من هي مارلين مونرو؟
هي "نورما جين باكر"، والدها الحقيقي وهو أحد العاملين في مجال المونتاج السينمائي، أما نورما فهي ابنة غير شرعية، تنقلت بين دور الرعاية الاجتماعية والملاجئ، وصاحبت عمتها وهي في سن الثامنة التي كانت تعمل مديرة لمنزل أحد الأثرياء، وقد تعرضت للاغتصاب وهي في سن التاسعة من هذا الثري، ولم تقبل عمتها شكواها عن الرجل قائلة: "إنه لا يمكن أن يفعل ذلك، إن هذا من وحي خيالك".
بعد فترة تركت عمتها، واستقلت بحياتها، ثم تزوجت من جار لها، وهي في سن الـ16 ، وصارت ربة منزل، ذهب زوجها مع القوات الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، فخرجت إلى العمل؛
وكان أول ظهور لها عندما طلب "رونالد ريجان" (الرئيس الأمريكي فيما بعد) قائد زوجها في الجيش (وكان زوجها يعمل مصورًا) أن يضع صور بعض الفتيات الجميلات على أغلفة المجلات الصادرة من الجيش للجنود كنوع من الترفيه، فوضع الزوج صورة زوجته، فكان هذا أول ظهور لها على الملأ.
وكان من حظها وصول صورتها لإحدى شركات الدعاية الأمريكية، فاتصلت بها، وبدأت تعمل كموديل في الإعلانات، بالإضافة إلى عملها "كومبارس" في السينما، وانفصلت عن زوجها.
وتروي هي عن نفسها أنها سعت إلى العمل السينمائي، وفي سبيل ذلك أسلمت جسدها لكل من يسهّل لها الوصول إلى هدفها، حتى حصلت على دور بارز في فيلم "شلالات نياجرا" في عام 1948م.
وحتى ذلك الوقت لم يكن هناك شيء يميزها عن كثيرات مثلها من صاحبات المنبت السيئ، والسلوك السيئ، اللاتي يرغبن في المال والشهرة، فكيف نشأت الأسطورة إذن؟!
الحالة الغربية
حين دخلت مجموعة من المتغيرات على الحياة الأمريكية، وعلى وضع أمريكا في العالم، فقد بدأت تتحول إلى الدولة الأولى في العالم، وخاصة بعد مشروع "مارشال" الذي قدمته أمريكا لإعادة بناء أوروبا.
ومع حالة الضعف السائدة بين القوى الاستعمارية القديمة، بدأت أمريكا في السعي لتحل مكانها، وتخلت أمريكا عن مبدأ "الانكفاء على الذات" الذي سارت فيه خلال فترة ما قبل الحرب، وصار من الضروري للإدارة الأمريكية أن تعمل بعقلية استعمارية جديدة، فهي لا تريد أن تتورط في استعمار عسكري تقليدي.
كانت الوسيلة المثلى لأمريكا هي إخضاع العقول والقلوب للنفوذ يضاف إلى هذا، السينما الأمريكية، التي صارت من أكثر الوسائل فعالية في هذا
الحياة الأمريكية
أما متغيرات الحياة الأمريكية فهي كثيرة، ولكن المهم في هذا المقام عدة عناصر، أولها: انتشار التلفزيون بين الجماهير الأمريكية، وهذا دفع بالناس بعيدًا عن دور السينما.
يضاف إلى هذا أن الصور التقليدية في السينما الأمريكية، من أفلام الجريمة ورعاة البقر صارت غير جذابة؛ إذ توجه الجمهور إلى صور الأبطال في المعارك الحربية، وصور المرأة الأمريكية المحافظة على بيتها.
وفي مواجهة هذا شرعت الشركات السينمائية في تمويل عملية تطوير للتقنيات السينمائية، فظهرت الشاشة المعروفة باسم "السوبر سكوب"، وبدأت الاستعانة بالخبرات التي كانت مستخدمة في الجيش في مجال الدعاية والحرب النفسية، ومراكز الأبحاث في مجال استطلاع الرأي العام.
وتشير بعض الدراسات إلى تغلغل مدرسة فرويد (التي ترى في الجنس الغريزة الإنسانية الأساسية) في فكر وتوجهات "هوليود"، وقد أيدت مراكز استطلاع الرأي أن أوروبا وأمريكا في حاجة إلى الترفيه، خاصة الجنود العائدين من الحرب، كما أفادت أن صورة المرأة المرغوبة عند الأغلبية هي الشقراء، البيضاء، أو بعبارة أخرى صورة "نورما جين" وفي ذات الوقت يريد الجميع أشكالا جديدة.
