المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
المسحراتي
هل تناول أحدكم شخصية المسحراتي في عمل أدبي له ؟
من فعل ذلك فليسجل هنا ما كتبه
وسأبدأ بنفسي : هذا جزء عن أحد شخوص روايتي " أنشودة الأيام الآتية " الصادرة عام 1990 عن هيئة الكتاب وهو فلاح ومسحراتي في رمضان .. وكل عام وأنتم بخير :
منتدى ليلاس الثقافيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان الرجال يتوسدون الأرض تحت شجرة التوت الكبيرة ، لا يعرف أحدهم أي جدٍّ من جدودهم هو الذي غرسها بيديه علي حافة التلال ، فنال بذلك العمل حسنات لا تحصى في الآخرة وهي تحنو عليهم وتحميهم من هجير شمس الصيف ، ويحلُّون أفواههم بثمراتها التوتية العنقودية عسلية الطعم ، ويقلمون أفرعها في الشتاء ليصنعوا منها أيادٍ للفئوس والمحشَّات ، أو يستعملونها كمطارق أو نبابيت ، والصغيرة الجافة منها تُحرق في المواقد الفخارية .
الآن ، تحت ظلها الظليل ، تتشابك وتتعانق كلمات حميمية علي ألسنتهم ، عن أولاد وبنات لهم طول وعرض ، صحة وشباب ، في المدارس للتعليم أو الحقول لفلاحة الأرض .
يبدو الحزن الشفيف علي ملمح " أحمد أبو عيسى " يستمع لكلامهم ولا يشارك ، أخذته كلمات " محمد " الخفير لولده " السيد " .. تارة يتبدى له في قميصه وسرواله يضرب الأرض بفأسه ، يعزق الأرض ويقتلع الحشائش الغريبة .. وتارة أخرى بـ " البدلة الميري " يركض بالبيادة السوداء فوق رمال سيناء كغزال برِّي ، قابضاً علي رشاشه وهو يعدو صوب الأرض المحتلة ..
أكان في " القُسيِّمة " أم في " الكونتيلا " عندما اندلعت حرب السابع والستين ؟
تخونه ذاكرته الآن بعد مرور السنوات ، كل الكلمات التي صافحت سمعه من الراديو الكبير في ذلك الحين صورتْ له أن المسألة برمتها مجرد نزهة ، وأن الرجال الذين طال انتظارهم يحققون الآن الحلم ، فالطائرات تتساقط والأسرى يرفعون رايات الاستسلام ..
إلي أي نقطة وأي مكان وصلت الآن يا " سيِّد " ؟ "
أحمد أبو عيسى " الفلاَّح ومسحراتي الجزيرة في رمضان كان يسأل نفسه وهو يستمع لإذاعيين يصرخون ويحثُّون ولده علي التقدم ، ولمطربين ومطربات يغنون وينشدون : صوت فهد بلاَّن " نحن للسيف " .. ونجاة الصغيرة " وطني وصبايا وأحلامي " ..
يستمع لهؤلاء وهؤلاء ، يتراوح قلبه بين الحزن والفرح ..
" السيِّد بطل من الأبطال .. لكني خائف عليه .. هو ولدي يا ناس "
في ليالي رمضان ، كان " أبو عيسى " يحمل طبلته الكبيرة ، يعلق حاملها بكتفه كي تستقر علي بطنه ، يرفع عصاه الجريد المنتهية بكرة صغيرة من القماش المشدود ، يدق الطبلة دقات منتظمة عند السحر ، تقرقع الخبطات الجوفاء وتشق سكون ليل الجزيرة ، يتسيَّد رنينها المكتوم كل أصوات الليل ؛ نقيق الضفدع ، نباح الكلاب ، مواء القطط ، غطيط النيام ، صرير السواقي ، أصوات جنادب الغيطان ، عواء الذئاب في جوف التلال الأثرية .. " أبو عيسى " يدق طبلته ليوقظ النائمين للسحور ، يمضي بخطو ثابت غير عجول ، يتقدمه " السيِّد " بفانوس الجامع الذي يفرش ظلاً باهتاً لضوء عليل وهزيل ، لكنه يبدد وحشة الظلمة وشفيف العتمة ، ويبين مواضع الأقدام علي أرض الشوارع الواسعة أو الساحات أو الأجران ، الماشي في الليل أعمى ولو كان بصيراً ، فالليل بهيمة خرساء .. دقَّات الطبلة تجرح صمت الليل الساكن ، " السيِّد " يحمل فانوسه و أبوه يتبعه بالطبلة . تنفرج بوابات الدور المغلقة ، تطل عليهما لمبات مشتعلة تتراقص ذؤاباتها فوق رؤوس