شردت ولاء بعيدا وفى عينيها تعبير غريب, كانت مقطبة الجبين تفكر بعمق
بقيت صامته فترة حتى بعد أن توقف عماد عن الكلام
قالت ولازالت عينيها شاردتان بعيدا : لا أدرى لم يختار الناس الطريق الأطول والأصعب, رغم أن الطريق القصير سهل وليس به مطبات
هكذا تعلمناها فى المدرسة, أقصر مسافه بين نقطتين هى الخط المستقيم
كان بامكانك أن تجنبها كل ذلك وتوفر على نفسك وعليها ذلك النزيف الهائل فى المشاعر والقلوب
لماذا لم تتزوجها مباشرة وينتهى الأمر؟
عماد : كنت خائف أن ترفضنى, أردت أن أمنحها فرصة لتعرفنى جيدا
قالت باستنكار : وهل كان هذا ليشكل فارقا ان رفضتك الآن أو بعد أعوام؟
كل ما هنالك أنك ستزداد تعلقا بها يوما بعد يوم لينفطر قلبك عندما ترفضك
قال بأسى: لسنا ملائكة, وأمام الحب قد يفقد الإنسان عقله
لقد ندمت كثيرا على الأيام التى أضعتها بسبب ترددى
كم فرصة أضعتها لم تكن تتطلب سوى مفاتحتها فى الأمر
هزت ولاء رأسها بأسف : شئ مؤلم أن تتعرض لكل تلك المواقف دفعة واحدة, ومتى ؟ وهى تحاول أن تخطو أولى خطواتها خارج الشرنقة التى نسجتها حول نفسها
لم تكن مستعده بعد لمواجهة العالم المتوحش بصراعاته ومشكلاته المعقده
قرأت مرة كتابا عن اضطرابات النطق والكلام, اللجلجة ليست من عيوب النطق, ولكنها اضراب فى الطلاقة الكلامية
المصاب باللجلجة يكون خجولا وانطوائيا واذا ما تعرض لموقف اجتماعى صعب فهو يصب كل اهتمامه وتركيزه على تجنب الخطأ فى الكلام
وهذا هو أسوأ ما يمكن أن يقوم به, لأنه بهذه الطريقه يدفع نفسه للخطأ ويخطئ بالفعل مما يزيد من خجله وانطواءه
وهكذا يدور فى دائرة مغلقة لاخلاص منها
تنهد عماد بأسى : كانت تلك الفترة من أقسى الفترات التى مرت علي فى حياتى
كنت يائس تماما من أن أراها مجددا, خاصة وأن ريم قاطعتنى ومنعت أخيها من التحدث معى
وأخذت أتلمس أخبارها من أحاديث سيف لكن ريم أمعنت فى تعذيبى ورفضت أن تقول لسيف أى شئ عنها
كنت أتألم وأنا عاجز عن معرفة ما حدث لها واذا ماعرفت بالصدفة يتضاعف ألمى
وتحولت حياتى الى جحيم مستعرعندما علمت أنها تعيش حبيسة غرفتها منذ لقائى الأخير معها لا تتحدث حتى الى أهلها
أذهب الى النادى يوميا أبحث عنها فى كل ركن فيه علها تفك حصارها وتأتى ولو بالصدفة, أو يلح عليها الصغيران لتصحبهما الى النادى
حتى هذا الأمل فقدته, فقد انتظمت ريم فى احضار أخويها الى النادى, وأخذت مكان ايمان فى رعايتهما
كل يوم يتضاءل أملى فى رؤيتها وكدت أفقد الأمل تماما حتى سمعت صوت ينادينى : كابتن عماد
كان صديقى حمادة, لن تتخيلى مدى سعادتى وقتها لرؤيته
قلت : مرحبا حمادة, افتقدتك كثيرا
حمادة : أنا غاضب منك, ألم تعدنى أنك ستتحدث الى مدرب الأشبال ليضمنى الى الفريق؟
قلت باحراج : أنا آسف, فقد انشغلت ولم...