وفي ظل هذه الظروف مجتمعة كانت "نورما جين" قد ارتبطت بعلاقة بأحد كبار الشخصيات "بين ليون" في شركة فوكس، وهو الذي رشحها للقيام بدور المنقذ للسينما الأمريكية.
وتعاقدت شركة فوكس مع الممثلة الجديدة بعقد قيمته 1000 دولار أسبوعيًّا، وبدأت الشركة باستدعاء خبراء الحرب النفسية والإعلامية الذين خرجوا من الجيش؛ لإقناع الجميع بنموذج الجمال والأنوثة والإغراء، وتم اختيار اسم جديد للممثلة بحيث يكون سهلاً، هو "مارلين مونرو"، ولقب "مونرو" هو لقب عائلة جدتها لأمها، وصار اختصار الاسم هو MM، وهو ما عبر عنه البعض بـ mind making أو "تشكيل العقول"، وتم استخدام الخبرات التصويرية للفنان الإنجليزي "سيسيل بيتون" الذي وضع وجه الممثلة وحده في بعض الصور، والتي كان لها أثر واضح في الترويج من خلال كافة أشكال الدعاية، وشراء أقلام الصحفيين والكتاب للكتابة عنها، مع حجب أفلامها عن التلفزيون؛ لضمان تدفق المشاهدين على السينما لمشاهدتها.
وقد أصرّ مهندسو هذا النموذج على أن يكون الموضوع هو الجسد فقط، بمعني ألا يتم الترويج للجميلة المثقفة، أو الماكرة أو الذكية، بل التركيز على "الجميلة البلهاء" أو التافهة، حتى صار الأمر كما عبر زوجها الأخير "آرثر ميلر": "لقد صارت حالة دراسية في الجنس، وأصبحت لعبة الرجل المفضلة، ويجب عدم الاقتراب من هذه الصورة (الجسدية المحضة)، ولو منها هي".
وقد تزوجت للمرة الثانية من أحد أشهر لاعبي البسيبول (وهي لعبة أمريكية صرفة)، ولكنها طُلقت منه لاعتدائه عليها بدنيًا أكثر من مرة بسبب الغيرة.
علاقات متشابكة
ثم جاء زواجها الأخير من الأديب والسياسي الأمريكي "آرثر ميلر"، وقدم هذا الزواج نموذجا أمريكيا جديدا في استثمار السينما في المجال السياسي؛ إذ أراد أصحاب شركة فوكس في دفع الأديب "آرثر ميلر" الذي احتكرته سينمائيًا – تقريبًا – إلى الكونجرس الأمريكي؛ ليكون ذراعًا لها داخل السياسة الأمريكية، وذلك لتحصد به منافع ومصالح خاصة بها (حصل أصحاب الشركة بعد ذلك من خلال ملكيتهم لخط نقل ملاحي على حق نقل المعونة الأمريكية- الغذاء أو المعدات أو الأسلحة- لكثير من دول العالم).
ومن ثَمّ أعلن "ميلر" عن زواجه من "مارلين مونرو"، ويروي أحد أصدقاء الممثلة أنها اتصلت به صباح هذا الإعلان قائلة: "هذا الرجل مجنون، إنه حتى لم يخبرني برغبته هذه"، وتحت ضغط شركة فوكس وافقت، وكان الارتباط قبل أشهر من انتخابات الكونجرس الأمريكي.
وقد استثمر مديرو الدعاية مارلين خلال الحملة الانتخابية بشكل أثمر نجاحًا باهرًا لـ "آرثر ميلر"، وبدأت "مارلين" تختلط بالوسط السياسي، وقد دفع نجاح هذه التجربة إلى تكرارها في انتخابات الرئاسة الأمريكية، وبالفعل تم استثمار "مارلين" للمرة الثانية في تأييد "جون كيندي" في مواجهة خصومه، ونجح الاستثمار الجديد، وصارت صورة مارلين مونرو من خلال هذه العمليات هي صورة أمريكا، وقد عبر "جون كيندي" عن ذلك قائلاً: "إن هوليود تعيد تشكيل العقول، والتاريخ، فالناس سيفكرون بالطريقة التي ترسمها لهم السينما، وسيعرفون تاريخهم من خلال ما تعرضه الشاشة الكبيرة".
