الجزء الثاني
وطبيب مصري لا يفهم ما يدور ..
-1-
أنا المختار من بين الملايين ، الذي يخرج من العالم السفلي ..
الذي لا يعرف اسمه احد
إذا نطق اسمه على مجرى الماء جف ..
وإذا نطق اسمه فوق اليابسة اشتعلت النار ..
( تعويذة فرعونية قديمة )
***
لا ادري لماذا جاءني هذا الهاتف ولا ما دوري انا في القصة كلها ، لكن الساعة كانت التاسعة مساء حين دق الجرس ، وسمعت صوتا نرويجيا باردا يتساءل عما إذا كنت انا ( رفعت إسماعيل )..
قلت له إنني انا ، وانا اتوجس من سر هذه المكالمة ، كنت طيلة حياتي امقت المكالمات النرويجية في المساء ، ويبدو انني كنت على حق ..
ـ" انا ( تورلسون ) .. د. ( يوهان تورلسون ).. تقابلنا في مؤتمر الشهر الماضي .."
طبعا كنت اتذكر كل شيء لكنني اردت بعض الوقت كي أرتب أفكاري .. قال لي :
ـ" انا اتكلم من القاهرة من فندق ( ...) هل يمكن ان يسمح وقتك بلقاء في مكان ووقت يناسبان كلينا ؟"
حككت رأسي مفكرا ، وقل وأنا اتمنى ان اجد سبيلا للفرار :
ـ" ليكن .. سأقابلك في لوبي الفندق غدا في العاشرة صباحا .."
ووضعت السماعة شارد الذهن .. ماذا جاء بهذا الرجل هنا ، وهو قد عاد لبلاده منذ اسبوعين لا اكثر ؟ ما سر هذه الصداقة المفاجئة وهو من الطراز البارد الرسمي ، الذي يحتف بكل يوم يخسر فيه صديقا ؟ طبعا يريد خدمة ما ، فهذا هو السبب السحري الوحيد الذي يحيل غير الودودين ودودين فجأة .. لكن أية خدمة ؟
***
ـ" إن الأمر يتعلق بمومياء !"
قالها لي محاولا ان يبتسم ، لكن ابتسامته لم تنجح إلا في أن يسقط قدح القهوة من يدي ، حيث جلست في لوبي الفندق الفخم .. هذه آخر خدمة كنت اتوقعها ، ثم ما دخلي أنا في هذا الأمر ؟ المفترض انه لا يعرف سمعتي السوداء في هذا الصدد .. السمعة التي احاول ان اخفيها حتى لا تختلط بصورة الطبيب المحترم .. لا اريد ان ينظر لي الناس كأحد المجاذيب او المشعوذين الذين يملئون الأزقة خلف مسجد ( الحسين ) ..
قلت له محاولا ان اتمالك نفسي :
ـ"أعتقد ان عندك قصة مهمة شائقة تفسر كل شيء ، وإنني لفي غاية الامتنان لو قصصتها على الآن .."
كان ـ كما قلت لك ـ اشقر جدا . ازرق العينين جدا .. احمر البشرة جدا .. باردا .. لكنه الآن لم يعد باردا إلى هذا الحد .. ثمة خبرة قاسية مروعة مرت به ، وجعلته اكثر إنسانية ، ولاحظت ان زاوية فمه ترتجف اكثر من اللازم ، وان يده اليمنى تمسك باليسرى كي لا تهتز ..
راح يحكي ورحت اصغي ،، وإنني لارجوكم ان تسمحوا لي بالإنصات قليلا .. انتم تعرفون ما لا اعرفه طبعا .. كلا .. لن اكرر ما قال لأنني لست من هذا الطراز من الكتاب .. الشيء الوحيد الجديد الذي لم تعرفوه هو ان الرجل جاء بالذراع معه في حقيبته ، وقد اعتزم ان يردها الى موضعها ..
حين انتهى من كلامه كان سؤالي المنطقي هو :
ـ" ولماذا انا بالذات ؟"
قال وهو يضع ساقا على ساق شاعرا بالرضا لأنه انتهى من هذه القصة التي كانت حملا على كاهله :
ـ" انت مصري اولا .. هذه نقطة مهمة لانني أجهل كل شيء عن هذا البلد .. أعرف كل شيء عن تاريخه لكنني لا اعرف شيئا عن جغرافيته .. باختصار لا بد من واحد من اهل البلد يساعدني .."