قاطعنى بارتباك وهو يتلفت حوله: أريد أن أقول لك شئ قبل أن تأتى ميدوزا
- نعم؟
- اذا أقنعت مدرب فريق الأشبال ليضمنى الى الفريق, أعدك أن أقنع أبى ليوافق على زواجك من ايمان
اتسعت عيناى بذهول واستمر هو فى الحديث بجرأة لم أعتادها : أنا أعلم أنك تحبها
هتفت بدهشة : من قال لك هذا الكلام؟
- وهل هناك من لايحب ايمان؟
كدت أقول كلمة لولا أن فزعنا على صوت قاسى قادم من بعيد : حمادة
قال الصبى وهو يرتجف : أتت الساحرة الشريرة
التفت الي وقال بسرعه قبل أن تصل الينا : عندما تذهب الى أبى لتخطب ايمان سأكون فى صفك,اتفقنا؟
هيا كلم مدرب الأشبال بسرعة
جذبته ريم من يده بعنف وهى تقول بقسوة : ألم أقل لك ألا تتحدث اليه أبدا؟ اذا فعلتها ثانية فسأضربك
خلص الصبى يده من قبضتها بصعوبه, ودفعها بكل قوته وهو يصرخ : ابتعدى عنى
وانطلق يجرى مبتعدا, أما هى فقد التفتت الي بغضب : ابتعد عنا, كفانا ما جاءنا من تحت رأسك, ليس لك شأن بنا, واياك أن تقترب من حمادة ثانية
تركتها ورحلت صامتا, كنت منشغلا تماما بكلام صديقى حمادة, لقد أحيا الامل فى قلبى من جديد وعلمنى درسا لن أنساه
فهمها الصبى ببساطته وتلقائيته
هذا ما كان يجب أن يحدث من البداية
خالها.........
ذلك الرجل الذى قام بتربيتها بعد موت والديها, منذ أول مرة رأيته فيها لمست على الفور مدى خصوصية العلاقه التى تربطه بايمان
ان كل ما قاله سيف وريم وحتى حماده عن حبه لها وتفضيلها على أولاده لا يعد شيئا أمام الحقيقة
وهذا ما أصابنى بالتوتر وأربكنى بشده وأنا جالس أمامه فى مكتبه داخل شركته الخاصة
لم يفت علي أنه يتأملنى بدقة وكأنما يقيمنى , أدركت لحظتها أن سيف لو كان مكانى وأتى اليه ليخطب ريم لكان الأمر أهون بكثير بالنسبة اليه
أخذ يسألنى الأسئلة المعتادة فى مثل هذه المواقف, لكن أسلوبه لم يكن عاديا بالمرة
كان يفكر طويلا قبل أن يلقى بالسؤال, ويفكر أكثر بعد أن أجيب
حاولت جاهدا اخفاء توترى الذى يزداد بعد كل سؤال, فلم يكن خافيا علي أن مستواها المادى أعلى مما أطيق
ان كل ما أستطيع تقديمه هى الشقة التى لم أنه أقساطها بعد, ومهر بسيط وشبكة أبسط مع الأخذ بعين الإعتبار ارتفاع سعر الذهب هذه الأيام
وأخيرا جاء السؤال الذى انتظرته طويلا, وهو سبب توترى, فقد قال لى بمنتهى الوضوح : ما الذى تستطيع أن تقدمه لها لتجعلها تعيش سعيدة؟
حاولت اخفاء توترى خلف قناع من الهدوء المصطنع وأنا أرد : آ..احم.. ان لدى شقة معقولة قاربت أقساطها على الإنتهاء, والأثاث سأشتريه بالتقسيط, أما المهر...
قطب جبينه وقال فجأة : هل ستبدأ حياتك بكل هذه الديون؟
كان لابد أن أكون صريحا قدر ما أستطيع, لكن, أصابنى سهمه مباشرة وشعرت برغبه عارمه لأرد رد مناسب : لست أفضل من أى شاب فى عمرى يكافح من أجل أن يبنى بيته بمال حلال
ووالدى لم يكن سوى مستشار يعمل فى الدولة, لم يملك فى الحياة سوى يد نظيفة وضمير يقظ
لذلك فهو لن يترك لى ولإخوتى ارثا أو عقارات أو أراض, لن يترك لى سوى تقوى الله
تبدلت نظراته لى ورأيت فيهما اعجاب خفى أكده شبح ابتسامة خفيفة على زاوية فمه
هل أحلم أم أن مارأيته حقيقة؟
قال بعد صمت : لقد فهمت كلامى خطأ, لم أكن أعنى المال بسؤالى
نظرت اليه بتساؤل, فقال : ان ما أعنيه هو أن تتقى الله فيها, أن تضعها فى قلبك وتغلق عليها جيدا
ايمان لاتحتاج الى المال, ولا تهتم له, ان كل ما تحتاج اليه هو الحب
حبك لها هو الذى سيحميها, وهو الضمان الوحيد لتحيا سعيدة معك
قلت بصدق : الله وحده يعلم مافى قلبى
هز رأسه وكانت ابتسامته أشد وضوحا هذه المرة, مما شجعنى لأسأله : اذا....فهل وافقت؟
قال : الا يجب أن أسألها أولا, ربما كان لها رأى آخر
هذه المرة كنت أكثر تفاؤلا, لدى شعور قوى ينبأنى بأنها لن ترفضنى
عندما دخل عليها خالها فى غرفتها التى صنعت منها محبسا لها كان لديه أمل أن النبأ الجديد الذى يحمله لها سيخرجها من عزلتها الإرادية مع الحزن والألم
حالة الحزن التى سيطرت عليها كان من أسوأ تبعاتها أنها أغرقت البيت بأكمله فى بحر من الكآبه, فايمان مخلوقة غير عادية, لا تتحدث عن آلامها ولا تحمل همومها لغيرها, بل تحاول قدر جهدها مساعدة الآخرين والتخفيف عنهم, واذا ما عجزت عن تحمل الألم فهى تنسحب بهدوء وتطوى قلبها على أحزانها حتى لا تحمل غيرها همومها
لكنها لاتفلح ..
