لم أدرى أننى وقفت خمس دقائق كاملة أحدق فى الطريق الذى رحلت منه الا عندما أيقظتنى يد سيف على كتفى
- عماد, الازلت هنا؟
استفزتنى ضحكات الصغيرة الماكرة : يبدو أنه هنا, لكن عقله طار
نظرت اليها باستياء شديد : حسنا أريد تفسير لتلك المسرحية السخيفة
تنحنح سيف باحراج : احم, كما رأيت, احدى مقالب ريم
قلت غاضبا : وشاركت فيه كالعادة
- لا صدقنى, لم أكن أعلم بنواياها
- - ولم انت غاضب هكذا؟
- غاضب!!! انها تظننى صديقك
وضعت قبضتيها فى وسطها : وماذا يغضبك فيما تعتقده هى؟ فلتعتقد ما شاءت
- ولم تريدين احراجها بتلك الصورة؟
قالت باستهتار : تستحق, تريد أن تنصب نفسها وصية على تصرفاتى
بعد ما فعلته بها, ستفكر ألف مرة قبل أن تتدخل فى أى شأن من شئونى
نظرت الى سيف مستنكرا كل ما يحدث, فخفض رأسه خجلا وقال متحرجا : الآنسة ايمان, ابنة عمة ريم, وتعتبر كأختها الكبرى تماما, فقد تربت معهم فى بيتهم
كان غضبى يزداد : أتعتقدى أن المزاح يمكن أن يصل الى هذه الدرجة؟
قالت بحدة : لم يكن مزاحا, كان علي ايقافها عند حدها حتى لا تقفز خلفى فى كل مكان أذهب اليه وتمطرنى بنصائحها البالية
- ولم تجدى غيرى لتستغليه فى مقالبك السخيفة!
- وهذا أفضل مافى الأمر, فهى مثلك تماما تكره المزاح والمقالب
ليس من السهل الإنتصار على كائن متوحش كريم فى مشادة كلامية, فالجدال والتحدى هى صفات أساسية فيها
ولذلك فقد رحلت غاضبا ولم أستجب لنداءات سيف المتكررة
فى المساء............
وأنا جالس الى مكتبى, حاول سيف ان يهدئ من غضبى الذى لازال مشتعلا
- لا أفهم لم أنت غاضب الى هذه الدرجة, لقد انتهى الموقف ولم يمسك سوء, ولن تراها أبدا بعد ذلك
القيت بالقلم من يدى, وتركت المذكرة التى كنت منهمكا فيها لساعات طوال, وأدرت الكرسى الدوار بحدة لأواجهه
- تلك هى مشكلتك, تظن أن الأمر لايستحق الغضب لمجرد أن القصة انتهت ولن أراها مجددا
لا أدرى من منا من المفترض أن يغضب؟
خفض رأسه بخجل وعجز عن الرد
- افهم جيدا لم تصاحبك ريم, فطيبتك واستسلامك لرغباتها وتصرفاتها الطائشة تغريها , فهى لن تجد أفضل منك تقوده حيث تريد
لكن ما يدهشنى حقا هو استسلامك التام لها وتسامحك الزائد معها
ترك كرسيه واتجه الى النافذة ليتجنب نظراتى الغاضبة : عماد, أنت تتحدث عن ريم وكأنها شيطان, انت لاتعرفها جيدا, فهى من عائلة كريمة وأخلاقها لاغبار عليها
- أعلم, لكن عيوبها كثيرة, فهى طائشة ومتسلطة وتستغل طيبتك وحلمك معها بصورة سيئة
زفر بضيق : أنا أحبها, ولولا أننى لا أمتلك شقة ولا المال الكافى للمهر لكنت تقدمت لخطبتها على الفور
- وهى تعلم ذلك جيدا وتستغله لصالحها, وهذا ما يجعلنى قلق عليك
التفت الي متسائلا فقلت : أتظن أن علاقتك بها سوية؟ أو يمكن أن تنتج زواجا ناجحا؟
قال بيأس : لم أفكر فى ذلك, ان كل ما يشغلنى هو ارضاؤها, فليست لديك فكرة عما تفعله عندما تغضب لا أستطيع أن أرفض لها طلبا
- لايمكنك أن تسترضيها فى كل الأحوال حتى فى الخطأ
موقف كالذى فعلته اليوم لم يكن ليمر هكذا دون أدنى رد فعل منك
- أعلم, ماكان ينبغى أن تعامل ابنة عمتها بتلك الطريقة الدنيئة
فايمان بشهادة الجميع انسانة رائعة تستحق الإحترام والتقدير
وكأنما قد لمس شئ بداخلى, فوجدت نفسى أدير الحديث بحرص من ريم الى ايمان
- وان كانت كما تقول فلم فعلت معها ذلك المقلب السخيف
- ريم تشكو لى دائما من تدخلاتها المستمرة فى حياتها, وطوق الحماية الذى تفرضه عليها
- أتظن أن أحدا يستطيع أن يضايق ريم أو يفرض عليها شئ!
