كاتب الموضوع :
تيتوف بارة
المنتدى :
كتب الأدب واللغة والفكر
القسم الأول
الفصل الأول :
الرواية والصوفية
مقدمة:
بظهور رواية (رامة والتنين) لإدوار الخراط ورواية (الحوات والقصر) للطاهر وطار عام 1980(1) بدأ التصوف يحضر كفعل، بدرجة حاسمة في الرواية الأولى، وبدرجة ثانوية ـ أو أقل حسماً ـ في الرواية الثانية. وسرعان ما جاءت رواية مؤنس الرزاز (أحياء في البحر الميت) عام 1982 والجزء الأول من (التجليات) لجمال الغيطاني عام 1983، ليتوالى، طوال ما يفصلنا عن ذلك التاريخ، الفعل الصوفي في الرواية العربية، فهل كان ذلك، اندياحاً لما سبق من هذا الفعل في الحداثة الشعرية العربية، وتلاقحاً بين هذين الجنسين الإبداعيين: الرواية والشعر؟ أمْ إن ذلك كان بتأثير ما لسحرية الرواية الأمريكية اللاتينية؟ أم تراه تأثير الحفر الروائي في التراث السردي الأدبي ـ وغير الأدبي ـ الرسمي والشعبي، وبخاصة منه: الأدب الديني الشعبي؟ هل جاء فعل التصوف والصوفية في الرواية العربية إعلاناً مبكراً نحو منعطف روائي عربي جديد، يستثمر منجزات اللحظتين الحداثية والتقليدية للرواية العربية، ويخرج من تأزمهما(2)؟ وأخيراً، وليس آخراً، كم كان من أثر في ذلك كله لما طرأ عربياً بعد هزيمة 1967 في الفكر والسياسة والإبداع، من حفر نقدي في التراث، ومن عودة تصنيمية إليه؟ كم كان من أثر في ذلك كله للانهيار الأيديولوجي والخضات الفكرية التي توالت كونياً منذ ثمانينيات القرن الماضي؟
بالنسبة لي، أرى أن مضمون التساؤلات السابقة جميعاً، هو ما جعل الفعل الصوفي لافتاً في الرواية العربية، وبنسب مختلفة بين سبب وسبب، وبين كاتب وكاتب. وبالوسع أن أضيف: الجري خلف صرعة، والتقليد والاستسهال، والتجريب وادعاءه، والعكوف على الذات ونرجسيتها تجاه التهميش والقمع الرسمي والشعبي للثقافة. وعلى أية حال فالمدونة الروائية العربية التي يعنيها الفعل الصوفي باتت مدونة كبيرة، فكيف تجلى هذا الفعل؟ وما الذي تحقق بسببه؟
1ـ الفعل غير الحاسم:
عام 1984 تساءل الطاهر وطار: "فبأي شيء أعبر عن اللامعقول إذا لم أوظف اللامعقول نفسه"(3). وكانت قد انقضت أربعة أعوام على صدور رواية (الحوات والقصر)، حيث غامر الكاتب في تجربة مختلفة، فجعل للتصوف قرية باسمه، من بين القرى السبع التي تتوالى رحلة بطله (علي) فيها، وجعل هذه القرية عرضة دوماً للغزو. وقد افتض الغزاة الأبكار فيها طراً، سوى واحدة سميت بالعذراء، فقرر المتصوفون ـ أهل قرية التصوف ـ إثر ذلك أن تُفتض بكارة كل وليدة من طرف الشيخ الملتحي قبل أن تبلغ أربعة أسابيع. وسيلي الفعل الصوفي بالعجائبية عندما يؤسطر الناس شخصية (علي) في قرية بني هرار، فإذا به يمر في وضح الشمس دون أن يراه أحد، أو يتنكر مثل غمامة ويقتحم الشوارع، وقد يحسبه الناس زوبعة أو ثعباناً مشعراً يلتف في الرمال، ويركب الريح السموم.
ربما كان الطاهر وطار في هذه الحركة من حركات روايته، وبحساسية الفنان، لاقطاً لموران المجتمع الجزائري الذي سينفجر ـ كما يليق باللامعقول ـ بعد عقد من صدور الرواية. وربما كان الكاتب ساعياً فقط إلى لعب المخيلة بالمكنون الشعبي الديني ـ الميتولوجي. ومهما يكن، فقد كان للتصوف حقاً فعله في الشخصية الروائية (علي) وفي شطر من الحدث ـ الأحداث الروائية، من دون أن يمسّ ذلك جوهرياً لغة الرواية. ومن هنا أمضي إلى وصف الفعل الصوفي في هذه الرواية بأنه لم يكن حاسماً، لكنه كان رائداً. وهذا الوصف سيظل يطالعنا بين رواية ورواية مما سيلي خلال العقدين التاليين، كما في رواية (فردوس الجنون)(4) لأحمد يوسف داوود، عبر تقديمها لشخصية الراهب سليمان الذي كان أستاذاً للفلسفة في الجامعة الأمريكية في بيروت، قبل أن يعتزل في صومعته، وفي الفيللا مع الكتاب الهندوسي (المنوسمرتي)، ومع الحلاج وابن عربي والمعري والسهروردي، ليغدو قناة الكاتب الفلسفية والصوفية. ويمكن أن نلمس الفعل الصوفي في هذه الرواية أيضاً عبر واحدة من حالات الجنون التي ترسمها، هي حالة (الجنون المحترم): "أي أن تقفز بين العوالم، وتعلن عن روحك، حتى لو لم تقل، إلا الكلام الذي تفهمه وحدك".
من هذا القبيل يبدو أيضاً ما يتلامع من الكرامة والعرافة في رواية (القبر المجهول أو الأصول) لأحمد ولد عبد القادر، ومن الاتحاد والحلولية في رواية (قصر المطر) لممدوح عزام، وفي رواية سليم مطر (امرأة القارورة)(5) وفي رواية (هشام)(6) لخيري الذهبي. وفي الأخيرة سيغدو القول بالتقمص هو الأوفى، كما في رواية (النعنع البري)(7) لأنيسة عبود، وفي (فردوس الجنون) نفسها، بيد أن الأمر كله يظل أقرب إلى (التعبير الثقافي) منه إلى (التعبير الكلي) عن الفعل الصوفي في الرواية، وربما كانت الرواية التالية المثل الأكبر لذلك:
حيدر حيدر: شموس الغجر(8):
تروي ابنة بدر الدين النبهان (راوية) أنه كان صاحب الوعي البرقي، ورجل الهجرات والمنافي التائه "عبر الدروب الضائعة نحو محطات القدر الشبيهة بمعالم الصحراء التي تظهر تارة وتمّحي، تحت سماء نجومها تومض وتنطفئ هي الأخرى عبر تبدلات البصيرة وزوغان البصر فوق رمال التيه" (ص10).
ولقد نشأ بدر في كنف أبيه الإمام الذي يفتي بالناس، ومرجعيته هي العتبات المقدسة وحنين كربلاء وندم عاشوراء الدامي. ولعل هذه النشأة، وما وصفت به راوية أباها، تومئان إلى الجذر الديني الإسلامي الشيعي، ومنه الصوفي، والذي سينعطف ببدر الدين النبهان إثر اعتقاله لأربعة شهور، فيطوي ما عاش قبل ذلك كمتمرد وعلماني، ويتحول إلى النقيض: يتحدث عن التوبة والاهتداء إلى الصراط المستقيم، وعن الخروج من الضلالة إلى عالم النور، ويمارس طقوساً جديدة وغريبة ومناقضة لما ربّى أسرته عليه، كأنه يعيد التكوين في سيمفونيته اليومية حول الأخلاق القومية وإقامة الصلوات والوصايا العشر وطاعة الوالدين والقضاء والقدر والزكاة ومراسيم الأعياد والاستماع إلى التراتيل الدينية من الراديو والتلفزيون..
يعلل الفلسطيني ماجد زهوان تحولات والد حبيبته (راوية) بالبنية النفسية الهشة. وتعلل راوية تحولات أبيها بعودة الطفل إلى أحضان وميراث أبيه الذي لم يخرج منه إلا ظاهرياً، أو بالحنين إلى الطوطم الكامن في الأعماق، وتشبهه باسترجاع دموي "كما جرثوم مستوطن في الخلايا الخفية والمظلمة للنفس"، وتتساءل عما إذا كان أبوها أصيب بلوثة جراء التعذيب، أو أنه تعرض لنوع من غسل الدماغ.
لأسباب راوية أو حبيبها، أو لسوى ذلك، بات بدر الدين النبهان يتحدث في أوقات خاصة وسرية عن مسائل طائفية ومذهبية وظهورات خرافية، تنعتها راوية باللامعقولية المستقاة من عصور ما قبل العقل، حول التجسيد الإلهي على الأرض، وبداية الكون من آدم شمس العالم وحواء قمر الظلمة. وتنقل راوية من شواغل أبيها الجديدة: الاثنان في الواحد/ الواحد هو الكل العلي الذي لا يدرك/ السر المقدس واللامتناهي/ معنى المعاني التي تعجز العقول والبصائر عن الوصول إلى جوهره اللا يحدّ. وتتساءل راوية عن انبثاق هذه الأطوار البدائية واللوثات الصوفية، وعن انحدار العقل المتوهج نحو طفولة القرون الأولى والأزمنة التي تذكر بإنسان الكهوف والتيه في الصحارى.
