-5-
مديرية الأمن وقدح القهوة الثالث ..
كنت جالسا في مكتب ( عادل ) اشعر بالحرج والملل ، بينما هو قد أرسل المخبرين ليحضروا ( محمود ) إلى هنا .. وقد حضرت عشرات المقابلات وسمعت مئات المكالمات الهاتفية ومن حين لآخر يدخل ضابط شاب لينظر لي نظرة تساؤل قبل أن يؤدي التحية لرئيسه ..
ويدخل الجندي المسئول عن الباب ويؤدي التحية فيقول ( عادل ) دون ان ينظر له :
ـ" قدح من القهوة للدكتور وكوب عصير لـ ( اشرف ).."
فأقول انا في وهن :
ـ" حقا انا لا ارغب في ..."
ـ" ستشرب ! انا قلت إنك ستشرب !"
ـ" إذن فلماذا لا تشرب انت ايضا ؟"
فيهتف في حيرة غير مصدق :
ـ" أشرب اربعة اقداح من القهوة ؟ هل جننت ؟ كيف تتحمل معدتي كل هذا !!"
أما ( أشرف ) ابن ( عادل ) الوحيد فهو اليوم في سن المراهقة ، وهو فتى وسيم شديد التهذيب .. لا اعرف لماذا اصطحبه ( عادل ) هنا لكن من الواضح أنه يفعل ذلك كثيرا .. من الواضح أنه يعوده على جو الشرطة ليكون يوما مثله .. وعلى كل حال بدا أن ( أشرف ) مستمتع بوقته حقا ، وكان يحفظ المخبرين والجنود واحدا واحدا ..
بعد قليل دخل الجندي ليخبرنا أن ( محمود ) على الباب ..
امر ( عادل ) بإدخاله . وواصل كتابة أوراقه ليظهر عدم اهتمامه بالقادم ..
كان الانهيار العصبي باديا على وجه المهندس حين دخل الغرفة .. مستسلما واهنا منهكا لدرجة أنه لا يستطيع الكلام ..
قال ( عادل ) دون ان ينظر له :
ـ" إجلس يا بشمهندس .. صديقي د. ( رفعت ) لديه ما يقوله لك "
قال الرجل محتجا :
ـ" سيدي .. الم يحن بعد الوقت الذي ترحمونني فيه ؟"
قال (عادل ) بطريقة المودة الزائفة تلك:
ـ" من قال إننا نضايقك ؟ نحن نحب ان نراك لهذا سنستدعيك كل يوم في أي وقت لتجلس معنا هنا ونشرب الشاي هيا يا د. ( رفعت ) .. كلمه .."
كان الموقف محرجا .. لقد جلس الرجل جواري يصغي لي وأنا اقدم له نظريتي المخبولة عن اللص الذي يحرك الأشياء عن بعد.. قلت إن لدي دليلا واضحا هو الصورة التي انقلبت .. طلبت منه ان يريح ضميره ويعترف .. اللص الذي يعيد المسروقات هو شخص راغب في إنقاذ روحه .. عليه ان يكمل هذا الإنقاذ باعتراف كامل ..
كان يصغي لي في إنهاك وتعب .. لا بد ان الدجاجة لا تبدو بهذا المنظر وهي تنتظر الذبح .. في النهاية قال لي :
ـ" سيدي .. انتم تريدون خراب بيتي وهدم مستقبلي وتشويه سمعتي لمجرد فكرة واهمة عن التحريك عن بعد .. لا يوجد شيء كهذا ولو وجد فأنا لا اتمتع به .. هلا سمحتم لي بأن ارحل ؟"
قال ( عادل ) كعادته دون أن ينظر له :
ـ" ليس بهذه السرعة .. ستنتظر بالخارج حتى يساعدك هذا على التذكر .."
واستدعى الجندي وأمره بان يظل الأستاذ جالسا بالخارج في الردهة حتى يطلبه ثانية .." وهات له شايا .. إنه يحب الشاي !"
