-3-
قال ( عادل ) :
ـ" تعال معي نراجع الأحداث . صراف يمشي وحده في حقل .. لا احد على مسافة مائة متر من كل الجهات .. فجأة ينطلق قالب قرميد ليضربه ويسرق . هذه واحدة .. صائغ يعرض خواتمه على زبون لم يدس يده في جيبه قط ، وبرغم هذا تختفي الخواتم .. سيدة عجوز اغلقت الباب عليها من الداخل بالمفتاح ، وبرغم هذا انفتح الباب بسهولة وسرقت .. في كل مرة يبرز وجه المهندس الوقور ويقول إنه لا علاقة له بالموضوع .. ما معنى هذا ؟"
قلت في تردد :
ـ" واضح انك تحاول حملي على قول إن هذا الرجل ذو قدرة سحرية ..
ضحك كثيرا حتى ارتجت المديرية عدة مرات ، ثم قال :
ـ" ليس سحرا .. لكن لا بد من شيء ما .. هذا الكلام الفارغ الذي تعرفه أنت .. ول امسكنا بالورقة لوجدنا إن هذه السخافات مستحيلة .. لكنها حدثت .."
ـ" هل سمعت عن التحريك عن بعد ؟"
لم يعلق .. فقط ظل ينظر لي باهتمام .. فأردفت :
ـ" هناك اشخاص يملكون هذه الموهبة .. لو تخيلنا ان صاحب هذه الموهبة يتوارى في إحدى البنايات المهدمة ويجعل قالب قرميد ملقى وسط الحقل يطير ليضرب الصراف في رأسه .. لو تخيلنا ان صاحب الموهبة يجعل الخواتم تتواثب الى جيبه خلسة بينما يداه واضحتان امام البائع .. لو تصورنا انه يستخدم موهبته ليدير المفتاح في الاقفال من الخارج ثم ينفتح الباب فيدخل .. لو تصورنا هذا لوجدنا القصة قابلة للتفسير .."
قال في عدم تصديق :
ـ" هذا هراء .. فقرات حواة لا اكثر .."
هنا دخل احد الجنود حاملا مجموعة من الأوراق ، فأخرج هذا قلمه وراح يمهرها بإمضائه وهو ينظر لي اكثر مما ينظر للأوراق ..
قلت بكبرياء :
ـ" التحريك عن بعد ، ظاهرة حقيقية معترف بها علميا .. لا يجب ن تسخر مما لا تعرفه لكن عندي اعتراضين على هذه النظرية .."
ناول الأوراق للجندي الذي أدى التحية وانصر .. ثم سأني وهو يعيد القلم لجيبه :
ـ" ما هي ؟"
ـ" اولا لم اسمع عن شخص بلغ هذا الشأن وهذه القوة .. قوة تحريك تعبر حقلا وتنجح في إدارة مفتاح في القفل وتجعل الخواتم تقفز .. هذه قوة مريعة لا تصدق .."
ـ" وثانيا ؟"
ـ" ثانيا .. قوة التحريك تحتاج الى جزء ايجابي من ذاتك .. يجب ان يكون العمل بناءا .. لم نسمع عن شخص استخدم قوة التحريك للسرقة .. اعتقد ان هذه القوى لا تعمل حينما تستعملها في عمل شرير .."
قال (عادل ) باسما :
ـ" إن اغرب ما في القصة لم يأت بعد .. هل تعرف ان طردا وصلنا هنا في المديرية الاسبوع الماضي .. وقد فتحناه ؟ ماذا كان فيه ؟ مبلغا كبيرا من المال هو بالضبط ما سرق من الصراف والعجوز .. مع مجموعة من الخواتم والمجوهرات في ما سرق من الصائغ والعجوز !"
ـ" ألحظة ندم هي ؟"
ـ" هذا واضح .. ومع الطرد رسالة كتبت بخط( عفاريتي ) غريب .. خطب لم ار مثله قط يقول : انا لست لصا وغنما هي الحاجة .. وقد انبني ضميري .. لذا ارجو ان تعيدوا هذه الاشياء لأصحابها وتسألوهم ان يسامحوني على أي ضرر .."
قلت في دهشة :
ـ" هذا غريب .. ما تمت إعادته ليس هينا .. وماذا عن مرسل الطرد ؟ اعتقد انه لا بد من التوقيع في هذه الامور .."
مط شفته السفلى بمعنى أن هذا لا قيمه له وقال :
ـ" مكاتب بريد كثيرة يمكن ان ترسل طردا معتمدة على بياناتك دون إطلاع على البطاقة الشخصية .. هكذا كان اسم المرسل هو ( إبراهيم إسكندر ) من ( محرم بك ) .. طبعا هذا كلام فارغ لأننا لم نجد ذلك الشخص في العنوان المذكور .. انت تعرف من ارسل الطرد .. كلنا نعرف .. على كل حال لم يستطع موظف البريد ان يتذكر وجه المرسل .. لقد عرضنا عليه صور أخنيا ( محمود أبو ربيع ) فلم يستطع ان يؤكد او ينفي .."
ـ" والخط ؟"
ـ" ليس خطه طبعا .. هل تحسبنا ننسى شيئا كهذا ؟"
قلت مفكرا :
ـ" لو كان موضع التحريك عن بعد صحيحا فمن السهل ان يحرك القلم بذهنه ليكتب ما يريد .."
قال لي وهو ينهض ليرتدي بذلته :
ـ" اسمع . .الحل الامثل هو ان نذهب لنراه الآن !ّ "
كدت أموت ارتباكا ..
