مواهب أطفالنا .. كيف نرعاها؟
إن كثيراً من حضارات العالم القديم لم تهتم بالأطفال الاهتمام المنشود, كفئة اجتماعية مستقلة!!
ويعود ذلك إلى الاختلافات الاجتماعية والثقافية بينها, وسيادة المفاهيم الشعبية المتخلفة لتحصينهم من الأرواح الشريرة!!
وبعد بزوغ فجر الإسلام كان له أكبر الأثر في اكتشاف المواهب الطفولية, ورعايتها مما أنتج عظماء في التاريخ, تركوا بصماتهم الجلية في ميادين العلم والسياسة!!
وأحسن مثال على تعاهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- للموهوبين, تعاهده لعبد الله بن عباس -رضي الله عنه- حتى كان يبيت معه في داره، ولحديث "احفظ الله يحفظك" خير شاهد على ذلك!!
وقد استشفّ الصحابة هذا الأمر منه حتى أكمل مسيرته عمر بن الخطاب حين ضمّه لمجلس الأكابر من الصحابة، وقال له: لا تتكلم حتى يتكلموا! ثم يُقبل عليهم فيقول: ما يمنعكم أن تأتوني بمثل ما يأتيني به هذا الغلام الذي لم تستوِ شؤون رأسه!!
ولهذا لما رآه الشاعر الحطيئة أُعجب بمنطقه، وقال: من هذا الذي نزل عن الناس في سنّه، وعلاهم في قوله!!
وانظر إلى تعاهد والده العباس لهذه الموهبة الفذّة؛ إذ قال: يا بني! إني أرى هذا الرجل أكرمك, وأدناك فاحفظ عني ثلاث خصال: لا تفشينّ له سراً, ولا تكذبنّه, ولا تغتابنّ عنده أحداً!!
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يختص فقط عبد الله بن عباس, بل أفسح المجال للصغار لحضور مجالسه؛ مما حدا البخاري أن يبوّب: باب إذا لم يتكلم الكبير فهل للصغير أن يتكلم!!
دور الأم في توجيه الموهوب
يقع العبء الأكبر في توجيه الابن على عاتق الأم, وذلك لكثرة مخالطتها لابنها, ولانشغال الأب بطلب الرزق, فإن هي وضعت هذا الأمر ديدنها وشغلها الشاغل, بلّغها الله ما أرادت!!
فهاهي أم الشافعي, عندما ولدته في اليمن, لأنها أزْديّة وهو قرشي خافت عليه الضيعة, فقالت له: الحقْ بأهلك فتكون مثلهم, فإني أخاف عليك أن تغلب على نسبك, فجهّزته إلى مكة, فقدمها وهو يومئذ ابن عشر سنين, وجعل يطلب العلم!!
دور الأب في توجيه الموهوب
كم من القدرات العلمية خبت في سِن مبكرة, بسبب الحاجة وسوء الحال, وإصرار الوالدين على ترك مقاعد الدراسة مبكراً لطلب الرزق, وهنا تكمن مسؤولية الوالد في تفريغ ابنه لهذا الشأن.
فعلى سبيل المثال كان والد هشيم بن بشير يصنع الكوامخ والمخلّلات, ويمنع ابنه من الطلب حتى ناظر أبا شيبة القاضي وجالسه! فمرض هشيم! فجاء القاضي يعوده, فمضى رجل إلى بشير فقال: الحق ابنك فقد جاء القاضي يعوده! فجاء, فقال: متى أملّت أنا هذا فقد كنت أمنعك يا بني، أما اليوم فلا أمنعك!
وهذا النووي شارح صحيح مسلم, وعمره عشر سنين يهرب من الصبيان, ويبكي لأنهم يُكرهونه على اللعب، ويقرأ القرآن في تلك الحال, وجعله أبوه في دكان فجعل يشتغل بالقرآن.
فرآه أحدهم, فقال لأبيه: هذا الصبي يُرجى أن يكون أعلم أهل زمانه, وينتفع الناس به, فحرص عليه أبوه إلى أن ختم القرآن!
ملاحظة أحوال الموهوب الشخصيّة
الطفل الذي تبدو عليه سمات الإبداع, يمكن تميّزه, شريطة عدم تجاهله أو إحباطه, إذا ما أراد إظهار شخصيته غير العاديّة.
فهذا ابن الجوزي يحكي عن نفسه قائلاً: إني أذكر نفسي ولى همّة عالية وأنا ابن ست سنين, فما أذكر أني لعبت في طريق مع الصبيان قط! ولا ضحكت ضحكاً خارجاً قط، وكنت -ولي سبع سنين- أحضر حلقة المسجد, فأحفظ جميع ما أسمعه, وأذهب إلى البيت فأكتبه، ولقد كان الصبيان ينزلون إلى دجلة، ويتفرجون وأنا آخذ جزءاً, وأقعد بعيداً عن الناس وأتشاغل بالعلم!
فهذا الوعي بالتوجيه من هذه السنّ هو ما استدلّ عليه مؤخراً العالم الإنجليزي (بيرت)؛ إذ يقول: إن الطفل يستطيع ابتداءً من سنّ السابعة أن يفكر تفكيراً منطقياً, لذا يجب تدريبه منذ هذه السنّ على الاستدلال العلمي والمناقشة المنطقية!