قبل التحول كان بدر الدين النبهان يحدث أسرته عن عظمة الإسلام الثوري الأول، وعن النكوص الذي تلا. لكن الرجل بات بعد التحول يتحدث عن العصر الجديد الذي افتتحته ثورة الإسلام في إيران، ويفتق القول في انهيار مثله القديم: الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي. لقد صار بدر الدين النبهان يتحدث عن التحول الجوهري للتاريخ: العودة إلى الأصالة والجذور، والإسلام كبديل، فالدين قوة روحية مستمرة في الزمن والبشر على ما يبدو، وهي الأرسخ من كل الثورات العابرة في التاريخ. وبدر الدين النبهان في ذلك، بحسب راوية، مثل آلاف البدور التي تدخل انحرافات خسوفها وظلماتها عائدة إلى الجذور الأولى، في أعقاب الهزة الكونية التي زلزلت النظام الاشتراكي وحطمته. ولراوية نقداتها لهذا النظام، لكنها لا ترى في الإسلام الأب المستقبلي أو الراهن، بل تراه الجذر التاريخي، وهي معه تاريخياً وحسب. وسيشغل ذلك مجادلات مطولة بين راوية وصديقتها الأذربيجانية (علية) والدكتور (الأصولي) رضوان. على أن ما يهمنا من ذلك الآن هو انعطاف الثوري السابق نشداناً للسلام الروحي، وحسماً للجدال الداخلي والصراع بين المادي والروحي.
تتحدث راوية عن محفل سري يجمع الشيوخ في المقر الديني لبلدة عيون الريم، وستسميه محفل التكفير والتوبة. ولأن راوية هي السارد القيوم، تصف ما جرى لأبيها في المحفل، فمن أين لها بهذا العلم الذي تصدعنا بحجبه عن غير ذويه، وفي رأسهم: المرأة؟ أما كان الأَوْلى، لتوفير حد أدنى من الإقناع والمنطقية، أن يتولى السارد بنفسه تلك المهمة عن راوية، وهو الذي ينهض بين حين وحين بعبءٍ ما من أعباء السرد؟
يعاودنا هذا التساؤل بصدد سائر ما ستروي راوية من ممارسات أبيها الجديدة، من الأعياد السرية إلى الحلقات الخاصة الغامضة (السرية) التي باتت تعقد في غرفة على السطح. ويبدو من الإلحاح على السرية، ومن الإشارات الخاصة بوالد بدر الدين النبهان، أن الأمر يعني فرقة باطنية بعينها. فذلك الوالد كان يختم موعظة صلاة الجمعة بالدعاء لسيد البلاد ودرع الأمة في الشدائد "ليكون لنا عوناً وراعياً وهادياً في ظلماتنا. نحن العباد الواقعين في الخطايا والمعاصي: اللهم والِ من والاه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. الرشيد الحكيم، الخارج من عين الشمس والداخل في بروج البحر ومحاق القمر، قبل بدء البدايات ونهاية النهايات، وريث من دحى باب خيبر ورد الشمس عن مغيبها. أمير الزمان والعواصف والطيور والأسماك وسباع البر وما يدب على سطح الأرض، هو الذي فاز بالإسلام، وبقوله وعزمه حطمتْ أصنام الكافرين في مكة فانتصر الدين إلى يوم القيامة" (ص46).
أما الابن بدر الذي كان يسخر من ذلك كله، فقد بدا في نكوصه، كما تحدثنا راوية، يلج في بحران الروح، ويوغل في هذيانات أدعية وكتب ومراسلات خاصة، تصله عن طريق الشيوخ والمشرفين على إرشاد الضال الذي اهتدى، فغدا "مبحراً في الوجد الصوفي وأشعار ابن الفارض والمنتجب والمكزون السنجاري ومعارج نهج البلاغة" (ص 104). وراوية التي لا تفتأ تهول من صدمتها بارتداد أبيها وبظاهرته العامة، ستعيد مرة بعد المرة حديث (السرية) أي الباطنية، وما تخفي من الوجد الصوفي، وستنعت راوية ذلك بهذيانات الأزمنة المنقرضة، ومنها واحد من كتب أبيها السرية، يترجّع فيه صوت كريشنا، حيث يأتي التناص في الرواية على صفحتين، وتدع الطلاسم الهندية راوية على حافة دوار، شبه مسحورة، وتحت تأثير حالة سحرية تخطفها إلى فضاء الشرق الساحر الأسطوري.
هكذا يشتبك الفعل الصوفي في هذه الرواية، عبر شخصية بدر الدين وعبر نحلته ـ ملته ـ فرقته الباطنية، مع ما تصخب به من الخطاب المثقف الثوري في نهاية القرن العشرين، حول الإسلام والانهيارات الكونية والاستبداد والارتداد والفساد.
في خضم هذا الاشتباك عجز الفعل الصوفي عن تخصيص الشخصية الروائية ونحلته ـ من الخصوصية ـ بالاتكاء على مفردات الظهورات والمعنى والجوهر والتجلي والمهدي المنتظر... وكاد الفعل الصوفي يتبدد كلما ضاقت الرواية بالرطانة الثورية المتعالية التي حجبت رؤية الظاهرة بالحيدة التي تقتضيها الكتابة الروائية، وبالتالي حرمت الرواية من تحليل الشخصية ومن تحليل الظاهرة، ومن النفاذ إلى التعقيدات وتفكيكها، حتى وصل الأمر براوية إلى تفسير حالة أبيها ومن يماثله تفسيراً بيولوجياً، فعلّة التحول أو النكوص أو الارتداد ـ من بين علل أخرى ـ هي في جينات الدم الموروثة، وفي جرثوم مستوطن في الخلايا، وفي الاستنساخ.. وفي ذلك من العنصرية ما فيه من تغييب العامل الاجتماعي والسياسي والروحي، حتى لو جرى التشدق بهذا العامل في مواقع أخرى من الرواية.
لقد توقفت راوية عند الاضطراب الروحي والمسوح الدينية والمذهبية مما استشرى في الأجيال الجديدة، جراء القمع والفساد، وبعث جمعيات ومحافل سرية تبشر بقرب القيامة وظهور المهدي، فصارت الهزات الأرضية وظهور المذنب، علامات كارثية لنهاية القرن قبل العام ألفين، مما يعيد زمن ملوك الطوائف في الأندلس.
في هذا الموقع من الرواية، تلح راوية على الشرط الاقتصادي السياسي الذي اكتنف هذا التحول. لكن قيمة هذا الإلحاح في المحصلة تظل متواضعة، نظراً لما تقدم من التفسير البيولوجي، ونظراً لعدم قراءة هذه الظاهرة الفردية ـ الاجتماعية في الإطار الكوني، حيث تتفاقم في عصر الحداثة وما بعد الحداثة الملل والنحل، وبخاصة عندما كانت الألفية الثالثة تقترب، فيتعالى صخب نحلة جبل الكرمل الأميركية، ونحلة آوم اليابانية، والنحلة الرائيلية التي جعلت سفينة نوح محطة فضائية أرسلها الأيلوهيم، وجعلت صوت النبي يونس لغواصة ذرية..
هكذا، من القروسطية التي أورثت بدر الدين النبهان نحلته، إلى الحداثة وما بعدها ـ التي أورثت أمريكا وأوروبا واليابان نحلها ـ يشتبك السؤال عن الروحي/ الكوني. ومما لم يقلل من وطأة غيابه عن (شموس الغجر)، تشريقها إلى الهند، فيما أشبه الاستعراض الثقافي. وبذا، وبما سبقه، ظل الفعل الصوفي في الرواية، أسير الخطاب المتعالي الذي سيّد السارد ـ الساردة، ووحّد اللغة في صوتيهما المتوحدين.
2ـ الفعل الحاسم:
على نحو آخر يبدو الفعل الصوفي حاسماً في روايات أخرى، كما في (باب الجمر) للسوري وليد إخلاصي، عبر شخصية (محبة الجمر) بخاصة، أو كما في (سابع أيام الخلق) للعراقي عبد الخالق الركابي، حيث تتراكم المتناصات، لتصدح ثنائية النقص والكمال كما أطلقها العارف الدمشقي أبي عمرو المتوفى سنة 320هـ. وكذلك في روايات الأردني مؤنس الرزاز: أحياء في البحر الميت ـ متاهة الأعراب في ناطحات السراب ـ جمعة القفاري. أما المغربي مويلم العروسي فقد بنى روايته (مدارج الليلة الموعودة)(9) على هيئة المقامات الصوفية، وجعل لبعضها ألواناً (مقام الأحمر ـ مقام الأصفر ـ مقام الأبيض ـ مقام الرمادي ـ مقام الأسود) وصولاً إلى (مقام كل الألوان). ورسم رؤى الطوفان في مقام الماء "وهو بين جميع المقامات وما بعدها"، وخص النار بمقام "وهو مقام الإتيان على ما بقي".
من الراوي إلى الشيخ الشاب فمريم فالهاتف فالطيب فالغريب، تعتور الحالات الصوفية شخصيات الرواية، فتكابد أسئلة الموت والعشق والفناء والروح والجسد والظلمة والنور والخوف والداخل والخارج... وتكون الرحلة الشاقة ـ كعبور الجحيم ـ والمعراج الذي ينتهي بالليلة الموعودة، فيبلغ المتصوف غاية ما كابده، ويتحد العاشق والمعشوق، وتلتقي الروح بالسر الأعظم وأصل الوجود.
