-3-
القاهرة ..
حيث كنت انا امضي فترة من أجمل فترات حياتي ، برغم كراهيتي العارمة للحر الذي تسلسل إلى كل خلية من جسدي .. كانت الحياة هادئة كاللبن البارد ، واعتدت ألا يحدث شيء ما .. لقد كف أقاربي عن الموت ( ربما لأنهم انتهوا ) ، وكفت الأشباح عن مضايقتي ( ربما لأنها عرفت انه لا خطر مني ) ، وكف اصحاب الأسرار الرهيبة عن طلب رأيي ( ربما لأنهم ادركوا ألا جدوى هنالك..)
في هذا الوقت تدخلت الصدفة ، في شكل دعوة على العشاء .. والداعي هو الدكتور( رمزي حبيب ) خبير المصريات الذي التقيت معه من قبل في قصة لعنة الفرعون ( أخيروم ) إياها .. كانت هناك مومياء ، وقد ارتكبت غلطة حين قررت ان اشرحها بنفسي ، وكانت هناك بلورات تتناثر في كل صوب ، تهدى حارس المقبرة إلى طريقي .. هل قرأتموها ؟لا ؟ إذن حاولوا ان ترجعوا إليها .. اعتقد انها كانت قصة جيدة ..
كما تعرفون كان الدكتور ( رمزي حبيب ) مولعا بالبشر واجتماعيا ، وهي جريمة لا تغتفر بالنسبة لي . لكني سامحته لسبب واحد : هذا الرجل كنز من العلم يمشي على .. قدمين ، وكل مرة يفتح فيها فاه للكلام تضفي لعمري اعواما من الخبرة ..
كانت زوجته ( ماري ) تقدم لنا الطعام الذي طهته بنفسها .. وهي من النوع الذي لا يحب الاكل ، لكنها تحب بحق ان ترى وحوشا تتصارع عليه حتى الموت . إن هذا يملؤها فخرا .. وكما كانا في المرة السابقة لم ينجبا قط .. ومن الواضح انهما لن يفعلا أبدا ..
بالطبع دار الكلام بيننا عن القصة السابقة ، وبما أنه كانت فيها مومياء غاضبة ، فقد خطر لي ان احكي له عن قصة ذلك المجنون النرويجي ، وتجاربه المنزلية على يد المجد .. لم اتوقع اهمية ما اقول للرجل ، لان الابتسامة راحت تضمحل شيئا فشيئا . عن وجهه ، وبدأت اخاديد من الاهتمام تتكون هناك .. ربع ساعة حكيت فيها قصتي كانت كافية لتبديل مزاجه كلية ..
ـ" وماذا حدث في الاقصر ؟"
قلت له في خفة :
ـ"لا شيء ..إنه يبحث الآن عن الريس ( خميس ) هذا ، وارجو الا تكون مهمته يسيرة .."
قطب جبينه أكثر فأكثر وتوقف عن المضغ ، فقالت الزوجة مروعة :
ـ" آآآآه ! انت دست على ذيل الأسد النائم يا د.( رفعت ) ما كان لك أن تحكي قصة كهذه لو كنت تعرف أدنى شيء عن زوجي .."
لم يسمع كلامها اصلا ، بل نظر لي نظرة سوداء كارهة وقال :
ـ" هذه امور لا مزاح فيها .. هذه سرقة آثار لا شك فيها ، وكان واجبك نحو هذا البلد ان تبلغ عن ريسك ( خميس ) وطبيبك النرويجي هذين من اللحظة الأولى .."
ـ" هاأنذا قد أبلغت .."
ـ" بالصدفة .. إن امثالك هم سبب تدمير ثروتنا السياحية .. والمصيبة أن،ك من الطبقة المثقفة لهذا البلد .. تصمت استهتارا او مجاملة ، ثم نجد ربع آثارنا هناك.. في هذا المتحف او ذاك لدى هذا الثري ام ذاك .."
ونهض وقد عزم على اتخاذ إجراء سريع .. كلا .. ليس إعدامي طبعا بل إبلاغ شرطة الآثار أن هناك من يدعي الريس ( خميس ) يقوم بتهريب أذرع المومياوات للسياح المتحمسين في الاقصر ..