كنت اشعر بارتباك لا مثيل له .. لو كان هذا المهندس بريئا وكان انقلاب الصورة مجرد وهم مر بنا ، فمعنى هذا اننا نبذل ضغطا عصبيا هائلا على رجل بريئ ..
لكن ( عادل ) لم يكن يملك أية شكوك ..وهكذا غادر المهندس الغرفة ..
ساد الصمت من جديد وأدركت أن ( عادل ) لن يفتح الموضوع ثانية لان هذا صار مملا .. فقط جلست انتظر اللحظة التي يفرج فيها عني لأرحل ..
***
بعد قليل دق الباب ودخل ملازم شاب ليقول :
ـ" سيدي .. إن ( ابو شليب ) معي .. هل ترغب في ان تقابله أم ننهي نحن الموضوع ؟"
رفع ( عادل ) عينيه متسائلا ، ثم تذكر فقال في لهفة :
ـ" لا .. لا .. طبعا اريد ان اوجه له كلمتين .."
هكذا انفتح الباب ليدخل ثلاثة جنود ويحيطون بدب أشهب .. لا .. ليس دبا .. إنه رجل على سبيل الترف التصنيفي .. فقط لإرضاء الأخ ( لينيوس ) وسواه ممن صنفوا المملكة الحيوانية .. فيما عدا هذا هو دب . . بحجم دب .. بملامح دب .. بشعر دب .. بعضلات دب .. ثمة ندبة جرح على خده تمتد من أسفل العين حتى الذقن .. له عين تالفة غطتها سحابة بيضاء .. تلك الأساور الحديدية السوداء التي يحبها البلطجية .. لا اعرف ما فعله هذا الرجل لكنه مذنب .. بالتأكيد مذنب .. كيفي وكيل النيابة ان يضعه في القفص وهو يزأر ويقول للقاضي : سيدي .. يكفي ان تتأملوا وجه هذا الرجل لتحكموا عليه الإعدام ..
كانت الأصفاد في يديه لكن الجنود كانوا متوترين فعلا وكان يقلب وجهه في الغرفة في وقاحة وجشع .. وقعت عيناه علي فشعرت بنظرته تلتصق بخدي كأنها بصقة .. هذا اول إنسان اعرفه يجب ان تستحم بعد ان ينظر إليك ..
ثم نظر إلي ( اشرف ) الذي جلس في مقعد قريب يراقبه في توتر .. يبدو ان الفتى لم يحب المنظر فقال إنه سيخرج قليلا .. واضح أنه يعرف كل ركن في هذه المديرية ..
قال ( عادل ) باسما وهو يشير للسجين :
ـ" ( رفعت ) .. لك الشرف أن تلقي ( ابو شيب ) .. سفاح الأطفال الشهير .. لقد خنق طفلة في السادسة لأن امها كانت من الحمق بحيث تضع في أذنيها ومعصميها ذهبا يكفي هذا الوغد كي يبتاع عدة كيلوجرامات من الحشيش .."
بصوت يشبه منظره قال الدب المكبل بالأصفاد :
ـ" لم افعل شيئا من هذا .. لماذا تضيعون وقتكم من الشرفاء ولا تبحثون عن الفاعل الحقيقي ؟"
ـ" إذن انت مواطن شريف .. جميل .. جميل .."
ثم لوح ( عادل ) بالقلم في وجه الرجل وقال :
ـ" كل شيء ثابت ضدك وسوف تعترف .. حتما ستعترف .. ولسوف تشنق . لهذا انا امارس مهنتي .. كي يختفي امثالك من عالمنا .."
قال السفاح بطريقته الفظة المتحدية :
ـ" يا فتاح يا عليم ..لماذا لا تجدون الفاعل الحقيقي ؟"
قال (عادل ) في اشمئزاز :
ـ" خذوه واعرفوا منه كل شيء .. من لحظة ولادته .."
هكذا غادر الرجل الغرفة ومعهم زالت تلك الرائحة الكريهة التي كانت تنطلق من أنفاس الرجل وعرقه ..
قال ( عادل ) باسما :
ـ " قد لا تحب عملنا لكن لا تنكر أنه مثير .. لا بد ان هنا العلاج الأمثل لمللك التقليدي !"
