغة، وعاد الحلم ليلد كابوساً فكوابيس جديدة.. لقد صادروا الحلم وزوجوه القمع، فكانت الكوابيس نسلهما الأكيد"(94). وبيروت كما يرسمها خليل رقعة شطرنج، مقبرة، سويسرا الشرق التي تحترق، وهي، كالفضاء العربي، مسرح اللامعقول، ولا فكاك لأحد فيه من الجنون.
بين نشوب الحرب والحاضر الروائي سبع سنوات فصلت بين عامي 1975 – 1982، وصنعت، بحسب الرواية، مجتمعاً يبدو من الخارج مثل قطيع من النمل يدوسه عملاق، ومن لا تصيبه الضربة القاتلة يتابع دربه ضاحكاً، لكنه يستمر. وسنرى خليل في نهاية الرواية يضفر بين قوسين كلمة (الأهلية) كصفة للحرب، وهذه هي المرة الوحيدة التي تظهر فيها هذه الصفة، وعلى هيئة متشككة في كونها (أهلية) ومؤكدة ما تواصل طوال الرواية من عبارة (الحرب اللبنانية)، حيث تستبطن الإشارة إلى عروبة الحرب، وهو ما ستقلّب الرواية فيه القول كما في الحرب نفسها، على ألسنة الشخصيات جميعاً، وباختلاف مواقفها، ليصفع السؤال الأكبر من يتحدثون أعواماً عن عروبة لبنان، فماذا عن عروبة بقية العرب؟.
إن بيروت هي الجحيم بالنسبة لكفى. والفلسطينيون في لبنان هم العدو الأول لرغيد. وبحسب الشيخ صقر، فالكل مخدر. وبحسب السيرك العربي الذي ترسمه الرواية في المدينة الخامسة من المحطات السياحية للشيخ صقر وخليل، فالمثقفون والمثقفات الذين يصدحون لنصرة فلسطين ولبنان (الشاعر أرشيد النعيماقي والمفكر الوحدوي منير النوادمي) يتمرغون في ركاب المخدرات والملذات التي يوفرها لهم المال العربي في المهاجر الأوروبية. وباختصار لا تبدو الغربة أهون شراً من عيش الحرب في الوطن. وإذا كانت هذه الحرب سوق السلاح لرغيد وأمثاله من أثرياء العرب المهاجرين، وسبب غربة الجميع، فهي تلاحق الجميع في ملجئهم السويسري. وكما تعري الرواية الأثرياء والزعماء المتقاعدين ونجوم الثقافة، من عرب المهاجر، تعري الآخرين. وسيأتي ذلك بخاصة عبر شخصية الشابة بحرية الزهران التي أودى القصف الإسرائيلي بذويها، وجاء بها نديم إلى جنيف، توهماً بقرابتها لرغيد. فمجيء بحرية سيخضّ الجميع، من دنيا التي يذكرها فيها شيء ما بشبابها وبفتاة اللوحة، فتسعى لحمايتها، إلى رغيد الذي لا يرد لها طلباً، وقد شعر معها بأميته الإنسانية وبحاجته إلى لغة مختلفة، لكنه كلما غمرها بالذهب ذعرت وأمعنت في خرسها... إلى الفلكي وطفان الذي يخشاها ويحاول حرقها، فيقضي في النار وتنجو. وليس نسيم الذي يتعلق ببحرية آخر من ستشغله من شخصيات الرواية، وهي التي فرضت بحضورها أخبار بيروت، مما كان نسيم وخليل وأمير يتنسمون، بينما كانت كفى ـ مثل ليلى ودنيا ـ تتهرب منها، لكن حضور بحرية جعل بيروت حاضرة، من أخبار التلفزيون ـ هل نتذكر الإذاعة في رواية كوابيس بيروت؟ـ إلى انصعاق سهرة رغيد بالشابة التي تلفع عريها بجراحها، والتي سيقايض رغيد عليها أخيراً الشيخ صخر مقابل صفقة إنشاء المطار، لكن تضافر نسيم ودنيا وأمير ينجو ببحرية، لتتلامح لخليل في نهاية الرواية، وهي تركض بين خرائب بيروت مثل الطائرة الورقية.
لقد جعلت الرواية من شخصية بحرية رمزاً مشعاً، كما جعلت من تمثال جمال عبد الناصر الذي سيفلح نسيم أخيراً في سرقته وردّه إلى أمير النيلي. والمهم هنا أن بحرية جاءت كياناً حياً بخرسه وجراحه وسلبيته، بقدر ما جاءت رمزاً يفعل فعله العجائبي في الآخرين، وعلى رأسهم الفلكي وطفان، والذي تقدم الرواية قصصه (شقيقة الفدائي غيلان وأمه المجنونة وحبيبته عنبرة وشقيقاه كنعان وبرقان اللذان صرعتهما الحرب...)، وتُلْبس الرواية غيرته من بحرية بالحب، والقتل بالانتحار، متوجة البوليسية التي تنتأ، كما ينتأ الحرص على إرسال القول في دوائر الحرب، مما تكرر نعته ليلة وكفى ودنيا بالكلامولوجيا. ولعل هذه الكلامولوجيا هي ما جعلت خليل بخاصة يخطب مرة بعد مرة، ففي عشاء (الأنتيم) يصرخ بالمحتفلين: "لقد ساهمتم في تدمير بيروت لخلق نموذج تخوفون به شعوبكم" ثم يبلبلهم بإنشاده (يا ظلام السجن خيّم). وفي هذياناته تحت وطأة الكوكائين كما في صحواته الصامتة الصاخبة، يعلل الحرب بالخطة المحكمة لتكفير الناس بمقدساتهم تمهيداً لمرحلة الاستسلام، حيث يهرب واحد إلى السحر وآخر إلى المال وثالث إلى المخدرات ورابع إلى الغربة، فثمة قناص في غير بيروت، يترصد قلب كل عربي منتظراً لحظة ضعف تسلل عبرها رصاصة لا مرئية. ولا يفوت خليل أن يرسل القول في العالم الذي يتابع هذيانه العصري والعصر ـ وسطوي، ولا يبالي بالقيم الإنسانية التي يتشدق بها.
وقد يكون نتوء هذه الكلامولوجيا جاء أقسى فيما تكرر من ابتداء عباراتها بأدوات التوكيد (إنّ: مفردة أو مشفوعة بالضمائر: إني، إنه ـ لقد)، وبخاصة في حوارات الشخصيات، لكن التعويل الكبير على الحوار الدقيق والرشيق، خفف من وطأة الكلامولوجيا ومن وطأة السرد بعامة، وإن كان إقناعه ظل يتخلخل كلما طال في تداعيات الشخصيات. ويبقى أن نشير إلى أن (ليلة المليار) بفضائها السويسري، تنضاف إلى الروايات العربية التي اشتغلت على وعي الذات والعالم في فضاء الآخر الأوربي. واللافت هنا ما جاء على لسان دنيا من أمر عقمها وزوجها بعد الهجرة من الوطن، ومن أمر عقم معظم المهاجرين. ولنتذكر ـ بالمقابل ـ إصابة خليل بالعجز الجنسي في الوطن، واستمرار العجز في سويسرا. وخليل نفسه يقول عن سويسرا "هذه جنة مستعارة لا نستحقها لمجرد أننا ندفع ثمنها من نقود بقية فقراء الشعب العربي"(ص132).
واللافت هنا أيضاً أن بديع وندى، صديقي خليل وكفى، وفي رحلة الأسرتين إلى (أنسي)، سيكشفان عن نموذج آخر من فعل فضاء الآخر في الذات. فبديع قرر مقاطعة الوطن، ولن يعود إليه، بينما ترى ندى سويسرا جحيماً ـ كما ترى كفى بيروت ـ وتفضل عليها العيش في أي مكان. وإلى ذلك، نرى أمير النيلي، إذ يفتق في سوءات الغربة في سويسرا، يخاطب نفسه: "لا تكن جاحداً. لا تفتش عن العيوب في كل مكان غير وطنك (...) لولا أمنها لذبحك الجلاد الجوال". وفي المحصلة، تبدو (ليلة المليار) أهجية وتعرية بامتياز لمآل ذلك الشطر من الذات (الأثرياء والمثقفون) في فضاء الآخر الذي لم ينج هو نفسه من الأهجية والتعرية، شأنه شأن الذات والوطن.
ياسين رفاعية: الممر
كنقلة غادة السمان من القصة القصيرة إلى الرواية، تأتي نقلة ياسين رفاعية في رواية (الممر)(6). ومثل روايات غادة السمان، تتوسل (الممر) الأقواس والسواد لتمييز التداعي. وقد استبد السرد بهذه الرواية، فشكّل فصليها الأول والثالث عشر، وغالب فصولها الخامس والتاسع والثاني عشر والسابع عشر، وعلى نحوٍ نحا بالرواية صوب التقليدية، كلما أضاء الوصف ـ وهو الغالب ـ ولم يكد يدع عتمة في النص.
يتحدد فضاء الرواية بالممر من بيت محمود شرف، مدرس اللغة العربية المسلم العازب، والذي يسمي الحرب بالجنون، كما فعلت (كوابيس بيروت)، وكما ستفعل روايتا مروان طه مدور (جنون البقر) وأحمد يوسف داوود (فردوس الجنون). وبالنسبة لمحمود، فطرفا القتال مغرر بهما من جهات خارجية معادية، والحرب بالتالي هي "حرب لا غالب ولا مغلوب، وهي أتعس الحروب وأشدها انتحاراً، إذ لا ينتصر أحد الفريقين على الآخر، ولا يخسر إلا الأبرياء مثلنا" (ص56).
