-2-
قال ( مازن ):
في الثانية صباحا وبعد رحيل آخر المواسين دخلت ( محاسن ) الغرفة الأخرى في الدار .. فلم يكن ممكنا ان تنام في ذات غرفة الزوجية بعد كل ما حدث ..
كانت مرهقة ، لكنها قدرت أن الأرق نديمها هذه الليلة ..
شريط الأحداث يتوالى أمام عينيها فلا تملك أن تبعده .. ( سليم ) زوجها ، صحيح أنه لم يكن أفضل زوج في العالم .. صحيح أنه لم يكن بذلك اللطف .. لم يكن بذلك الكرم لم يكن بهذه الأريحية .. لكنه زوجها، والمرء لو اعتاد أن ينام جوار ثعبان ( بوا ) لمدة عشرين عاما فلا بد أن يفتقد هذا الثعبان إذا مات ..
تزوجا منذ عشرين عاما .. وأقاما في هذه القرية .. كن يحب حياة القرية .. ويرفض الحياة في ( بنها ) أو الابتعاد عن أقاربه .. وقد ابتنى هذا البيت منذ خمسة وعشرين عاما ، وبالتدريج صارت حياتهما مزيجا خاصا فريجا من حياة القرية وحياة المدينة .. لم تحب هذه الحياة اصلا لكنها قبلتها كما يقبل المرء كل شيء آخر في حياته .. وكانت تدرك أن فرصها في الاعتراض محدودة لأنها لم تنجب ، وهناك ألف شخص ينصحون رجلها بالزواج كي يحافظ على اسم الأسرة ( وكأنها اسرة محمد علي ) .. لكنه قاوم .. حتى هذا الشهر بالذات ..
الحقيقة التي لا يعرفها القراء هي أنها قتلته ..
هي لا تعتقد أن هذا يجعلها زوجة غير صالحة .. فهي تشعر بأنها تفتقده برغم كل شيء ..
لقد جاء أخوها عصرا ولم يكن في الدار غيرهم .. دارها بعيدة عن باقي القرية منعزلة من الطراز الذي ( يقتل فيه القتيل فلا يعرف أحد ) .. وكان هذا هو المطلوب بالضبط .. جلس الرجلان يشربان الشاي على سطح البناية .. بعد قليل بإشارة سريعة من عينيها قامت وأخوها بقتله .. إن صفحات الحوادث تعج بالقصص الرهيبة المماثلة ، فلا داعي لوصف التفاصيل .. فقط نقول إنها وأخاها قتلاه لأنه كن ينوي أن يتزوج امرأة اخرى .. إنه الم تنجب ، وكان الميراث الذي سيضيع من العوامل المهمة التي جعلها لا تفكر مرتين .. لم تكن من النسوة البلهانوات اللاتي يقتلن بسبب الغيرة ، ولكن لأسباب مادية ملموسة يمكن تحويلها إلى أرقام ..
كانت فترة غروب الشمس حافلة بالأحداث ، حيث تعاونت مع اخيها في حمل الجثة قرب الدار .. تحت شجرة التين العجوز .. لم تفضل إلقاءها في ( الرياح ) لان هذه الطريقة تفتضح دائما .. إنها ليست بلهاء ..
لكنها على الأقل احترمت الجثة فتركت اخاها ليستكمل الدفن ، وعادت إلى دارها ..
الآن قد أزالت آثار كل ما حدث داخل البيت..
عندها فقط راحت تجوب القرية بحثا عن زوجها .. طرقت كل دار وأطلقت الكثير من الصراخ الهستيري .. ليس من دأبه أن يتأخر إلى هذه الساعة ، لا بد أن مكروها أصابه ..
وتدخل خوفها من افتضاح أمرها ، ليجعل من أدائها عملا أكاديميا يمكن تدريسه في معاهد المسرح العالمية .. لقد كانت خائفة فعلا ، وقد نجحت في استخدام هذا الخوف في أدائها ، كما يفعل أي محترف تدرب في ( ستوديو الممثل ) في ( هوليوود )..