صحت فيه متوسلا :
ـ" ليكن .. لكن لا داعي لإبلاغهم عن ( تورلسون ) .. إن الرجل الآن يحاول إعادة أثر لا سرقته .."
ـ" هذا لا ينفي انه سرقه من قبل .."
قلت متوسلا بحرارة أكثر :
ـ" ( رمزي ) .. لا داعي للإحراج أرجوك .. لقد ائتمنني الرجل على سره، ومن المفترض ان اظل صامتا .. انت تعرف كما اعرف انه لن يؤذي احدا بعد الآن .. سيفر فرارا إلى وطنه .."
بدأ يلين قليلا وهز رأسه بما معناه انه سيحقق لي هذا الحلم .. ثم قال والسماعة على أذنه :
ـ" الم يخطر لهذا المخبول ان الترجمان قد خدعه ؟ ربما باعه ذراع جثة عادية عولجت كي تبدو قديمة .."
قلت في حيرة :
ـ" لم افكر في هذا .."
ـ" حدث هذا مرارا.."
ـ" إذن لا نكون امام قضية تهريب آثار بل قضية نصب .."
ـ" سنعرف هذا حالا .. آلو .. هل العميد ( عصمت) موجود ؟"
فلا تنس اننا كنا في عصر لم تتحول فيه رتب الشرطة إلى رتبتين لا أكثر : بك وباشا .. ومضى يتكلم همسا مع الطرف الآخر ، بينما رحت أعبث بالملعقة في قدح الشاي الفارغ شاعرا بالإثم ..
وحين عاد لي د.( رمزي ) قال وهو يجلس ويتناول قدح الشاي الذي برد دون أن يشربه :
ـ" هكذا نعرف .. ثم إن لاهتمامي بالموضوع جانبا علميا .. ربما كان هذا الترجمان يعرف مكان مقابر لا نعرفها .. إن قصة قبيلة الحربات شاخصة امام عيني كل عالم مصريات .. إن كل شيء في الأقصر بالغ الأهمية .. ( طيبة ) عاصمة مصر القديمة تحوي من الأسرار اكثر مما في رأسك .. أ .. في رأسي من شعر .. عرفها الإغريق بهذا الاسم كما عرفوها باسم ( ديوسبوليس) ـ أي المدينة السماوية ـ والتوراة تسميها ( نو آمون ) أي ( مدينة آمون ) .. لقد بدأ عمرانها من عهد الاسرة السادسة .. ثم تحولت الى عاصمة البلاد التي تدين بدين ( آمون ) ، فلم يخرق هذا إلا ( أخناتون ) ولفترة وجيزة جدا .. وظلت صامدة إلى ان دمرها الرومان في القرن الأول الميلادي ..
ـ" وفي ( طيبة ) بدأ الملوك من الأسرة الثامنة عشرة يختارون قبورهم ، وهكذا تكون وادي الملوك المهيب .."
سألته والعبارة التي قالها لا تفارق مخيلتي :
ـ" وهل تعتقد بوجود مومياوات لا تعرفون عنها شيئا بعد ؟"
فكر قليلا ثم قال :
ـ" إن فن التحنيط نشأ في مصر حوالي عام 4000 قبل الميلاد .. كان هذا كما تعلم طقسا دينيا مهما بالنسبة لهم .. يقال إن كهنة الفراعنة قاموا بتحنيط نحو 730 مليون جثة حتى انقرض هذا الفن حوالي سبعة قرون قبل الميلاد .. تخيل هذا ؟ 730 مليونا ! كم مومياء وجدنا نحن وكم بقي ؟ إن الاحتمالات لتدير الرءوس .. ولكن سنعرف كل شيء بعد استجواب الريس ( خميس ) هذا .."
***
بعد يومين اتصل بي ليقول في الهاتف :
ـ" البقية في حياتك !"
صحت في جزع :
ـ" هل توفيت زوجتك ؟"
ـ" يا اخي الملافظ سعد .. لقد توفي الريس ( خميس ) هذا توفي منذ فترة ، ويبدو انه في نفس لحظة وصول طبيبك النرويجي الى مصر .. الوفاة تبدو اقرب الى نوبة قلبية او ربما هي كذلك فعلا .."