عبر هذه المدارج تتلون لغة الرواية باللون القرآني مرة، وبالمتناصات مرة (كما في كلام الشيخ من كلام الغزالي) وبالانثيال مرة (كما في إشراقات الهاتف)، وبذا وبسواه يبدو الفعل الصوفي حاسماً في هذه الرواية، إذ يشكل شخصياتها ولغتها وأحداثها وأطروحتها، ويهيكل بنيانها، ليصل أخيراً، بالنخبوية العتيدة ـ الفرد المتفرد، إلى النور.
غير أن التجلي الأكبر للفعل الصوفي الحاسم في الرواية، كان بخاصة
في تجربة جمال الغيطاني وفي تجربة إدوار الخراط، وفي جديدهما
سنتابع:
جمال الغيطاني:
رسالة في الصبابة والوجد ـ متون الأهرام:
مضى الفعل الصوفي بعيداً في كتاب (التجليات) لجمال الغيطاني، بأسفاره الثلاثة، عبر الكشف والاكتشاف والغوص في المجهول والدخول في عالم عجائبي. ففي علاقة الراوي بجسده، نراه يغيب عنه ويعود إليه على هواه، ونراه يسري من مكان إلى مكان، ويقابل الموتى، ويكشف الغيب، في
تجسيد روائي صارخ لوحدة الوجود وطي الزمن وإنطاق الموجودات وجلاء البصر(10).
بعد سنوات سيصدر الغيطاني (رسالة في الصبابة والوجد)(11) مواصلاً التجريب من صيغة (الكتاب) إلى صيغة (الرسالة)، في استيحائه للتراث السردي العربي. وقد صاغ (رسالة في الصبابة والوجد) في أربع عشرة حكاية أو مقطع سردي، يقوم زمنها في العقد السابع من القرن العشرين، ويقوم فضاؤها بين النقيضين: البيوت التقليدية والمكان الشعبي الأليف، مقابل الفنادق والأحياء المتعصرنة. وينوع الغيطاني في التوطئة للفصول ـ الحكايات ـ المقاطع، ويبدي ويعيد في السجع والترادف والموازنة وسواها مما يتصل باللسان التراثي في إيماءة إلى جوهريته وخلوده، من دون أن يوحّد ذلك أصوات الرواية وييبّس قولها. ولئن كان الحب مقاماً صوفياً أولاً في هذه الرواية ـ الرسالة (من النظر إلى الانتظار إلى الشوق إلى الغياب إلى الوصل إلى الفراق)، فالبناء مقام تال، سيتستأثر بالروايتين التاليتين: (خلسات الكرى)
(12) و (متون الأهرام)(13). ومن ذلك ما نقرأ في (رسالة في الصبابة والوجد) عن التعلق بالبناء: "إنه الرغبة يا أخي في عدم الزوال، في البقاء، في تثبيت اللحظة التي يستحيل مروقها، انفلاتها، فكأني أعوقها بالحجر".
إنه الهاجس الصوفي أمام الزمن والفناء، هاجس الخلود والبقاء، الزعزعة والتماسك، والذي يتواشج مع العلامات الصوفية الأخرى التي اشتهر الكاتب بتفعيلها في جلّ أعماله، وبخاصة منها: اللغة والحالة: "أليس بمصير كل تلاق إلى فراق، والفراق بداية العدم؟" وكذلك: "اعلم يا أخي أن الجماعة مرحمة، وفي التئام الشمل أنس، وفي الاتصال دواء وبقاء، وفي الانقطاع عدم(14)".
مثل هذه (الشذرات) سيغدو التكأة السردية التي يتفتق منها السرد في المتن الأول من (متون الأهرام). ومنها ما سيشكل متناً مستقلاً في كلمات معدودات، ابتداءً من المتن العاشر حتى المتن الرابع عشر ـ الأخير. وقد ترك الكاتب هذه المتون الخمسة الأخيرة بلا عنونة، مكتفياً بترقيمها. أما المتون التسعة الأولى فلكل منها عنوانه الذي جاء بالتنكير، كترقيم كل متن، لكأن التنكير بذلك يكتفي بالإشارة ويفتح المدى ويطلق الحالات التي تتوالى: (تشوّف ـ إيغال ـ تلاش ـ إدراك ـ نشوة ـ ظل ـ ألق ـ صمت ـ قصة).
من المتن السابع إلى المتن التاسع يغدو السرد أقرب إلى النجوى أو إلى الخاطرة، مما يعتمل في أحدهم نحو الهرم. أما المتون السابقة فيقدم كل منها ما هو أقرب إلى القصة، تاركاً للأهرام أن تشبك القصص. فالمتن الأول يقدم التهامي المغربي منذ طفولته وطلبه للعلم والحكمة والأدب إلى حجه ودفع شيخه لـه إلى الأهرام، إلى طوافه في بلاد المشرق وأقطار الزنج، ثم مقامه أمام الأهرام في لحظة التأمل والوجد، وحيث "يستحيل العشق بدون المعرفة"، والنظر إلى الهرم من كل ناحية في محاولة تلو المحاولة، حتى يستوفي السابعة، ويبدأ الاختلاف منذ الثامنة.
إن ذلك البناء "المهيمن المشرف الملغز المحيط الدال الجلي الثابت الساري القريب في بعده البعيد في قربه" هو غاية الرواية في قصصها الفرعية وفي شذراتها، وفي شخصياتها وتناصاتها وأحداثها. ويتوسل الكاتب في ذلك مستويات لغوية شتى، يسطع منها ما ينتسب إلى اللسان التراثي، سواء أكتبه الغيطاني مجارياً اللغة الصوفية أم مجارياً لغة المؤرخ العربي القديم، ومنها ما يأتي به التناص مع المقريزي أو ابن إياس وسواهما، ومنها ما ينتسب إلى السرد المباشر العادي الميسر. وهكذا يصف المتن الثاني رحلة فتية إلى الأهرام مدفوعين برغبة المعرفة والوصول إلى تخوم المجهول، كما لم يسبق إليه أحد. وترصد الرواية مشاعرهم وتحولاتهم من مكان إلى مكان داخل الهرم، من الممر الأول إلى المرقى الثاني فالغرفة المربعة فقضاء واحد منهم، فانقسامهم إلى فرقتين عندما يظهر لهم طريقان، وصولاً إلى الإحساس بالتوحد: "هو هو، وهناك هناك. وهناك هو. تكتمل استدارته، فتلتقي النقطة بالنقطة. وتكون الالتفاتة إلى الالتفاتة".
ويقدم المتن الثالث شخصية عجائبية منذ النشأة والتعلق بالأهرام، والتساؤل حول سر تكوينها، إلى محاولة الصعود بدافع غامض. ومثل من سبق، ومن سيلي، ينتهي ذلك ببغتات من الإشراقات، ثم التلاشي. فابن الشحنة، كما يقدم المتن الرابع، وكما يحدّث ابن إياس، حاول ـ بطلب من المأمون عندما قدم إلى مصر وشغله أمر الأهرام ـ قياسها، فإذا بالعرض في القاعدة كالعرض في المنتصف. ويردد ابن الشحنة "الأمر حيرة.. الأمر حيرة.."، ثم يصعد إلى فوق، ويتلاشى. وفي المتن الخامس تظهر الهيفاء التي سيترجّع وصفها في الأنثى الصوفية أو أنثى الصوفية، في رواية (خلسات الكرى)، ويظهر الشاب، ويندفعان صعداً إلى رأس الهرم، ويتحدان ويتلاشيان. أما الشرقي القادم من سمرقند أو بخارى أو خوارزم في طريقه إلى الحج، فيلازم ـ في المتن السادس ـ الهرم كظله، وتتعدد الروايات حول أصله ورحلته ومآله، لينقلب كل يقين إلى سؤال، وهذا شأن الرواية من مبتدأها إلى منتهاها، لأن الأهرام والبناء والحالة الصوفية، كما يكتب الغيطاني، سؤال لائب.
إدوار الخراط: يقين العطش(15):
بعد ستة عشر عاماً من صدور (رامة والتنين)، باتت ثلاثيةً، بصدور الجزء الثاني (الزمن الآخر)(16) والجزء الثالث (يقين العطش). وفيما كتب الخراط من روايات أخرى، عبر اكتمال الثلاثية، كان للصوفية القبطية والإسلامية بخاصة، والكونية بعامة، فعلها الأكبر. ولئن كان التعبير الثقافي عن هذا الفعل هو ما غلب على الروايات الأخرى، فالتعبير الكلي عن هذا الفعل هو ما حكم الثلاثية، عبر شخصيتها المحورية (ميخائيل)، وفيما عاشت من تجربة الحب لرامة.
وكما يليق بالصوفي، جاءت رامة امرأة استثنائية. ومنذ الجزء الأول الذي ناصف اسمها عنوانه: (رامة والتنين) ترسمها الرواية هكذا: "المرأة الإلهية العرافة الطفلة الضاحكة الحارة التعسة، العابثة الداعرة القديسة العذراء الأبدية..". إنها امرأة لم تكن من سلالة البشر، لا نهاية لها الآن وأبد الدهر، وميخائيل الذي يراها غريبة يراها أيضاً جزءاً منه، لا انفصال لـه عنها.