قلت وانا اجفف عرقي :
ـ" مثير اكثر من اللازم لو أردت رايي ..لا احب ابدا ان القى هذا الرجل خارج المديرية حرا وبلا اصفاد .."
ـ" هذا يشعرك بالإنجاز .. قبل ان تذهب لعملك كان هذا الوغد حرا يفعل ما يشاء .. بعد انصرافك من عملك لم يعد هناك .. لقد زال .. إن هذه .."
هنا سمعنا الصراخ قادما من الردهة ..
كان المشهد مثيرا بالخارج ..
وقد سبقني ( عادل ) بوثبتين الى هناك على حين تبعته بقدمين لا تصمدان ..
كان هناك زحام لكنه يترك مسافة معقولة من مركز الدائرة ..
ومركز الدائرة كان ( ابو شليب ) نفس .. لكنه لم يكن وحده .. كان يمسك بـ ( اشرف ) ابن ( عادل ) وقد لف سلسلة الكلابش حول صدره .. بينما يده الحرة تضع نصلا حادا على عنق الفتى ..
وسمعت احد الضباط الواقفين يقول في رعب :
ـ" لقد غافل حرساه وبسرعة البرق اخرج هذا ( البستك ) الذي كان يخفيه في خده ، ثم انقض على الفتى .."
وهتف آخر في عدم تصديق :
ـ" الم يفتشوا خده ؟ تبا للإهمال !"
طبعا يمكنه ان يدخل انامله في فمه حتى لو كانت يده مكبلتي بالأصفاد ..
ضابط شاب متحمس اخرج مسدسه وصوبه نحو رأس الرجل ، لكن يد ( عادل ) الحازمة وضعت على يده وقال :
ـ" لا تفعل ! إن راس ( اشرف ) قريب جدا .. وقد تتقلص يد الرجل على النصل .."
وتقدم في تظاهر بالثقة نحو الدب الذي يقيد الفتى .. كان مرتبكا كلنه يحاول الا يظهر ذلك ، وقد ادركت ان الكل قرر ان يترك له وحدة اتخاذ القرار .. ليس هناك سواه كي يقول ويفعل .. ليس هذا من حق واحد آخر .
قال وهو يمد يده نحون ( أبو شليب ):
ـ" اتركه يا ( ابو شليب ) انت اعقل من هذا .."
اعقل ؟ طبعا لا لأن الرجل تراجع بظهره ليصير ملاصقا للجدار ، تحت لوحة شعار وزارة الداخلية ، وراح يردد في هستيريا :
ـ" ربنا يخلي البيه الصغير يا باشا .. ربنا يخلي البيه الصغير يا باشا .. ربنا يخلي البيه الصغير يا باشا .."
ثم انفجر ضاحكا .. لماذا لا ينظف هؤلاء السفاحون أسنانهم جيدا ؟
الفتى يبكي وهذا يحطم الأعصاب فعلا ..
سأل ( عادل ) الدب وهو يتقدم أكثر :
ـ" كلمني .. ماذا تريد ؟"
ـ" اريد ان اخرج من هنا .. سوف آخذ ( البيه الصغير ) معي .. وحين اكون في مكان آمن سأطلق سراحه !"
ضابط آخر اخرج مسدسه لكن ( ابو شليب ) هتف :
ـ " آه ! لا تطلق الرصاص علي .. قد اسقط فيجرح هذا النصل رقبة ( البيه الصغير ) .. لا تنس أننا جميعا تهمنا سلامة ( البيه الصغير )!"
***
ـ" قد لا تحب عملنا لكن لا تنكر أنه مثير .. لا بد ان هنا العلاج الامثل لمللك التقليدي !"
قلت وانا اجفف عرقي :
ـ" مثير اكثر من اللازم لو اردت رأيي .. لا أحب ابدا ان ألقى هذا الرجل خارج المديرية حرا وبلا أصفاد .."
***
يا له من موقف !