ـ" صدفة غريبة حقا .. وماذا عن النرويجي ..؟"
ـ" هل نسيت ؟ انت طلبت عدم إقحامه في الموضع .. بالطبع لا اعرف عنه شيئا .. لكننا نجري بعض التحريات بين معارف الترجمان ، ويبدو أننا بصدد شيء مهم .. أعتقد اننا سنجد المقبرة التي اخذت منها الذراع .. إن للشرطة وسائلها كما تعلم .."
كن تقد نسيت كل شيء عن الموضوع ، وبالطبع لم اكن مهتما بما تصل إليه التحقيقات .. بعد ايام سيعلنون في الصحف عن اكتشاف مقبرة الأمير ( نخت ـ ساو ـ رع ) ـ او شيء من هذا القبيل ـ من أمراء الاسرة التسعين لو كان شيء كهذا ممكنا ، وتظهر الصور أثريا يضحك في جذل وهو يقف على باب مغارة محاط بالحبال ، ومعه يختلس العمال جزءا من ابتسامات الصورة .. اسنان بيضاء وسط الوجود السمراء ، وبعدها ننسى الأمر برمته ..
لكن ( تورلسون ) لم ينس ..نعود إلى ( تورلسون ) المسكين الذي عاد لى الفندق ، ولسبب ما قرر ان يظل اياما في الأقصر قبل ان يعود إلى القاهرة .. كان يشعر ان الأمور قد تحتاج إلى ان يظل هنا بعض الوقت ..
راح يقرأ في الفراش بعض الوقت ، وكان الكتاب الذي يطالعه يتحدث عن مصر القديمة .. لا يدري متى هذه التعب فنام .. لا بد انه وجد الوقت الكافي ليطفئ النور ..
وهنا تداخلت رؤى الواقع ، بذكريات اليوم ، بأضغاث الأحلام .. ( حميدة ) والريس ( خميس ) يقتادانه عبر نهر ( ستيكس ) الرهيب إلى مملكة ( هيدز ) حيث الأرواح المعذبة .. قال لهما إن هذا هراء لان الامر لا يحمل طابع الأساطير الإغريقية ، لكنهما كانا مصرين .. على باب ( هيدز ) يجلس المتسول العجوز يعزف على فيتارة ،ثم يتوقف ليقول له :
ـ" إن من يله بالنار يحترق بها .. ما لم تكن انت الشيطان ذاته ! ما لم تكن انت الشيطان ذاته ! ما لم تكن انت الشيطان ذاته ! ما لم تكن انت الشيطان ذاته ! ما لم تكن انت الشيطان ذاته ! ما لم تكن انت الشيطان ذاته !"
وتتردد العبارة عبر وديان ( هيدز ) ومن مكان يأتي الكهل ( رفعت إسماعيل ) وقد بدا مثل ( شارون ) رسول الجحيم .. ينظر له ويقول :
ـ" مثلك مثل الضيف الذي يزورني ثم يتسلل إلى المطبخ في أول فرصة ، ليسرق قطعة لحم من إناء الطهي .."
وتمتلئ السماء بالأذرع المبتورة والشموع المصنوعة من دهن المشنوقين ، وتتردد لفظة ( يد المجد ) عبر الآفاق .. ويصرخ ( تورلسون ) .. يصرخ .. يصرخخخخخخ !!!
وهب في الفراش شاعرا بالراحة المعهودة لمن يدرك ان هذا كان كابوسا ، لكنه حين نظر جواره في الفراش وجد المومياء نائمة !
ويصرخ ( تورلسون ) .. يصرخ .. يصرخخخخخ خ!! ومن جديد يفيق ليدرك انه رأى كابوسا ضمن كابوس ، وهو أسلوب فريد شبيه بالمسرحية ضمن المسرحية كما فعل ( شكسبير ) في ( هاملت ) ..
كانت الحجرة ساكنة هادئة .. في الظلام تعتاد عيناه حدود المملكة القديمة .. لكن .. صبرا .. ثمة شيء ما لا يريحه .. هذا الجسم جوار المرآة لم يكن هناك في السابق .. جسم له أبعاد وحدود تعطي الانطباع بــ ....
هل هو كابوس جديد ؟ كابوس ضمن كابوس ضمن كابوس ؟ أم انه ؟
وامتدت يده إلى الأباجورة جوار الفراش ، وضغط المفتاح .. فغمر الضوء الغرفة ، ورأى كل شيء ..
لم يكن خطئا ..
ليته كان مخطئا ..