هذه الممرضة التي تقرأ اللغات القديمة وتكتب الروايات وتعمل في ترميم الآثار وتطوي عشاقها ـ وتلك علامات سيرتها في الثلاثية الروائية ـ تومض في حياة ميخائيل وتختفي، تنقضها وتقيمها، فيهتف "أحبك حباً كاملاً، نهائياً، دون تحديد". ويرسم ميخائيل هذا الحب كجوهر ومطلق. ومنذ هذه البداية في الجزء الأول سينفي ميخائيل ـ شأن الصوفي ـ أن يكون الحب من قبيل الكفاءة، أو عدمها، فليس فعل الحب هو الموضوع، بل الحب نفسه. وسنقرأ في (يقين العطش) أن "الحب ليس هو ـ وحده ـ أبداً"، فهو "دائماً شيء آخر، بل تتجسد فيه دائماً أشياء كثيرة أخرى، ملتبسة، من معاني الحياة نفسها، بل الوجود". كما سنرى ميخائيل في الجزء الثالث ينفي معرفته بالحب، ويقول: "لعلني أحب الحب نفسه، بشكل ما، على طريقتي الخاصة، ولعل معرفتي الوحيدة أنني أحبك".
لقد افتتح الجزء الأول بالتوكيد على أن الحب هو الشيء الوحيد الذي لا يحتاج إلى تبرير، بل يأخذ ويعطي دون سؤال. كما أسرع هذا الجزء بالسؤال عما إذا كان الحب هو هذا النداء الذي لا رد عليه أبداً، ولا ينقطع. وسيلي أن الحب "عرامة شوق للحياة، لا تنطفئ أبداً، إيمان كلي بأن الإنسان لا يمكن أن يظل وحيداً، وأن الحب ليس كذبة". بيد أن ميخائيل كان قد رأى الحب لعبة، وسيراه فيما بعد كذبة، وهو الشهوة العارمة للخلاص من الوحدة. ويتوسل ميخائيل للتعبير عن حبه بالعديد من المتناصات الصوفية، فهذا شاعر صوفي يقول:
أرى الأيام صبغتها تحول
وما لهواك في قلبي نصولُ
وهذا آخر يقول:
فما جال في سري لغيرك خاطري
ولا قال إلا في هواك لساني
وهذا أبو منصور الحلاج يقول: "حويت بكلي كل حبك". وهذا القديس أوغسطينوس يقول: "بحثت عن الحب، مع الحب، وكنت أمقت الأمان". وتتوالى الأقوال: "تحمّل قلبي ما لا أبثه، وإن طال سقمي ومكنون إخباري"، "من لم يمت في الحب لم يعش به"، وأخيراً، وليس بآخر، هذا ذو النون الإخميمي، (بلديات) ميخائيل وإدوار الخراط، يقول: "أعرف الناس بمحبوبه أشدهم تحيراً فيه".
تلك بعض المتناصات في "يقين العطش". وقد أشار الكاتب في نهاية الرواية، بصدد سائر المتناصات، إلى أنه لم يثبت مظان ما اقتطف من تراث الصوفية والشعر المأثور والصحف اليومية، لأنه عدّها من نسيج الرواية. كما حرص الكاتب على أن يكتب بيت الشعر العمودي، حيثما ورد، بلا فصل بين الشطرين، توسّلاً شكلياً منه لمآل المتناصات ـ كقطبة ـ قُطَب من نسيج الرواية، فيما أحسب.
والمهم الآن أن ذلك الحب الصوفي من ميخائيل هو لرامة، لذلك كانت كما مر بنا امرأة استثنائية. لكن رامة امرأة من لحم ودم، جسد متعيّن، فكيف رسم الصوفي هذا الجسد؟
إنه الجسد الغني الوثير، القديم قدم الأزل، المتقلب بطينه، المتوفز بالشباب الغض، المتفتح بالرغبة الدائمة. ومن هذا الرسم في بداية الثلاثية إلى منتهاها يتساءل ميخائيل: هل الفيزيقية المباشرة الصريحة، هل الجسدانية البحتة هي النقية الخالصة لذاتها وبذاتها؟ وبقول ميخائيل، فإن عبادة رامة للجسد تجعلها مقدسة ونقية وإلهية: "أحس في هذا التمجيد غلوّ العابدين الذي يشارف الكفر، أو أن فيه سنتمينتالية لم تعد مقبولة في هذا العصر". وكذا، فليس هناك غير الجسد، والجسد جميل، لكنه ملتبس، وجسد رامة خالص الجسدانية، لكنه غير مصمت، غير خالص الوحدانية، أما جسد ميخائيل فغريب "عصي عليّ، غير مطاوع، جامد مفصوم".
هذا إذن جسد المحبّ، وذاك جسد المحبوب الذي هو جسد العالم. والجسد الذي يعنون فصولاً في (يقين العطش) فنقرأ: (جسد ملتبس ـ جسد طعين ـ جسد غامض الوضاءة)، ينهض فيها برمّتها جسداً صوفياً بامتياز، على الرغم من الإلحاح على الوصف الفيزيقي والفعل الجنسي، فهذا الإلحاح محكوم بالحب الصوفي، وعلاقة الجسدين صوفية، أي إنها علاقة اللذة والألم، العلاقة التي تنهك الجسد، وتتجاوزه، وتدغمه في جسد الكون، ليكون وصال الجسدين واتحادهما، اتحاداً بالكون.
غير أن هذا الوصال ملفوع بالألم واللوعة، ولحظة الفقدان كما نقرأ منذ البداية لا تنتهي. وإذا كان ميخائيل يخاطب رامة هاهنا: "أنا وأنت وقد أصبحنا نحن" فشوق الحب لا ريّ له، والعالم معجون بالألم. وفي (رامة والتنين) يعبر ميخائيل من جديد عن النحن التي اتحدت فيها الأنا والأنت باعتبار الأساس هو التوحد: "ألا يكون هناك الأنا والآخر، ألا يكون هناك اثنان، بل واحد، عطاء متبادل كامل وأخذ متبادل كامل". وفي الآن نفسه يقوم النفي، فنظرة رامة لميخائيل، كما يعبر، ليس فيها حب ولا بغض: "بل مجرد انقطاع لكل صلة، ونفي حتى للنفي نفسه، نظرة كائن من عالم آخر، ليس علوياً ولا سفلياً، ولا يحاذيني ولا يتجاوزني ولا يضمني ولا ينفيني فأعرف أنه النفي إلى أبد الآبدين". ويخاطب ميخائيل نفسه قائلاً: "أنت عندما تفقد شيئاً تعرف أنه لن يعوّض، ولا يعوّض، وترفض مع ذلك، ترفض هذا الحس بالفقدان".
إنها علاقة من الوجد والاتحاد والانفصام والألم والفقدان والنفي، ليس لأن المحبوب غير معني بالمحب، بل لأن المحب لا يروم سوى علاقة كهذه. وتلك هي الجملة الأولى في "يقين العطش": "كان حسه بالفقدان الذي لا يعوّض عميقاً". وسيوالي التنازع بلا كلل، فميخائيل ينقض ما أغفل، وينفي ما أثبت، والحب قائم في وجه كل نقض، غير أن النفي لا يزول، وهاهو العاشق الصوفي يسائل معشوقته: "وكان فيك تلفي، فهل كان فيك ـ أيضاً ـ بقائي؟".