تلجأ إلى بيت محمود مضطرة (رنا) الشابة المسيحية المتزوجة من مديرها السابق (ميشيل)، حيث يُقتل السائق الذي يقلها، فتقودها المصادفة إلى ذلك البيت الذي يقع في منطقة الوسط، كبيت رواية (كوابيس بيروت). وكرواية (كوابيس بيروت) ستكون الأذن وسيلة الاتصال بالخارج، وليس العين. وسيفعل الحصار بهاتين الشخصيتين فعله عبر الزمن الروائي الذي تباطأ به السرد، فجعل لثلاثة أيام ثلاثة أرباع الرواية، وترك الربع للأيام الباقية.
أما محمود فيتحول من الموقف الحيادي والسلبية تجاه الحرب قائلاً: "إنني نادم الآن لأني عاملت الوطن بحياد تام، لم أنتسب إلى حزب، لم أحاول أن يكون لي رأي ما. كنت أحب الوطن حباً عذرياً كما يقولون. أحبه هكذا دون أن أسهم ولو بنذر يسير في واجب حمايتي لـه. لو أننا نحن الذين نعاني عشقاً مع الوطن نظمنا أنفسنا لما حدث كل ما حدث. لكن مصيبتنا نحن الأكثرية الصامتة أننا على الحياد (...) لو أتيح لي أن أخرج حياً هذه المرة، لكان هذا الممر سهماً للتغيير، للثورة الحقيقية على الطائفية، وحكم الست والجارية"(ص 108 – 109).
وأما رنا المعجبة بنفسها، والتي تنشد إعجاب الآخرين، ولا يشغلها في بداية لجوئها إلا زوجها وابنتاها، فلن يلبث الحصار أن يوحّد جسدها بجسد محمود، فينجلي ذلك الترميز للممر بالسهم، حيث معادلة الحب والجنس بين المختلفين طائفياً، والتي لعبتها من قبل رواية قمر كيلاني (بستان الكرز) وسواها.
لقد قُصف البيت أخيراً، فاضطر محمود ورنا إلى الخروج، وسرعان ما صُرع محمود، ليختم التعبير المتواضع لهذه الرواية عن الحرب اللبنانية، وبخاصة فيما جربت أن تلعب من التناص، إذ خصّت الفصل الحادي عشر للمقاطع المنقولة من رواية باربوس (الجحيم)، وفيما يعادل عشر الرواية تقريباً. وقد يكون في ذلك، وفي غلبة قصر الجملة وتدافعها، ما يومئ إلى محاولة الرواية في أن تملص من التقليدي، لتنحو منحى الحداثي، لكن جملة اللعبة الروائية في السرد والزمن والخطاب، غلَّبت على الرواية التواضع.
ياسين رفاعية: رأس بيروت(7)
تتعنون هذه الرواية باسم واحد من أحياء مدينة بيروت. ومنذ البداية إلى النهاية ستؤكد ما يومئ إليه عنوانها من انتساب إلى تلك الفئة من الروايات التي تشتغل على الحي أو الحارة، وهو ما كان العلامة الفارقة في الهرم الروائي الذي شاده نجيب محفوظ، فضلاً عن أن رواية ياسين رفاعية (رأس بيروت) كثيراً ما تتركز في البناية التي يقيم فيها الراوي ـ البطل، من ذلك الحي.
وبضفر ما هو متوفر من سيرة الكاتب، إلى ما سنرى في الرواية، تبدو بامتياز كرواية سيرية، مثلما هي رواية حي، وهذا ما تؤكده كلمة الغلاف الأخير للرواية، فيما تذكر من عيش الكاتب السوري ياسين رفاعية للحرب اللبنانية في بيروت التي قطن منها حي رأس بيروت منذ عام 1970.
قسم الكاتب روايته إلى ثلاثة أقسام هي: ماذا فعلت بنا الحرب؟ ـ سرداب أبو الجماجم ـ الحصار. ولم تأت القسمة متوازنة، فالأول يقارب نصف الرواية. ولعل القسمة لم تكن تعني الكثير للكاتب في تنظيم الرواية، فساق الفصول متسلسلة دون اعتبار للأقسام. وإذا كانت البنية العامة للرواية قد قامت على السيري وعلى الفضاء (الحي والبناية)، فقد غلب على البنى الجزئية للفصول تعلقها بحدث محدد. وقد يستغرق حدث أكثر من فصل، كما تتناثر أحداث ثانوية في بعض الفصول على هامش الحدث المركزي، لترسم جملة الفصول في الأقسام حيوات الشخصيات الكثيرة، الأساسي منها والثانوي، في زمن الحرب، ودوماً تحت مظلة الراوي بضمير المتكلم.
تبدأ الرواية بالتذكر الذي يستدعي السيرية كما تستدعيه، ويحرض عليها كما تحرض عليه، فنقرأ: "ما زلت أذكر ذلك الحزن الذي انتابنا يوم اختفى ذلك الطفل"(ص13). وإذا كان حدث اختفاء الطفل عبد القادر الذي يوزع الصحف على سكان البناية، سيشغل الفصل الأول، فالذاكرة ستبدأ بالاشتغال منذ هذه البداية، مرسلة الحنين إلى الماضي في شعبتيه: شعبة ما كانته بيروت عندما اختارها الراوي وطناً بعد سورية، وعندما كانت اليوتوبيا التي يحلم بها الفنانون، وشعبة طفولة الراوي عندما كان يأتي من دمشق إلى بيروت ليبيع فيها الكعك، ولم يكن من حدود بين البلدين. أما الوصل بين فعل التذكر والفعل السيري في الرواية فيبدأ أيضاً من هنا، فبائع الكعك صار كاتباً من غير أن يقصد، والآن هو يتفجع على تعاسة الكاتب، العامل ابن العامل. والآن أيضاً يرسل الراوي الكاتب نبوءته، فمنذ بدأ يقرأ ويفهم صار يرى المستقبل مظلماً، وها هو الإنسان قد صار خرقة معصورة، وغصناً مكسوراً ورقماً هامشياً بيد السلطة.
في الفصل الرابع عشر تأتي نهزة الراوي ليسرد قصة حياته عبر الحوار الذي استغرق الفصل، بينه وبين المحقق أبي الجماجم الذي يبادر الراوي في بداية الفصل: "قصّ لي قصة حياتك". وقد استطاعت مكْنة الكاتب من صياغة الحوار وإدارته، أن تنأى بالفصل عن بعض ما آذى مواطن الاستذكار الأخرى، سواء في المباغتة التي تغدو استطراداً، أو في طغيان النوستالجيا والتقريرية السردية، كما بدا في استعادة بداية الحرب في بيروت، وبما خُص به حي رأس بيروت من ذلك، أو في استعادة صورة بيروت قبل الحرب في الفصل الثامن، بالمقارنة مع ما آلت إليه، ومن ذلك مشهد القمامة في حاضر الحرب. وكما سنرى، كان المرحوم مروان طه المدور، الكاتب السوري، قد أبدع في استثمار (القمامة) في روايته عن الحرب اللبنانية أيضاً (جنون البقر) والتي صدرت عام 1990، قبل رواية رأس بيروت بسنتين.
في هذا التعالق بين السيرة والذاكرة، يأتي من الحاضر دوماً ما يستدعي الماضي، فميل الراوي أثناء اختطافه وسجنه إلى البدوية عايدة ـ التي تطهو طعام السجناء، ويحرم عليها الخروج من السجن كيلا يفتضح أمره، وهي أيضاً إذن سجينة ـ هذا الميل يستدعي قصة حب الراوي لابتسام في عهده الشامي ثم لقاؤه بأمنية التي ستغدو زوجته: "راحت الذاكرة تمد أمامي شريطها الطويل، تذكرت ما لم يخطر على بالي من قبل"(ص228). وحاضر السجن، كلحظات شتى من حاضر الحرب، يتطلب النوستالجيا: "هل كنا نحلم؟ كانت بيروت القديمة جوهرة، تذكرت أيام عزها.. تذكرت ممارستنا الكاملة للحرية التي افتقدناها.."(ص244)، وكذلك: "كانت بيروت واحة ديمقراطية حقيقية في تلك الصحراء الشاسعة.. أين هي بيروت؟ هل كنا نحلم"(ص245). ومن الطريف أن الراوي نفسه، عندما يُفرج عنه ويمضي مع الرائد الفلسطيني زكريا، يندهش للأحياء الفقيرة التي يرى، والتي لم يكن يعرف أن في بيروت مثلها، على الرغم من إقامته الطويلة فيها وعشقه المشبوب لها. والراوي كالرواية، يكرر بذلك معزوفة التأسي على البهاء والديمقراطية في بيروت الماضي كما شاعت في مبدعات جمّة، ولكن ثمة بالمقابل ما مضى إلى نقضها بتقشير السطح والحفر في الأعماق، كما فعلت روايات غادة السمان وأحمد يوسف داوود ومروان طه المدور من الكتاب السوريين، وسواهم من الكتاب اللبنانيين.
ليس فعل التذكر في رواية (رأس بيروت) وقفاً على بطلها (أبي بسّام) الذي ضنّ باسمه واكتفى باللقب. فالدكتور أسعد يتذكر ما عاش منذ الطفولة مع الجار المسيحي أبي جميل، ويتذكر نشأة بنت هذا الجار (سوزان) مع وليد، ابن الجار المسلم أبي إبراهيم. والحاضر هو الذي يستدعي تلك الذكريات، إذ يهدد مجهولون أبا جميل بالرحيل عن الحي المسلم، ويخطفون بكره ويقتلونه عندما يتريث في الرحيل. ووليد وسوزان الجامعيان عاشقان بمعرفة الجميع، يهدد الرحيل خروجهما على سكاكين الطائفية. والملحوظ هنا أن سلطة الراوي ترمي بوطأتها على الدكتور أسعد إذ يتذكر، بخلاف ما يبدو مع ذكريات شخصية أخرى هي أبو زهير. ولعل السر أن يكون في طبيعة هذه الشخصية، كما سنرى.