ـ هذ نقطة قد أفهمها .. والنقطة الأخرى ؟"
ـ" انت مهتم بهذه الامور . لقد سألت عنك زملاءك في المؤتمر ، وكان التعليق الوحيد الذي يتكرر دائما هو : إن ( رفعت إسماعيل ) حجة في عالم ما وراء الطبيعة .. ربما لهذا لم يمتلك عيادة خاصة .. ربما لهذا لم يتزوج .. ربما لهذا لا يملك مالا .. إنه راهب الغموض والأسرار المتوارية تحت الأرض .."
كنت اتوقع شيئا من هذا .. لا يمكن ان يجد احدهم ان لخالته نابين ، أو ان عيني جاره مشقوقتان بالطول ، إلا ويجد من ينصحه بأخذ رأي العجوز ( رفعت إسماعيل ) لأنه يفهم في هذه الأشياء ..
قلت له في تهذيب :
ـ" دكتور ( تورلسون ) .. انا متفق معك تماما في وجوب إرجاع هذه الذراع لمكانها .. ليس لتنتقي لعنة الفراعنة فأنا لست واثقا من أن هذه هي مشكلتك ، ولكن لعدة أسباب .."
ورحت اعد على يدي :
ـ" أولا : هذه طريقة غريبة مهينة لمعاملة البلد الذي استضافك ، فما كان منك أن سرقت آثاره .. مثلك مثل الضيف الذي يزروني ثم يتسلل الى المطبخ في اول فرصة ، ليسرق قطعة لحم من إناء الطهي .."
قال في ضيق وقد قرر ان يغضب هذه المرة :
ـ" لحظة .."
ـ" لا تقاطعني ارجوك ..لا داعي للكلام الرسمي لأننا نريد ان نتكلم بصراحة مطلقة . أنتم الغربيين تتعاملون مع كنوزنا باستخفاف وغلظة كأنها ليست من حقنا .. ويبدو انكم لن تشفوا من هذا الداء قريبا .. يمكنكم دائما فهم غضب الإيطاليين بسبب وجود ( الموناليزا ) في فرنسا ، بينما لا تفهمون أبدا لماذا نغضب بسب وجود تماثيلنا في أوروبا .. ثانيا : انت خرقت احترام الموتى وحق هذا الفرعوني المسكين في أن يدفن بالطريقة التي اختارها لنفسه .. أنت تعرف كم كان الفراعنة يقدسون الموت ، ويقدسون سلامة جسدهم وقت الحساب ، ولهذا اخترعوا التحنيط .. ربما كان هذا كله هراء ، لكن من حقهم ان نتركهم في الصورة التي أرادوا ان يظلوا بها ، انت تقابل في الغرب من يطلب كتابة قصيدة معينة على قبره ، او دفن كراس معه ، وتجد من علامات التحضر ان تفعل ما طلب وتلتزم به حرفيا .. لماذا تفترض ان هذا الفرعوني لا يستحق مجاملة اخيرة كهذه ؟ لقد استقبلت فرنسا مومياء ( رمسيس ) الثاني باستقبال رسمي جدير بالملوك ، باعتباره ملك دولة صديقة .. إن ( رمسيس ) لن يعرف بشيء من هذا كله ، لكن المهم هو المعنى والمغزى .. هذا هو ما يجعلنا بشرا متحضرين .."
ـ" ثالثا : انت سرقت جزءا من جثة آدمي لتستخدمها في السحر الأسود .. لا يوجد أحط من هذا إلا الساحرات اللواتي كن يلتهمن قلوب الأطفال النابضة .. الساحرات كن يحرقن او يغرقن مثقلات بالحجارة .. فماذا يكون مصيرك انت في عصر العقل هذا ؟ لا شيء سوى ان أبدى ضيقي ونفوري .."
ـ" لا شك انك اتخذت القرار الصائب .. ربما كان متأخرا لكن لا حل أمامك سواه .. اما انا فلا املك إلا ان اتمنى لك التوفيق ، واقر انني لست خير من يساعدك في هذا الموضوع .."