- ماذا تعنى؟
- أعنى أن الأمر بالنسبة لريم أكبر من هذا بكثير, ربما يكون نوع من الغيرة
- ربما, فهى دائما ما تحكى لى أن أباها يفضلها عليهم جميعا رغم أنها ليست ابنته
- اذا فهى تغار منها! لا أفهم..كيف لإنسان له قلب أن يغار من فتاة يتيمة
التفت الي مندهشا : وكيف عرفت أنها يتيمة؟
- الإستنتاج الأقرب للواقع, ان لم تكن يتيمة, فلم تعيش فى بيت خالها؟
- نعم ان خالها يفضلها علي أولاده جميعا حتى أنها أصبحت محور البيت, وما أثار غضب ريم حقا أن أباها رفض رغبتها فى الإلتحاق بكلية السياحة والفنادق وأجبرها على الإلتحاق بكلية الآداب لتكون مع ايمان فى نفس الجامعة, يبدو لى أنه كان قلق عليها
- على من منهما؟
- على ريم بالتأكيد كيف يمكن أن تتصور العكس, ان ايمان عاقلة ورزينه للغاية
لا أدرى لم هيئ لى أن الأمر غير منطقى وأن العكس هو الصحيح, لكنى لم أصارحه بحدسى, وتركته يتحدث عن ريم بكل انطلاق, فقد كنت موقن بنجاح هذا الأسلوب مع سيف
فاستخراج كل معلومة عنها يجب أن يأتى بصورة عفوية تماما ودون أن يشعر سيف باهتمامى المتزايد بها
فحديثنا الآن سينتقل بحذافيره الى آذان الآنسة ريم, مما يجعلنى أتخذ حذرى حتى لا تشعر بأننى مهتم بابنة عمتها
فلا يمكن أن تتوقع أبدا ماذا يمكن أن يكون رد فعلها, أوما هو المقلب القادم الذى تعده بعناية
وهكذا عرفت كل ما أريد معرفته عنها عن طريق صب الحديث بأكمله على ريم وعلاقتها بسيف, فعندما يتكلم سيف عن ريم ينسى كل شئ
عرفت موعد حضورها اليومى للنادى, ومكان جلوسها المفضل
والغريب أننى أدركت نقطة أخرى للتشابه بيننا, فهى مثلى لاتذهب للنادى الا لهدف محدد, ولا تجلس الا فى حديقة الأطفال لمراقبة غدير التى لم تتجاوز الخامسة, أو عند حوض السباحة لمشاهدة حمادة وهو يتدرب فى مدرسة السباحة
كان من النادر حقا أن ترى فتاة فى عمرها تذهب الى النادى فقط لمجالسة أطفال ليسوا بإخوة لها
فى حين تدور أختهم فى النادى مستمتعة بكل دقيقة من وقتها دون أن تعبأ بهم
كان ذلك كافيا بالنسبة لى لأنهى عملى فى اليوم التالى وأعود للبيت مسرعا وأرتدى أفضل ملابسى وأتعطر بأفضل عطورى, وأطير الى النادى تسبقنى دقات قلبى
وعلى غير عادتى لم أتجه من باب النادى الى صالة الكرة الطائرة, بل بدلت اتجاهى الى حديقة الأطفال ومع كل خطوة تقربنى منها كانت دقات قلبى تتسارع بجنون حتى شعرت وكأنه سيقفز من بين ضلوعى
وقتها لم أفكر فى ذلك الشعور الغريب الذى بدأ يغزو قلبى, فقد كان عقلى منشغلا تماما يحاول ان يجد سبيلا منطقيا لفتح حوار معها