لقد حفلت الرواية بعشرات الشخصيات الثانوية العابرة التي ندر أن كان لحضورها جدوى، إلا أن تشتت السرد وتوقعه في الاستطراد وتثقل عليه. وعلى عكس ذلك كان حضور وتميز أغلب الشخصيات الأساسية، على الرغم من تفاوت أدوارها ومن تظللها جميعاً بمظلة (أبي بسام).
وأول ذلك يأتي في شخصية ابن العاشرة عبد القادر الذي يبدو في غيابه أكبر حضوراً من سواه في حضوره العابر أو غير العابر. فالرواية تبدأ باختفاء هذا الطفل الذي بات ينوب عن والده في توزيع الصحف على سكان البناية التي يقطنها الراوي. ويقوم الفصل الأول من الرواية على وقع اختفاء ـ اختطاف الطفل على الآخرين. وعبر ذلك تترامى أشتات الحرب في الخاص والعام من العيش. فاليوم تمضي به طاولة الزهر، والجريدة صارت كل شيء في حياة سكان بيروت. على العكس من عصبوية إذاعات الميليشيات المتكاثرة ـ وبالمناسبة: يلعب المذياع والإذاعة دوراً حاسماً في رواية مروان طه المدور: جنون البقر ـ. أما القتال المتبادل فمستمر "وليس في هذا النفق الأسود أي أمل"(15). إنها ـ بحسب الراوي ـ حرب غير مبررة، وعبث وموت ودمار، ولا من رادع، وقد تسللت إلى الطفولة، ليس باختطاف عبد القادر وحسب، بل بلعبة الحرب التي يلعبها ابن الراوي (بسام) مع أقرانه، فالحرب تملأ حاضر هذا الطفل وترسم مستقبله: "عندما سأكبر سأذهب إلى الحرب".
بقدر ما ينظم هذا الفصل الأول من الرواية حدث اختطاف عبد القادر، بقدر ما يشتته تقديم الجميع ونثار الذكريات: من محي الدين صديق الطفولة والبدايات في دمشق والذي أعد الدكتوراه في بيروت (هل هو الناقد المعروف محي الدين صبحي؟) إلى أبي إبراهيم المؤمن المحبوب والدكتور أسعد ولوريس ومنير وأبي زهير و.. ولن يكون لحضور الحرب في استهداف مركز الأبحاث – رغم الدلالة هنا على وحشية الحرب المستهدفة للثقافة – أو اكتشاف الناس لخبرة التمييز بين الأسلحة من أصواتها، من فعل غير التشويش على الحدث المركزي: اختطاف الطفل. وإذا كان زمن هذا الفصل (يوم واحد هو يوم الاختطاف) قد ساعد على ضبط أفعال التشتيت، فهو سيعينها في فصول كثيرة تالية، كلما تقافز أو انبهم وغدا: ذات ليلة، ذات يوم، في صباح أحد الأيام، شهور عديدة، ذلك اليوم.. وسيبدأ هذا الأمر منذ الفصل الثاني الذي يتابع ذيول اختطاف الطفل عبد القادر إلى الحدث المركزي التالي، وهو محاولة اختطاف طفل الراوي (بسام) نفسه، ولأن الخطف سمة كبرى لهذه الحرب العمياء، فسيعاود في الفصل الثالث عبر اختفاء الجار (أبو المجد)، إبان دخول القوات السورية إلى لبنان وتوقف الحرب لفترة عادت بعدها أكبر شراسة.
يظل حضور التدخل السوري عابراً في هذا الفصل وفيما يليه، على العكس مما نرى في روايتي قمر كيلاني (بستان الكرز) وأحمد يوسف داوود (فردوس الجنون). بالمقابل ينشغل الفصل الثالث بتنظيم سكان الحي لحراستهم له، ولسكنى أسرة مهجرة مطرح أبي المجد الذي يظهر فجأة، ولكن في أحسن حال. وسنرى بين فصل وآخر كيف سيتردد على بيته، وكيف تثور شكوك الحي حول عمله الجديد وثرائه، وحول علاقته بالمهجّرة (أم خالد) التي شغلت البيت، وصولاً إلى زواجهما، ثم اختطافه واختفائه مرة أخرى. وفي هذا الخط الفرعي من خطوط الرواية يرتسم بقوة ملمح من ملامح تطور الشخصيات بفعل الحرب التي أشاعت التهجير وتجارة المخدرات وأمر المافيات والعصابات. وفيما يخص (أبو المجد وأم خالد) يأتي ذلك بأقل قدر من الكلام، تعويلاً على الإشارات والأفعال، ولعل في ذلك سر الرسم البارع لتطور الشخصيتين بفعل الحرب.
أما أبو زهير الذي يتلبسه أخوته من الجن والعفاريت، فيبدو أكثر شخصيات الرواية تميزاً. فمن حكاية ربحه لورقة اليانصيب إلى حكاية سيارته إلى دوره في حاضر الحيّ، تنهض شخصية دينامية، كان قميناً بالرواية أن تستثمرها لتفجير السرد وإطلاق المخيلة، كي تعيد تركيب الواقع ـ الحياة اليومية في الحرب، بدلاً من الانجرار إلى التقريرية والشرح في غير موضع. ولقد قال الراوي نفسه في أبي زهير إنه كان "في كل مرة يروي حكايا يسرح فيها خياله كما يشاء، وفي كل مرة يتذكر ويضيف أحداثاً أخرى. كان بارعاً في الرواية".
حين ينشب القتال بين منظمتين في حي رأس بيروت، ويُقتل من أبنائه خضر الشاب، يأتي بجثته أبو زهير مردداً من لغة الجن والعفاريت ما يحفظ، ومذكراً بالمتناصّات الطويلة العديدة من هذه اللغة في رواية غادة السمان (ليلة المليار). لكن هذا المؤاخي للجن والعفاريت يتقدم إلى نهايته التراجيدية في الفصل الأخير من الرواية ـ بعدما اقتحم الإسرائيليون بيروت ووقعت مجازر صبرا وشاتيلا ـ معتلياً صخرة الروشة الشهيرة قبالة الشاطئ، مردداً على من اجتمع حولـه يقينه بفناء البشر وخلود الصخرة، ثم ينقذف إلى البحر منتحراً، فينقذ خاتمة الرواية من لهاثها خلف أحداث الحرب عام 1982، كما أنقذ الفصل الرابع بنقله لجثة خضر، والفصل السادس بذكرياته. وكأن الراوي لم يستطع الخلاص من سطوة أبي زهير، فكانت آخر عبارة في الرواية ترجيعاً ناتئاً لما قال في الصخرة، في محاولة زائدة للترميز الذي أجهضه الشرح، إذ نقرأ وقد عادت الحرب للاشتعال: "إلا أن صخرة الروشة ظلت في أعماقنا رمزاً بأن الحياة أبقى وأقوى"(ص345).
مثل هذا الأذى الذي تسببه سلطة الراوي يبدو بخاصة مع شخصية الدكتور أسعد. فعندما يدفع أحد طفلي القصاب (الجزار) الشاب أبي علي شقيقه من الشرفة العالية، وتهز الفاجعة الأبوين وجيرانهم، تنطلق محاضرة الدكتور أسعد حول النسيان. ولا يخفف الحوار من وطأة المحاضرة، كما لا تخفف من وطأة الراوي قصة موسى والخضر والتناص الطويل مع القرآن.
وهنا يلتمع في الرواية مثل ما كان مع شخصية أبي زهير. فالخبل يظهر على أبي علي، والرواية تقنع بالقليل مما يفتحه ذلك لها من إمكانية تطور هذه الشخصية. وإذا كان الأمر عينه يظهر مع شخصية المسيحية الشابة (ريتا)، فقد ظل حظها أكبر.
في الفصل الثامن، وقد توقف القتال وعاد الراوي إلى عمله في المجلة في الحي المسيحي (الأشرفية)، تدعو الجارة إيفون إلى عشاء يحضره صديقا الراوي: الضابط الفلسطيني أبو محمد والكاتب الفلسطيني (أبو الطيب) وآخرون من الجيران بينهم سكرتيرة في شركة سياحية، تومض بينها وبين المسلم أبي الطيب شرارة الحب، على وقع المدافع التي عادت تقصف أثناء العشاء.
في الفصل الحادي عشر، وقد أغلقت المجلة وانتقل الراوي إلى العمل في معهد أكاديمي لأحد معارفه، يلتقي أبو محمد مصادفة مع أبي الطيب وريتا. ومن المطعم إلى البار ـ حيث متنفس الشباب والرقص لكأنه ليس في البلد حرب ـ ترتسم شخصية ريتا كما يرتسم الحب، على الرغم من أن أمها لا تريد لها أن تهوى رجلاً من غير دينها. لكن ريتا الفلسطينية الجذور، كما ترسمها الرواية، مستقلة وشجاعة، لذلك يحسبها الحي لعوباً. وريتا ترى أن الذين يذبحون البلد منقادون إلى مؤامرة خفية، وأن الجميع متورطون. ولأن أبا الطيب اصطحبها إلى الخطوط الأمامية، ولغرابتها، فحص أبو محمد شكه بجاسوسيتها حتى نقضه. وسيظل العاشقان يمضيان نحو الزواج، على الرغم من التناقض الطائفي، حتى تبدأ حرب 1982، وتستشهد ريتا في المستشفى الذي قصفه الإسرائيليون، فينطوي أبو الطيب على الفقد، وهو الذي كان في بداية تلك الحرب يصيح بالراوي في مقر الإذاعة المتنقلة: "هذه حربنا الأولى معهم. في كل مرة يحارب العرب نيابة عنا ويهزمون"، فإذا به بعد فقد ريتا، ينيخ للهزيمة التي أعلنها أخيراً رحيل المقاومة الفلسطينية عن بيروت.