انا اعرف مواقف الرهائن هذه Hostage Situations وهي تنتهي دوما في الأفلام الأجنبية بان يطلق المجرم سراح الضحية لأنه تعب .. لكن هل يشاهد ( أبو شليب ) أفلاما أجنبية ؟
إنه يائس ومجنون، ومن الواضح أنه سيفعل أي شيء .. ربما يقتل الفتى فعلا ثم يموت راضيا سعيدا ..
هنا حانت مني التفاته الى اليسار .. رأيت رجلا نسيت وجوده ..المهندس (محمود ) يقف جوار الحائط وقد نسي الجميع انه موجود .. كان يراقب المشهد بعينين متسعتين .. ثم رأيته يضغط على شفتيه .. الأوردة تبرز في جبهته وتوشك على الانفجار ..
هل اتخيل ام أن هذا الرجل ....؟
إما أنه يفعلها وإما أنه يموت بنوبة قلبية الآن ..
كان ( عادل ) الآن يقف بقربي فجذبته من كمه ليرى المشهد الرهيب ..
كان المهندس يركز ويركز .. قلبه يوشك على التوقف او هذا ما بدا لنا ..
في اللحظة التالية رايت الشيء يتحرك .. تلك اللوحة العملاقة التي تحمل نسر وزارة الداخلية والمعلقة فوق رأس ( أبو شليب ) .. رأيتها تتحرر من حبالها .. ترتفع في الهواء .. تجتاز ممرا غير ممكن فيزيائيا كأن الرجل الخفي يحملها ..
ثم ارتفعت قليلا لتكتسب طاقة الوضع اللازمة ، ثم هوت فوق رأس الرجل بأقصى قوة .. وهو مشهد له دلالته .. نسر الوزارة يهشم رأس السفاح ..
صرخ الرجل .. آي ! ونظر لأعلى ليرى من هذا الذي ضربه .. هنا هوت اللوحة على رأسه بعنف أكثر وفي هذه المرة تراجع للوراء وترنح رأسه .. يحتاج هذا الرجل إلى اكثر من ضربتين ليفقد وعيه .. ربما لو صدمه قطار مسرع لأصيب بصداع .
وأمام عيني المذهولتين رأيت النصل يقفز من يده ليسقط على الارض ..
كانت هذه هي الإشارة كي يتحرر ( أشرف ) ، وهي الإشارة ذاتها التي كان ينتظرها كل هؤلاء كي ينقضوا على الرجل .. في ثوان لم اعد آراه من كل الأجساد التي تكأكأت فوقه .. وتطايرت اللكمات في الهواء .. سوف يتحول الى هامبورجر خلال نصف دقيقة لكين لا اتعاطف معه على الاطلاق ..
( عادل ) يحتضن ابنه وكلاهما يبكي .. رجل الشرطة الصارم يبكي ويلثم شعر ابنه غير مصدق ..
ثم رفع الاب وجهه المبلل بالدمع وقد صار صدر قميصه كله مبتلا .. رفع وجهه نحو المهندس الزراعي الذي تقدم منه في بطء ..
للحظة ساد صمت ثقيل ولم يقل أحدهما شيئا ..
قال المهندس وهو يمد يديه لـ ( عادل ):
ـ" اعتقد انك تلقيت الاجابة على اسئلتك يا سيدي العميد .. سوف اكرر التجربة في المحكمة لتصدقك إذا اردت .."
ثم شهق في إنهاك وقال :
ـ حان الوقت كي تنتهي لعبة القط والفأر هذه .. لقد تعبت .. انا تحت تصرفك يا سيدي .."
نظر له ( عادل ) ثم نظر لـ ( أشرف ) ثم لي ..
ثم التفت الى أحد جنود الحراسة في الردهة وقال بعصبية :
ـ" ماذا يفعل هذا الاخ هنا؟ انا لا أعرفه .. حسبت ان عملك هو ان تمنع العابرين من الوقوف امام مكتبي !"
والتفت الى احد الضباط الشبان وقال :
ـ" ارسل مع هذا الرجل ـ الذي لم اره من قبل ـ سائقا يوصله الى بيته .."
واستدار مبتعدا وتبعته انا و ( اشرف ) عبر الردهة الطويلة ..