فمثل ايمان روح جميله تمر كالطيف الجميل لكنها تترك أثرا عميقا فى قلب كل من يعرفها, فابتسامتها تغمر قلوب من حولها, وان غلبها الحزن فهو يطغى على كل شئ حولها, كما لو كانت تمتلك مجالا مغنطيسيا واسع المدى
تأملها خالها طويلا بأسى قبل أن يجلس على طرف الفراش وهو يزفر باحباط
كانت تستند الى ظهر السريروعينيها شاردتان بعيدا وملامحها جامده الا من مسحة هينة من بعض الحزن الكامن فى أعماقها
قال بأسف : لا أدرى الى متى ستبقين حزينة هكذا؟
أعلم أن الأمر كان شديد الوطأة على نفسك, لكنى لم أعهدك مستسلمة الى هذه الدرجة
ضايقه صمتها وظهر ضيقه فى صوته وهو يقول : حسنا..والآن كيف سأتحدث اليكى فى الموضوع الذى أتيت لأجله وسط هذا الجو المزعج من الصمت؟
كنا دائما ما نتبادل الحوار والمناقشات حول شتى الأمور, والآن كيف سأتحدث وانت صامته هكذا؟
انتظر قليلا علها تجيب, لكنه لم يحظ بأى ردة فعل منها
فقال بمكر: هل أعود اليه وابلغه برفضك؟ أم أن السكوت علامة الرضا كما يقولون؟
ألا تريدين أن تعرفى من هو؟
عندما زارنى فى مكتبى اليوم وبدأ حديثه معى كدت أطرده شر طردة, وأصرخ بوجهه(اذهب من هنا فليس لدى بنات للزواج)
ففى نظرى أنا ليس هناك رجل يستحقك
بدأت بعض عضلات وجهها تلين وتدور حدقتاها مفكرة لكن صمتها ظل مسيطرا
أكمل خالها : كلما تقدم لى شخص يطلبك للزواج استطعت أن أجد فيه عيبا لأرفضه, فكنت أرده (اذهب من هنا فابنتى لاتهتم بالزواج والكلام الفارغ)
أما هذا, حاولت قدر استطاعتى ان اجد به عيبا, لكن ابن ال......... ...المستشار أحبطنى, لم أجد به عيبا واحدا, كما أنه بطل رياضى فى ال......... الكرة الطائرة
لأول مرة تدير وجهها اليه ويبدو فى ملامحها الإهتمام
قال بدهشة : ماذا! اذا فأنت تهتمين حقا؟
لم أشأ أن أرفضه فربما كان لك رأى آخر, تركته معلق على كلمة منك, وهو الآن ينتظر ردك, فما رأيك؟
طال صمتها فقال : لا أظن أن الصمت قد يفلح هذه المرة, أنا شخصيا أتمنى أن يكون صمتك دليل على رفضك, فلا يمكننى أن أتخيل أبدا هذا البيت بدونك
ماذا أقول له فهو ينتظر على نار, هل أقول له ليس لدى بنات للزواج؟
نظرت اليه وقالت ببطء : لو..لو..قــ ..لت لى أن أر..فضه فسأرفضه فورا
ضحك قائلا : لم يخب ظنى فى ذكائك ولا تهذيبك, لدى الحق أن أفخر واقول لكل العالم انك ابنتى
طريقة شديدة التهذيب للإعلان عن الموافقة
تنهد بعمق وهو يقول بهدوء : لو قلت لك ذلك فأين أذهب من عقاب ربى؟ لا أستطيع أن أستأثر بك الى الأبد, عليك اكمال حياتك ككل بنت فى عمرك, وان كان هو على خلق ومتدين كما شهد الجميع, فقد فوت على فرصة رفضه, فلا أحب أن أقع فى الفتنه..كما يقول الحديث الشريف
تأمل الإبتسامة اليسيرة التى لاحت من بين ملامح الحزن فى وجهها : أتى الوقت الذى تطير فيه البلبلة التى أضاءت ذلك البيت بالبهجة الى عش آخر, سيخطفها ابن ال............ المستشار
هيييييييييه يا الله, سنة الحياة لا مهرب منها
فقط أتمنى أن يستحق الجوهرة التى سأمنحه اياها
أكمل بشجن : وكأن ستة عشر عاما لم تمر أبدا, ستبقين فى عينى تلك الطفلة التى كانت تتعلق فى كفى وأشترى لها الحلوى والمرطبات
>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>