قال في ضيق :
ـ" انت ذهبت من قبل وحدك ولم تجد صعوبة ما .. يمكنك ان تفعلها ثانية .. أما انا فارتباطاتي هنا تحول بيني والسفر .. ثم إنني لن افعل سوى ما ستفعله انت .. اين الريس ( خميس ) يا شباب ؟ ها هو ذا يا سيدي .. يا ريس ( خميس ) .. هذه هي الذراع ..خذها واعدها حيث كانت .. شكرا .. سلام .."
نظر لي بعض الوقت ، شاعرا ـ طبعا ـ أنه اضاع وقته وكبرياءه ، وتلقى درسا في الاخلاق ممن لا يستحق .. رشف ثمالة الهقوة ثم نهض واغلق ازرار سترته وترك المكان ..
***
لكن دعني اقل لك إن من يله بالنار يحترق بها .. وهذه الأشياء ليست للهو .."
***
ـ" هذا بالطبع إن لم تكن انت الشيطان ذاته !"
***
فيما بعد عرفت ما حدث ..
لقد ارتحل الرجل في اليوم التالي إلى الأقصر ، واستقر في نفس الفندق الذي كان يقيم به في المرة الأولى ،فما إن أفرغ حاجياته من الحقائب ، حتى ارتدى قميصا قصير الكمين وصندلا بما يناسب حرارة الجو القاتلة ، ونزل إلى الطريق يبحث عمن يدله على الريس ( خميس )..
في المرة الأولى كان الأمر سهلا لأن الريس ( خميس ) هو من وجده ، وكان أحد النرويجيين قد اتصل به ، واخبره بالضيف المنتظر ، اما الآن فعليه ان يجد الرجل بنفسه ..
سأل عن الرجل في بعض البازارات لكن اصحابها ـ الذين كانوا يجيدون الإنجليزية لحسن حظه ـ لم يتعرفوا الاسم.. ونصحوه ان يبحث بين الأدلاء ..
ركب عربة حنطور ، وقرر ان يسأل سائقها .. إن هؤلاء القوم أدلاء بالفطرة ، ويعرفون كل إبرة في المكان .. المشكلة كانت هي ان الرجل لا يعرف من الإنجليزية إلا بضع جمل ..
بعد جهد فهم الرجل ان السؤال عمن يدعى الريس ( خميس ) ، وفهم النرويجي ان الرجل ينصحه بالسؤال في البر الغربي ، لان عشش هؤلاء القوم متناثرة هناك .. ثم حك السائق ذقنه مفكرا وقال :
ـ" أعرفه .. تقول الريس ( خميس ) ؟ اعتقد انني اعرفه .."
ثم كان ان نصحه بسؤال من يدعى ( هميدة ) .. ( حميدة ) طبعا لو ترجمنا الكلام الى العربية ..
وهكذا عبر النرويجي التعس المعدية الى البر الغربي .. من جديد يحييه الذباب الذي لا يترك الوجه إلا ميتا .. بحث وسط الادلة الكثيرين ، وهو لا يردد إلا كلمتين ( خميس ) و ( حميدة ) .. اخترق عشران من الخيول وعربات الكارو وهو لا ينفك يبحث عن وجه بعينه ..
اخيرا برز ( حميدة ) من بين القوم ، وكان شابا في العشرين من عمره ، اسمر اللون مجعد الشعر يرتدي سترة وسروالا من مخلفات الجيش ، ويبدو ان عمره العقلي ـ بحكم التعامل اليومي ـ لا يقل عن الاربعين .. لها سال النرويجي بطريقة البيع لا الشراء وهو يغمض إحدى عينيه تشككا :
ـ" لماذا تريده ؟"
كانت إنجليزيته افضل قليلا من سلفه ، لكنها ظلت إنجليزية ترجمانات كما نعرفها نحن المصريين ..
قال ( تورلسون ) في نفاد صبر :
ـ" انا سائح وهو ترجمان .. لماذا اريده إذن ؟ خمن !"
ـ" من العسير ان تقابله .. لكن لو كنت بحاجة إلى ترجمان .."
ـ" فيما بعد .. فيما بعد .. ولماذا لا استطيع ان أقابله ؟"
هنا قال الفتى ما توقعتموه بالضبط ..
قال إن الريس ( خميس ) توفاه الله منذ يومين ..
***