ما هي جدوى إجراء كهذا ؟ ولو كان هناك مبرر لدى ( عادل ) فما مبرري انا وما صفتي لاقتحام حياة الرجل ؟ دعك من ان المحركين ـ على الأرجح ـ ليس لونهم اخضر وأكثرهم بلا ذيول .. هل يتوقع مني ( عادل ) ان انظر للرجل .. افتح فمه .. انظر في أذنه ثم اصيح .. هذا من المحركين ! اقبضوا عليه ؟؟؟؟
حاولت الاعتذار لكن ( عادل ) قال باشمئزاز وضيق :
ـ" يا اخي تعال .. ماذا تنوي عمله في الإسكندرية إذن ؟ على الأقل سنكون معا .. اليس هذا ما تريد ؟"
هكذا وجدت نفسي أقاد الى بيت الرجل ..
( ستانلي )..
( عادل ) يقفز على الدرجات قفزا .. ثم يتوقف امام باب حديدي لإحدى الشقق ويقول لي بصوته الجمهوري :
ـ" هذا بيت صاحبتك .. السيدة ( عواطف ).."
كنت انا قد نسيت كل شيء عن الموضوع فسألته ( عواطف ؟ ) .. فقال في نفاد صبر :
ـ" العجوز التي سرقت شقتها .. لقد قامت بتثبيت هذا الباب الحديدي بعد الحادث .. يبدو ان اللص لم يسرق منها كل شيء .."
ثم واصل صعود الدرجات حتى بلغ شقة أخرى فراح يدق الجرس بلا هوادة .. حتى تمنيت أن يتوقف ..
انفتح الباب ليكشف عن وجه رجل وقور في الأربعين من عمره كما قلنا .. كان موشكا على الصراخ حين فوجئ بـ ( عادل ) امامه .. نظر له ونظر لي في رعب ثم قال :
ـ" سيادة العميد .. كنت اتمنى ان ارحب بك لكن هذا اكثر مما أتحمله .."
قال ( عادل ) وهو يتقدم إلى الداخل غير مبال بعدم الترحيب الواضح :
ـ" انا لم آت بأية صفة رسمية ..أنا هنا بصفتي صديقا .. ألا ترحب بأصدقائك ؟ أمل نلتق في المديرية وشربنا الشاي معا؟"
كان الرجل اصلع الراس بادي التعاسة وقد أدركت أن ( عادل ) ضايقه بزياراته كثيرا ، وفي كل مرة يزعم أن الصداقة هي السبب .. عسير ان تشعر براحة وانت تتلقى زيارة من رجل الشرطة الذي يتهمك بالسرقة .. دعك من ان يكون هذا الرجل عميدا ..
هتف الرجل وهو يغلق الباب وراءنا :
ـ" قلت لسيادتك إنه لا دخل لي بهذا كله .. انا عاثر الحظ لا اكثر ولا أقل .."
جلس ( عادل ) في الصالون ووضع ساقا على ساق وراح يفتش بعينيه في المكان ، ثم سأل فجأة :
ـ" من اين تعرف ( إبراهيم إسكندر )؟"
نظرت الى وجه الرجل فلم يبد عليه أي اختلاج .. قال في صدق :
ـ" لم أسمع هذا الاسم قط .."
ـ" ليكن . هل تنوي تقديم شاي لنا ام ننصرف ؟"
طبعا كان يتمنى لو كان له الخيار ، لكنه فضل أن يدخل الى المطبخ ليعد لنا بعض الشاي .. وجلت بنظري في المكان بحثا عن شيء غريب .. لا يوجد.. لكن حياة الرجل هي بالضبط كما وصفها ( عادل ) .. ليس ثريا وليس فقيرا ..
ما إن غاب الرجل حتى سألني ( عادل ) بطريقته العدوانية الهجومية :
ـ" ما رأيك ؟ "
قتل في نفاد صبر :
ـ" لو جمعت ( فرويد ) و ( ياج ) و ( أدلر ) معا وطلبت منهم ان يعطوك انطباعا عن هذا الرجل بعد ثلاث دقائق من لقائه ، ملا نبسوا ببنت شفة .."
ثم خطرت لي فكرة ..دنوت من ( عادل ) وهمست بها في ذنه فوافق عليها .. بكثير من الشك وافق عليها ..
عاد الرجل حاملا الشاي ليجدني مع ( عادل ) ننظر الى صورة فوتوغرافية صغيرة أحملها انا .. وكنا نتهامس وننظر اليه وإليها خلسة ، فلما صار أمامنا وضعت الصورة مقلوبة على المنضدة في شيء من الارتباك .. قال ( عادل ) بهمس مسموع :
ـ" فيما بعد .. فيما بعد .. هذا يفسر كل شيء .."
ومد يده الى كوب الشاي الخص به ورشف منه في نهم .. ثم سأل المهندس :
ـ" الم تعد الى قرية ( النجفية ) بعد ؟"
واضح ان هذه هي القرية التي سرق فيها الصراف .. قال المهندس في نفاد صبر يوحي بأنه يفهم إيحاء السؤال :
ـ" نعم .. لم أعد .. لقد انتهى عملي هناك مع صاحب الأرض .."
ـ" ومما تصرف الآن ؟"
ـ" مستورة والحمد لله .."
كانت عيناه لا تفارقان الصورة المقلوبة وإن كان يحاول مقاومة هذا .. قال لي ( عادل ) وهو ينهض حاملا كوب الشاي في يده :
ـ " هل تعرف ( ستانلي ) جيدا ؟ إن هذ النافذة تعطيك رؤية ممتازة .."
وقفت أنظر معه الى الجهة التي يقصدها .. ثم استدرنا فجأة نحو الرجل الذي لم يفارق مقعده ..
كما توقعت تماما ..
الصورة قد انقلبت ليصير وجهها للأعلى !