ولأن قارئاً قد يعادل هذه العلاقة بالرومانتيكية والنوستالجيا، وربما بالمازوخية أو السادية أو سواهما من التحليل النفسي، أياً كان مذهبه، فإن ميخائيل يعاجل أيضاً إلى نفي الرومانتيكية عن الألم الملازم لعلاقته برامة، ويرى مرة أن الألم واقعة حسية فقط، ثم يرى أنها قد تكون واقعة روحية. وميخائيل يهجو الألم: إنه شيء خشن، شعث، غير جميل بأي معنى، لكنه يعايش الألم متلذذاً، فهل من عجب أن يردد مع القائل، في متناص جديد:
فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي
وعيني على فقد الحبيب تنام
وما دام الارتواء الكامل هو يقين العطش، فماذا يعني أن يكون الحب الجسداني بين امرأة ورجل شرطاً للحوار الكامل؟ هل يقين العطش هو ـ كما يتساءل ميخائيل ـ الفناء وتحدي الفناء معاً؟ هل من يقين وعطش ميخائيل لا يطاق؟
قد يكون من المفيد هنا أن يلتفت المرء إلى المدونة الصوفية، على الرغم من متناصات ثلاثية الخراط معها، من أجل إضاءة الصوفي في هذه العلاقة بين رامة وميخائيل، فمماطلة رامة وصدودها هي مما قال فيه ابن الفارض:
عديني بوصل وامطلي بنجازه
فعندي إذا صحّ الهوى حَسُنَ المطلُ
والحب لدى ميخائيل هو مما قال فيه ابن عربي: "الحب يزاوج بين طلب الفناء وطلب البقاء... يدعوك إلى طلب المشاهدة فيفنيك عنك، ويدعوك إلى طلب إمساك الأمر فيبقيك معك". وكتابة جلّ الرواية في وصف رامة هو مما قال الجنيد في المحبة: "دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب". ولوعة ميخائيل هي مما قال فيها محمد بن سوار بن إسرائيل:
وهل تتحمل النكباء مني
إليهم حاجة القلب الكئيب
فتخبرهم بحفظ الود عني
وإن أضحى صدودهم نصيبي
فلنمضِ الآن إلى الفعل الصوفي في الزمن الروائي وفي الفضاء الروائي، حيث سيترجع في منتهى ثلاثية الخراط (يقين العطش) صدى البرهة الطللية في القصيدة الصوفية، فلنقرأ: "هذه الأطلال صروح ما زالت شامخة وقائمة الأركان، حتى إن كان أهلها قد رحلوا عنها. رامة ما زالت. ليست رسماً دارساً طوحت به عاصفات الليالي، بل هي حضور". ويتوج فصل "جسد ملتبس" من "يقين العطش" هذا البيت لجرير:
حيّ الغداة برامة الأطلالا
رسماً تحمّل أهله فأحالا
ولا ينسى ميخائيل أطلال رامة على طريق بيت الله. ولعمري، كان قميناً به أن يردد خلف ابن سوار أيضاً:
سلام قد تضمّن كل طيب
على جيران رامة والكثيب
تستدعي البرهة الطللية ما انقضى، متنكبةً الحاضر، ولائبةً على المستقبل الذي يعيد الماضي. وهذا القوام الزمني هو ما تأخذ به الرواية، فالحاضر يظل باهت الحضور وضامر الفعل، يظل كحاضر الصوفي قفراً وكآبة وانكساراً. هكذا يبدو العقد التاسع من القرن العشرين في مصر، في "يقين العطش" عبر ما ترسم من الأحداث الطائفية في المنيا، أو من تهريب الآثار وترميمها. وقد تكون الاستدارة عن الحاضر في الجزء الأخير من الرواية أقل أو أصغر منها في الجزأين السابقين، لكن العين تظل لائبة على كل حال خلف عنوان الجزء الثاني من ثلاثية الخراط: "الزمن الآخر". وهكذا يقوم بناء الرواية على الفصول الطويلة التي تستعيد ما عاش ميخائيل ورامة، بالتزاوج المحدود مع لحظة ما من الحاضر، وبالنشدان بين حين وحين لمستقبل يتجاوز الوجود الشقي (الحاضر) ويعيد الماضي السعيد والفردوس المفقود.
ربما تشي لعبة الزمن هذه في ثلاثية الخراط بالتزامن والتكسير والاندغام بين الأزمنة التي يقوم بها زمن الرواية في التجربة الحداثية بعامة. لكن الثلاثية تكتفي من ذلك بأهونه، شأن القصيدة الصوفية. فمزاوجة خطي الحاضر والماضي، مع غلبة الأخير، ومناوشة المستقبل لماماً، هي ديدن الثلاثية التي لا تغيب عنها الرحلة أيضاً، شأن القصيدة الصوفية، سواء أكانت رحلة في الفضاء الطبيعي والعمراني والآثاري، أم كانت رحلة روحية ومعراجاً.
يقول ميخائيل إن قضيته هي أن الماضي لا ينقضي. ويقول أيضاً إن الرحلة عنده متصلة في عتمة ضاربة الضوء وسرية، وليست مراحل. وفي (حركة) ترميم الآثار في مآل الثلاثية يعد ميخائيل الترميم كذباً، والفن كذباً، لأنه تجميل، والأصل بكل خشونته أو بهائه أو بكارته، لن يقوم. وللماضي، للأصل الذي لا يستعاد مهما بذل الباذل، جماله الخاص الذي لا ينبغي ولا يجوز إصلاحه أو تعديله أو إعطاؤه صورة مغايرة، مهما كانت مشابهة أو مقاربة، أو حتى مطابقة، لأنها ليست الأصل.
تثبيت هو للماضي إذن وتمجيد، ويأس من الاستعادة يضارع ويصارع نشدانها. إنها المأساة التي تلفع الوجود، فلا يكون لميخائيل سوى أن ينقذف في الكوني، كصوفي، حيث الفضاء الطبيعي، والخلود، وحيث الحق، وتلك هي السيرورة الصوفية للرواية في الزمان والمكان، فالماضي والحاضر والمستقبل طيّ الفضاء الأكبر: طيّ الفضاء الطبيعي.
في الجزء الأول (رامة والتنين) تحضر الصحراء اللانهائية والنيل والورقة والغصن والحمامة وموجة الزمن الزرقاء الخضراء والزرقاء الثابتة، ويحضر وجه رامة الماثل أبداً في الزمن. وإذ تأخذ ميخائيل صدمة كشف، تتفجر تلك العناصر في الفضاء الكوني، فإذ برامة كالكون كله، فيها قبس من كيان متقد متسام وإلهي، وحكايتها مع ميخائيل هي حكاية كونية إلهية، وهما يضربان في عالم خاص قد تحرر من القيود ومضى في طريق بهجة كونية من الحرية والطاقة المبذولة بسخاء.
يسأل ميخائيل محبوبته: "هل تظنين أنك أنت ـ الحقيقة ـ موجودة في قلب هذا التيه... هل تظنين أنك أنت موجودة في كل عام من هذه الأفلاك التي تتماس، ولكن لا تتداخل، تتساوق ولكن لا تتقاطع أبداً، في كل عالم، وحده، من هذه التي تدور، غريبة كل منها عن الآخر".
هذا السائل هو عينه من صاغ من رامة امرأة خالدة، وخاطبها: "أنت محدودة ومحددة، دانية البحث عن كمال ما، مفقود، وكأنك كاملة، وكأنك خالدة لا تموتين". ورامة تتناسخ من قميص إلى قميص، فهي إيزيس إلهة الحب القديمة والأولى والدائمة، هي العذراء وأم حوريس، وأم المسيح وستنا الطاهرة وعشتروت وهيرا وديميتر وأفروديت، هي جماع المريمات، والجوهر غير الفاني: (رامة والتنين). ورامة هي نعمة، حوريس، حتحور، ليليث، إينانا، الأميرة ميريت، بنت الملك رمسيس الخامس، زهرة القمر المنير، محظية السماء، محبوبة رع، أم الإله، بنت رع...: (يقين العطش). وأياً كانت أسماؤها، فهي ذات ميخائيل الأخرى كما يجهر.
لكنه أيضاً يرى الأبد كلمة لا معنى لها، والبحث عن الدوام صبياني وبدائي قليلاً، ويخاطب نفسه: "أنت ترى نفسك ميتاً، وتعيش مع الموت، تعيش الموت، تحمله معك، تصبر عليه، وتعانيه، أنت تحمل ميتاً في داخلك، والميت هو أنت أيضاً، قبر متحرك يواري هذا المدفون من غير غطاء ولا كفن".
المحبوبة خالدة إذن والمحب ميت. الخلود والموت، أو الفناء بحسب الإيثار الصوفي الذي يردده ميخائيل، وهو القائل باشتياق الجسد إلى الفناء في الجسد الآخر. إنها أبدية الحب الصوفي التي تتشظى في ثنائياته الشهيرة: الحياة والموت، البقاء والفناء، الجسد والروح، المحب والمحبوب، الهجر والوصال، النقصان والاكتمال، والسلب دوماً في الذات المحبة، والإيجاب دوماً في الذات المحبوبة. وبالطبع، لا مكان للمنطق ولا للعقل في هذه المعادلات ـ الثنائيات، فميخائيل الصوفي يخاطب رامة "لا أحب المنطق. هنا لا أحب العقل"، والطريق سالكة إلى الجنون، وأولها الخمر والسكر.
في (رامة والتنين) حوار مطول بين الحبيبين حول الدونيزية بعامة، وفي ميخائيل بخاصة. والخمر بصنوف لا تحصى لا يكاد يغيب عن لقاء الحبيبين، فالنشوة حد الجنون مطلوبة، والجنون غاية ووسيلة، بالخمرة وبدونها. كذلك يتساءل ميخائيل وهَوْلاتُ الجنون جراء علاقته برامة، تصفعه: "هل أنا أجن؟".
لقد سبق ابن عربي إلى أن عدّ الجنون سقف المعرفة في حديثه عن عقلاء المجانين. وها هو ميخائيل يتقفى هذه الدرب الصوفية، حيث ثنائية العقل والقلب، وصولاً إلى الحق والمعرفة بالرؤيا.
يقول ميخائيل في الجزء الأول من ثلاثيته مخاطباً رامة: "المعرفة المحرقة هي معرفة من أحب. هذه هي المعرفة، فيم تفكرين؟ كيف تحسين؟ ماذا تقرأين؟ بم تحلمين؟ كيف تتنفسين حتى؟ ما خطاباتك، رؤاك، هذياناتك المخبوءة؟ ماذا في حقيبتك؟ أليس هذا فضولاً، والمعرفة ليست الملكية ولا السيطرة، هي الحق، وحدها، هي الحب". وهذا الحب ـ الجنس ـ المعرفة يملأ كل فجوات الماضي والمستقبل، من هنا يضيف: هذا الحب ليس تملكاً ذكورياً ولا انتهاكاً للمحبوب، كما سيلي في (يقين العطش)، فميخائيل يرى نفسه مقوماً أساسياً من مقومات جسد رامة. ولئن كان في "رامة والتنين" يرى الحق انهداماً للأسوار وتدفقاً لمياه الحياة المختلطة، فهو في "يقين العطش" يبدي ويعيد في التوله وفي التصوف بالعشق، وفي المطلق توقاً إلى "معرفتك معرفة شاملة في استضاءتك النورانية، وفي مباذلك الأرضية معاً، المعرفة الشاملة، الحب الكلي".
