كان سيف محقا
فقد بدأ الأمر يتبلور فى عقلى بصورة جدية, وكانت فترة غيابها بالنسبة لى جحيما لايطاق
برغم معرفتى الحديثة بها, وبضع الكلمات القليلة التى تبادلتها معها, لكنها أثرت في بشكل لم أعهده فى نفسى أبدا
لم تستطع اية فتاة أخرى أن تؤثر في سواها, حتى هايدى, جميلة الجميلات كما اشتهرت فى النادى, لم تحرك ذرة من مشاعرى
فقط لو تعلم أن أكثر ما أبغضه فى المرأة هو جرأتها الزائدة مع الرجال
كانت تسعى خلفى سعيا حثيثا, وأنا أحاول التخلص منها بلباقة, وأتجنب أماكن تواجدها مع شلتها, فمحاولاتها المستمرة لكسب صداقتى ما هى الا للتفاخر أمام شلتها, ولم تتركنى الا بعد أن يئست من استجابتى لها
أما ريم, فهى تدرك تماما أن انجذابى لإبنة عمتها قد يتحول الى واقع فعلى يدعمه جديتى والتزامى واستعدادى للزواج, وهذا مايثير غيرتها فهى وسيف حاليا حب مع ايقاف التنفيذ
مما جعلنى أتحامل على نفسى ولا أسألها عنها مجددا وأبقى منتظرا أترقب بتحرق يوم عودتها للنادى
وماذا بعد عودتها؟
كيف أتحدث اليها؟ وبأى حجة هذه المرة؟
وكيف اكون قريب منها دون أن أتسبب لها فى مشكلة أو أى حرج؟ ورغم ذلك لم أمل من انتظارها
ومع بحثى اليومى عنها فى أماكن جلوسها المعروفة, أتى اليوم الذى كنت أنتظره عندما أنهيت تدريبى وذهبت الى حديقة الأطفال ورأيتها تلاعب الصغيرة على الأرجوحة, كانت تقف بجوار الأرجوحة كما لو كانت تحرسها, اذا فهى لازالت قلقة أن يتكرر ما حدث
كان يجب أن أنتظر....أعلم ذلك
ماكان ينبغى أن أندفع وأهرول نحوها بتلك الصورة, لابد أن أتحكم بمشاعرى..
ولكن كيف والشوق اليها قد أكل قلبى من زمن
وجدت نفسى أقف أمامها وأتأملها
وظهر لى جانب آخر للتشابه بيننا
فذلك الذوق الرفيع فى اختيار الملابس, وتلك الألوان الرقيقة الهادئة, كم أحبها
عباءتها الواسعة بلونها الأخضر الداكن والخالية من أى بهرجة تزينها شريط رفيع من التطريز الأنيق على الذيل والأكمام الواسعة
وحجابها الكبير المنسدل ليخفى قوامها يتماذج فيه الأصفر مع الأخضر الفاتح فى تناسق رائع
كل تلك الأشياء الصغيرة البسيطة أحبها حقا
انتبهت أخيرا لوجودى, وعندما طال صمتى أخذت الصغيرة والخجل يغمرها وهمت بالرحيل, قلت بسرعة : آنسة ايمان
التفتت الي مندهشة
- فقط أردت أن أطمئن على الصغيرة
قالت باقتضاب : بخير والحمد لله
ثم أكملت بعد تردد وعينيها تهرب منى: كنت أود أن أشكرك لما فعلته فى المستشفى
ملأنى الفخر والسرور : لم أفعل سوى الواجب
قالت بحياء ووجهها يتغير الى اللون الأحمر بسرعه : لقد..لقد أرسلت لك حساب المستشفى مع ريم
أصابتنى صدمة كمن سقط فوقه دش بارد : ماذا؟ بالتأكيد لايمكن أن أقبل شئ كهذا
قالت بعد صمت : أرجو المعذرة, فعلى الرحيل
- آنسة ايمان...
كنت أعصر مخى عصرا , ماذا أقول, وكيف أرد على نظراتها المتسائلة, حتى هبطت على رأسى فكرة عجيبة
- أخبرتنى ريم أنك خريجة لغة انجليزية قسم ترجمة, ولديك خبرة فى الكمبيوتر
- قالت بدهشة : نعم
- أحتاج الى خبرتك فى الترجمة والكمبيوتر, فلدى مكتب محاماة شراكة بينى وبين اثنين من أصدقائى المحامين, وكما تعلمين لغتنا الثانية هى الفرنسية
نحتاج لمترجم ماهر بالإنجليزية ليترجم لنا عقود وأوراق الشركات التى نتولى قضاياها
كما نحتاج الى تنظيم أعمالنا وملفاتنا على الكمبيوتر فهل تقبلين
- عفوا, لا أستطيع أن أقبل, ففكرة العمل بعيدة تماما عن تفكيرى
تركتنى ورحلت وبقيت واقف فى مكانى كعمود الكهرباء ولسانى يتمتم بكلمات نصفها غير مفهوم من قبيل فكرى, فقط مهلة, تعرفى الى مكتبنا........
