كاتب الموضوع :
^RAYAHEEN^
المنتدى :
الارشيف
الوجه الخامس
تحت تصرفك
1
قال لي ( عادل ) وهو يضع ساقا على ساق :
ـ" بالفعل اريد رأيك . هذا غريب .. أليس كذلك ؟"
هنا دخل الجندي الواقف على الباب حاملا صحفة عليها كوب ليمون وشطيرة .. كريما لم ينس ( عادل ) أنني لم آكل منذ الصباح ..
قال لي وهو يشعل لفافة تبغ :
ـ" سوف نذهب لداري بعد ساعة . . إن ( سهام ) أعدت لنا وجبة طيبة ، لذا اعتقد ان هذه الشطيرة .."
لم اكن متحمسا للذهاب لداره.. إن علاقتي بـ ( سهام ) زوجته ليست على ما يرام .. تعرفون موضوع اختها ( هويدا ) ثم ذلك السخيف الذي كان يشبهني .. و ..
لكن مهما حدث فلا توجد قوة على الأرض تمنعني من زيارة ( عادل ) من وقت لآخر كلما جئت إلى الإسكندرية .. من ناحية ـ علاقتنا الروحية لا تنفصم بسهولة .. إنه من الأشخاص القلائل في العالم الذين اطلع عليهم ( أصدقائي ) بقلب مستريح .. صداقة الصبا حيث تتلاقى روحان بلا أي سبب .. لا شبهة نفاق .. لا منفعة مادية .. ليس زميلي في العمل ولا رئيسي .. ليس قريبي فيفرض علي .. حتى الحب بين رجل وامرأة قد يدخل فيه عنصر الانجذاب الجسدي وهكذا لا علاقة له بالروح .. اما صداقة الصبا فلا تحكمها اية قوانين سوى تآلف روحين ..ومهما باعدت بيننا السنون فأنا اعرف جيدا أنه يحمل لي ما أحمله له ، وأنه لن ينسى جولاتنا مع اصدقاء الصبا الآخرين على النيل وكورنيش الإسكندرية ، وأبيات الشعر الرديء والمشاجرة على لفافة التبغ الأخيرة معي ..
السبب الآخر الاقل اهمية لتعلقي بـ ( عادل ) نفعي جدا وهو انه من المفيد دوما ان تعرف رجل شرطة عالي الرتبة .. هذا ـ اعترف ـ بالغ الأهمية في مصر .. وفي رأيي ان كل اسرة وكل شلة اصدقاء يجب ان تضم بين افرادها طبيبا ومحاميا ورجل شرطة ..
مددت يدي الى الشطيرة وقضمت قطعة .
كان ( عادل ) ـ الذي صار الآن عميدا ـ ينظر الى السقف ولفافة التبغ في يده كأنما هو يسترجع حشدا من الذكريات .. قال بعد تفكير :
ـ " بالفعل اريد رأيك .. انت تعرف رأيي الخاص في هذا الهراء الذي تتوبط فيه منذ نعومة أظفارك .. تبدو لي خلطا عجيبا من عالم وطبيب ومغامر ومجنون ونصاب .."
قلت له في برود :
ـ" شكرا "
ـ" لا تتضايق مني .. لو لم اكن صريحا معك فلا معنى لصداقتنا .. لكن في هذه القضية بالذات اعرف ان رايك ذو جدوى .. الجرائم التي انا بصددها غريبة حقا .. لكني وضعت يدي على المشتبقه فيه وعلى ما سرقه .. فقط يجب ان افهم كيف فعل ذلك .. وان اضبطه متلبسا .."
قلت له بفم مليء بالجبن الرومي :
ـ" هل تعني ان لديك الجريمة ولديك المجرم ولديك المسروقات ؟"
ـ" فقط لن تقبل اية محكمة كلامي .. هذه هي المشكلة .."
***
قال ( عادل ) :
ـ" ( شعبان البحيري ) .. صارف في الخمسين من العمر .. اعتقد انك تعرف باقي القصة .."