تلك هي الدرب الصوفية التي يحدو لها ابن عربي مرة، إذ يقول: "لو علمته لم يكن". ومرة إذ يقول: "سفور الحقيقة هو إفناء لكل عين سواها". وميخائيل في مضيه على هذه الدرب، شأنه شأن الصوفي، ستغدو عبارته تشبيباً بالمحبوب، وصفاً ومناجاة ومساءلة، وستكون مرة بعد مرة شطحاً، فالشطح ـ كما قال الطوسي ـ كلام ترجمه اللسان عن وجد، وميخائيل قد أخذه الوجد، فهو لا ينطق عن ذاته، وإنما عما يشاهد، كما قال الجنيد في شطح الصوفي، والمشاهدة هي للمحبوب الذي حدده الجنيد بالله، وحدده ميخائيل برامة جسداً ورمزاً.
لقد تخللت لغة الرواية حوارات بالعامية ومفردات ومتناصات، مما وشى بتعدد مستويات اللغة، ولكن تحت هيمنة اللغة الشاعرية التي تصل إلى الدفق وغنة الغناء والإصاتة والهزج، حيناً بعد حين. ولعلي لا أبعد إذ أعود إلى ما قال الشاعر الصوفي حسن رضوان في قول المتصوفة:
فإنهم أجلّ من أن تفتقر
أقوالهم إلى قياس مشتهرْ
أو اشتقاق إذ لهم قانون
ساروا به وسره مكنون
فلفظهم أقواله لا تفتح
إلا بذوق أو بكشف يمنح
فثلاثية الخراط لا تسير في نهج مطروق، وربما كان ذلك ما التبس على ناشر الجزء الأول (رامة والتنين) في طبعته الأولى، إذ عده مجموعة قصصية. وهذه الثلاثية غير معنية بأن يغمض بعضها على قارئ. وقد التفت الخراط في هذا الجزء إلى صنيعه اللغوي والبنائي فقال: "ولعل هذا الدفق من الكلام ليس إلا جسراً رقيقاً لا قوام لـه فوق المهاوي الغائرة المظلمة والمفتوحة في عمق الروح القلقة والأحشاء المتقلبة بالهوى والمضض والاشتهاء والجنون".
وفي مقام آخر يضع الخراط لعبته الروائية كلها موضع التساؤل، فنقرأ: "ألا ترى أن هذا الشعر أو التصوف، أو ما لست أدري، هو بتر وتشويه لنفسك أو للعالم؟ ألا تجد زيفاً وزيغاً وكذباً مقصوداً أو غير مقصود، أبيض أو غير أبيض، في هذه الزخرفة الشعرية أو التصوفية أو ما لست أدري؟".
سليم مطر: التوأم المفقود:
من أجل دراسة رواية سليم مطر (التوأم المفقود)(17) لا بد من العودة إلى روايته (امرأة القارورة) ابتداءً بالمرأة التي حملت الرواية اسمها ـ لقبها، أو بتوسل العجائبي وازدواجية السارد أو بإيقاع الحرب (العراقية الإيرانية)، وانتهاء بالرحلة السندبادية إلى أوروبا أو بذكريات الطفولة أو بوعي الذات والآخر أو بالوشاح الصوفي..
يتصدر رواية (التوأم المفقود) مقتطف من جلجامش، يلح عليّ بالإشارة إلى أنه عين المقتطف الذي صدّرتُ به روايتي (مجاز العشق ـ 1998)، ولكن بتصرف في صياغة فراس سواح له. كما يتصدر رواية مطر مقتطف من ألف ليلة وليلة، يستحضر للقارئ قصة السندباد البحري (العجيبة) ومؤاخاته للحمال. ومنذ البداية تنهض الشخصيتان المحوريتان في الرواية: الراوي (غريب) وشيخه (ومعلمه وشفيعه) توما الحكيم. وسيعرفنا الراوي في الفصل الخاص بالأخير أن اسمه يعني بالآرامية: التوأم. وكما في بداية الفصل الأول (المخاض) سيفتتح غالب الفصول قول للحكيم، فضلاً عما سيلي في بطن بعض الفصول. ويبدو قول الحكيم بعامة خلاصة نظرية لكل فصل، تتعاضد مع ما سبق وما سيلي، لتشكل فكرية الرواية ـ أطروحاتها في (العرفانية). ومن أجل ذلك جاء ملحق (حكاية الملك نبونيد نبي العرفانية) بعدما انتهت الرواية. وقد اقترح الكاتب في هامش من فصل (توما الحكيم) قراءة الملحق، ثم العودة إلى الرواية. ولعل من الأفضل هنا أن نبدأ بهذا الملحق الذي يؤرخ لنبونيد آخر ملوك بابل في القرن السادس (ق.م) والمتعلق بأمه التي تقدس إله القمر (سين) أكثر من ملك الآلهة (مردوخ). وتقديراً من نبونيد لأمه سعى إلى إعلاء شأن (سين) كإله للأنوثة والمشاعر الروحية، بخلاف (مردوخ) إله الفحولة والقوة. ويعد نبونيد أول باحث أثري في التاريخ لأنه نقب عن كتابات أسلافه، فأدرك أن المشكلة هي انحطاط ديانة المشرق إلى طقوس، وفقدان الناس روحانيتهم. لذلك دمج فكرة (المنقذ) الشامية الدهرية (تموز ـ بعل: إله الخصوبة والذكورة) بفكرة البعث والحسابات المصرية، فظهرت (المنداعية ـ العرفانية) كتعبير بسيط عن المعرفة الحدسية الطبيعية، وجمع نبونيد حوله أنصاراً، فتآمر الكهنة عليه من الفرس، وقرر الاعتزال عن الحضارة المحتضرة، فكانت (التيماء) قرب الحجاز، وصارت مركز نشر الدعوة العرفانية، وملتقى قبائل الرعاة الآرية الغازية على الحصان. بقبائل الصحراء العربية صاحبة (الجمل). وعبر قرون انتشر المعتقد العرفاني الذي عرف في الإغريقية بالغنوصية
(GNOSICISM)، وتشكلت طوائف العرفانية: العيسانية والصابئة والهرمزية والمانوية.. وصارت الإسكندرية مركز العرفانية بعدما دخلتها مؤثرات آسيوية وإغريقية، فكانت الأفلاطونية المصرية الجديدة تعبيراً فلسفياً عن ذلك. ويمضي الملحق إلى أن العرفانية بلغت ذروتها مع انبثاق المسيحية الشامية. وفي القرن الرابع الميلادي نشر ماني البابلي دعوته العرفانية، فصلبه الفرس وأحرقوه. ومن السلالة العرفانية مَنْ أسس يثرب ومكة، كما انحدرت قريش من سلالة نبونيد الذي يعتقد بعض أتباعه أنه المهدي المنتظر وصاحب الزمان.
ليست خلاصات الحكيم سوى بيانات هذا الملحق، كما أن الحكيم نفسه ليس سوى تعلّة الراوي ـ كيلا نقول قناة الكاتب ـ لإرساله نظره أو نظريته وفكره أو فكريته في الرواية، وهذا ما تجلوه الوحدة الأسلوبية لقول الحكيم ولقول الراوي، مما يعبر عن وحدة صوتيهما، وثالثهما: التوأم، وبخاصة في الفصل الخاص بتوما الحكيم.
في السطور الأولى من (التوأم المفقود) يخاطبنا الراوي على طريقة الحكاية التي سبقت إليها رواية (امرأة القارورة)، فنعلم أن الحكيم كشف لغريب ـ اسم الراوي ـ الكثير من أسرار الواقع والتاريخ، فبات يستطيع الآن: "أن أسرد لكم حكاية ترحالي العجيب في عوالم الوجد والفقدان، خارج حدود الزمان والمكان، بحثاً عن توأمي المجهول".
وقد بدأت الحكاية ليلة اندلاع حرب الخليج الثانية (17/1/1991)، حيث كانت مارلين ـ زوجة غريب ـ في مخاضها في المشفى، وغريب يصحو على صوت يستغيث: "أرجوك أنقذني من الضياع والموت. أنا أخوك يا غريب.. أنا توأمك أرجوك خلصني أرجوك".
في طفولته، تملك غريب إحساس بالغربة عن الجميع، ومنذ بداية وعيه أحس أن لـه نصفاً آخر: "كنت ممسوساً بفكرة خرافية بأني في حقيقتي كائن هبط من سماء أو من كوكب بعيد". أما شيخه فيؤكد أن لدى كل إنسان ثنائية ـ وسيكرر ذلك في فصل "متاهة (أنا).. (هو).." ـ يولّد صراعُها الشيزوفرينيا. لكن لعبة غريب وتوأمه، كلعبة آدم وصاحبه في رواية (امرأة القارورة) ليست مرضاً نفسياً، بل لعبة روائية في التجربة الروحية الحاسمة: التجربة العرفانية التي تستدعي الفعل الصوفي في الرواية.