وبالتالي بدأت ليلة عصيبة كريهة .. كانت عليها واجبات اجتماعية هائلة من العويل ولطم الخدين إلخ .. كل هذا باعتبار ما سيكون .. لكن أحدا لم يعرف كم هي صادقة ..
وعندما توغل الليل انصرف الجميع مع كلمة عن ( النهار الذي له عينان ) و ( غدا يأتي الفرج )..
الخلاصة أنها الآن مرهقة تماما ..
ترغب في النوم .. تشتهيه .. وقد ساعدها هذا على نسيان خوفها..أضف لهذا انها كانت امرأة شديدة المراس اقوى اعصابا من أي رجل عرفته .. المرأة التي تخاف من النوم في بيت قتلت فيه زوجها هي امرأة مدللة مائعة .. هذا رأيها ..
ترقد في الفراش تتأمل الجدار المطلي بالجير ، والذي أحالته الى شاشة ذكريات ..
لكنها تسمع من يدخل الغرفة .. تسمع صوت خطوات ..
توقف تنفسها .. إنها وحيدة تماما في هذه البناية .. ما معنى هذا ؟
رفعت رأسها وفي الظلام استطاعت أن ترى ذلك الشخص الذي يدخل الغرفة .. من هذا القادم ؟ فتحت فمه التصرخ لكن الصرخة احتبست في حلقها ..
إنه هو .. هو بالذات ..
كان يلبس ذات الثياب وإن صارت حالتها رثة .. ممزقة متسخة بمزيج من الدم والأوحال مبتلة تماما .. وكان يتصرف بطريقة عادية تماما كأن شيئا لم يكن ..
ـ " مساء الخير يا ( محاسن ).."
قالها بصوته الذي تعرفه جيدا ، ثم اردف وهو ينزع الثياب عن نصفه العلوي .."
ـ" هاتي لي جلبابا .. إن هذه الثياب مبتلة تماما :
هنا فقط خرجت الصرخة من فمها .. عميقة حادة رفيعة تصم الآذان ..
***
كان اليوم التالي أوسد يوم في حياتها كما يحق لنا ان نتوقع ...
لقد كان عليها أن صمت وأن تمارس حياتها بشكل طبيعي .. الجيران والجارات ياتون ليهنئوها على عودة الرجل ، ويسألن ترى أين كان .. بينما هو يجلس في وسط الدار صامتا كئيبا لا يفتح فمه ولا يقول شيئا . نظرة ذاهلة كمن نوم مغناطيسيا ..
لقد فقدت وعيها لدى رؤيته في المساء .. حسبته شبا وهو التفسير المريح ، أو هو لم يمت وجاء للانتقام .. لكن الغريب في الأمر انه لم يقل شيئا ولم يفعل شيئا .. ارتدى جلبابا ما ورقد في الفراش ليواصل النوم كأن ما مر به كان يوما معتادا ..
ظلت هي خارج الغرفة ترتجف .. ولقد فكرت اكثر من مرة في أن تحضر الفأس لتكمل ما بدأته .. او تتخلص من حياتها .. أو تهيم على وجهها صارخة ي أزقة القرية.
لكنها عدلت عن هذه الحلول جميعا.. كلها غير عملية ، وسوف تلفت إليه الأنظار .. ولسوف يعرف الناس ما كان .. هكذا ظلت ما بقي من الليل وحدها خارج الدار .. ترمق صوت الكلاب البعيد وتصغي للظلام وتشم البرد .. نعم .. لا يوجد خطأ هنا .. لقد اختلطت حواسها بالفعل ..
كانت موقنة من انها واخاها قتلاه فأحسنا القتلة .. لا توجد اخطاء .. ضربتان محكمتان على رأسه , ثم الخنق . .هل كان يجب إزالة رأسه تماما ؟ دفناه بعناية .. فكيف ومتى استعاد وعيه وغادر القبر ؟
هكذا كان العذاب الأول هو أن تبقى وهذا الشيء في دارها .. والعذاب الثاني ـ والأشنع ـ انها لن تظهر ابدا أي علامة هلع أو ذعر .. ليس امام الناس .. ليس احب اليها من ان تصرخ قائلة : لكنه ميت ! انا متأكدة من هذا ! انا قتلته !!