أمثلة على نبوغ القادة السياسيين منذ سنّ مبكرة
هم قادة عظماء تميّزوا بالهمة العالية, وقوة الشخصية, ونفاذ البصيرة, وهذا لم يكن وليد الساعة!! بل أثبت التاريخ موهبتهم الفذة منذ الصغر, فهذا يعقوب الصفار الذي ملك البلاد، وكان وهو غلام يتعلم عمل الصُّفْر "النحاس" قال معلمه: لم أزل أتأمّل بين عينيه، وهو صغير ما آل أمره إليه؟ قيل له: كيف ذلك؟ قال: ما تأمّلته قط من حيث لا يعلم بتأملي إيّاه إلا وجدته مطرقاً إطراق ذي همة وفكر ورويّة!! فكان من أمره ما كان.
وكذلك التفت معن بن زائدة إلى ابن أخيه يزيد الشيباني وما فيه من علامات الفطنة والذكاء, فقدّمه على أبنائه, مما حدا بزوجته أن تعاتبه على ذلك، فقال لها: سأريك في هذه الليلة؟ وفى ساعة متأخرة قال: يا غلام, ادعُ لي أبنائي. فأقبلوا عليه جميعهم عليهم الثياب المطيّبة، ثم قال: يا غلام ادعُ لي يزيد! فلم يلبث إلا قليلاً أن دخل عجلاً, وعليه سلاحه, فوضع رمحه بباب المجلس, ودخل عليه! فقال: ما هذه الهيئة؟ قال: إني قلت إنك لا تطلبني في هذه الساعة إلا لأمر مهم. فقالت زوجته: قد تبيّن لي عذرك.
كيف أكتشف موهبة طفلي
يجب أن تُكتشف الموهبة عند الطفل، ومن ثم يتم توجيهها التوجيه الصحيح, والذي يكون كالتالي:
(1) توجيهه إلى مجالس العلم
لم يكن إحضار الصبيان إلى مجالس العلم, أمراً مستنكراً, بل كان هذا الأمر متواتراً عند السلف!!
فلم تُثبط الأم أو الأب من همّة ابنهما بدعوى تعقيده! أو حرمانه من اللعب! بل جنَوْا مكاسب عظيمة, ونجنيها نحن بدورنا, وهي علماء ربانيّون بلغت مؤلفاتهم الآفاق!
قال الإمام الرازي: أحضرني أبي إلى مجلس أبي حاتم, وأنا إذ ذاك ابن خمس سنين, وكنت أنعس فقال لي والدي: انظر إلى الشيخ؛ فإنك تحكيه غداً!! فرأيته!
(2) توجيهه إلى المجالات الأخرى:
قد لا يقتصر نبوغ الموهوب على الناحية الدينية, بل يمتد إلى مجالات أخرى، كالأدبية مثلاً، ومنها على سبيل المثال: الشعر, فقد كان بشار بن برد يقول الشعر وهو صغير, أعمى , وكان لا يزال قوم يهجوهم, فيشكونه إلى أبيه, فيضربه! حتى رقّ له من كثرة الضرب, فلما طال عليه ذلك, قال له : يا أبت لِمَ تضربني, كلما شكوني إليك؟ قال: فما أعمل؟ قال : احتج عليهم بقول الله تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) فجاؤوه يوماً يشكونه، فقال لهم هذا القول؟ فقالوا: فقه بُرد أضرّ علينا من شعر بشار!!
ومما يستظرف في هذا أن الكميت وقف على الفرزدق, وهو ينشد فقال: يا غلام، أيسرّك أني أبوك؟ فقال: أما أبي فلا أبغي به بديلاً، ولكن يسرني أن تكون أمي!! فحصر الفرزدق وقال: ما مرّ بي مثلها!!
(3) حاجته إلى الدعم المالي :
خوفاً على هذه المواهب أن تتوارى خلف ستار الفقر والحاجة, وتشجيعاً للموهوب بتعزيز ثقته بنفسه, وكسراً لحاجز الخجل من الإفصاح عما يعتمل في خاطره من إبداعات, كانت الحاجة إلى الدعم المالي:
وهذا القاضي أبو يوسف في صغره, وكان أهله فقراء, فقال له أبوه: يا بني لا تمدنّ رجلك مع أبي حنيفة, فأنت محتاج!!
فآثرت طاعة أبي, فأعطاني أبو حنيفة مئة درهم, وقال: الزم الحلقة! فإذا نفِدت هذه فأعلمني ثم بعد أيام أعطاني مئة!!
ثم تسير أم سفيان الثوري بالركب لتقول كلمتها الحاسمة في توجه ابنها إلى العلم: اذهب فاطلب العلم، وأنا أعولك بمغزلي!!
أين مواهبنا اليوم؟
فمن لأبناء المسلمين الذين خبت مواهبهم, واندثرت, ما بين وطأة العمل وتطلّب الرزق, أو تحت وطأة معلمين جهله همّهم أن يحفظ الطالب ما بين دفتي الكتاب دون أن ينظر إلى ما تحويه عقلية الطالب من إبداعات, واجتهادات, حيث يتحمل المعلم كل شيء ولا يقوم فيها المتعلم بشيء!!
فهي تقدم للصغار من الطلاب مشكلات الكبار بدعوى أن هذه هي الطريقة المُثلى لإعدادهم للمستقبل والتمرس بحياة الكبار, فعطّلت نموهم وألحقت بهم الضرر, فكان مثلها كمثل الأُ م التي تتعجل في إطعام رضيعها مأكولات الكبار من لحم وخضار بدلا من الحليب!!
وقد قال ( نيوتن) بأنه غير صحيح أنه اكتشف الجاذبية بمجرد رؤيته تفاحه تسقط-كما يظن الكثيرون- بل لأنه كان يفكر فيها دائماً, وأن نتائج بحوثه ترجع إلى العمل والكدّ الدائب الصبور!!
ثم نحن نكُب ّ على التراث الغربي ونتلقفه بكل مساوئه, ونندب أحوال المسلمين ونراها بلا إبداعات!!