النسوة اللائي نهضن في التو واللحظة ، كنَّ كسولات وهن يطردن عنهن أطياف النوم ، وينظرن بشفقة للعم " أحمد أبو عيسى " المسحراتي الذي لا ينام ولا يغفل له جفن قبل أن يوقظ الجزيرة للسحور ، يدارين تثاؤبهن بأكفهن ويمصمصن شفاههن ، ويتوقفن قليلاً مشدودات لرنين الطبلة الأجوف وضوء الفانوس الشحيح وللشبحين الراكضين بثبات ، يبدو الأمر في أعينهن كالحلم ، كالشيء غير الحقيقي ، كأنهن لم يخرجن بعد من جب النوم اللذيذ ، لكن " السيِّد " يلتفت إليهن ويلقي عليهن بصوته الحاد تحية المساء ، يفقن علي صوته الرجالي فيعزمن عليه لتناول طعام السحور بأصوات تتعثر وتضيع في صوت الطبلة السائد بجلبة عالية منتظمة ، فتبدو العزومة الواجبة كعزومة المراكبية في مركب تشق عباب البحر علي أناس يمضون علي أرض الجزيرة ، الرجل وولده لم يسمعا ، ولم يردا ومضيا في طريقهما . تعرف النسوة أنهما لن يتوقفا أبدا إلاَّ بعد أن يجوبا مناكب الجزيرة كلها من أقصاها إلي أدناها ، الأمر يبدو وكأنه فرض واجب عليهما ، لا ينتظران جزاءه من أحد إلاَّ الله ، يكتفي " أبو عيسى " من كلِّ دار صبيحة العيد بحفنة كحك أو بسكويت أو أو أقراص أو بلح جاف أو حلاوة مشكلة .. ولا شيء البتة غير ذلك . " أبو عيسى " رجل له أرض يفلحها ويأكل من خيرها وعينه ملآنة ، الطبلة والسحور ميراث أسرته أباً عن جد .
في صبيحة العيد يكبر الناس ويهللون للمولى في علاه الذي نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده ، و" أبو عيسى " جانب المحراب يجهز صينية نحاسية بالكحك والبسكويت والبلح الجاف وقرون الفول السوداني ، يناولها لـ " السيِّد " الذي يحملها ويمضي بها منحنياً بين الصفوف كي يتناول المصلون شيئاً حلوا يفطرون به قبل صلاة العيد .. هكذا جرت العادة عن " أبو عيسى " وولده .
تمضي دقَّات الطبلة وتتباعد ، فتنصرف النسوة لجلب الماء من الأزيار الواقفة في الباحات أمام الدور ، أو الصعود للسطح لإنزال الوقيد إشعال الكوانين علي عجل ، يعكفن مسرعات بلهفة لإعداد الطعام ، فالليل يمضي سريعاً والفجر علي الأبواب والرجال تنتظرهم نهارات للشقاء وأعمال مؤجلة ، هم فيها صائمون علي لحوم بطونهم ، لكنه رمضان ؛ الشهر الكريم له حلاوة وبهجة ، موائده عامرة بالخيرات من كل صنف ولون ، وتناول أفراد الأسرة طعامهم جماعة في الإفطار والسحور يظل طقساً محبباً يحرص علي الكل .كالزرع الشيطاني كبر منه " السيِّد " ورعرع ، تفرع عوده مبكراً عن بدن قوي ممشوق ووجه أشعل ، عندما رآه لأول مرة بـ " بدلة الجيش الميري " لم يصدق أن هذا الجندي هو ولده الذي كان يحمل الفانوس أمامه في الليالي المظلمة .. لكن أصوات المذيعين بالمذياع خفت حدتها ، وكان غناء المطربين والمطربات ينتحب بصوت فريد الأطرش: " إن للباطل جولة " ..
" السيِّد " ابن " أحمد أبو عيسى " الفلاَّح والمسحراتي وخادم الجامع ومؤذنه صار ورقة تحمل اسمه ورقمه العسكري ووحدته وسلاحه وكلمة " مفقود " ، وجنيهات قليلة تأتي أول كل شهر كمعاش يحملها ساعي البريد .. الغزال البرِّي شرد بعيداً ، الإمساك به صار الآن أمراً مستحيلاً .. " أحمد أبو عيسى " فقد ثقته بالمذياع .
في صبيحة يوم من الأيام حمل طبلته وطوح بها فوق سقف داره فاستقرت بين عقدتي حطب جاف ..
اكتفى بزراعة حوض أرضه والجلوس مع أصدقائه تحت ظل التوتة الكبيرة بجوار التلال ، أو خدمة الجامع إن أسعفه الوقت ، أو الأذان وقت كل صلاة .
ـــــــــــــــــــــ
|