لكن هذه الأشياء لا تقال طبعا .. هي لا تملك هذا الترف ..
هي الآن في الدار .. الجيران يأتون ليطمئنوا .. لا تجرؤ على النظر إليه .. لا تجرؤ على النظر إليهم ..
أحد الرجال يقول :
ـ " إنه لا يتكلم .. لماذا لا تطلبون له الطبيب ؟"
ويقترح آخر ان الحل الأمثل هو عصير القصب .. كان له عم أصيب بشيء كهذا فابتاع له عصير قصب .. ولكن من اين عصير القصب في قرية كهذه لا توجد فيها معصرة ؟ هكذا يتطوع أحدهم ويحمل ( شفشق ) من البلاستيك ويتجه إلى ( بنها ) لإحضار بعضه ، وقد رسم على وجهه علامات الخطورة كأنه ذاهب للبحث عن ( يورانيوم 235 ) من أجل مفاعل نووي.."
لكم ودت لو تتخلص منهم ! وفي الآن ذاته لم تتمن لحظة أن يرحلوا لتواجه هذا الشيء وحدها ..
هي لا تعرف شيئا اسمه ( الزومبي ) طبعا ، فلو كانت تعرفه لكان أدق وصف هو ( ثمة زومبي في داري )..
وكان أول ما خطر هلا هو أن تهرع الى المكان الذي دفناه فيه ..
يجب أن تتأكد من آثار الحفر .. هل هناك من أخرجه ام هو من أخرج نفسه ..
هكذا تأكد تمن أن الجميع انصرف ، ثم خرجت من الدار جارية حافية القدمين تقصد تلك البقعة التي تعرفها جيدا ، والتي حفرتها مع اخيها امس ..
لون الغروب الأزرق يغلف المكان .. في هذا الوقت بالضبط كانت منهمكة مع أخيها في حمل القتيل .. واليوم ؟
إن الحفرة موجودة .. هل كانت بهذا الاتساع من قبل ؟
من الواضح أن هناك من أزال عنها طبقة التراب الكثيفة التي كانت تغطيها .. لكن الأمر يبدو وكأن إزالة الغبار تمت من الداخل.
هذا هو ما توقعته .. لقد كان حيا عندما دفناه ، وقد راح ينبش حتى أخرج نفسه.. لكن هذه الامور يمكن تصحيحها .. لسوف تعود الى اخيها وتخبره بكل شيء .. وهذه الليلة ينتهيان من هذا كله ..
هكذا فكرت في اشمئزاز وهي تقف في ضوء الغروب تتأمل المشهد ..
كلن .. صبرا .. تكاد تقسم إنها ترى قدمين عاريتين في هذه الحفرة .. ليست خالية .. بل إن هناك من يرقد فيها ، وإن لم يتم دفنه بعناية ..ولكن ..
هناك جسدان متجاوران !
ما معنى هذا ؟
دنت من الحفرة أكثر ..
إن ضوء الغروب الازرق الخافت يجعل الرؤية عسيرة ، لهذا تنتظر أكثر حتى ترى ..
الآن تقبض على الغباء وتزيله عن الوجه الأول وهي ترتجف .. هذا الوجه .. هذا الوجه .. هذا الوجه ..
كما توقعت بالضبط ..
هذا الراقد في الحفرة الآن ليس زوجها ..
إنه أخوها !
ملامح الرعب على وجهه تقول إنها لم تكن ميتة سهلة على الإطلاق ..
راحت تشهق محاولة ان تمنع الصرخة من ان تغادر فمها .. يجب ان تتماسك .. يجب .. يجب ان تفهم ..
هنا سمعت من يتنحنح من خلفها :
ـ " إن الحفرة تكفي ثلاثة يا ( محاسن ) !!"
عرفت الصوت .. نظرت للوراء فوجدت زوجها يقف هناك تحت الشجرة العتيقة ..
وكان يبتسم .. للمرة الأولى منذ عصر امس تراه يبتسم ..