فى حديقة الأطفال..كان الصخب والمرح الطفولى يملأ المكان بالبهجة
والطاولات المتراصة حول ألعاب الأطفال الكبيرة ممتلئة عن آخرها بذويهم يراقبونهم ويحرسونهم
درت بعينى أبحث عنها وأنا متلهف للقائها, وعندما وقعت عيناى عليها تسمرت فى مكانى ولم أستطع التقدم, يا الهى, ماذا دهانى, لأول مرة ينبض قلبى بهذا الشكل الغريب
لأول مرة تؤثر في فتاة ذلك التأثير
أدركت أننى غير مستعد لمواجهتها بعد, فاتخذت منضدة قريبة بعض الشئ لتمكننى من رؤيتها عن قرب
ولم أخش أبدا أن ترانى, فقد كانت عينيها متركزتين على صفحات مصحف صغير بين يديها لا تغادره الا لتطمئن على غدير وتعود بسرعة لتكمل تلاوتها الهامسة
وجدتنى مسحورا بتلك المخلوقة الملائكية ذات الوجه المستدير كأنه القمر بملامحها المنمنمة الرقيقة
قد لا يراها غيرى بمثل هذا الجمال الأخاذ, وقد يبدو للآخرين جمالها عاديا
لكن الجمال لدى مهما كان واضحا فى الجسد والملامح لايكتمل ابدا الا بجمال الخلق
ومع ايمان يتجسد جمال خلقها بوضوح مبهر لتراه العيون بسهولة
ومن خلال هذا المقياس وحده فهى تمثل لى أجمل من رأيت فى حياتى
وكل هذا الجمال يحرسه حجاب أنيق يلتف حول وجهها بعناية بطبقتيه الأبيض والوردى الهادئ, مفصحا دون ضجة عن ذوق رفيع فى اختيار الألوان
لم استمع لوخذات ضميرى المؤلمة وأنا أتأمل ملامحها الرقيقة بتروى
يالضميرى المعذب, كيف يمكن أن أسكت تلك الطلقات المنبعثة فى صدرى, مابين رغبتى فى تأملها وخوفى من ارتكاب ذلك الذنب
حاولت قدر جهدى غض بصرى
يا الهى غفرانك....
لقد ابتسمت....
ومع ابتسامتها الرائعه العذبة ذاب قلبى وعجزت عيناى عن التحول عنها لحظة
كانت تلوح بحب للصغيرة التى على الأرجوحة
ولم تمض لحظات حتى أتتها الصغيرة الجائعة عدوا لتتزود للشوط القادم من اللعب
وبسرعة أخرجت ايمان الطعام وبدأت تطعمها بيديها وتداعبها وتلاطفها والإبتسامة تملأ جهها
أسرنى ذلك الحنان وتلك البسمة الخلابة
يالسوء حظك ياسيف, أين هى من ريم المتوحشة المتسلطة
فهمت الآن لم تغار منها,فمخلوقة مثلها تحمل فى قلبها ذلك النبع الصافى من الحنان والرقة تسيل قطراته حبا لكل من حولها, من ذا الذى لا يستطيع أن يحبها.
أظن أن الوقت حان للتحدث اليها, فوجود الطفلة قد يخفف عنها بعض الحرج من التحدث الى شاب غريب عنها
التحدث اليها يحتاج الى تحفيز كل طاقات الشجاعة بداخلى, فان كل ما أخشاه أن تكون خطوتى الجريئة تلك سببا لإفساد الأمر, وبدلا من أن أتقدم منها خطوة, أتقهقر عشرات الخطوات
تقدمت منها بسرعة قبل أن أفقد شجاعتى
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>