-4-
لم يحدث شيئا بعد هذا ..
لقد دوى صوت سرينة إحدى سيارات الدورية قادمة من المنعطف القريب ، ويبدو ان حادثة ما وقعت في الجوار .. وقرر ( تورلسون ) ان الاصوب الآن ان يركب سيارته ويبتعد . فيما بعد سيحاول فهم ما جرى وسيفزع كما ينبغي ان يكون .. لا أسئلة محرجة الآن .. لا أسئلة ..
هرع لسيارته حاملا الكيس ، وأدار محركها ، وتراجع للوراء ليغير اتجاهه .. لاحظ بطرف عينه ان الرجل الغامض لم يعد هناك .. لا وقت لهذا الآن .. ثمة وقت كاف فيما بعد للبحث عن تفسيرات مقنعة .. ابتعد عن النهر ودخل احد الشوارع وحافظ على سرعة عادية لا تريب ، وسرعان ما رأى السيارة مصدر السرينة .. كانت سيارة دورية مسرعة لا تهتم بالنظر من حولها ، وخلفها كانت سيارة إطفاء حمراء تلحق بها بذات السرعة ، لكنها لا تصدر سرينة لانها اكتفت بما تصدره الأولى .. كانت ملحمة الأضواء الملونة تذكره بالأحلام .. بل الكوابيس ..
مشى وراء الموكب الثنائي لانه كان يقطع نفس الطريق .. غريب هذا ! حريق في نفس المنطقة ، وربما نفس الشارع ..
بل في نفس البناية !!
لأنه حين وقف في الشارع رأى فوضى هائلة ، وكانت الأرض زلقة غارقة بالمياه ، بينما وقف الجيران المذعورون بثياب النوم يرمقون سلم الإطفاء وهو يرتفع الى الطابق الرابع .. وكانت النار تندلع كانها وحش غاضب لا يسكته شيء .. نار وأضواء كشافات واضواء ملونة من سيارتي الدورية والإطفاء .. حقا إن هذا لكابوس !
وصاح احد الجيران وهو يحتضن زوجته وابنته :
ـ" كنا سنحترق احياء لو لم تشم ( سيبيل ) رائحة الشياط "
هنا هرع احد رجال الإطفاء حاملا خرطوما .. انزلقت قدمه في أثناء الجري ن فسقط ارضا .. لسبب مجهول لم يتمالك ( تورلسون ) نفسه من الضحك .. بدا له المشهد سخيفا كإحدى كوميديات ( الفارس ) .. مضحك ! ها ها ها ! كل هذا مضحك ! ها ها ها !
نظر له احد الجيران بضيق وغمغم :
ـ" من المهين ان تسخر من هؤلاء الذين يخاطرون بحياتهم من اجلنا .."
ـ" معذرة .. إنه انفلات عصبي لا اكثر .. لم اتعمد هذا .."
ودنا احد الضباط المبتلين بالعرق والماء من الواقفين ، وصاح :
ـ" النار اندلعت من الطابق الرابع .. شقة رقم 17 .. لا نستطيع الدخول لإنقاذ السكان .. هل نجا أحدهم ؟"
بلهجة مخدرة كمن نوم مغناطيسيا قال ( تورلسون ) من بين شفتيه المغلقتين :
ـ" لا داعي للبحث عن سكان الشقة ايه االضابط .. لم يكن بها سوى ساكن واحد .."
ـ" هل تعرفه ؟"
ـ" إنه انا !"
***
كانت معه بطاقة الإئتمان ، وقد استطاع ان يحصل على غرفة في ذلك الفندق ..
إن يوما شاقا ينتظره غدا وأسئلة كثيرة عن سبب الحريق .. لقد أجاب عن الكثير ، لكن هناك المزيد دائما .. وتهمة الإهمال ستظل تتأرجح أمام عينيه طويلا .. التفسير الأقرب للمنطق ان هناك ماسا كهربيا حدث في الشقة .. لا يعرف .. هذه أشياء يعرفها المحققون بسهولة غدا ، أما الآن فهو في كارثة .. لقد احترقت مكتبته التي كانت خليطا فريدا من كتب الطب والسحر .. هذه هي الخسارة الأهم ، اما المال فلم يكن في الشقة الكثير .. الأثاث يمكن دائما تجديده ، وبعض الإصلاحات يمكن ان تعيد الشقة لحالتها القديمة او ما يشبهها . . المشكلة والخسارة الحقيقية هي الكتب ، وهذه لا تقدر كنوز الأرض على استعادتها ..
لماذا حدث ماذا حدث ؟
لقد ارتبط هذا برؤيته ذلك الشخص الغامض مبتور الذراع .. ما علاقته بالامر ؟ إنه لم يحب رؤيته كثيرا ولسبب لا يفهمه .. وحقا إنها لصدفة غير عادية .. يحاول الخلاص من ذراع فيمنعه من ذلك ظهور رجل مبتور الذراع ..
ما الذي كان هذا المخبول يريد ؟ ولماذا تقدم نحوه بهذه الثقة كمن يطالب بحق مشروع ؟
كانت أعصابه متوترة بحق ، وقرر ان يكف عن اللهو بهذه الامور فيما بعد .. على من يمارس السحر الاسود ان يتمتع بأعصاب من حديد ، وهو مهزوز بعنف من جراء أحداث تلك الليلة الصاخبة ..
لا يدري متى نام لكنه فعلها .. وفي منامه رأى كوابيس عديدة أسوأ ما فيها انها متداخلة ، وأنه لم يذكر منها حرفا حين أفاق .. فقط يذكر انها كانت ليلة سيئة بحق .. ولحسن الحظ انه ترك يد المجد هذه في السيارة في المرآب ، والا لزادت الطين بلة ..