ماهذا الذى فعلته, وماذالك الهراء الذى أقوله؟
لدى اثنين من الشركاء لم أستشيرهم بالأمر
كما ان عدد القضايا التى يتولاها مكتبنا ثلاثة..فقط ثلاثة
والشركة التى استطعنا بصعوبة اقناع مديرها -الذى هو قريب لفتحى شريكى فى المكتب- بأن يتولى مكتبنا شئونها القانونية شركة صغيرة تصوغ عقودها مع عملائها باللغة الإنجليزية, ويمكننا بسهولة اقناعهم بصياغة العقود باللغة العربية
ورغم ذلك فلم أيأس بعد
وعندما ذهبت الى المكتب فى المساء...كان كل حديثى مع سيف وفتحى عنها, وأنا أحاول باستماته اقناعهما بضرورة وجودها معنا
أما سيف فقد وافق على الفور وهو يعلم أهمية ذلك بالنسبة لى
ولكم كان فتحى رائعا عندما تخلى عن رفضه ونزل على رأى الأغلبية وهو غير مقتنع
وكان محقا فى رفضه للفكرة, فالمكتب لايتحمل راتب موظف آخر على صغره وقلة القضايا
انتهت العقبة الأولى وبقى أن ينجح سيف فى اقناع ريم بالفكرة لتحاول اقناع ايمان بالعمل معنا
لم أتعلم بعد......
كيف فاتنى أن دخول ريم الى اللعبة سوف يفسدها لامحالة
فقد فاقت تصرفاتها هذه المرة كل التوقعات, وتفجرت ألغام ثورتها العارمة فى وجه سيف, فأمطرته اتهامات وسخرية وألفاظ لاذعة..وغيرها الكثير
- ايمان ايمان ايمان, وكأنها أصبحت فجأة محور الكون والكل يدور حولها
ترى ما الكارثة الجديدة التى يمكن أن ترتكبها تلك الطائشة عندما تعود الى البيت
عادت ريم الى البيت...
دخلت مباشرة الى حجرة المعيشة ومنها الى الشرفة الواسعة المفتوحة على الحديقة الخلفية للمنزل الكبير الذى تحيا فيه ايمان مع خالها وأسرته فى احدى المدن الجديدة
وقفت فى الشرفة قليلا تتأمل ذلك التجمع العائلى اليومى, حيث تتجمع العائلة يوميا بعد المغرب فى ذلك المكان الجميل,, وقد تنضم اليهم فى بعض الأيام احدى بنات خالها المتزوجات عندما تزورهم
كان الجو جميل وتأملت ريم أفراد عائلتها
حمادة وغدير يلعبان مع رامى ابن اختها رانيا التى أتت تزورهم وانفردت بأمها فى المطبخ يتسامران ويتبادلان الأخبار
أما الأب فقد جلس الى طاولة الشطرنج وأمامه ايمان كالعادة منهمكين فى اللعبة
ابتسمت ريم بخبث ونزلت الدرجات الثلاث للشرفة وعبرت الحديقة الصغيرة لتقف أمام طاولة الشطرنج مباشرة
لم يعيرها أحد انتباهه, لكنها تناولت احدى الكراسى الخيرزان وجلست تتأمل ايمان التى كانت كل حواسها منصبة على رقعة الشطرنج
قالت ريم بصوت يمتلئ بمعان كثيرة : مرحبا يا آنسة ايمان
ردت دون أن ترفع عينيها عن اللعبة : أهلا ريم
كانت ريم تراقب الإثنين بدقة وهى تهز ساقها وعينيها تبرقان بجذل
الأب : ترى أى حركة مفاجئة يمكن أن تقوم بها الطابية؟
رفعت ايمان حاجبيها لأعلى وقالت بابتسامة : من يدرى ؟ اللعبة مفاجآتها لاتنتهى
ريم : أعلمت يا أبى؟
قال دون أن يرفع عينيه : هات ما عندك يا ست فتكات
لم يبتعد عن الحقيقة حينما اطلق عليها ذلك اللقب
فالأب أعلم الناس بطباع ابنته, وأن لديها الكثير والكثير من الأسلحة الفتاكة
فريم عندما تهز ساقها بتلك الطريقة وعينيها تشع ذلك البريق الماكر, فهذا يعنى أنها تعد لعملية جديدة, وفى الغالب لها علاقة بايمان
