-4-
ـ وماذا فعلت بعدها ـ"
ـ " ما هو طبيعي ومتوقع .. صرخت بأعلى صوتي . ـ .. جاء الخدم إلى الحجرة ..لكن وسط الفوضى التي أعقبت صراخي فر ( الشيء ) مبتعدا .."
ـ" ولم يره احد وهو يغادر الغرفة ؟"
ـ" هذا ما حدث ..وطبعا جــ .. حسبني الجميع مجنونا .."
نظرت الى الدكتور ( رمزي ) الذي جلس جواري رافعا عويناته كعادته فوق خصلات شعر رأسه الأشيب .. لم يكن يملك أسئلة ، وكذلك كنت انا قد عرفت كل شيء عما فعله ( تورلسون ) منذ جاء الى الأقصر ..
لقد اتصل بي في الثالثة صباحا .. كلا لم تكن مكالمة ولكن كانت نوعا من العواء ، وبدا لي انه على وشك الجنون إن لم يكن جن تماما .. قال وسط عباراته المختلطة :
ـ" يجب ان تساعدني . لا بد من أحد يساعدني .. لم اعد أستطيع مجابهة كل هذا وحدي .. اسمع .. انا جاد فيما أقول .. سأقتل نفسي غدا .. ولسوف أحملك المسئولية كاملة في خطاب أتركه لإدارة الفندق .. ويوم أصير شبحا سأطاردك في كل ساعة من يومك و ..."
وهكذا لم استطع .. لم اجد سبيلا لمنع هذا المخبول من الانهيار التام ، إلا ان اتصل بالدكتور ( رمزي ) أستفتيه .. قال إن على ان اذهب الى الاقصر إذا اردت ان امنع معدوم الإرادة هذا من قتل نفسه .. إنه مصر على أنني قادر على إنهاء مأساته .. لا ادري السبب .. كأن هناك من أخبره أنني من كهنة ( آمون ) أو ربما ( آمون ) نفسه ..
إلا ان ما شجعني على الأمر هو أن (رمزي ) قال إنه راغب في الذهاب إلى الأقصر معي ، لأن الموضوع بدأ يثير اهتمامه .. تصور هذا ! أن ترى الأقصر ومعك عالم مصريات ! وأي عالم مصريات ! إن د.( رمزي حبيب ) ـ بالإضافة إلى سعة علمه ـ لذو حيثية ونفوذ لا بأس بهما ، ويمكن ان تفتح له المعابد والمقابر التي لا يراها الغلابة غير المتخصصين من أمثالنا .. إن الموضوع مغر بحق .. ولن يؤذيني في شيء ..
وحين وصلنا إلى الفندق ـ بعد رحلة مرهقة بحق ـأثار دهشتي ان ارى ما تحول إليه ( تورلسون ) في غضون أيام .. كان كما قلت نرويجيا بكل ما في الكلمة من معان .. اشقر جدا ..أزرق العينين جدا .. احمر البشرة جدا .. لكنه لم يعد يتمتع بأي نوع من التوازن العصبي ، وخطر لي أنه من الأسلم أن نسلمه الى السفارة النرويجية لتعني به .. كان جالسا في مقعده ينظر للأمام بعينين ذاهلتين دون أدنى نية لمبادلتنا النظرات او الحركة ..
سألته :
ـ " هل تعني ان إرجاع الذراع لم يكن كافيا كي تتركك اللعنة ؟"
قال د.( رمزي ) في نفاد صبر وبالعربية :
ـ" أي إرجاع ذراع ؟ يا ( رفعت) لا تكن ساذجا .. اولا انا اشك في موضوع اللعنة هذا .. ثانيا من الحماقة ان تحسب ذلك الفتى .. ماذا كان اسمه ؟ ( حميدة ) .. قد أرجع الذراع للمقبرة ذاتها .. من الواضح تماما انه وجد أمامه مخبولا يعرض مالا وفيرا .. لا توجد مشكلة .. هاتها يا خواجة وسأعيدها لك .. وبالطبع تخلص من الذراع على اول كومة قمامة وجدها ، وعاد ليأخذ ( الحلاوة ).."
هنا قال النرويجي بالإنجليزية ، وهو لم يفهم عبارة ( رمزي ) الاخيرة :
ـ" لقد خدعني الفتى .. لم يرجع الذراع مكانها .."
بالعربية قال د.( رمزي ) في تهكم :
ـ" لا توجد مستحيلات .. لقد فهمها هو الآخر .. إن الأجانب يحتاجون إلى وقت طويل قبل ان ( يدهنوا الو دوكو ) أو ( يفهموها وهي طايرة ) ، كما فعلنا نحن من أيام ( أحمس )!"