تطغى الخطابية على حضور هذا الفعل عبر (رسالة) الحكيم التي يبلغنا إياها غريب في بيانات ـ افتتاحيات الفصول غالباً. وإذا كانت الفصول بعد ذلك تجسد أو تمشهد الفعل الصوفي بخاصة، وتفجر التخييل والعجائبي بعامة، فالخطابية تحضر من حين إلى حين، عبر الملخصات والوقفات السردية.
كذلك يبدو الأمر مع الفصل الثاني (سيدة القارورة) والذي يحيل على عنوان رواية سليم مطر الأولى (امرأة القارورة). فمن حكمة الحكيم: "أن الوطن مثل الله، حاضر في ضمائر حتى أبنائه الملحدين" إلى المرقص الذي يقصده غريب، ويستحيل إلى الوطن، إلى صوت التوأم يرتجّ كأنه من (نشيد الوجود) مخاطباً غريب: "تعال سأحكي لك حياتك وتحكي لي حياتي" إلى تدفق الوصف البديع لبحيرة جنيف وانبثاق الحورية الغامضة منها، حاملة قارورة خشبية؛ من ذلك نصل إلى (وحدة الوجود)، إذْ تتوحد سيدة القارورة بالبحيرة فالكون، وإذ تُرجّع مما سبق في رواية (امرأة القارورة) مخاطبتها لغريب: "أنت يا عزيزي غير موجود إلا هنا في رأسي.. ماضيك وحاضرك ومستقبلك وأحلامك كلها محفوظة هنا في قارورتي.. حياتك حياتي وترحالك ترحالي". ويلي رد غريب في هذا التبتل: "يا سيدة القارورة.. يا سيدتي ومالكة روحي وحياتي وتاريخي.. أنت ماضيّ وحاضري.. أنت الروح الحاملة لحيواتي السابقة واللاحقة.. أنت سر وجودي وأحلامي الأبدية.. خذيني.. خذيني أينما تشائين".
من متاهة إلى متاهة يرحل غريب، ولكل متاهة فصل، فتقوم الرواية بالرحلة التي يشتبك فيها السيري بالميتولوجي. وبداية ذلك تكون في الفصل الثالث (المتاهة الإيطالية) الذي يفتتحه الحكيم بتعليل صراع إنسان العصر مع ذاته في تجاهله لها والهرب منها "نحو بهرجات حياة مصطنعة". ويوالي الحكيم كأنه يلخص الرواية: "إن السفر الحقيقي هو الذي يجري في متاهات الروح، في خبايا الذاكرة: في الذات السرية المتحررة من قيود الزمان والمكان". ويحدثنا غريب أن متعته الكبرى هي السفر في الخيال: "إن تخيل الحياة، ظل بالنسبة لي، أكثر متعة وحرية من معايشتها".
في (عجيبة) من (عجائب) هذا الفصل ـ المتاهة، يلتقي غريب بالفتاة التي سكر معها في نفق محطة المترو إبان وصوله إلى روما، فيفكر بالسؤال (الغريب) الذي يهابه الرجال: ماذا لو وجدت نفسك امرأة؟. وذلك في إشارة إلى التوحد والاكتمال الإنساني الذي فصمته الذكورة، ولا يفتأ يقترن في الرواية بصورة الأنثى الصوفية. فإلى ما تقدم مع سيدة القارورة، سيلي في فصل ـ متاهة "(أنا).. (هو).." هذا الغزل الصوفي لغريب بإيمان ـ حبيبة عهده بالمراهقة: "إيمان الحاضر والماضي والأبدية.. سيدة العشق، ملكة القلب، باعثة الوجد، واهبة الحياة، وجهها السماء وجسدها الأرض.. هي الإيمان والشك والسؤال السرمدي.. هي الحياة والموت، الجنة والنار، هي الأكوان وما بعد الأكوان". وفي هذا الفصل نفسه يعود غريب إلى سيدة القارورة في اللحظة التي ابتدأت معها رواية (امرأة القارورة) فنقرأ في الرواية الجديدة كأنما نقرأ في سابقتها: "إنه يعيش عالم حلم في رأسها. الوجود بأجمعه ما هو إلا خيال في رأس هذه المرأة التي تعيش في عالم آخر هو أيضاً خيال، لكنه في رأس كائن أعظم. كل هذا التاريخ من آلاف وآلاف الأعوام والأوطان ما هو إلا دقائق من حلم في رأس امرأة تمارس رعشتها الأولى في أحضان عشيقها. هما يعيشان في عالم آخر يدور في رأس الكائن الأعظم. جميع أبناء هذه الأرض ما هم إلا حلم رعشة، بعنفها وهمجيتها وألمها وبهجتها وترددها بين تلاحم وتناء. شعوب تولد وتفنى.. حروب تخاض وحضارات تقام وبشر يمارسون لذة وتناسلاً، وارتعاشة هذه المرأة ما زالت تمنح الحياة لحلم الوجود". ويتصل بهذا النظر الصوفي للمرأة ما ترسله الرواية في اللذة والجنس والجسد. فتوما الحكيم يقول في متن (المتاهة الإيطالية): "إن الروح تتلبس بالجسد مجذوبة بلذة الجنس. إن شيطان الحياة الدنيا يتمكن بواسطة ارتعاشات اللذة من إغواء الروح وإقناعها لتهبط من الحياة العليا، وتدخل بذرة الخصب، فينشأ الوليد في الرحم. من اللذة تنبثق الحياة، وبها تستمر. إن فعل اللذة هو فعل الحياة، وهجر اللذة يدفع البدن لهجر الحياة والسير بدروب الموت والعودة إلى عوالم الأبدية. ألا ترى كيف تعوّد الإنسان من دون شعور، إلى الإكثار من فعل اللذة كلما هدده الموت وزادت مخاطره؟".
يبلغ الفعل الصوفي في الرواية مداه في فصل (توما الحكيم)، وبيانه ـ فاتحته: امتلاك الإنسان لطبقات عديدة متداخلة، وليس لماض واحد، بل لماض اجتماعي وماض كوني وماض بدني و "ماض روحي يرثه من الحيوات العديدة التي تناسختها روحه بمراحلها المتصاعدة من جماد ثم نبات ثم حيوان، حتى بلغت مرتبة الإنسان، وهي مستمرة بالتناسخ صعوداً إلى الإنسان السامي، الملاك الأبدي".
لقد التقى غريب بشيخه وهو يعبر الحدود السورية العراقية، عائداً إلى وطنه، متخفياً ومتقفياً أثر توأمه الذي ناداه ليلة مخاض مارلين واندلاع الحرب. فبعد أن صرعته الذئاب وصار كائناً من أثير، وتناسخت روحه في عوالم أليفة بأبدان سالفة، تلخص تطور الإنسان: نطفة من طوفان، جنين، وليد، طفل في غابة، شاب في مغارة، رجل يشيد مدناً ويحارب؛ وبعد أن جالت روحه في كل الأوطان، وتقمصت أبداناً في جميع الأقوام، بعد ذلك كله أفاق على ذلك الناسك (الغريب) في أطلال دير عرفاني قديم، بناه الملك نبونيد، حيث اعتكف المسيح ومحمد.
يعلّم الحكيم صاحبنا كيف يداوي بدنه من خلال مداواة روحه. والحكيم الذي يعرف عن غريب كل شيء يخاطبه: "إن توأمك هو دربك.. أكمل بحثك حتى نهايته وسوف تعرف سره". وبحسب الحكيم فالنفس جوهر خالد يتكون حوله جسد فان، والله "فيك حتى إن كنت لا تؤمن به". لذلك يدعو إلى أن نعامل الله مثل أب، وليس مثل ملك.
وفي التعبير الصوفي المعهود عن وحدة الوجود، تأتي الذئاب وديعة إلى الحكيم وغريب الذي كان جازماً عندما هاجمته بأنها "مختصر كلي لجميع الناس الحمقى الذين استغلوا طيبتي وسببوا لي الأذى في حياتي". وإذ يستفيق شوق غريب لمارلين وللماضي، ويطلب من شفيعه خمرة تسكره أو نبتة تدوخه، يقول الشفيع: "إذا رغبت الثمالة والتحليق أنت وبدنك في فضاءات الفقدان، فإني معك، وعندي لك طريقة تفوق بتأثيرها الخمرة والحشيشة"، وليس ذلك غير حفلة (ذكر) حول النار مع هتفة (الله حي). وما إن ينسجم غريب مع بدنه المتلوي والمتسامي حتى تباغته كائنات غريبة، هي الذئاب التي شرعت تشكل دائرة وهي تحوم حوله وحول الحكيم، تلعق الهواء كأنها تشارك في الرقص. وبالدبك واللطم والهلوسات والتمرغ في الأرض، يبلغ غريب "ذلك الوجد الذي تتفكك فيه مكونات الجسد، وتصير أثيرية كالروح"، ويمّحي لديه الفرق بين رؤى الوجود ورؤى دواخله، فتمتزج الأشياء وتنعدم حدود الزمان والمكان "حتى يستحيل الكون كله إلى كينونة واحدة تنطق بتلك الكلمات وحاوية سر الأبدية: حيّ". وفي الفصل التالي "متاهة (أنا).. (هو).." وبعدما يعود الحكيم إلى ثنائية الوجود، وإلى الثمالة يردف: "ما الجنون والهلوسات إلا تعبير عن فقدان العقل قدرته على السياحة فوق سطح البحر البدني وتحليقه في لجة الوجود الكلي الذي تنعدم فيه حدود الزمان والمكان. أما الموت فهو انقطاع الروح عن الوجود المادي البدني، والتسامي إلى تلك الأعماق الخالدة".