تصرّ الرواية على مناجزة الطائفية، فوليد وسوزان يتزوجان ويبحران إلى قبرص، وتندحر الطائفية التي انتصرت برحيل أبي جميل المسيحي من الحي، بعد تهديده باختطاف ابنه وقتله. وتنتصر الطائفية مرة أخرى عندما يصطحب الراوي بسيارته جاره المسيحي جوزيف في العودة إلى الحي، فيعترضهما حاجز مسلم وقد جن جنون القتل على الهوية، ويقتل شاب ذلك المسيحي، لأن أحداً مسيحياً قد قتل أبا الشاب وأخاه، فَحُقَّ في هذه الحرب قول الدكتور أسعد للراوي إنها ليست من صنع الله "إنها حرب الشيطان لأنها حرب لا عدالة فيها، وحرب لا إنسانية، واستمرارها استمرار للعبة الشيطان".
هذه النقدية للحرب بعامة، وللطائفية من عناصرها، تغدو أكبر حضوراً في القسم الثاني من الرواية، والذي يبدأ بسفر زوجة الراوي الشاعرة إلى لندن وعودتها، وبالاستطراد إلى قصة والدها وقصة الجارة الأرمنية.. ثم يكون اختطاف الراوي، حيث تتألق الرواية في رصد دخيلته وهو يكابد الخوف، ويقلب أسباب اختطافه ما دام لا يتعاطى السياسة، وعمله الصحافي فقط في الشؤون الثقافية، وما دام لم يعلن رأياً بالحرب، وشأنه شأن عامة المحسوبين على (الأكثرية الصامتة). وحين يبدأ التحقيق ترتسم بخصوصية وحذق شخصية المحقق (أبو الجماجم) الذي ينتفض: "هؤلاء الذين يشكلون الخطر.. الكتّاب والشعراء.. هل تعتقد أن العمال وكناسي الشوارع وبائعي البرتقال يشكلون خطراً.. هؤلاء الناس مساكين.. الخطرون هم المثقفون"(ص166).
ليس أبو الجماجم سوى محقق فلسطيني كما سينجلي بعد نقل الراوي إلى سجن أبي أكرم، تحت الأرض. أما التهمة فهي الخيانة والعمالة، لأنهم ضبطوا تسجيلات للراوي مع مثقفين كان حاورهم بمقتضى عمله. لكن السر الذي سيطلق سراح الراوي حين ينجلي، هو ما دس به على الراوي لدى المنظمة الفلسطينية، جاره أبو توفيق الذي يعمل مخبراً للمنظمة. ولذا سيردد الراوي على الرائد زكريا الذي يعتذر لـه أن الثورة مثلها مثل بقية الأنظمة.
وقد رسمت الرواية في سجن أبي أكرم صورة أي من سجون أي نظام عربي عتيد، وحققت الصورة خصوصيتها بما مر من أمر البدوية الطباخة عايدة مع الراوي.
لقد داهم الراوي في زنزانته كابوس الدم: "بدأ بحر الدم يمشي إلى أن بلغ صخرة الروشة. رأس بيروت الصخري المشدود كالعملاق وسط البحر.. غمر بحر الدماء البحر الأزرق، وسرعان ما اصطبغ بلون الدم. لكن الصخرة ظلت مشرئبة بعنقها مشدودة إلى أعلى.. وكذلك ظللت أنا طافياً، أرى هذا المشهد ولم أمت، فصرت أبكي (...) الدم.. الدم. هذه مدينة ستغرق بدماء أبنائها.. فكن شاهد هذا العصر أيها الشهيد.. كن شاهد هذا العصر"(ص215). ولئن كانت الحرب قد توقفت في الداخل لتتواصل على الحدود في الجنوب اللبناني حتى التحرير، فالراوي الذي لم يصر شهيداً، قدم شهادته على ما عاش من الحرب منذ بدايتها حتى ذروتها عام 1982، فكانت رواية (رأس بيروت) تجاوزاً كبيراً لما سبق للكاتب أن كتب عن الحرب اللبنانية في رواية (الممر)، وإضافة هامة إلى المدونة الروائية للحرب اللبنانية بخاصة وللحرب بعامة.
أحمد يوسف داوود: فردوس الجنون:
جاءت رواية أحمد يوسف داوود (فردوس الجنون)(8) بعد سنوات من توقف الحرب اللبنانية، لتشتغل عليها، كما على مقدماتها وملحقاتها، في لبنان وفي سورية، ولتترك علامة فارقة في كتابة صاحبها الروائية وغير الروائية ـ فالكاتب أيضاً شاعر ومسرحي وناقد ـ ولعلها أيضاً علامة فارقة فيما تنعطف به الرواية العربية منذ عقد على الأقل، نحو أفق آخر.
تعلن (فردوس الجنون) منذ البداية عن مغامرتها الفنية، عبر فصلها الأول (بيان الأبطال)، حيث مشاركة القارئ في اللعبة، ولعبة السارد الجماعي، ولعبة استئجار كاتب لتدوين الرواية، وسوى ذلك الكثير من اللعب الذي ينشط في حالة ـ حالات الجنون، ويرمي بطرف خيط أغلب عناصر الرواية التي ستشتبك فصلاً بعد فصل، قبل أن يبلغ الجنون تمام العيش السوري اللبناني، على تخوم قرن جديد وألفية جديدة.
ومنذ هذه البداية تشتغل الميتا رواية، فترى الرواة يعتذرون منا ـ من القراء ـ عما يسمونه (الحذلقة) التي قد نجدها في الرواية، وفي حواراتهم على وجه الخصوص، يرد الرواة هذه (الحذلقة) إلى الكاتب (المستأجر). وفي موقع آخر يخاطبنا الرواة موضحين أن إحدى سقطات هذه الرواية هي أن الجنون فيها يبدو لأبطالها سخيفاً إلى درجة محزنة، لهول الجنون الواقعي. وفي موقع ثالث نرى الرواة يبحثون عن ربط منسق، يحكم أوهامهم كي تجيء روايتهم مسلية، لكنهم يعترفون لنا ـ نحن القراء ـ أنهم لم يصلوا إلا إلى تفكيك خاسر، وهنا يدفعون بالسؤال الحاسم: "تفكيك أي شيء؟" و"أي تفكيك؟".
هل هو زمن الحرب وفضاء الحرب المنداح من لبنان إلى سورية ومن سورية إلى لبنان، ومنهما إلى العالم في نهاية القرن العشرين؟
هل هو أيضاً تفكيك البنية الروائية التقليدية، وتوسل تعددية الأصوات واللغات والتهجين والذاكرة والعجائبية والشهرزادية، من أجل بنية روائية جديدة بالغة التفكك وبالغة التماسك، تسخر من الفلتان النقدي ـ تيمّناً بالفلتان الأمني إبان الحرب ـ وتستدعي رعب المؤسسة الكافكاوية بقدر ما تستدعي رعب المؤسسة الغيطانية (في رواية جمال الغيطاني: حكايات المؤسسة) وسواهما من الأعمال البالغة الواقعية والبالغة التخييل، وكيف جاء ذلك كله؟
يقرر الرواة في بيانهم الافتتاحي أن تكون الرواية رواية (بليغ) تقريباً. وهذه الشخصية الروائية (بليغ حمود) ستتولى أمر الرواية ـ تقريباً ـ ولكن من دون أن تكون (البطولة الروائية) لها أو لسواها، فالحرب اللبنانية هي البطل الذي ينازعه البطولة العيش السوري، فبليغ حمود سوري ريفي، يفرض عليه الشبح الذي يقبض على الخناق السوري أن يعمل في ركابه، في قوافل التهريب، فيفرّ بليغ من هذا الذي تكتفي الرواية بلقبه (الأستاذ) وبلقب من صاهر: (البابا) الذي يتربع على رأس السيبة، كما تنقل الرواية من المسرحية الرحبانية الشهيرة.
لقد هرب بليغ من جنون ليقع في مصيدة جنون آخر. منذ أن تولى اللبناني (سرحان) تهريبه، فَغَدَوَا مطاردين في الجرود، حيث يحرص سرحان في واحدة من إشاراته الساخرة للقوات السورية، على "أن نتجنب شرطتكم وعسكركم ورصاص رشاشاتنا ومدافعنا وبقية ألعابنا المضادة".
في حمأة الحرب، حيث القوات السورية وجميع الأطراف اللبنانية، والفلسطينيون، يقود سرحان بليغاً إلى ضيعته. وعبر ذلك يقص سرحان قصته، منذ دراسته الفلسفة وتخصصه في ديوجين الكلبي، إلى أن نشبت الحرب وجاءه الإسكندر المكدوني معجباً به، بعدما تخلى عن معلمه أرسطو، وقال له: اطلب، فطلب: "أريد أن تحل عن خلقتي أنت والميليشيا التي معك".
تكاثُرُ (السكندرات) جعل سرحان يعود إلى ضيعته متسائلاً عما يفعل بالفلسفة في عالم صار فيه العقل عار صاحبه. لكن الضيعة أنكرته، إذ سلّحه اسكندر الضيعة، وأمرهُ أن يطلق، فالطوائف اختلفت، والأوامر "تقتضي بالإطلاق على ثلاث طوائف في ثلاث قرى مجاورة، ولكن بكل الحنان الأخوي اللازم، يعني إلى القلب مباشرة". ثم تعقدت أوامر الإطلاق واتسعت فشملت الفلسطينيين والجيش السوري والجار القريب والآخر البعيد، وخصوصاً خصوصاً: "سائر الكائنات التي لا تطلق معنا، أو تقصر بواجب الإطلاق في جبهتنا التي صارت وطناً لا ينقصه إلا نشيد ليدخل في الجامعة العربية".