عدت أسأل ( تورلسون ):
ـ" الن تخبرنا بما رأيت حين أضأت الأباجورة ؟"
فالحقيقة هي انه لم يخبرنا بشيء قط .. كان ما رآه شنيعا لكني لا ادري ما هو .. فقط كان يرتجف ويداري عينيه كلما تطرق الكلام لهذا الجزء .. سألته في إلحاح :
ـ" ما دليلك على ان الفتى خدعك ؟"
ـ" هذا .."
ومد يده إلى درج الكومود جواره وأخرج لفافة لها كل أبعاد منشفة الوجه المطوية .. لم أكن في حاجة إلى فتحها لأعرف ما بها ..
ـ" الذراع ؟ .. ومن اعادها إليك ؟"
ـ " هو !"
ونظر لي للمرة الأولى بعينيه الزرقاوين .. وأردف :
ـ" الشيء الذي كان في حجرتي !!"
***
كما نتوقع جن جنون ( رمزي ) .. هرع الى اللفافة وفتحها بيدين ترتجفان .. اخرج الشيء الرهيب منها ، وراح يتأمله في انبهار وقد أعاد عويناته إلى انفه .. برغم أنني طبيب ، بل وقمت بتشريح مومياء من قبل ، فإنني وجدتني أتحاشى النظر إلى ما يحمله . لقد اكتسبت هذه الذراع قيمة كابوسية ثرية بحق .. قيمة تتجاوز بمراحل ذلك الاشمئزاز التقليدي الذي نستشعره تجاه الأشياء الميتة ..
صاح د. ( رمزي ) في حماسة :
ـ" رائع .. اعتقد انها أصلية بالفعل فلا أثر للتفليق فيها .. لكن المعاملة القاسية التي لاقتها في أثناء موضوع ( يد المجد ) هذا قد غيرت لونها وتماسك أنسجتها .."
قلت في ضيق :
ـ" ألا تري شيئا غريبا في هذا كله ؟"
ـ" بلى .. الأظفار طويلة جدا وهذا ليس شائعا في ..."
ـ" أتكلم عن زائر الليل الذي اعد الذراع للرجل .. الأمر واضح .. إنه يريد من ( تورلسون ) أن يعيدها بنفسه .. ولا يلجأ لأحد .. سيظل الكابوس يطارده كلما حاول الخلاص من هذه الذراع .."
قال وهو يعيد لفها وقد بدا واضحا أنه سيأخذها معه :
ـ" لا ادري إن كنت محقا أم لا .. لكن الأمر سيان عندي .. نحن سنجد المقبرة أولا .. ويمكن لصاحبك وقتها ان يعيد الذراع بنفسه .. والآن اقترح ان تجد حجرة في هذا الفندق لتعني به ، وتكون قريبا منه .."
ـ" ساحاول .. وانت ؟"
ـ" إن امامي عملا كثيرا .."
ثم راح يغمغم كأنما يكلم نفسه :
ـ" الأظفار . . الأظفار .. هوووووم .. هذا غريب !"
***
بعد يومين ، وفي العاشرة صباحا اتصل بي د. ( رمزي ) في الفندق ، ولم أدر أين بات ليلته لكنه كان نشيطا كبرغوث .. قال لي إن تحريات شرطة السياحة اثمرت ، وإن هناك بالفعل مقبرة منسية في الجبل ، يبدو أنها كانت مدفنا لعامة الشعب .. كان بعض الترجمانات يعرفها ، وبالذات الريس ( خميس ) الذي كان يلبي بعض الحاجات الخاصة لمن يدفع الثمن ، وكان يلجأ كثيرا للسرقة من هذه المقبرة .. الغريب هنا ان النقوش على المقبرة تعود لعهد الأسرة الرابعة ، وهذا غير مألوف ..
ـ" وما هو الغريب في هذا ؟"
ـ" الأسرة الرابعة هي التي كان ينتمي لها ( خوفو ) وسواه .. اسرى بناة أهرام .. في هذا العهد لم يكن لـ ( طبيبة ) أية أهمية ، ولم يكن أحد يدفن موتاه هناك .. لم تبدأ أهمية الأقصر إلا مع الأسرة السادسة ، وكما قلت لك ، لم يدفن هنا ملك إلا في الاسرة رقم 18 .. هل فهمت الآن سر دهشتي ؟"
ـ" هذه الأشياء تحدث .."