قلت باسما :
ـ" صراف .. وانا في مديرية الأمن .. هل هي سرقة ام سرقة وقتل ؟"
انفجر في الضحك بطريقته المنفتحة التي تزلزل المكان زلزلة .. ( عادل ) كما عرفته دائما يفرح او يسر فينفجر ضحكا .. الاكتئاب عنده هو الانفجار في البكاء .. الغضب عنده هو الضرب ..
قال وهو يلتقط انفاسه :
ـ" ما زلت تفهمها ( وهي طايرة ) .. نعم .. هناك سطو طبعا .. لكن الرجل سليم وإن كان قد تأذى كثيرا .. لك ان تتخيل صراف الجمعية الزراعية ذا الخمسين عاما يحمل تلك الحقيبة العملاقة العتيقة .. نحن في الريف حيث كل واحد والدار أمان كما يقولون .. لا يوجد لصوص في هذه البلدة .."
لا يوجد لصوص في هذه المدينة .. هذا بالصدفة عنوان قصة قصيرة شهيرة لــ ( ماركيز Marquez ) .. وأواصل سماع ( عادل ) وهو يحكي :
ـ" يخرج الصراف من مقر عمله حاملا الحقيبة الكبيرة التي ينقلها الى المصرف الصغير في القرية .. غالبا ما يفعل هذا وحده من دون ان يرافقه الخفير العجوز في الجمعية .. حتى لو رافقه فالخفير لا يرى ابعد من مترين ، وبندقيته الحكومية لا تعمل على كل حال ..
يمر ( شعبان ) بمجموعة من الرجال يبادلهم السلام مع دعوة الى الشاي لكنه يشكرهم ويواصل طريقه .. الآن يختصر الطريق بأن يعبر هذا الحقل الواسع الذي يوصله الى المصرف من الخلف .. هذا حقل ذرة تم تبويره فلا تتوقع أن أحدا كان يتوارى فيه ..
يمشي الصراف في الحقل مسافة لا بأس بها قبل ان يتلقى قالبا من القرميد في جبهته .. هكذا سقط على الارض .. وهكذا اخذت منه الحقيبة .. كان المكان منعزلا تماما يسمح بأي شيء ..
قبل أن تسل عن الصراف دعني اؤكد لك انه كان المشتبه فيه رقم واحد ، وهذا منطقي .. وقدتم حصاره بعنف ..يمكن لك ان تضرب جبهتك بقالب قرميد إذا كان الثمن عشرين ألفا من الجنيهات .. المهم أننا ضــ .. أ .. استجوبناه بدقة وعلى مدة عدة أيام وفي كل مرة نصل للنتيجة المنطقية : هذا الرجل بريء كطفل ..
قال الصراف إن احدا لم يكن في الحقل .. هذا منطقي .. لا يمكن لذبابة ان تختبئ في هذا الحقل .. هنا ياتي السؤال : من أين جاءت القذيفة .. لو مثلنا الحادث لوجدنا أنه ما من يد بشرية تستطيع قذف الحجر كل هذه المسافة .. لو جئت ببطل الأولمبياد في رمي الجلة لما حقق هذه النتيجة ..
هناك بيوت على مقربة من الحقل أغلبها تم هدمه جزئيا لتعديه على ارض زراعية .. لا يوجد سكان فيها لكن من الوارد ان يتوارى أحدهم هناك .. هنا يتكرر السؤال : وماذا بعد ؟ كيف تقذف قالبا ثقيلا كل هذه المسافة ليصيب هدفه ؟ طبعا لا يمكن تصديق هذا ، لذا كنا نعاود استجواب الصراف البائس الذي انهار تماما .."
تذكرت وهو يحدثني قصة مصورة فرنسية قرأتها من قبل ـ على قدر درايتي المحدودة بهذه اللغة ـ وتحكي عن شيء كهذا .. كان المجرم يصوب مدفعا يقذف الحجارة على ضحاياه وهو يراقبهم بتلسكوب .. طبعا يصعب وضع هذا في الاعتبار بالنسبة لقرية بدائية ..
واصل ( عادل ) الكلام :
ـ" على كل حال قمنا بعمل تحريات لا بأس بها ثم انتهى الأمر عند طريق مغلق .. لا نستطيع التقدم بعد هذا .. ثم جاءت الجريمة التالية .."
|