كانت القرية غارقة في جوّها الرتيب, تحتضنها الجبال وتشرف على حراستها. يغتصبها الفقر وتضاجعها الأحلام. تبكيها أحياؤها وتندبها المزابل, ويرثيها الحرمان.
وقد زادها ذبولا تقبّلها لشهر أكتوبر حيث ينثني فيه كل شيء للمجهول, ويتولّد أمل التجديد والنفي والعطاء والحرمان. وحيث تنزل الأمطار سيولا على القرية التائهة لتجرف ما علق بها على مرّ السنين من آمال. ولتخلّف وراءها وحَلَ المآسي والمواجع.
الناس كعادتهم ملتفّون بالصمت وسائرون. لا شيء جديد, ولا إشاعة تشدّهم. جميعهم على نفس الشّاكلة, لهم أمل واحد, وحلم واحد, ووجه واحد.
حتى المقبرة تعيش الحرمان منذ زارتها سلوى أوّل مرّة منذ عام.
سلوى التي فقدت رفيقها سفيان, الذي يرقد في مكان ما من المقبرة.
سارت بخطى ثابتة, ولكن لما دخلتها أحسّت بشيء من الخوف يكتنفها, لكنها واصلت سيرها بين القبور في سرعة. يُسمع في كل خطوة تخطوها أنّة, آهة,أمل, وزهرة حبّ.
[URL="http://www.liilas.com/vb3/"]منتدى ليلاس الثقافي[/URLوقد زادها رداؤها الدّاكن روعة وبهاء وهو يلفّ جسمها الممشوق, شعرها الأسود يضاهي ظلمة الليل. وجهها بدر يضيء, صفحة ماء تترقرق رغم الأحزان والهموم البادية عليه. عينيها واسعتين تستقرّ فيهما مأساة تزيدهما بريقا وحلاوة. جبهتها بيضاء واسعة, خطّ عليها قدرها وماضيها الجميل المؤلم. فمها حبّة لؤلؤ. شفتاها ممتلئتين, مكتنزتين, يرتسم عليهما الشرود وعناء الأيام.
لم تهتمّ سلمى بعد موت سفيان لجمالها. لم تعد لعطرها ولا إلى فساتينها حزنا عليه ووفاء له. فالذي كانت تتجمّل له انتهى وقُبِر, جرفه سيل الخريف ليضع حدّا للسعادة, لينساه الجميع وتتذكّره هي. ليبقى نارا في صدرها, صرخة في ذاكرتها, ظلّ يتبعها أينما سارت, أينما حلّت. حلم مزعج جميل, أمل ضائع ومتجدّد.
لم تنساه.
لم تفارق ابتسامته مخيّلتها التي تأبى أن تكون عقيمة. فالحادثة تأرّقها في نومها ويقظتها. صوته وهو يتلاشى بين عجلات السيارة يصرّ على البقاء دوما رغم السنة التي مرّت على دمه الملطّخ بمطر الخريف وصفرة السّائق, وتمتمات الناس, وذهول الصّغار, وصرخاتها الضائعة.
لم تنساه.
وقفت لمّا وصلت قبره بعد أن ألقت نظرة على القبور المتناثرة, وعلى المقبرة الشاردة في صمتها الأبديّ. مسحت دمعتين ترقرقتا وسالتا على وجنتيها.
- لِمَ تصمت هكذا؟ لقد عهدتك متحدثا تكره الصّمت.
وجّهت كلماتها إلى الرّاقد أمامها بعد أن جلست عند رأسه وأخرجت من جيبها ورقة زال لونها. فتحتها بيدين مرتعشتين وكأنها تصلها للتوّ.
قرأت ما فيها بصوت عالٍ:
- "... إلى التي أضاءت شمع دربنا, وسقت زهور آمالنا لتفوح في ربيع العمر بعد أن سقتني الأيام المرّ والحرمان..إلى التي علّمتني كيف أحبّ, وتسبّبت في خلقي من جديد وصارت روحي بين يديها. حتى أن الأقدار صارت عاجزة ولو تجرّأت..."