رفض سرحان الحرب وصاح" "هذه قذارة سياسية"، ولبى نداء جميلة التي رملتها الحرب. كان سرحان مختفياً في شجرته، فلجأ إلى بيت جميلة، وباتا امرأة ورجلاً وحيدين في حضرة الموت، كأنهما الشاهدان الأخيران على العالم "يدفعان الموت عنهما بالإمتاع والمؤانسة، فيما هما يرتجفان.. ثم ينتهيان صديقين، مهمتهما تجديد الحياة، حسبما فعل آدم وحواء في بداية الخلق".
كانت جميلة تطبطب على عضو سرحان قائلة في إشارة إلى أطراف الحرب: "أليس أهم من كل انتصاراتهم؟". لكن مجزرة البلطة تقع وتودي بكثيرين، فيدرك سرحان أن شايلوك وحده من يسكن قلوب وضمائر الاسكندرات وأزلامهم، ويتساءل "أي رب محارب هذا؟ رب غريب محارب لم أجده إلا في كتب اليهود": ويطلق النار.
يوم المجزرة حملت جميلة من سرحان. لكن فرحته التي أطلقت رصاصته، قتلت جميلة، وعصف الجنون بسرحان، فطرد (القشة) مجنون الضيعة، لأن الضيعة لا تتسع لمجنونين. ونقرأ: "ولأن الرب المحارب هو الذي قام بقص الأشرطة الحريرية على سائر الجبهات، إيذاناً بحرية انطلاق كل ميليشيا في مستنقع الدم الذي تختاره بحثاً عن التعايش الأخوي الديمقراطي: من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ومن أدنى "تحت" إلى أعلى "فوق" مرسوم في أغنية وديع الصافي (لبنان يا قطعة سما)، فقد تهيأ لي أن القشة ربما كان مبعوثاً سماوياً لتقصي مدى الإخلاص في مجرى الحقائق الملعونة".
قرر سرحان أن يفتح جبهته الخاصة: جبهة عشق، فوجّه بارودته إلى جميع الجبهات، لكن الجبهات وضعته مرغماً في الحياد، وبات معروفاً، يتنقل بينها، حتى كانت حرب 1982، فيشكر سرحان اليهود على اجتياحهم، لأنهم منحوه أفقاً صالحاً لجبهته "وإلا لما عرفت بتاتاً ـ وسط العرير الأخوي ـ إلى أين يجب أن أوجه رصاصي، دون أن يقتلني تأنيب الضمير".
جاء اسكندرات اليهود، كما يروي سرحان لبليغ، لاغتيال مطارات هذه الأرواح، بحجة أنها أرض ميعادهم، وقد قضوا ثلاثة آلاف عام وهم "يظبطون الأسس الفلسفية لأصولية الحروب". وبمقتضى فلسفة الأرض المحروقة التفوا حول الضيعة إلى بيروت، فأخليت الضيعة، وتمترس سرحان في مطار الروح ـ بيت جميلة، يقاتل وحيداً. منتصراً بهزيمته، وضد نظام عالمي برمته، وظل صامداً على الطريقة العربية الفولكلورية.
قبل خروج سرحان من الضيعة شرّفها (الأخوة) باعتبارها نقطة قنص "وكادوا يديرونها حرباً عالمية لبنانية حول من السبّاق إلى تحرير الضيعة، ثم اُتفق على إبقائها منطقة محايدة، حتى لا يعرقل أهلها عمليات القنص الأخوي في الأماكن الأخرى".
صراع الأخوة على الضيعة أخّر سرحان عن اليهود، فركب بارودته كجواد دونكيشوت، وكالقصبة التي تركبها أية شخصية في رواية (فردوس الجنون) في جنونها. وفيما تحول عم سرحان من محمود إلى الشيخ محمود، وصار يدعو الله كطرف محايد في الحرب، بجنونه الخاص، انطلق سرحان ليقذف اليهود في البحر "على طريقة أحمد الشقيري، وما حدا أحسن من حدا". إلا أن عصابة مهربين سوريّين اعتقلته، وأقنعه كبيرهم أن "التعاون العربي هو طريق النصر من الوجهة الاستراتيجية". وطلب منه أن يعمل كشافاً لهم في مسيرتهم إلى الحدود، ففر منهم مصمماً على أن يقتل بخاصة "أولئك الذي سيعترضون طريقي في اللحاق باليهود إلى بيروت".
في هذه الطريق يلتقي سرحان بزهرة عند النبع. وزهرة التي هرب زوجها إلى الحرب، وتخشى أن تكون هزمت إلى النهاية، تخترع الأعراس لتبقى متماسكة، فالحرب حاضرة دائماً في كل بيت، وبعض الناس شاخ دون أن يتجاوز الثلاثين، وبعضهم هلهله الحصار، لكنهم ليلة العرس قرروا أن يخرقوا الجدار ـ الكابوس.
يقول سرحان لزهرة: "أنا لست مرتزقاً فأعمل لحساب أحد، ثم إنني مستقل عن الحرب الأهلية"، ويقول: "أنا بصراحة أحارب الغزاة اليهود الآن"، فتقول زهرة: "وماذا لو قلت لك إن الغزاة جاؤوا من ضمائرنا الآن؟". وإذ يؤكد لها أن هناك من سيقف مع اليهود ضد لبنان، تقول ساخرة: "نصف من هذا الطرف ونصف من ذاك، ومجد الخراب الأخير للبنان، من واشنطن إلى المحيط فالخليج!.. لبنان صار "قطعة سما" فعلاً، ولكن بلا مخلص". وبدلاً من بيروت، تدفع زهرة بسرحان إلى سليمان، فمن هو هذا الراهب؟
إنه الأستاذ الجامعي للفلسفة، والذي جعلته الحرب يعتزل، ويكاد يكون التعبير الأكبر للفعل الفكري والصوفي في الرواية. فمنذ البداية، في (بيان الأبطال)، وجواباً على ما آلت إليه الحياة في هذا العصر "كمجمع قاذورات وفظاظات شيطانية" يقول سليمان: "فكر في قشرة الموز الأولى". ولئن كان الأبطال جميعاً في بيانهم، وبعضهم من بعد في بعض مواطن الرواية، لن يفتأ يبدي ويعيد في قشرة الموز والورطة الحتمية الأولى التي تذكّر بالوجودية العتيدة، فإن سليمان يظل "بطلاً" مثقفاً آخر، وهو الذي كان قبل الترهب والحرب مشغولاً بإيضاح أفكاره عن (فلسفة الخساسة العالمية) أو ما كان يسميه: (التصفية الفلسفية لارتقاء القذارة). لكنه مضى، أو مضت به الحرب، إلى معتزلـه، ليؤسس رهبانية جديدة مستقلة عن سائر الأديان والمذاهب والكنائس، معاتباً الرب ومعللاً صنيعه بقوله: "في أوطان لا تنتج غير أصناف العلكة الرديئة والزعامات ومحارم التمسيح، كيف يمكن حتى لأرسطو أن يتفلسف؟". ويرسم سليمان بانوراما للراهن العربي والكوني، معبراً بقوة وجلاء عن رؤية الرواية، في قوله: "أنا أرى الكائنات والأشياء كلها قد صارت مجرد نسخ بالفوتوكوبي عن أصول قليلة مخيبة.. العواصم.. البلدان.. النياشين.. المافيات.. الميليشيات.. الزعامات.. السجون.. أمجـاد المهربين.. ابتسامات الجلادين.. تقنين التصفيق.. مدائح الخصيان.. شوارب أشباه الرجال.. بيانات الرفاه.. طرق التنقيب في المزابل.. حنان الخيانة.. العار الذي لا تزيله إلا محارم نينكس.. قبور الحرية.. بطولة اللصوص.. جرائد الأحزاب.. بيانات الحكومات.. المثل العليا والسفلى.. الحريم والحريم المضاد.. أوسمة الجنرالات.. مثلجات التكتيك.. حرائق الاستراتيجية.. سفالات المواعظ.. المسيرات المظفرة حتى الجحيم".
وإذا كان ما تقدم يعني العرب اليوم وأشباههم، فليس الكون كله أحسن حالاً، حيث بات الإيدز موحداً ومجانياً وبالأقمار الصناعية، وحيث باتت الأمراض الخبيثة عميلة، وتخصصت بقتل من بقي في رأسه ذرة عقل، أو في روحه ذرة شرف. وكل ذلك يجعل سليمان يتساءل: "أية فلسفة في الدنيا يمكن أن تبرهن أن الذباب الذي يطن في خطب الرفيق ريغان هو ذاته الذي يغني في برامج القديس غورباتشوف، ويدندن في تراتيل أحبار السلام أو تسابيح ملائكة الحروب التحريرية التي يجب أن تبدأ بالتحرر من المواطنين؟! فظاعة يا..".
تواصل الرواية بثها على لسان الراهب الدكتور سليمان أثناء لقائه بسرحان. فعندما يقرر الأخير أننا من يشعل حرائقنا، ويسأل سليمان عن سبب رغبته في تشغيل الرب عامل إطفاء عندنا، يجيب سليمان: " من الذي خلق النار؟"، ويدفع بسرحان إلى تلك المجدلية من طراز هذا الزمان، والتي لم يؤلف لها أحد بعد أسطورتها: زهرة، إحدى التعبيرات الغامضة عن قوة الحياة. ولأن جمعية (الإصلاح العام للأخلاق والدين والمجتمع) تقتل لوريس (لولو) التي تخدم الراهب وتعيش معه، يحمل سليمان رشاشه، بينما يبلغ الأمر بسرحان أن يقفل جبهته، وينهي ما يقص على بليغ، في إشارة ساخرة أخرى إلى التدخل السوري، وإلى طول ما استبد بالسرد، فيقول: "حكاية مملة؟ احتملتك كل تلك الأيام وأنت لا تحتملني نصف ساعة (..) كم صار مزاجكم رهيفاً، أنتم هناك، أشقاؤنا وراء الحدود". وسيقول فيما بعد في واحدة من غمزاته من السوريين: "أنتم هناك لديكم حشرية غريبة. من تظنون أنه ينصب أحدكم قيماً على أقدار جيرانه، أو على أقدار المخلوقات؟".