ـ" تحدث بالنسبة لغير متخصص مثلك ، اما بالنسبة لي فكان على أن اجد الإجابة .. والإجابة كانت في النقوش .. إن صاحب المقبرة يدعى ( ددي ) .. هل يذكرك الاسم بشيء ؟"
لحسن الحظ لم تكن أغنية ( شاب خالد ) الشهيرة قد ظهرت أيامها ، وإلا لبدا ردي سخيفا يصيبه بنزف مخي .. فقط قلت إنني لا اعرف .. قال في استمتاع :
ـ" ( ددي ) ـ الذي اعرفه انا ـ هو الساحر الخاص لدي ( ددف حور ) ابن ( خوفو ) .. كان يعيش في عهد الاسرة الرابعة في ( دد سنفرو ) ، وكان عمره مائة عام لكنه كان يأكل يوميا 500 رغيف وفخذ عجل ، ويشرب مائة جالون من الجعة .. هكذا تقول البرديات ..
ـ" ما شاء الله .. ما أهمية هذا الغول لما نحن بصدده ؟"
قال في حيرة كأنما يفكر بصوت عال :
ـ" لو كان هو نفس الرجل ، فلماذا اختار الأقصر بالذات ليدفن فيها ؟ إننا لا نعرف شيئا عن مقبرته ، لكن الدلائل حتى الآن تقول إنه هو الساحر الشهير .. وهذا هو الغريب في الموضوع .. يبدو أنهم دفنوا الرجل هنا على سبيل المنفي .."
ـ " إن البرديات تتكلم عن انبهار ( ددف حور ) ابن ( خوفو ) بهذا الساحر ، وكيف حكى لأبيه عنه أغرب الأشياء ، من ثم استدعي الأب الرجل ليرى ما هو قادر عليه ، وكان استعرضا الرجل مبهرا : لقد طلب من ( خوفو ) ـ والكلام كلام البرديات ـ أن يقطعوا له رأس بطة وفرق بينه وبين الجسد .. بعد تلاوة عدة تعاويذ طار الرأس ليلتحم بالجسد ثانية .. نفس الشيء تكرر مع ثور .. وقد عرض ( خوفو ) ـ الكريم النفس ـ ان يجروا التجربة ذاتها على مسجون يقطعون رقبته ، لكن ( ددي ) رفض ذلك في أدب .."
ـ" فيما بعد تنبأ بان امرأة تدعى ( روددت ) ستلد ثلاثة أبناء يستولون على الملك .. وقد ضايق هذا ( خوفو ) كثيرا ، وراح يبحث عن هذه المرأة دون جدوى .. فيما بعد ولدت ( روددت ) هذه ثلاثة توائم هم ( اوسر كاف ) و ( ساحورع ) و كاكا ) ، وهم من صاروا ملوك الأسرة الخامسة فيما بعد .. يمكن ان تفهم سبب غضب ( خفو ) على الساحر إلى حد دفنه هنا .."
قلت وقد راق لي الأمر :
ـ" أي ان هذا الأحمق ( خميس ) لم يجد مومياء يسرق ذراعها سوى مومياء أقوى سحرة الدولة القديمة ! وهو ليس ساحرا عاديا بل كان يأكل 500 رغيف وفخذ عجل ومائة جالون من الجعة كما تقول !!"
فطن إلى ما في الأمر من دعابة سوداء ، فضحك ضحكة مكتومة ..
ـ" للأسف هذا صحيح غالبا .."
ـ" ومعنى هذا أن لعنة من أقوى لعنات السحر الأسود تطارد النرويجي الآن ؟"
ـ" لو افترضنا ان الامر كله ليس كذبة .. نعم .. اعتقد هذا .."
سأتله بلهجة من ينتقل للمهم في جدول الأعمال :
ـ" والمومياء مفقودة الذراع .. هل وجدتموها ؟"
ـ" بالطبع لا .. هل كنت تحسب الأمور بهذه البساطة ؟ القبر خال كجيبك في آخر الشهر .. اما السؤال عما إذا كانت المومياء قد سرقت ام انها فتحت المقبرة وغادرتها ـ وهو سؤالك التالي حتما ـ فأمر لا يمكن الإجابة عنه ، لأن الآثار في المقبرة تصلح للاحتمالين معا .. للاحتمال البوليسي أو الميتافيزيقي .. يمكن ببساطة ان تكون المومياء مخبأة في مكان لم يعرفه إلا الريس ( خميس ) .. هذا هو الاحتمال البوليسي .."
قلت أنا بدوري :
ـ" .. ويمكن ان تكون غادرت المقبرة بنفسها بحثا عن ذراعها !! هذا هو الاحتمال الميتافيزيقي !!"