كان النهار قد اطل ، فقرر ان يبدأ ترتيب اموره سريعا .. لو كان رجال الشرطة قد فرغوا من المعاينة ، ولو كانت حالة البناية تسمح ، فإنه سيمضي الليلة القادمة في شقته لان هذا الفندق ليس مريحا ..
***
لم تكن اليد في الكيس !
كانت خارجه وعلى المقعد الخلفي ، وهو متأكد تماما من أنه تكرها في الكيس ، ودارى الكيس تحت المقعد الأمامي الجانبي .. اشياء كهذه لا يخطئ المرء فيها خاصة إذا فعلها وهو متيقظ نشط ، وقد كان متيقظا نشطا أمس ..
كان هذا غير مريح بالتأكيد ، وهو من الطراز الذي يعرف جيدا ما يفعله .. لا يمكن ان يكون فعلها غافلا امس .. هناك من فتح السيارة وأخرج اليد من الكيس .. هذا واضح ..
عند الظهيرة احترقت السيارة .. نعم .. احترقت وهي في موقف سيارات بالساعة وسط المدينة ، ولا داعي لذكر ان اليد لم تكن فيها وقتها ، لانه اخفاها في خزانة أمانات بالمحطة ..
لم يجد رجال الشرطة ما يريب في الحادث ، فلم ير احدهم شخصا يدنو من السيارة طيلة ثلاث ساعات كاملة .. هذه الاشياء تحدث احيانا .. شرارة من المكان الخطأ تذهب الى مكان اكثر خطأ ، او هذا هو التفسير الوحيد ، ولنحمد الله على ان الحريق كان محدودا ولم يؤذ احدا ، ولم يمسك بالسيارات المجاورة .. هل لديك تأمين على السيارة يا دكتور ؟ سيكون عليك ان تبرهن لهم على انك لم تشعل النار عمدا للحصول على مبلغ التأمين .. بعد هذا لن تخسر مليما واحدا ..
إلا انه من العسير تصديق حدوث حريقين في وقت واحد لرجل واحد ، وكان عليه ان يقنع رجال الشرطة بما لم يقتنع به هو نفسه : هذه صدفة لا اكثر ..
وفي المساء اصيبت زوجته السابقة بانفجار في الزائدة الدودية .. واتصلت به والدتها لانه لا بد ان يساعدها في أمور كهذه .. لا يوجد معها احد وعليه ان يتصرف ..
وفي الحادية عشرة مساء كان قد انتهى من أمر المستشفى ، واطمأن على مطلقته .. وادرك انه لن ينام قبل ان يقوم بعمل مهم .. اتصل بصديقه الذي سهل له عملية الحصول على الذراع .. طلب لقاءه للأهمية ..
***
ـ" لكن دعني اقل لك عن من يله بالنار يحترق بها .. وهذه الأشياء ليست للهو .."
***
وفي غرفة مكتب صديقه جلس يجفف العرق عن وجهه ، ويقول وهو يرتجف بلا انقطاع :
ـ" كل هذه ليست مصادفات .. حياتي كلها قد دمرت او تغيرت في أربع وعشرين ساعة .."
قال صديقه الخبير للآثار :
ـ" ثمة أشياء كهذه حدثت من قبل .. انت تعرف ما أصاب اللورد ( كارنافون ) بعد العثور على مقبرة ( توت عنخ آمون ) .. إن هذه القصص الرهيبة يمكن ان تملأ مجلدات .."
ـ" خطر لي ان هذه هي بالضبط لعنة الفراعنة كما وصفها الأقدمون .. انا رجل علم ولا يجب ان اصدق هذا لكن .."
ـ" رجال العلم الذين لا يصدقون هذا ، لا يجوبون الشوارع ليلا يجربون وصفة سحرية من العصور الوسطى .. انت تعرف كما اعرف انك تصدق هذا وتؤمن به .. وعلينا الا نكابر .. يبدو انك ايقظت لعنة فرعونية شديدة البأس من قبرها .. ويبدو أن هناك من يحنق عليك بشدة .."
نظر لصاحبه في قنوط وتساءل :
ـ " هل يمكن ان يكون هناك تفسير اكثر منطقية ؟"
ـ" لو أقنعتني انه من الممكن أن يحترق بيتك وسيارتك ، وتمرض مطلقتك في يوم واحد ، لكان بوسعي أن اؤكد لك ان الفراعنة لا دخل لهم في الموضوع .."
ـ" والعمل ؟"
قال صديقه وهو يصب بعض القهوة في كوب ورقي :
ـ" انت تعرف الحل .. لا بد من تصحيح هذا الخطأ .. لا بد من إعادة الذراع إلى المومياء التي اخذت منها .."
ـ" تعني ان اعود الى مصر ؟"
ـ" لا اجد حلا آخر .. لا يمكن ان ترسل الذراع بالبريد المسجل ، وتوجه الطرد الى الريس ( خميس ) هذا .."
فكر ( تورلسون ) قليلا وهو يمتص القهوة من الكوب الورقي .. لا يدري هل الانتعاش الذي يحسه هو من القهوة ام من الفكرة الموحية بالخلاص .. لكنه بالفعل بدأ يرى الفكرة لا باس بها .. عودة المياه الى مجاريها هي ما يريد ، ولو كانت الذراع بريئة من كل هذا ، فقد قام بما ينبغي القيام به ..
قال لصديقه وهو يلقي بالكوب في سلة المهلات :
ـ" اطلب لي إحدى شركات السياحة .. يبدو أنني سأمضي أسبوعا في مصر على سبيل الترفيه .."
***