إثر ذلك يتولى بليغ أمر الرواية ـ تقريباً ـ فيسرد قصة طفولته ونشأته ومطاردته مع سرحان، ويبدأ الالتباس المتعمد بين سرحان وبليغ والشيطان، كما سيلي مع زهرة وهالة عبر لعبة العجائبي والتقمص.
ومن شطر مما يسرد بليغ لسليمان، ومن شطر مما يسرد لزهرة، ومن أشطار يرويها لنا، تقوم قصة طفولته، وبخاصة بذرة الجنون في أسرته، ووفاة أمه، وتسجيله على اسم الأم الثانية ـ زوجة أبيه التي ستتحفه بالشقيق عادل. ومن الضيعة إلى المدينة البحرية التي لا تسميها الرواية، تغدو بيروت الشيطان الخفي الذي يركض دائماً في دخيلة بليغ، ليس فقط لأن عمال الضيعة الذين يعملون في بيروت، يصفونها كما لو أنها الجنة، بل لأن والده رهن شقيقتيه لدى خواجا بيروتي، فعادت واحدة هاربة وملتاثة، واختفت الأخرى. وسيغدو هذا الاختفاء العقدة – المهماز التي تدفع بليغ في مهاوي بيروت.
أثناء لقاء بليغ وسرحان بزهرة وسليمان، يقطع الأول سرد قصته ليصور حضور رجلين وهالة التي تتلبس بشقيقته المختفية وبزهرة. وفي هذا العبور يأتي حديث الحشيش والقتل، ويقول أحد الرجلين: "بصراحة يا مدام، إذا كنا ننقل الحشيش أو ننصب الحواجز الطيارة، فليس من الضروري أن نصير أثرياء.. المسألة في كل جوانبها عملية وطنية.. نعم..!.. من يستحق الموت يجب أن يموت، ومن يجب إفساده لا بد من إفساده"، فتصيح هالة: "طز في وطنيتكم السافلة من لجان الأخوة وحواجز الخوّة إلى جبهات التحشيش".
تترك هالة والرجلان وسرحان بليغاً، مأخوذاً بزهرة التي اشترت شيطانه، وشيطانه هو تاريخ شخصي وعام، كشيطان الحرب المجنونة. وهنا يضيء السرد في اضطرابه حد (الجنون) شخصية ورمزية زهرة التي درست التاريخ في الجامعة، وتروي حكاية زوجها الشاعر وولديها الذين قتلتهم الحرب، وبعدما خسرت كل شيء فجرت مقر المارينز، وفرت لأن أمريكا تريد رأسها، وقررت أن تنسى كي تعيش. وزهرة ترى بليغاً بطلاً من هذا الزمان، مستعيرة من الشاعر الروسي ليرمانتوف عنوان رواية له، فيما يراها بليغ ساحرة أو كذابة، وينشغل بها عن غبطته (أهو البطرك الماروني؟) وعن الجنرال (أهو عون؟)، ويجزم: "ليست غريبة عني بتاتاً.. لقد عرفتها جيداً في زمن ما.. في
مكان ما..".
يروم بليغ المسلم وزهرة المسيحية الزواج، ويقلبان القول في الزواج والدين، ثم تغيب تاركة لـه أقلاماً وأوراقاً لتتفقد المعابر على "خطوط التماس التي تملأ الأرض كلها". وإذ تعود تحكم باستمرارية الحرب، فلبنان كالعالم، يختنق الآن بالغصص من سفرجلة الكذب. وكما ترسم زهرة الراهن "أنا لبنانية وأنت سوري، وكلانا يغص الآن بالسفرجل الذي استعجلنا في قضمه" ترسم أيضاً المستقبل "سنعيد إنتاج كذبتنا القديمة بكل أدواتها"، وتخاطب بليغاً:
"تعرف حضرتك أي انفجار اجتماعي سينجزه التعمير على الأسس القديمة وكذبة سوا ربينا".
يواصل بليغ فراره: "أريد جهتي" إلى بيروت، حيث يواصل بحثه عن أخته المختفية - عقدته. ويتردى سنوات قبل أن يعود إلى ضيعته، فيدفن أباه، ويحتفي الناس نفاقاً بعودته، ويكون شقيقه قد غدا ضابطاً. وعندما يؤوب إلى بيروت يعمل حارساً لكاباريه (تامارا)، حيث يلتقي ببقية شخصيات الرواية من قمة الهرم ومن القاع الاجتماعي: الصديق القديم صاحب هذه البطاقة: "أبو الشبك وشركاه. قبضايات للإيجار. خدمات سريعة للمنازل. دقة وإتقان. تخفيضات للمشتركين"، وشندور سفير (السعدان) المفوض والسائق الخاص عند قاض كبير، القاضي نفسه وزوجته ميرنا التي تطرز خيطان القضايا الملوثة، ليغسلها الزوج الذي يتهم زوجته بالشيوعية والانحلال، ويمنعها من الإنجاب ولا يطلقها.. وكما ستقوم بين بليغ وميرنا علاقة، ستقوم مع زيزي العاملة في الكاباريه، ومع روز عشيقة الوزير (دال) التي يعمل بليغ سائقاً عندها، ويستدعيه السعدان (أرسين لوبين البيروتي) للعمل معه، ومثله القائد الفلسطيني الشهير (أبو الزعيم)، فيما منطق بليغ يغدو (أنا عليّ أن أعيش)، والأحداث تتلاحق به وبتلك الشخصيات الروائية، فالوزير يتعرض للاغتيال وينجو، لكنه يصير مقعداً، وروز تبيع ممتلكاتها وتسافر، وميرنا تهجر زوجها تاركة لبليغ شيكاً بعشرين ألف دولار، ويُقتل شندور، ويضيع أبو الشبك، والحزب الذي انتمى إليه بليغ يوماً يطلبه الآن، وهكذا ينتهي المطاف بصاحبنا إلى ضيعته: "إن وقت رحيلي قد حان، وإنه يجب عليّ أن أغادر بسرعة هذه الـ "بيروت" الجميلة المضيعة قبل أن يبدأ الجميع بمعاملتي- كل من موقعه- على أنني ممثل سري أو ميداني للردع.. أنا الذي لا مكان لي في أي مكان".
غير أن غربة بليغ في ضيعته ستكون أكبر، فالشقيقة الملتاثة ماتت، والشقيق الضابط لهط ما لشقيقه العائد، و "الأستاذ" يريد بليغاً في ركبه، وسورية تغيرت بسرعة تثير الدوار، وليس أمام بليغ إذن إلا أن يعود إلى بيروت، ليلتقي شقيقته الضائعة وزوجها وولديها في احتفال ختامي يضيق بالبوليسية والميلود درامية.
عبر هذا التخييل (المجنون) لجنون الحرب، ترتسم صورة بيروت، فبليغ يرسمها كواحدة من لوحات فسيفساء الموت المكثف والمتشابه في سائر المدن والعواصم. وإذا كان الرواة منذ البداية سيشككون في أن بليغ هرب البتة إلى لبنان، وقضى فيه نصف عمره مطارداً، وهو الذي لم ير بيروت إلا على الخريطة، فإن بليغ الذي يتظلل به الكاتب، يتساءل: "وهل يجب أن أكون خبيراً في الجغرافيا كي يحق لي أن أتخيل؟"، كما يرد على روز التي تتساءل عن جهله ببيروت: "اتركيني الآن أخترع ما يناسبني، وإن لم تقتنعي بأن "بيروتنا" هي كل بيروت ممكنة في الدنيا، فافصليني من الرواية".
وبمثل هذه الميتا رواية يخاطب الرواة: "سأستمر في خلق ما أحب من تخيلات، وسأرش بعضاً من بهار الحقائق عليه.. وسنرى إلى أين سنصل أخيراً مع هذه الـ "بيروت" التي تطلبون مني اختراعها، والتي لن أجعلها أقل من تلخيص محكم لكل هذا "الشرق الأوسط" أو الأدنى الذي طالما انخدعت بعظمته". فلبنان بحسب بليغ لا يختلف عن أي بلد من بلدان عالم الجنوب، بلدان الفخاخ المصلية لاصطياد الإنسان.
على النحو نفسه، كما على نحو آخر، ترسم الشخصيات الأخرى بيروت، فزهرة تراها مسيرة ما لا تستطيع حسابه من الكمائن والألغام والأعلام والأناشيد والخيبات والشعارات والمؤتمرات والمذابح والمدائح والأوسمة والخطب والأكاذيب والآباء: "يا لطيف، كم صارت بعيدة هذه الـ.. بيروت!!". وزهرة ترى بيروت أيضاً كذبة حرية، بالوناً، واحة، مستنقعاً من وحول الهجانات، مخبأ لصعاليك "ملفلفين بأحجبة الوطنجية وبخور العروبية وبوهيمية التقدم والأنترناسيونالية" ممن عادوا إلى أوطانهم ليكرروا لعبة اضطهادهم. أما الشاعر زوج زهرة فيرسم بيروت طاحونة لا تناسبه، وعاهرة لا يريد أن يثبت رجولته معها، لذلك يعود إلى الضيعة، وحين تعصف الحرب يشبه بيروت بسدوم العاهرة - أين فرح الدوماني في رواية غادة السمان: بيروت 75؟ - التي دمرت نفسها بعدما أنهكتها الملذات، ثم التحق بالحرب قائلاً: "فأنا مثل كل هذه الحرب، بلا قضية".