الشهرة والسعادة
وصلت مارلين إلى قمة النجاح بالمقاييس الأمريكية، وهو ما أكسبها شهرة ونجومية غير مسبوقة، وثراء كبيرًا؛ فهل حققت أحلامها؟ هل حققت السعادة؟ هل كانت صورتها الإعلامية هي الحقيقية؟ وهل كانت سعيدة بها؟ هل حاولت تغييرها؟ وماذا كان سيحدث لو حاولت؟
سنكتفي بشهادة إحدى صديقاتها التي تصف حلم مارلين الذي لم يتحقق، وهو الأمومة، فقد كانت- حسب رواية صديقتها- تعشق الأطفال، ورفضت نصيحة الأطباء باستئصال الرحم لوقف آلام نزيف كان يصيبها، وعندما تحقق الحلم، وحملت في بطنها جنينًا، كان سِفاحًا من علاقة بالرئيس الذي أيدته (جون كيندي)، وتحت ضغط زوجها وشركتها وعشيقها تخلصت من الجنين، وعانت من حالة إحباط شديدة.
من جانب آخر تروي لنا صحفية أمريكية قصة تحقيق صحفي مع مارلين قبل موتها بأسبوع واحد، فتقول الصحفية: إن احتكاك مارلين بالوسط الأدبي والسياسي نتاج ارتباطها بـ"آرثر ميلر" دفعها إلى القراءة في معارف أدبية وسياسية كثيرة، ولكن الجميع لم يكن يسمع ما تقوله، بل كان يسمع ما يريده هو، لجسدها، وليس لعقلها.
بداية النهاية
لتغيير تلك الصورة بدأت في تبني مواقف سياسية تجاه القضايا الجارية، فأعلنت رفضها للموقف الأمريكي من قضية الصواريخ الروسية في كوبا، وأعلنت دعمها لقضية الحقوق المدنية للزنوج، وتأييدها لحقوق العمال في مواجهة أصحاب الأعمال، وهذه الأمور كانت مصنفة عند الشرطة الفيدرالية على أنها تأييد للشيوعية، ولكن التأييد يأتي من صورة مارلين أو صورة أمريكا، فكان التعتيم الإعلامي.
ويضاف إلى صورة مارلين المغرية الجميلة كلمة "المدمنة" أو "الضائعة"، وذلك لمصلحة الجميع، وفي نطاق هذا التحدي، تقوم شركة فوكس برفع قضية ضدها؛ وذلك لأنها ممتنعة عن التمثيل في أدوار تكرس صورتها الإعلامية، كما أمرت رجال الأمن بمنعها من الدخول عند حضورها فكان لهذا أثره السيئ، فأرادت كسر الطوق عن طريق الصحافة، لكنها فشلت في نشر الحديث الذي كتبته الصحفية، لأسباب مجهولة، وهو ما اضطرها للقول: إنها ستعلن في مؤتمر صحفي حقائق محاولة اغتيال الرئيس الكوبي "فيدل كاسترو"، والذي كشفت الوثائق فيما بعد تعاون المخابرات الأمريكية والإدارة الأمريكية مع رجال عصابات المافيا في هذا الحادث.
موت الجسد وبقاء الأسطورة
كان موعد المؤتمر الصحفي الذي أعلنت عنه مارلين مونرو يوم 8 من أغسطس 1962، وقد زارها- كما كشفت الوثائق- روبرت كيندي (شقيق جون كيندي الذي قُتل في عام 1963) يوم 4 من أغسطس، وتطور النقاش إلى صراع بالأيدي، وتعرضت مارلين لضرب مبرّح منه، واتصلت الخادمة بالشرطة، وتم نقل مارلين إلى أحد المستشفيات، وتُوفيت به مساء 4 من أغسطس، وتم إخفاء الخبر حتى غادر روبرت كيندي المدينة، وتم نقلها في سرّية تامة إلى بيتها، كما تم إخفاء كافة تقارير الشرطة عن الأعين في هذا الوقت، وتم الإعلان عن موتها مساء يوم 5 من أغسطس، وإعلان الخبر صباح 6 من أغسطس (قبل يومين من موعد مؤتمرها الصحفي) بأنها "انتحرت عارية" في سريرها (لاحظ تكريس ذات المعني حتى في الموقف).
تبدأ بعد ذلك عملية تركيز على حياتها وأفلامها، فقد تبنى زوجها الأخير "آرثر ميلر" تراثها، واستمر في الحفاظ على الدفع بصورتها التي صنعتها السينما في كافة وسائل الدعاية، حتى إن إنجلترا باعت عام 1986 صورًا وكروتًا لمارلين مونرو وحدها بمبلغ 1،760،000 جنيه إسترليني، وبالتالي احتفظ عالم (ما قبل العولمة) بنموذج عالمي للأنوثة والإغراء، وصدق ميلر؛ إذ قال: "هذا النموذج يجب عدم الاقتراب منه حتى من قبل مارلين مونرو نفسها"!.