يقود الحكيم غريباً إلى المكتبة المخفية تحت الأطلال، حيث ألواح حجرية بكتابات مسمارية، ورقائق جلدية بلغات آرامية، وكتب مسيحية ومانوية بالسيريانية، وكتب إسلامية بالعربية، مما توارثه النساك وترجموه. وفي المكتبة باب لن يدخله غريب حتى ينضج. وفيما يُمضي الوقت قارئاً، يعود التوأم إليه فجأة، كما تظهر سيدة القارورة، فيكرر مما سبق، وبالإفقار عينه للفعل الروائي لصالح جهارة القول (الخارجي): "كل ليلة تأتيني لتغرقني في عوالم أحلامها. تأخذني في ترحال بين حيوات سالفة، كأني حقاً قد عشتها. أحداث عجاب جرت في أزمان ومدن مختلفة. تتناسخ روحي في أبدان ملوك وثوار ولصوص وشعراء ومحاربين وأنبياء ومعتوهين.. ودائماً كانت هذه المرأة معي". حتى إذا أنهكته القراءة اقتحم الباب المحرم، فغدا كأنه في رحم الأرض، وهنا يطلق الشيخ هذا الذي (نضج) قائلاً: "أمامك الدرب الذي سيقودك إلى توأمك".
يمضي غريب في نفق (غريب)، وتتكشف الجدران عن رسوم وكتابات من سلفوا، فيركض دون أن يبلغ مصدر الضوء الذي يلوح في النهاية، ويصير جزءاً من الأرض، ويقول كأنما الحكيم هو الذي يقول: "الإنسان ما هو إلا معبر بين الحيوان والملاك.. بين البدن والروح.. بين المادة والمطلق.. إن جهنم الإنسان تكمن في حيوانيته، وجنته تكمن في روحانيته". وفجأة تشرخ صمت النفق انفجارات وضجيج طائرات: إنها الحرب، وإنه العراق: إنه الواقع.
بالعودة إلى الواقع نعود إلى بداية الرواية لنتقرى في شخصية غريب وحكايته وعيه للذات الفردية والجماعية ووعيه للآخر وللعالم. فاسم (غريب) كما يسرد هو (جمعة) – أي إنه سيد ومنذور للإمام العباس أو الرأس الحار، أي إنه مقدس – و(جمعة الحلفي) هو اسم الكاتب سليم مطر. ومن المفارقة هذا أن جمعة الحلفي هو أيضاً اسم الشاعر الشعبي العراقي المعروف. وينتسب غريب – جمعة كما يسرد في الرواية إلى ذلك الجيل الذي قررت الحكومة العراقية توحيد تواريخ ميلاده في يوم 1/7، يوم موت تموز إله الخصب. وإذا كان (غريب) يؤسس لاستثنائيته في اسمه الأصلي، أو في طفولته كما تقدم، فهو يؤسس لتوأمته بسيرة أسرته: بدءاً من الأم التي لا تذكر إن كانت أنجبت توأمين، إلى العشيرة التي تسرّ أن لجمعة – غريب توأماً ضاع في طوفان، أو مات، أو لا يزال حياً. وفي الحاضر، في بداية الرواية، يؤسس غريب لتوأمته بحاجته إلى توأمه كي " يُعين نفسي على نفسي، ويكون حكماً في الصراع المحتدم بين أقوام ذاتي"، فكأنه آدم في رواية (امرأة القارورة) الذي يصدعنا بحشود وأقوام روحه. وعلى أية حال، فلعبة (القرين) هذه أليفة في الرواية، وحسبنا هنا الإشارة إلى رواية سليمان فياض (أصوات) وإلى روايات مؤنس الرزاز، وبخاصة (متاهة الأعراب في ناطحات السراب) حيث تقوم التوأمة أيضاً.
خاتمة:
مبكراً التفت مصطفى زيعور إلى ما بين التصوف والأدب الشعبي، وخص بالعناية (القصة الصوفية) من حيث صلتها بألف ليلة وليلة، ومن حيث لغتها (الحروف- السيولة- الإيحاء- الإدهاش- المصطلحات..) أو من حيث عالمها (الذاتية-الحكم-الطفولة-الكرامة..).
ومع اطراد الفعل الصوفي في الرواية، اطردت عناية النقد بهذا الأمر. أما بالنسبة لي، فقد توخى اختيار الروايات في هذه القراءة أن تتوزع جغرافياً، وأن تتواصل، منذ بداية الفعل الصوفي في الرواية العربية، في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وأن تتعدد التجارب، مع التركيز على ما قدم الغيطاني والخراط، وبخاصة الأخير في (يقين العطش)، لعل في ذلك ما يوفر مصداقية أكبر لنتبيّن ما كان من الفعل الصوفي في الرواية العربية، إنْ في البناء أو الشخصية أو اللغة أو الرؤية أو التخييل أو التناص.. وحيث باتت تشتغل عناصر التجلي والكشف والفقد والاتحاد والحلول والمعرفة والحق والعشق والجسد الكوني وسواها من عناصر التجربة الروحية الصوفية، فضلاً عن لعب المخيلة وتفجر التخييل ووهم الشاعرية وسواها من عناصر التعبير الفني.
لقد رأى فيصل دراج في صنيع أدوار الخراط كهانة جديدة، ونعت غالي شكري هذا الشطر من التجربة الحداثية الروائية بالحداثة الكهنوتية(18). ولئن صح ذلك أو بعضه – على الأقل- ففي زعمي أن التعبير الكلي أو الجزئي عن الفعل الصوفي، حاسماً كان أم غير حاسم، في الرواية العربية، يمكن لـه أن يوفر ويتوفر على الكثير، من الحفر في الذات إلى الحفر في التراث السردي الشعبي والرسمي، وفي الأدب الديني الشعبي بخاصة. كما يمكن لهذا الفعل أن يشرع الأسئلة في الرواية على الكوني والإنساني عبر مفاصل الإيمان والموت والحب والجسد والطبيعة والوجود والخلود.. فضلاً عن تطلّب ذلك كله إلى لغة – لغات. بيد أن الأمر ليس بهذا اليسر، فالمزالق تحف بالدرب، ومثال الشعر بادٍ للعيان، كما هو الأمر في تجربة إدوار الخراط، حيث وصل اللعب أحياناً إلى المجانية، في مقاطع الدفق التي تتوخى جرس حرف ما (من رامة والتنين: حرف الحاء ص 92- من يقين العطش: حرف الفاء ص 215. وهذان مثلان من أمثلة كثيرة). والأهم هو هيمنة الزمن الذاتي غير التاريخي على الزمن التاريخي، فمع هذه الهيمنة يتقدس الماضي، ويكون ما يتعلق بالحاضر وبالمستقبل في الرواية تكأة للماضي واستعادة، وتتوحْدن الذات وتتضبب الرؤيا، فهل ستعيد الرواية سيرة الفعل الصوفي في الشعر وما آلت إليه هذه السيرة من تأزم في التجربة الحداثية، أم إن الرواية ستستطيع أن تجعل من الفعل الصوفي فيها فعلاً مخصباً؟
الهوامش:
(1)-الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، والثانية عن دار البعث، قسطنطينة، الجزائر.
(2)-انظر: (نحو منعطف روائي عربي جديد) في كتابي: بمثابة البيان الروائي، دار الحوار، ط1، اللاذقية 1998.
(3)-من حواره مع عبد العزيز غرمول في مجلة الحياة الثقافية، تونس، العدد 83 لعام
1984.
(4)-اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1996، وانظر دراستنا لهذه الرواية في كتاب: الكتابة والاستجابة، ط1، اتحاد الكتاب العرب 1999.
(5)-منشورات رياض الريس، لندن 1990، وانظر دراستنا لهذه الرواية في كتاب: الرواية والحرب، ط1 الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999.
(6)-دار الكنوز الأدبية، ط1 بيروت 1998.
(7)-دار الحوار1997، وانظر دراستنا لهذه الرواية في كتاب: الكتابة والاستجابة، مذكور.
(8)-دار ورد، ط1، دمشق 1997، وانظر دراستنا لهذه الرواية في كتاب: الرواية العربية: رسوم وقراءات، مركز الحضارة العربية، ط1، القاهرة 1999.
(9)-مطابع صومادي، ط1 الدار البيضاء 1993.
(10)-انظر فصل (التشكيل الروائي العجيب) في كتاب (الكتابة والاستجابة)، مذكور.
(11)-دار الشروق، ط1، القاهرة 1989.
(12)-انظر دراستنا لهذه الرواية في كتاب: الرواية العربية، رسوم وقراءات، مذكور.
(13)-دار شرقيات، ط1، القاهرة 1994.
(14)-انظر دراسة عبد الرحيم جيزان لهذه الرواية في كتاب: لقاء الرواية المصرية المغربية، المجلس الأعلى للثقافة، ط1 القاهرة 1999.
(15)-دار شرقيات، ط1 القاهرة 1996.
(16)-دار شهدي، ط1، القاهرة 1985.
(17)-المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت-عمان 2002.
(18)-أنوه هنا بدراسة فريال جبوري غزول: الرواية الصوفية في الأدب المغاربي، مجلة ألف، العدد 17 لعام 1997، الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
|