ضغطت على الورقة, وانكبّت على حافّة القبر تردّد:
- قد بطّل تنبّؤك وقُبِرت وقبرتني معك.
فجأة.
تجمّدت في مكانها لما أحسّت بيد تقع على كتفها وأنفاس حارّة كاللهب تلامس رقبتها. استدارت بخفّة فلم ترَ سوى بياض القبور وجمودها, فسكنتها رعشة حتى بدت كعصفور ضرير. كزهرة كُسِر عودها. كأمل ضائع بين الدروب. كحلم اكتنفته ظلمات المجهول.
لم تصدّق ما أحسّت به, واستعوذت واستدارت لتودّع رفيقها المقبور, فتراجعت في خوف, وتعثّرت بحجر جعلها تسقط مطلقة صرخة فزع.
- لا..لا..مستحيل أبدا.
فركت عينيها لتتأكد.
وجدت سفيان يجلس على قبره ويشير لها بالإقتراب.
وزاد هلعها لما قام من مكانه وتوجّه نحوها ليأخذ بيديها ويعينها على الوقوف, فتراجعت إلى الخلف تصدّ بيديها, ولكنه لم يتوقّف, واقترب منها مبتسما.
- عجيب أمرك! تتعذّبين من أجلي. ولمّا أتيتك تهربين؟.
- مستحيل أن تكون أنت.. سفيان مات.
- لم أمت يا سلمى. كيف أموت وأنت هكذا؟
- .........................
[URL="http://www.liilas.com/vb3/"]منتدى ليلاس الثقافي[/URL- اُنظري. تأمّليني جيدا, إني أمامك.اقتربي مني وستتأكدين.
قامت وهي شاحبة, اقتربت منه وعينيها ترقبه. لفّت حوله, ومدّت يدا لتلمسه لكنها تراجعت لخوف أو لتحسّب. ولما تأكّدت أنه هو, ألقت بكلّ وساوسها وظنونها, والحقيقة وراء ظهرها, ورسمت ابتسامة على شفتيها وقالت في حذر.
- أمتأكد أنت أنك لم تمت؟ لا..أرجوك لا تتكلم.. فقط أخبرني أين كنت؟ ولِمَ نسيتني كل هذه المدّة؟
لم يجبها. تراجع إلى الخلف وقال:
- أكملي بقية الرسالة التي توقّفت عن قراءتها.
ردّت في استغراب:
- وهل نسيت مافيها وأنت كاتبها؟
- أرجوك, لا تخذليني. لأن ما فيها سيريحني إلى الأبد.
وفي لحظات وجدت نفسها تفضّّ الورقة وتقرؤها دون تردد.
-"....أنت فقط من بيده إحيائي ومماتي, أنت التي تخلدينني أو تقبرينني....".
[URL="http://www.liilas.com/vb3/"]منتدى ليلاس الثقافي[/URLتوقفت على شخير صادر منه.
صار غائر العينين, ونحف حتى بانت عظامه. زاد ظهورها, وأصبحت سكاكين قطّعت لحمه الذي سقط كتلة واحدة, ليبقى هيكلا بدأ يطول, ويطول حتى غاب وجهه عنها.
دهشت. حدّقت فيما رأته, ارتعشت مفاصلها لما سمعت أنينه المتواصل, واستغاثاته بها. جفلت لمّا خرج جميع المقبورين ملفوفين في البياض يئنّون.
جرت. توقّفت, ابتسمت, ثم سارت نحو الصّوت الذي يناديها من حيث لا تعلم مصدره.
قيل:
-"... يومها. رأت وحوشا تنهش لحم بعضها,وإلى جانبها عجوز يجلس وسط بركة دماء يقدّم أكواب الدم لعملاق دميم الخلقة ينكّل بجسد سفيان."
وقال آخر:
- "...رأت المقبرة تنفتح لشقّين, لتخرج أفعى بحجم الجبل, وطول القرية, تحمل على رأسها شيخا هرما يملأ الشعر وجهه, وبيده سوط من النار هوى به على قبر سفيان فسوّاه مع الأرض وأحرق ما بداخله."