من مقدمات الحرب – حيث يرى الراهب سليمان أن اليهود لم يكونوا ليبلغوا بيروت لولا أنها مهزومة منذ دهور – إلى لجة الحرب، ترسم الرواية تلك الرسوم (المجنونة) لبيروت ولبنان وسورية والعالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. ولعل السخرية الكاوية قد تبدت من خلال العرض المفصل السابق، فالرواية لا تفتأ ترسل سخريتها الهجائية المريرة بالمفارقات والمبالغات وبالتكبير والتصغير، ملاعبةً الشهرزادية - فسرحان يقتل الدجالة شهرزاد مائة مرة كل يوم – والفاوستية - سرحان وبليغ والشيطان –والدنكيشوتية - من القصبة لكل مجنون إلى لوحة دونكيشوت الآن في فيللا سليمان – والصوفية - كان سليمان في أستذة العقل المصنوع فمضى إلى تلمذة الروح الحرة - والتقمص، وصولاً إلى التهجين بالمفردات والصيغ العامية، وبأغاني فيروز والأمثال الشعبية، وإلى توسّل الحوار المسرحي بخاصة، والتناص مع التراث السردي، كما هو الأمر في عنونة أغلب الفصول (الزوابع والتوابع في بدء استراحة اليوم السابع- طوق الحمامة- الفصول والغايات في إعمار العواصم بالقبضايات...)، ومن ذلك كله، ومن سواه، قامت (فردوس الجنون) كعلامة فارقة في كتابة صاحبها، ولعلها قامت، كذلك أيضاً، في المنعطف الروائي العربي الجديد.
مروان طه المدوّر: جنون البقر
لم يكن ينقص روعة ذلك الصباح الدمشقي الصيفي إلا أن تصادف زكريا تامر على ذلك الرصيف. كنا – وليد إخلاصي وأنا - نمضي إلى المعهد الفرنسي، غير مصدقين أن عاقلاً سيأتي إلى ندوة عن الرواية أو سواها، في التاسعة من صباح العطلة الأسبوعية (الجمعة 26/5/2000).
في المساء غافلني وليد وانفرد بزكريا. وفي الصباح التالي نقل لي وصية زكريا بقراءة رواية مروان طه المدوّر (جنون البقر) التي كانت تقبع منذ صدورها عام 1992(9) في رف ما من مكتبتي، ولم أقرأها. لكن قراءتها جعلتني أدرك فداحة التقصير، وبخاصة أنني كنت قد حاولت للتوّ تقصي وتقري التعبير الروائي في سورية عن الحرب اللبنانية، عبر مساهمتي في المؤتمر الثاني حول الأدب العربي المعاصر، والمنعقد في الجامعة اللبنانية الأميركية –بيروت، حول الرواية والحرب اللبنانية (2 و 3 من شهر أيار- 2000). ولعل غفلتي عن رواية (جنون البقر) كانت مبعث وصية زكريا تامر الذي نقل وليد إخلاصي عنه أن كاتب الرواية كان موظفاً ومات. وقد تابعت السعي خلف أثر للكاتب المجهول، وسألت عدداً من الكتاب المسنين أو المقيمين في دمشق (ميخائيل عيد- ناديا خوست - غازي أبو عقل- خيري الذهبي- محمد كامل الخطيب..) لكن أحداً منهم لم يكن قد سمع بالكاتب ولا بالرواية، إلى أن أفادني عبد الرحمن الحلبي أنه كان قد قرأ للرجل كتاب (الأرمن عبر التاريخ) الذي صدر في طبعة لبنانية وأخرى سورية، في سبعماية وعشرين صفحة من القطع الكبير. وإثر قراءته للكتاب، زار الحلبي مروان طه المدور في غرفة متهالكة على سطح مبنى يرجح أنه لوزارة التموين، وأقرأه المدور فيما بعد مخطوطة رواية تحفل بالفانتازيا، و (جنون البقر) هي كذلك، وشكا المدور الأبواب المغلقة في وجه مخطوطاته، ثم انقطع تواصلهما، حتى باغت الحلبيَّ سؤالي. وهكذا إذن، ضنّت حياتنا وذاكرتنا الثقافية بمطرح على من ترك بصمته برواية، ليس فقط لإهمال أو تقصير، بل لقلة وفاء أيضاً، كما كان نصيب المرحوم صباح محي الدين (حلب) الذي يكفيه أنه قدم رواية (الغائب) قبل أربعة عقود، وليت الأمر كان وقفاً على هذا أو ذاك، في الرواية وفي سواها، فلندع ذلك عالقاً، ولنمض إلى رواية (جنون البقر).
***
لقد كتب مروان المدوّر في هذه الرواية سيرة الحرب بالتعشيق مع السيرة الشخصية لبطله (رؤوف يمّوت)، فكانت السيرتان السيرة اللبنانية، وبخاصة خلال العقدين السابع والثامن من القرن الماضي. وكما يليق بالسيرية، تولى السرد رؤوف بضمير المتكلم، ابتداءً بالقبر وانتهاء به، متوجهاً منذ السطر الأول إلى المتلقي بالنداء الذي سيتكرر: (يا سيدي)، وسيغدو أحياناً الخطاب الذي يتكرر (لكم). وبذلك وبسواه (سأحكي لك..- سأحكي لكم..) يبرم الحلف السردي المكين، وهو يلاعب الكتابة والقراءة بالعناصر جميعاً. وقد يكون من الأولى لتبيّن ذلك أن نفكك البناء السردي الذي قام على شبك الحاضر بالماضي من تلك الحفرة – البؤرة التي رمت الحرب فيها رؤوف يمّوت صريعاً، قبل أن ينقل إلى القبر.
هذا الميت يتوسل فعل التذكر، ويسوق الماضي فيما بعده (خواطر وهواجس وكوابيس وأحلاماً وأحلام يقظة) وينثر ذلك بفوضى تكسر الزمن مستبطنة في الآن نفسه نظاماً دقيقاً، فنرى رؤوف يتذكر إصابته للتو، أو شجرة الجميز التي ظللت نشأته وشهدت قراره بمن سيكون، أو رحلته مع سلمى في بوادبست، وسير علاقته بسلمى وفشله الجنسي معها وابتزاز أنيس لـه بسبب هذه العلاقة، أو قتله لأنيس وحلول عامر محله، وعلاقته المثلية بهما... ومن حين إلى آخر ينثر رؤوف اسم شخصية أو بداية حادثة أو نهايتها، ثم يعود إلى ما سبق نثره، ثم يقطعه ليتابع نثرة أخرى أو يبدأ بنثرة جديدة، متنبهاً - منبهاً إلى استطراد الذكريات، ومذكراً بعنواناتها، كأنما يتحوط لتيه القارئ ويحفزه في آن على موالاة اللعب. وبذا تشتبك ذكريات عنف الأب وسكره، وعمل رؤوف كحارس للاعب الدحاحل الأرمني اسكندر، وعمله في بيع أوراق اليانصيب، وإعانته لأسرته، وعشقه لكوثر ثم زواجه منها، وتهريبه للمخدرات إلى الأردن، ووشاية شريكه وصديقه عدنان، والرشوة التي أفرجت عنه، واستيلائه على ثروة كوثر ومصرعها، وإدارته لأعمال سلمى التي ترملت لرجل أعمال في الخليج، وإدخاله لأخوته في المدارس الرفيعة، ونقله لأسرته إلى الفيلا... ومن ذكرى الفلفل الحار المنشط للباه، إلى ذكرى مشاهدة المباريات في دارته وممارسة الجنس الشاذ والجماعي أثناء ذلك، إلى تشغيل اسكندر كوكيل لأعماله، إلى التدرب في نادي الوثبة الرياضي على يد صديق الوالد: خضر، إلى العمل بالصيد في البحر، إلى تجارة الأسلحة قبيل وأثناء الحرب اللبنانية، إلى التجارة بالمياه المعدنية في نيجيريا وتهريب المخدرات داخل حيوانات السيرك إلى عاصمة دولة أميركية لاتينية، إلى الزواج الثاني من نجوى وشكه في أبوته لوحيده غانم، وعلاقة نجوى بعشيقها أدهم واعتقال الإسرائيليين لرؤوف أثناء اجتياح الجنوب اللبناني صيف 1982، وتبرعه بالسلاح للحركة الوطنية اللبنانية، وانتساب ابنه إلى تنظيم ديني ثم مصرعه، وفضائح أخيه مجد في السرقة واللواط ومصرعه..، هكذا تقوم حياة رؤوف، وصولاً إلى ذروتها وقد غدا صاحب شركات متعددة الجنسية، وأقام مستشفيات ومستوصفات ودور عجزة، وأوفد طلاباً للدراسة في الخارج، وأسس جمعية الرقي بشباب لبنان، كل ذلك ليغطي أعماله الأخرى. وكما يليق بهذا النجم الصاعد أسس حزباً، وبات صوتاً مسموعاً في الأزمة – الحرب، وصار وزيراً للعدل ثم للشؤون الاجتماعية، وطمح بالرئاسة، لكن القيود جعلته يكتفي بنائب رئيس مجلس النواب.