- احذرى فقد يأكلك الفيل
- لست ممن يؤكل بسهولة
ريم : ايمان جاءها عرض عمل
غادرت عيناه رقعة الشطرنج ونظر الى ايمان بدهشة :حقا؟
ايمان بهدوء : عن أى شئ تتكلمين؟
ريم ببطء وجذل : أتكلم عن ..........عماد مصطفى
اهتزت يدها التى كانت تحرك احدى القطع فأسقطت العديد من القطع على الرقعة
الأب : ومن عماد مصطفى؟ ..نعم, تذكرت, أهو ذلك الرجل الذى كان فى المستشفى؟
ابتلعت ريقها : نعم
الأب وهو يشير باصبعه الى اللعبة : أسقطت الحصان
أخذت تعيد القطع الى أماكنها : عفوا خالى
كانت قلقة من لهجته ومن جمله التى يلقيها بين لحظة وأخرى, أيقصد حقا مصطلحات اللعبة؟ أم أن كلامه يحمل معان أخرى؟
الأب : تحدثى مباشرة يا آنسة ريم, عن أى عرض تتكلمين
ريم : ألم تخبرك أن عماد مصطفى المحامى قدم لها عرضا للعمل بمكتبه كمترجمة؟
ابتسم الأب وهو يحرك احدى القطع : هاها...كش... حركة غير متوقعة, أليس كذلك؟
بدأ القلق من لهجة خالها يفقدها التركيز فى اللعبة, لكنها ظلت صامته تحاول الحفاظ على هدوءها
الأب : وكيف عرفت بالأمر سيد بوند؟
ريم وهى ترفع احدى حاجبيها : لأنها عندما رفضت عرضه لف من الجهة الأخرى وطلب منى أن أحاول اقناعها لتوافق
عقد الأب حاجبيه بضيق وقال مندهشا : أهذا صحيح يا ايمان؟
كنت تحاول بصعوبة ان تثبت نظرها على رقعة الشطرنج : نعم, لقد جاء الي فى حديقة الأطفال وطلب منى العمل فى مكتبه كمترجمة, ولكنى اعتذرت عن العمل
- ولم يابنيتى؟, كنت أظن أن بقائك فى البيت سببه قلة الوظائف وعدم توفر وظيفة تلائمك
- ليس تماما, ولكن لم تراودنى الرغبة فى العمل
- كل الفتيات فى عمرك يتمنين فرصة كهذه, ولكن اصدقينى هل رفضك يتعلق بأسباب أخلاقية
ريم بسرعة : بالتأكيد لا, فعماد مصطفى سمعته فى النادى لاغبار عليها
اتى حمادة كالقذيفة من آخر الفناء عندما سمع اسم عماد : عماد مصطفى ياأبى بطل الكرة الطائرة فى النادى
ابتسم الأب: اممم وبطل أيضا, ان كان فوق مستوى الشبهات كما تقولون, فلم الرفض اذا؟
ترددت ايمان طويلا : لا أعتقد أننى أرغب بالعمل حقا
الأب بلهجة تشجيع : على العكس فالعمل سيفيدك ويملأ وقت فراغك ويوسع مداركك ويزيد من ثقافتك
اتت رانيا من الداخل تحمل رضيعتها : اظنك بحاجة الى التجربة, وان لم يعجبك العمل فاتركيه
كانت ريم تراقب بصمت المترصد وهى تسند خدها الى يدها وتهز ساقها وبريق عينيها يشتد
أما ايمان فترددت أكثر : لا أدرى ولكن...
أتت زوجة خالها تحمل أطباق الفاكهة وتضعها لى الطاولة, فقالت ايمان : ولكن قد يعترض الوزير
ابتسمت زوجة خالها : ابتعدوا عن الوزير, فهو لايخالف ابدا أوامر الملك, خاصة فى المصلحة
رانيا : اذا فالجميع موافقون
ادارت ايمان عينيها فى وجوه الجميع, كانت نظراتهم لها تمتلئ بالدفع والتشجيع والمساندة والحب
حتى توقفت عند ريم ونظراتها الغريبة التى أقلقتها بشدة
ترى ما الذى يمكن أن يفكر فيه ذلك العقل الجهنمى؟
وأى مفاجأة جديدة تعد لها؟
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>