بالاشتباك مع ما تقدم، وليس بالتوازي، يسرد رؤوف دقائق الحاضر الذي استغرق ما بين مصرعه وسقوطه في الحفرة إلى دفنه في القبر الجماعي مع الجثث التي نقلتها سيارة البلدية. ويتوسل هذا الميت هنا زوايا الرؤية التي تتقلب مع تقلب جثته جراء رفسة أو انفجار، كما يتوسل المذياع الصغير الذي استقر بجانبه، وظل ملازماً لـه بين انقطاع الإرسال وعودته. هكذا ترى الجثة من يفرغ جيوبها، والجرذ الذي ينهشها، وقَتْلَ قذيفة للفتى الذي كان يحمل المذياع، وتوالي القصف، وتضاجع عصبة من متعاطي الأفيون، ومضاجعة آخر لجثة رؤوف، وسقوط الثلج ودفق المطر، وانتحار حمار من الطابق الرابع، وعبور نعش يتبادل الميت الدور فيه مع الحيّ، وانتفاخَ جثة رؤوف وارتفاعها عن الأرض، ونزع الألغام من الساحة التي غدت نقطة ازدلاف لتجميع الجثث، وانفجار قذيفة بفريق وكالة ماغنوم الأميركية للتصوير الفوتوغرافي، أثناء تصويره للحرب في ساحة جثة رؤوف...
بعد العين والرؤية، تتابع الأذن والسمع سرد الحاضر عبر المذياع. وتبرز الوثيقة من بين مفردات اللعب، عبر أخبار الصراع بين طرفين: القوات اللبنانية وقوات العماد عون. وتشظّي لغةُ الوثيقة الإذاعية رسائل التطمين من حي لحي في المدينة المقسومة على بعضها. ومن لغة برنامج الأبراج وفقرة ظواهر النحس وأسبابه – التدميرية الذاتية أم الخارجية؟ - إلى لغة المقابلة الإذاعية بين اثنين من أبطال طرفي الحرب، أو لغة وصف طبخة الكوسا والرز، أو لغة المسابقة الثقافية بين ذكور وإناث من خريجي الجامعات اللبنانية حول أول قاتل في التاريخ، وحول من قال: لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم، وما المقصود؟ من ذلك كله إلى سواه، سوف نرى كيف تتعدد اللغات والأصوات بلغة نداءات نجوى واسكندر لرؤوف المفقود، قبل العثور على جثته، ثم فقدانها في غمرة الجثث التي عبئت في أكياس القمامة وحشرت في القبر الجماعي، بينما يهدر المذيع بنبأ استشهاد المناضل رؤوف يمّوت، رئيس حزب الديمقراطية الجديدة ونائب رئيس الوزراء، بينما تتوالى برقيات التعزية من الرؤساء الهراوي والحص والحسيني وسمير جعجع والبطريرك صفير و... وإلى هؤلاء سمّت الوثيقة كثيرين من المواطنين الفارين من الشرقية إلى الغربية، وكثيرين من الأطفال الذين تفجر بهم الباص، فتبادلت القوات اللبنانية والجنرال عون تهمة الجاني. وكما في هذا الشطر من البناء الروائي، الخاص بالحاضر، عددت الوثيقة واللغة أيضاً في الشطر الخاص بالماضي. وكالوثيقة عددت الأمثال الشعبية اللغة الروائية، مثلها مثل وصف رائحة الطحين أو رائحة المني أو وصف الطعام (السحلب- الفول- الفلافل- كعك التماري..)، أو وصف مباراة كرة القدم بين البرازيل وفرنسا، أو وصف الأثاث والبناء وأفلام السينما والطبيعة وتفسخ الجثث والفعل الجنسي وفعل الدفن ونزع الألغام أو استخدام اللغة الإنكليزية في غير موضع... حتى ليمكن القول إن الوصف جعل من كل قصة فرعية أو فعل روائي صورة، لتبني الصور المشهد، بأسلوبيات متعددة ولغات متعددة، مما جعل (جنون البقر) رواية أصوات بامتياز، على الرغم من أن السارد هو صوت رؤوف وحده، وعلى الرغم من ندرة الحوار بين الشخصيات.
وسط ذلك كله تأتي المصادفة كعقل للعالم الروائي. ورواية (جنون البقر) تستثمر ذلك بالفانتازيا أيما استثمار، فمياه المحيطات تهرب باتجاه السماء، والحرب مثلها مثل الانفجار الكوني، وجثة رؤوف تسابق عضوها لتضاجع تلك الجارة البعيدة، و... حسبنا من ذلك كله تلك اللعبة الأساس: الميت رؤوف يتذكر ويعاين.
ولأنها المصادفة، ولأنها الحرب، يغدو العقل جنوناً، والعالم عبثاً، ويتساءل رؤوف في ملاعبة القارئ بدلالات الرواية عن "معنى هذه الهويات"، ولا يفتأ من البداية إلى النهاية يرمي بالجنون نفسه والبشر والحيوانات والأيام السالفة: مقدمات الحرب، والراهنة: الحرب، فنقرأ: "جنون! نعم! قلت لنفسي: هذا جنون، ثم أردفت أحادث نفسي: وإذا لم يكن هذا هو الجنون بعينه فماذا يكون ذلك الذي سيكون؟". ولعل الكفاية أن تكون في صورة ذلك الحمار الذي ينتحر جراء العبث الذي يلف حياته والحرب التي تمنعه من أن يكون كما يريد: حماراً لـه الحرية فيما يريد، فمع هذا الجنون العاصف جن مدركاً أن الحياة في محيطه مثل كل شيء في الحياة: "ذات جنون". ورواية "جنون البقر" تتقاطع في ذلك مع الجنون الصاخب فيما سبقها (روايات غادة السمان مثلاً) وفيما تلاها (رواية فردوس الجنون لأحمد يوسف داوود مثلاً).
لقد بنى مروان طه المدوّر شخصيات روائية بالغة التعقيد في عالم روائي بالغ التعقيد، ليقوم ذلك الشعور القاسي بالعدم، وذلك السؤال الذي يعقب غبّ رؤوف لكل لذة: ولكن ماذا بعد؟ ماذا بعد الحرب والجنون والبقرية؟ ولئن كانت الحرب قد مضت، ومروان طه المدوّر قد مات، فروايته ستظل تصفع قارئاً بذلك السؤال، وبسواه.
خاتمة:
سوى الروايات السابقة، يبدو صدى الحرب اللبنانية في الرواية في سورية نادراً ومحدوداً، ومنه ما جاء في رواية (الوطن في العينين)(10) لحميدة نعنع، حيث سمت بيروت (عنتاب)، ورسمت صوراً لها مما قبل الحرب، وبخاصة عبر وجود المقاومة الفلسطينية فيها، ثم جعلتها مآب بطلتها (نادية) بعد المقام في باريس، لتخلق ثورتها أو تموت.
ومن ذلك الصدى أيضاً ما جاء في رواية فيصل خرتش (موجز تاريخ الباشا الصغير)(11) حيث ينطلق بطلها الباشا باسم عثمان العايدي متدرعاً في جنونه السوري- في جملة ما يتدرع به - بعلاقته بتاجر السلاح بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية (أبو درويش). ونذكر أخيراً رواية حيدر حيدر (شموس الغجر)(12)، والتي يشكل فضاؤها البيروتي من شخصياتها (بدر الدين النبهاني وابنته راوية وحبيبها الفلسطيني ماجد زهوان) ما يشكل، قبل أن تتوزع بين الفضاء السوري والقبرصي، وارتداد الثوري (الأب بدر الدين) واستشهاد الفلسطيني في عملية انتحارية، وكل ذلك عبر خطاب روائي يضيق بالرطانة الثورية التي ضاقت بها التجربة الروائية العربية، وبما يذكر برطانة الخطاب الذي ضاقت به بخاصة رواية قمر كيلاني: (بستان الكرز).
ولعل للمرء أخيراً أن يلاحظ في التعبير الروائي في سورية عن الحرب اللبنانية، حضور المرأة المثقفة، وفاعلية الحب والجنس، وامتياز التجريبي على النمطي، والحداثي على التقليدي، وغلبة النقدية في المعالجة والأطروحة. وإلى ذلك يُلحظ بقوة ما بين توسل الأذن (كوابيس بيروت- الممر- جنون البقر) والعين (باقي الروايات) في وصف الحرب، وإشكالية الحياد بين أطراف الحرب، والانتماء إلى الوطن، وبخاصة في وجه الغزو الإسرائيلي. وهذه الإشكالية ستعبر عن نفسها في الحرص على تعبير (الحرب اللبنانية) مقابل مداولة تعبير (الحرب الأهلية).
وبذلك وبسواه، قد يكون التعبير الروائي في سورية عن الحرب اللبنانية، جاء محدوداً، بيد أنه، بما كتبت غادة السمان وأحمد يوسف داوود ومروان طه المدوّر، بخاصة، استطاع أن يقدم للمشهد الروائي العربي، إضافة روائية ثمينة.


 الهوامش:
(1) انظر: تقديم محمد برادة لكتاب: لقاء الرواية المصرية المغربية، الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى 1998، ص 4.
(2) انظر كتابنا: الرواية والحرب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى 1999.
(3) دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى 1977. انظر دراستنا لهذه الرواية في: الرواية والحرب، مذكور، وفي: حوارية الواقع والخطاب الروائي، دار الحوار، اللاذقية، الطبعة الثانية 1999.
(4) جريدة السفير 23/4/1977، بيروت.
(5) منشورات غادة السمان، بيروت الطبعة الأولى 1986.
(6) اتحاد الكتاب العرب، ط1، دمشق 1977.
(7) دار المتنبي، بيروت-باريس 1992.
(8) مذكور.
(9) عن منشورات رياض الريس، ط1، لندن.
(10) دار الآداب، ط1، بيروت 1979، وانظر دراستنا في وعي الذات والعالم، مذكور.
(11) رياض الريس، ط1، لندن 1991، وانظر دراستنا لها في: الرواية العربية رسوم وقراءات، مذكور.
(12) مذكور.

 
 

 

عرض البوم صور تيتوف بارة   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
2003, اتحاد الكتاب العرب, جماليات وشواغل روائية, نبيل سليمان
facebook




جديد مواضيع قسم كتب الأدب واللغة والفكر
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 05:40 PM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية